فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس

إبراهيم يحطم الأصنام جميعا
[ 51 - 53] [ ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل و كنا به عالمين * إذ قال لأبيه و قومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون * قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ]الضمير في " رشده " يعود الى إبراهيم (ع) ، و لم يقل ربنا " رشدنا " مثلا ، وفي ذلك إيحاء الى أن الله خلق الانسان راشدا - عاقلا - نقي الضمير ، ولكنه يتبع آباءه على غير هدى فتنحرف فطرته ويضيع رشده .

ولقد أدى إعراض قوم إبراهيم عن رشدهم المركوز في فطرتهم ، الى أن يردوا على حجته القوية المنطقية بذلك الجواب السخيف الأحمق فقالوا : إنما نعبد هذه الأحجار لأننا رأينا أسلافنا يفعلون ذلك ..

[ 54] [ قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ]

لقــد نسف إبراهيم بكلمة واحدة عقيدتهم المهزوزة ، و تركهم في حيرة من الأمر ، و الآية التالية تدل على إنهم لم يكونوا على شيء في دينهم .

[ 55] [ قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ]

لقد أصابتهم كلمة إبراهيم في الصميم ، فطرحوا عليه هذا السؤال كمن يعطي نفسه فرصة لإعادة ترتيب أوراقه و لملمة خواطره المتناثرة .

[ 56] و لكن إبراهيم واصل حجته القوية المنطقية ، و أطبق عليهم بهذه الحقيقة الصارخة التي لا سبيل لانكارها :

[ قال بل ربكم رب السموات و الأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين ]لا أحد من آلهتهم كان يدعي أنه خلق السماوات و الأرض ، أو أنه خلقهم . و لذلك فلابد أن يكون الاله الحقيقي لهذا الكون غير الأصنام الصماء البكماء . و هكذا أصر إبراهيم عليه السلام إنه ليس لاعبا ، وليس حديثه من نوع حديث المراهقين الذين يشكون الضعف في عقولهم - حاشاه - ، بل إنه يدعو وبجد الى رب السماوات و الأرض ، و هو شاهد على صدق دعواه ، بثبات قوله ، و شجاعة طرحه ، و استعداده للتضحية ، و سلامة نهجه و صدق مواقفه ، و سعادته و فلاحه .

و هنا دحض حجتهم بالكامل ، و انقطعوا عن أي جواب ، ولكن النفس البشرية ليست من البساطة بحيث تؤمن بالحق أول ما تراه ، فهناك عوامل معقدة و متشابكة إجتماعية و ثقافية و إقتصادية ، تنشأ عنها مصالح و اعتبارات يخيل نظريا للانسان بأنه لا يستطيع التخلي عنها .
إنهم عرفوا الحقيقة و انجلت أمام أعينهم ، ولكن إتباعها يتطلب منهم أن يضحوا بالكثير من مكاسبهم المادية ، كالجاه و السلطة و الثروة و غيرها . و لذلك لم يبادروا باعلان قبولهم بالحق و خضوعهم له ، بل انهم لاذوا بالصمت كمن ينحني لتمر العاصفة بسلام ، ثم يواصلدربه .

[ 57] ولكن إبراهيم لم يسكت ، و لم يفسح لهم المجال للاسترسال في الصمت و التقليد و الخوض في الباطل مع الخائضين ، بل قال :

[ وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين ]

أي سأحطمها بعد أن تذهبوا لحضور إجتماعات عيدكم . وكان هذا القيد الزمني بسبب إن إبراهيم (ع) كان فردا واحدا فلم يكن من الممكن أن يكسر تلك الأصنام مع وجود أعداد كبيرة من المشركين عندها .

[ 58] ثم شفع تهديده الكلامي بالتنفيذ العملي ..

[ فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون ]

حطم تلك الآلهة المزيفة شر تحطيم ، و ترك واحدا منها ، كانوا يعدونه أعظم أصنامهم ، و علق معوله في صدره ، ليترك لهم مجالا أكثر للتفكير في حقيقة هذه التماثيل الحجرية التي لا تضر ولا تنفع ، و ذلك لأنه كان لديه تصور مسبق لما سيحدث بعد ذلك من إلقاء القبضعليه و مسائلته بعد اكتشاف قومه للأمر ، و كان يريد أن يكسر جدار الصمت و يوقف مسيرة الاسترسال مع الوضع الفاسد ، ولكي يجد فرصة جماهيرية ليبين لهم بأن هذه الأصنام لن تسبب لهم الضرر إن كانت مكسرة ، كما إنها لن تنفعهم إن ظلت قائمة على منصاتها ، فماذا عسى ينفعهم هذا الصنم الكبير عندما يرجعون إليه و يلوذون به ؟!


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس