فصل:
الاول |
قبل |
بعد
| الاخير
| الفهرس
جزاء الاستهزاء
[ 39] [ لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ]
وهما المنطقتان الحساستان من الانسان ، وفي ذلك إشارة الى شدة العذاب و إحاطته .
[ ولا هم ينصرون ]
فلا تنصرهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها و يخضعون لها من دون الله .
[ 40] [ بل تأتيهم بغتة فتبهتهم ]
أولا : تأتيهم النار فجأة كما لو كان ذلك من دون سابق إنذار ، لانهم تعودوا على الكفر بالنذر ، و عدم اتخاذها مأخذ الجد ، فأصبحوا مع مرور الزمن كالجاهل الذي يفتح عينه على الحقية لأول مرة .
ثانيا : إن النار الرهيبة تسبب لهم البهت ، فتسلب عقولهم و تحيرهم ، ثم تكتنفهم بعذابها الأليم .
[فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون ]
إنهم لا يستطيعون دفع العذاب عن أنفسهم ولن يعطوا مهلة أكثر مما أعطوه في الحياة الدنيا ، ولوبمقدار لحظة .
[ 41] [ و لقد استهزىء برسل من قبلك ]
إن الأمم السابقة قد استهزأت بالرسل ، فاذا بتلك الرسالات التي استهزأوا بها تتحول الى حقائق أليمة تحيط بهم و تنتقم منهم . و لا يخفى إن ذلك إضافة الى التعذيب البدني عذابا نفسيا للكافرين .
ولكن هل الرسالة الالهية بذاتها عذاب ؟ و هل هي التي تؤدي الى الضرر الوخيم الذي يصب المعاندين في جهنم ؟
بالطبع - كلا - فالرسالة بما فيها من أفكار إنما هي تعبير عن الحقيقة ، و حينما يستهزىء أحد بها فإنه يستهزىء بالحق ذاته ، فحينما أقول لا تأكل هذا الطعام لأن فيه جرثوما ، فان هذه الكلمة تعكس حقيقة واقعية ، و عندما تخالف و تأكل منه ، فان الجرثوم وهو تلك الحقيقة الواقعية ، سيحيط بك و يوقعك في الألم و المعاناة ، لذلك يعبر القرآن عن هذه الحالة تعبيرا دقيقا ، و يقول :
[ فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون ]
القرآن في هذه الآية كما في أكثر آيات سورة الأنبياء ، يكثر من الحديث عن اللعب و اللهو ، و الاستهزاء و السخرية ، فلماذا ؟
الســبب هــو إن الحديث فيها ، يدور حول المسؤولية ، و هذه الأشياء نقيض لها ، فاللعب ، و لهو القلب ، و الاستهزاء بالرسالة ، و السخرية من الرسل ، و بالتالي من الحقائق ، هذه كلها تقتل احساس الانسان بمسؤوليته في الحياة .
ولا يسمع الصم الدعاء :
[ 42] [ قل من يكلؤكم بالليل و النهار من الرحمن ]
إن تدبير الحياة بيد الله كما إن تقديرها بيده سبحانه ، فمن الذي يحفظنا ليلا و نهارا من أخطار الحياة سوى الرحمن ؟
فهو الذي يحفظنا بنعمه بلائه ، و برحمته عن غضبه . لأنه جل شأنه قد كتب على نفسه الرحمة ، و الرحمن هو الذي يكلؤنا و لكن نحن لا نقدر هذه النعمة فنكفر به وبآياته و نعرض عن ذكره .
[ بل هم عن ذكر ربهم معرضون ]
الله هو الذي يربيهم ، و هو الذي لا يزال يكمل لهم النعم ، و ينزل عليهم البركات ، و مع ذلك تراهم يكفرون به و يستهزئون برسالاته .
و ما دام العذاب الالهي في الدنيا لا رادع عنه ، ( إلا من قبل الله نفسه ) ، ولا أحد مــن الآلهة المزعومة تقدر على دفعه إن حل بقوم ، فلنعرف إن الآلهة ليست بشيء ، و إنها لا تضر ولا تنفع ، و انها لا تقدر على دفع عذاب الآخرة أيضا .
[ 43] [ أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا ]
الله لم يقطع عنا أياديه ساعة فلماذا نكفر به ؟! إذ لم يعطك أبوك نقودا ، و لم يدعك تنام في البيت ، و لم يهتم بك ، فسوف تبحث عن صديق أو عن جهة من الجهات تؤمن لك ضرورات حياتك ، و لكن الله - و الأمثال تضرب ولا تقاس - لم يغلق عليك الأبواب ، و لم يبعث عليك العذاب حتى تتركه و توجه الى آلهة غيره تؤويك الى كنفها !
و نقرأ في الأدعية تعابير دقيقة ، و في نفس الوقت مثيرة لأحاسيس الانسان الفطرية في هذا الاتجاه : فما دام الله سبحانه و تعالى لم يغير عادة الاحسان إلينا ، فلماذا نفتش عن غيره ؟! و مادام ربنا قويا قاهرا فلماذا نخدع أنفسنا بالالتجاء الى الضعفاء من عباده ؟! نقرأ في دعاء عرفة للامام الحسين عليه السلام : [ ماذا وجد من فقدك ، وما الذي فقد من وجدك . لقد خاب من رضي دونك بدلا ، ولقد خسر من بغى عنك متحولا . كيف يرجى سواك ، وأنت ما قطعت الاحسان . و كيف يطلب من غيرك ، وأنت ما بدلت عادة الامتنان ] . (1)[ لا يستطيعون نصر أنفسهم ]
تلك الآلهة لا تستطيع أن تنصر نفسها فكيف تنصر غيرها .
[ ولا هم منا يصحبون ]
لا نعتبرهم أصحابنا ، لا نعطيهم القوة ، ولا هم يمتلكون القوة الذاتية.
[ 44] [ بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر ]إن السبب الذي يزيد في نسيان هؤلاء هو استمرار النعم عليهم ، لذلك تراهم مع مرور الزمن و تطاول السنين يتزايد غرورهم ، و مع تزايد الغرور تتزايد النقم التي تأتي مع النعم ، في سلسلة متوازية .
[ أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ]في كل يوم يهلك الكثير من المجتمعات بسبب أعمالهم الفاسدة ، ولأن جزاءهم قد آن أوانه ، فلماذا لا نعتبر ؟! و هنا يوجهنا القرآن الحكيم الى نوعين من الاعتبار :
1 - الاعتبار بمن مضى من الأمم .
(1) مفاتيج الجنان / ص 273 .
2 - الاعتبار بمن نعاصرهم من الأمم التي تتحطم و تهلك بسبب أعمالها .
إن على الانسان أن يعتبر بالماضي من آبائه الذين ماتوا و انقرضوا ، و كذلك لمن حوله من أترابه ، الذين يموتون كل يوم ، كذلك حال المجتمعات (1) ، و لكن المشكلة الأساسية هي التي يشير إليها القرآن في الآية الأخيرة :
[ 45] [ قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون ]المشكلة هي إن الانسان قد أصيب بالصمم ، و لهى قلبه ، فجعل يستهزىء بالحقيقة ، لذلك حينما يرى العبر فانه لا يستفيد منها شيئا .
(1) هناك تفسيرات أخرى لهذه الآية . منها إن نقصان الأرض بموت العلماء . و به جاءت الروايات . و هو تفسير عميق لا يتنافى مع ما ذكرنا آنفا إذ إن موت المجتمعات إنما هو بنقصان علماءها " راجع تفسير نور الثقلين / ج 3 / ص 429" .