فصل:
الاول |
قبل |
بعد
| الاخير
| الفهرس
بينات من الآيات
[ 59 - 60] [ قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين * قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ]
من الذي حطم الأصنام ؟
لابد إن الذي حطمها ظالم لنفسه لأنه عرض نفسه لانتقامنا .
بلى هناك شخص يدعى " إبراهيم " يذكر الأصنام بالسوء ، و يرفض أن يعبدها و يخضع لها ، فمن المؤكد أنه هو الذي حطمها .
[ 61] و تحطيم الأصنام لم يكن يدل فقط على تحطيم الأحجار ، و إنما كان يدل أيضا علــى تحطيم الأنظمة الاجتماعية و التقاليد الفاسدة ، و تحطيمها يعني التحرر منها ، لذلك تجد إن مجتمع الطاغوت ( نمرود ) لم يكتف بمحاولة تعذيب إبراهيم ، و باعدامه ، إنما أرادأن يكرس تلك التقاليد و القيم الفاسدة عن طريق فعل كل ذلك عبر تظاهرة إجتماعية صاخبة ، ليكون عبرة للآخرين الذين قد تحدثهم أنفسهم باتباع منهجه التوحيدي .
[ قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون ]
يمكننا أن نفهم من هذه الآية : بأن ذلك المجتمع قد دبت اليه أفكار الرفض ، حيث كان هناك آخرون غير إبراهيم يدعون الناس الى التحرر من عبادة تلك الأصنام ، و قد سبق أن استوحينا من آية أخرى مثل ذلك تلك الآية هي " قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين" .
[ 62] [ قالوا ءأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ]
إبراهيم لم ينكر انه فعله أو لم يفعله و إنما :
[ 63] [ قال بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون ]لا شك إن هذا إسلوب ساخر أراد به إبراهيم (ع) أن يلفت به أنظارهم الى حقيقة معتقداتهم الفاسدة ، وإلا فهم يعلمون مسبقا إن هذه أحجار لا تنطق لأنهم هم الذين صنعوها بأيديهم .
[ 64] [ فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ]أول صدمة نفسية أصيب بها هؤلاء هي إنهيار مكانة الأصنام في أنفسهم والتي كانت رمزا لإيمانهم بالتأريخ الفاسد ، و بالخضوع للحاكم الظالم المتجبر ، و اعتقادهم بالأساطير ... الخ .
فرجعوا الى أنفسهم و قال كل منهم لنفسه : أنا الظالم ، أنا المخطىء الذي رضيت أن أعبد هذا الصنم ، الذي لا ينطق ولا يستطيع أن يدافع عن نفسه .
[ 65] [ ثم نكسوا على رؤوسهم ]
ولكنهم باعتبارهم بشر ، وباعتبار إن البشر لا يستطيع تحدي واقعه الفاسد بسهولة ، أخذتهم العزة بالإثم ، وركبوا مطية الغرور برغم أنهم عرفوا الحقيقة و أدركوا بطلان أفكارهم و زيف معتقداتهم فقالوا مكابرين :
[ لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ]
أي كيف تطلب منا أن نسألهم ، و أنت تعلم إنهم لا يتكلمون ، أتسخر منا أم ماذا ؟! . و إذا كانت الأصنام لا تنطق ولا تتكلم فهي لا تستطيع أن تهدي من يعبدها سواء السبيل ، و إذن ما الفائدة منها ؟؟
إن أهم صفة للاله الذي يعبد هي : أن يكون قادرا على هداية الانسان ، لأن أهم حاجة للبشر هي حاجته الى الهداية ، ثم ٍإن إبرز ميزة في الانسان هي العقل و الادراك ، فكيف يرضى بعبادة مالا يعقل .
[ 66] لذلك فقد حطم إبراهيم (ع) في أنفسهم هيبة الأصنام ، و أفهمهم إن المحور هو محور الهدى و منطق الحق ، لا محور الضلال و منطق القوة .
[ قال افتعبدون من دون ا لله مالا ينفعكم شيئا ولا يضركم ][ 67] و أمــام موقفهــم الجاهلي المتغطرس ، يواجههم إبراهيم (ع) بمنطق العقل ، بكل هدوء و ثبات ليستثير عقولهم التي حجبها الكبر و الغرور ، و عندما يرى إصرارهم يلجأ الى الهجوم قائلا :
[ أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ]
ومرة أخرى أكد إبراهيم (ع) على فضيلة العقل في الانسان ، و ضرورة اهتمامه بها و استخدامها من أجل مصلحته و تكامل ذاته .
[ 68] فلما ادينوا ، و دحضت حجتهم الباطلة :
[ قالوا حرقوه و انصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ]
وهذا كان آخر كلامهم ، وهو : إن إبراهيم (ع) يجب أن يحرق ، و أن ينتصروا للآلهة مادام عندهم القوة و القدرة ، و الرجولة و الشجاعة .
فأعدوا منطقة واسعة من الأرض جمعوا فيها الحطب لمدة أربعة أشهر ، ليس فقط من أجل حرق إبراهيم (ع) و إنما أيضا من أجل إعادة هيبة الأصنام ، فالطاغوت يعيش على الهيبة و الارهاب ، وإذا فقدهما لا يبقى عنده شيء يسيطر به على الناس .
وكان لهم فلسفة أخرى وهي إشراك الناس في جريمة حرق النبي عن طريق دعوتهم للاشتراك في جمع الحطب و إعداد مكان لاحراقه ، حتى لا تتحرك فيهم المشاعر الانسانية و الفطرية ، و يثوروا على الطاغية نمرود ، تماما كما فعل ابن زياد الوالي الأموي بأهل الكوفة حيث بعث كل أهل الكوفة لحرب الامام الحسين (ع) حتى يشركهم في جريمة قتل الامام المفترض الطاعة ، و بالتالي يأمن سخطهم و ثورتهم مستقبلا .
و صنعوا لنمرود مكانا عاليا يجلس عليه و يتفرج على عملية حرق إبراهيم ثم توقفوا .. ماذا نفعل ؟ النار كانت من الشدة بحيث تحرق كل من يقترب منها ! فأوحى الشيطان إليهم بمكيدة فجاؤوا بالمنجنيق ، و وضعوا فيه إبراهيم مغلولا ، ثم قذفوا به الى تلك النار المستعرة قذفا .
يد الرحمة :
[ 69] [ قلنا يا نار كوني بردا و سلاما على إبراهيم ]حينما قال الله سبحانه و تعالى " يا نار كوني بردا " أخذ إبراهيم يرتجف من شدة البرد ، و لكن سرعان ما قال ربنا " و سلاما " فاعتدلت درجة الحرارة و قد جاءت قصة مفصلة في تفسير علي بن إبراهيم نذكرها فيما يلي لمزيد العبر التي فيها :
تقول الرواية - فيما تقول - فجلس إبراهيم و جمع له الحطب ، حتى إذا كان اليوم الذي ألقى فيه نمرود إبراهيم في النار برز نمرود و جنوده و قد كان بني لنمرود بناء ينظر منه إلى إبراهيم (ع) كيف تأخذه النار ، فجاء إبليس و اتخذ لهم المنجنيق لأنه لم يقدر أحد أن يتقارب من النار ، و كان الطائر إذا مر في الهواء يحترق ، فوضع إبراهيم في المنجنيق و جاء أبوه فلطمه لطمة و قال له : إرجع عما أنت عليه ، و أنزل الرب تبارك و تعالى ملائكة الى السماء الدنيا ولم يبق شيء إلا طلب الى ربه ، و قالت الأرض يا رب ليس على ظهري أحد يعبدك غيره فيحرق ؟! و قالت الملائكة : يا رب خليلك إبراهيم يحرق ؟! فقال الله عز وجل : إنه إن دعاني كفيته ، و قال جبرئيل : يا رب خليلك إبراهيم ليس في الأرض أحد يعبدك غيره سلطت عليه عدوه يحرقه بالنار ؟ فقالوا : اسكت إنما يقول هذا عبد مثلك يخاف الفوت ،هو عبدي آخذه إذا شئت ، فان دعاني أجبته ، فدعا إبراهيم (ع) ربه بسورة الاخلاص ، يا الله يا واحد يا أحد يا صمد يامن لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد نجني من النار برحمتك ، قال : فالتقى معه جبرئيل في الهواء و قد وضع في المنجنيق ، فقال : يا إبراهيم هل لك إلي من حاجة ؟ فقال إبراهيم (ع) أما إليك فلا ، و أما الى رب العالمين فنعم ، فدفع إليه خاتما مكتوب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله (ص) ألجأت ظهري الى الله و أسندت أمري الى الله و فوضت أمري الى الله ، فأوحى الله عز وجل الى النار : كوني بردا فاضطربت أسنان إبراهيم من البرد حتى قال ، و سلاما على إبراهيم ، و انحط جبرئيل (ع) و جلس معه يحدثه في النار و نظر نمرود فقال : من اتخذ إلها فليتخذ مثل إله إبراهيم ، فقال عظيم من عظماء أصحاب نمرود : إني عزمت على النار أن لا تحرقه ، فخرج عمد من النار نحو الرجل فأحرقه ، فآمن له لوط فخرج مهاجرا الى الشام ، و نظر نمرود الى إبراهيم في روضة خضراء في النار مع شيخ يحدثه فقال لآزر : يا آزر ما أكرم ابنك على ربه . (1)[ 70] [ و أرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ]
هذه عبرة لي و لك ، تحد الطاغوت و تحد المجتمع الفاسد المنحرف ، و تحد الأصنام التي تعبد من دون الله ، وفي لحظة المواجهة تدركك رحمة الله سبحانه ، فلا(1) نور الثقلين / ج 3 / ص 432 .
تخف ، لأن أهم شيء يربطك بعجلة الانحراف هو حبائل الخوف و أغلال الرهبة ، فاقطع هذه الحبال و تلك الأغلال حتى تتحرر ، و تكون أنت الفائز و أعداؤك الأخسرون .
الهجرة في سبيل الله :
[ 71] [ و نجيناه و لوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ]بدل هذه الأرض المحكومة بالطاغوت ، أعطاه الله أرضا حرة و مباركة هي فلسطين .
[ 72] [ و وهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة و كلا جعلنا صالحين ]و أعطاه الله سبحانه أيضا اسحاق ، و من بعده يعقوب ، و من بعد يعقوب جيلا من المؤمنين الملتزمين الذين يدعون بالأسباط ، حيث عوضه الله بهم عن ذلك المجتمع الفاسد الذي اصطدم به في دعوته التوحيدية .
و أنت أيها المؤمن أيضا .. هاجر ولا تقل هذا أبي و هذا أخي و هذا صديقي .. الخ ، إترك كل ذلك و هاجر من المجتمع الفاسد إذا لم تستطع أن تصلحه ، و آنئذ يعوضك الله تعالى بأفضل منهم .
[ 73] [ و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ]
جعل الله الذين هاجروا أئمة وهذه من نتائج الهجرة في سبيل الله .
[ و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة ]هذا هو برنامجه : أعمال الخير - الزكاة - الصلاة . .
[ و كانوا لنا عابدين ]
و التحرر الكامل عن سلطة الشرق و الغرب ، و الادانة بالعبودية المطلقة لله سبحانه و تعالى فقط .
إن هذه القيادة و الامامة تجسدت في إبراهيم عبر أكثر من خمسة آلاف سنة و الى يومنا هذا ، في ذلك اليوم جاءه حامية ظاهرا و أقرب الناس إليه و هو عمه آزر - لما غلوا يديه ليلقوا به في النار - فبصق في وجهه و قال : ألم أنهك يا إبراهيم فلماذا فعلت ، هذا هو جزاء فعلتك .. بلى في تلك الأرض لم يكن أحد يدافع عن إبراهيم ، و لكن الى الآن و الأجيال التي بعدنا، تلهج ألسنتهم بذكر إبراهيم و مدحه ، و كل واحد يبحث عن طريقة إبراهيم ليقتدي به فيها ، و هذا جزاء من أحسن عملا ، في الدنيا ، أما الجزاء الأكبر فهو ينتظر المحسنين في الآخرة .