فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس

بينات من الآيات
[ 37] يستعجل الانسان الجزاء لأنه خلق من عجل و لكن ما هو العجل ، و كيف خلق الانسان منه ؟

بعضهم قال إن العجل الذي خلق منه الانسان صفة له ، و كأن الله سبحانه و تعالى أراد أن يركز الضوء على خاصية بشرية في خلقة الانسان و تكوينه ، وليست صفة عارضة تكتسب من البيئة المحيطة به .

و بعضهم قال إن المقصود بالعجل الطين ، اي إن الانسان قد خلق من مادة دنيئة ذات صفات سلبية ، و لذلك فهو يتعجل الأمور ولا يملك الصبر عليها بطبيعته المادية المحضة .

و يبدو إن العجل يعني شيئا آخر أبعد أفقا ، و أكثر عمقا ، و هو إن الزمن قد جعل من عوامل خلقة الانسان وأحد عناصره ، شأنه شأن كل مظاهر الطبيعة المسخرة له ، فكل المخلوقات و الموجودات التي نراها في أرضنا و سمائنا ، يشكل الزمن جزء من طبيعتها و تركيبها .


و لقــد كشفت لنا الفيزياء الذرية عن هذه الحقيقة ، بسلسلة من التجارب العملية ، حتى لم يعد يحيط بها غموض ، و قبل ذلك أشارت إليها جملة من الآيات القرآنية ، منها " خلق السماوات و الأرض في ستة أيام " و يبدو من الآية إن الله جل شأنه جعــل الزمــن جزء من الخليقة حيث مرت بعدة مراحل الى أن أخذت شكلها النهائي .

و هكذا فالانسان يحس بالزمن لآنه عنصر أساسي في خلقته الطينية المادية ، ولولا روح الانسان و قيم الرسالات الالهية التي تبلور هذه الروح و تعطيها خصائص عالية ، لكان الانسان يعــيش لحظته و حدها ، و لما كان يتطلع الى المستقبل أو يرى الآفاق البعيدة للحياة.

وهكذا يريد القرآن أن يخبرنا بأن هذه الطبيعة البشرية التي يشكل الزمن جزء منها ، هي التي تدعو الانسان الى اللامسؤولية ، لأنه يعيش بطبيعته لحظته و حدها ، و بالتالي يعجز عن إدراك حتمية الجزاء ، الذي يتطلب مقدارا معينا من الزمن ، لكي يتحقق و ياخذ مجراه .

إنه ينتظر جزاء عاجلا و قريبا لأعماله ، فاذا تأخر عنه فترة ، قد تطول أو تقصر ، قال : لا جزاء ، و طبيعي إن من ينكر الجزاء ينكر المسؤولية كذلك . مثلا إذا ظلمت السلطة شعبها فثار بعد عشرين عاما ، لا يقول رجالها : إن هذه الثورة إنفجرت بسبب ذلك الظلم ، ولا يرون أيضا ذلك الظلم ، ولا يرون أيضا ذلك الارتباط الوثيق بين الأمرين ، بل إنهم يأخذون بالبحث و التفتيش عن أية علة ليقولوا : إن الثورة جاءت من الخارج ، في حين إن العلة الحقيقية تكمن في الداخل ، و بالذات في جهاز الحكم الفاسد ، فهم لا يفكرون إن ظلمهم سوف يولد حركة ثورية تتنامى ، و تنتشر ، و تتحول الى بركان مدمر ولو بعد حين .

و القرآن الحكيم ينبهنا بانكم ، سواء عشتم مستبقلكم أم لا ، و آمنتم به أو كفرتم ، فان الجزاء سياتي حتما ، و سوف يحيط بكم عذابه ، و ما دام المستقبل حقا فلابد أن نؤمن به ، متحدين بذلك كل الضغوط التي تواجهنا في الحياة ، و على رأسها طبيعتنا البشرية الاستعجالية .

إن الذي ينكر الجزاء ، بأن يسلم قيادته لنفسه النزقة المتعجلة ، يسلب الله منه عقله و بصيرته ، و يستدرجه شيئا فشيئا ، فلا يشعر إلا و العذاب مطبق عليه بغتة ، سواء كان ذلك عذاب الساعة أو ما هو دونها ، فالطاغوت الحاكم يفقد تمييزه للأمور ، و تبصره بالعواقب فيستمر في سياسته الخاطئة ، وإذا به يصحو يوما ليجد نفسه ملقى عن عرشه ، كشاه إيران ، أو ممزقا برصاصات المجاهدين ، كفرعون مصر .

و كذلك بالنسبة لبعض المجتمعات البشرية التي تراكمت أعمال افرادها السيئة حتى أحاطت بهم ، استهزأوا برسلهم أو بمن يمثلهم من الأوصياء و العلماء ، و اتخذوا ما جاؤوهم به لهوا و لعبا ، فقد حاق بهم ما استهزأوا به و أزال حضارتهم .

و كثيرا ما نجد القرآن الحكيم يتحدث عن المجتمعات و ليس الأفراد ، مما يثير السؤال التالي : مادامت المسؤولية هي مسؤولية الفرد فلماذا يحدثنا القرآن عنها بصيغة المجموع ؟

و الجواب : إن ذلك لسببين :

الأول : إن مسؤولية الفرد لا تقتصر على حدود ذاته الضيقة ، و إنما تمتد لتشمل المجتمع الذي يعيش فيه ، لأن أكثر اعمال الناس هي أعمال إجتماعية ، و جزاؤها لابد أن يكون جماعيا أيضا ، و ذلك لطبيعة التواجد في مكان واحد و التفاعل نفسيا و ماديا بين الناس .


الثاني : هو إن جزاء الأفراد - عادة - لا يرى ، إننا لا نستطيع مثلا أن نحيي شابا مات في مقتبل عمره لنسأله ما هي أعمالك السيئة التي أدت بك الى هذه النهاية ، و بالتالي نعرف إن ميتته المنكرة كانت جزاء لانحرافه ، و سوء مسلكه ، أما المجتمعات فأعمالها تكون ظاهرة ، و آثارها واضحة ، لذلك يضرب القرآن بها أمثالا لنعتبر بها .

إن هذه المجتمعات لم تؤمن بالجزاء ، فاتخذت المسؤولية لهوا و لعبا ، فأحاط بها كفرها حتى أزالها ، و عند ذلك لم تنفعها الآلهة التي اعتمدت عليها من دون الله .

[ خلق الإنسان من عجل ]

أن تعجل الأمور ، و عدم الاصطبار على الزمن ، هو من طبيعة الانسان ، ومن العناصر الأساسية في تكوين خلقته .

[ سأوريكم آياتي فلا تستعجلون ]

ستأتي آيات العذاب و سترونها حتما ، فلماذا العجلة ؟!

[ 38] [ و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ]

إنهم كلما سمعوا وعظا وتذكيرا من أحد قالوا أين ذلك الجزاء الذي تعدنا به ؟! لو كانوا يعلمون إن الجزاء الذي يستعجلونه شديد ، وإنه حين يحيط بهم لا يمكنهم الفرار منه بأية صورة كانت ، لما لجأوا الى السخرية و الاستهزاء و لما لووا رؤوسهم معرضين .



فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس