فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس

سليمان و القضاء الفصل
[ 78] [ و داود و سليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم و كنا لحكمهم شاهدين ]

من مظاهر رحمة الله بعبده الذي يبحث عن الهدى و يجاهد من أجله ، إن الله سيهديه . و سورة الأنبياء تؤكد في مواضع مختلفة على هذه الفكرة و هي : إن العقل و الهدى أفضل نعمة يتمتع بها الانسان ، و قد وهب الله هذه النعمة لداود و سليمان حيث كانا يحكمان في قضية معقدة وقعت على عهدهم حيث إن قطيعا من غنم قوم دخل حقل كرم لقوم آخرين ، و أفسد الزراعة . و لعلنا نستوحي من هذه القصة إن مجتمع داود كان ينقسم الى قسمين : مجتمع زراعي ، و مجتمع رعاة ، و كانوا يختلفون ، حيث إن الرعاة كانوا يأتون بأغنامهم الى المدينة و يطلقونها فاذا جن الليل تهيج الأغنام فتدخل في الحقول المزروعة و تعبث بها ، و كان أصحاب الحقول يطالبون بدفع تعويضات عن خسارتهم .

قال تعالى :

[ إذ نفشت في غنم القوم ]

إن الغنم ترعى في الليل بشكل غير منتظم ، و هكذا حين دخلت على مزرعة الناس أهلكتها ، فلما جاء المزارعون راوا أنه لم يبق من كرومهم شيء ، لا العناقيد ولا الأوراق ، فحكم داود - كما جاء في بعض النصوص - أن يكون الغنم من نصيب صاحب الحقل ، و لعل حكمة هذا القضاء تكمن في أن على اصحاب الماشية حفظها ليلا بينما على صاحب الزرع حفظها نهارا ، حيث جاء في حديث مأثور عن رسول الإسلام محمد بن عبد الله (ص) : " إنه قضى بحفظ المواشي على أربابها ليلا ، و قضى بحفظ الحرث على أربابه نهارا " . (1)و حسب ما جاء في الحديث : " كان سليمان جالسا عند والده ، فقام ، و قال : لا يا أبتاه ليس الحكم كما ذكرت ، قال : فما هو الحكم ؟ قال : الحكم هو أن نعطي البساتين التي أتلفت بسبب نفش الغنم ، لأصحاب الأغنام ليقوموا باصلاحها ، و نعطي الأغنــام لاصحابالبساتين يستفيدون من لبنها و صوفها و نتاجها حتى تصلح بساتينهم ، ثم يرجع كل شيء لصاحبه ، فيكون أصحاب الغنم قد دفعوا ثمن إهمالهم و تفريطهم ، و يكون أصحاب البساتين قد عوضوا عن الأضرار التي لحقت بمزروعاتهم " .


(1) مجمع البيان / ج 7 / ص 58 .


[ 79] [ ففهمناها سليمان ]

لقد أعطى الله الحكم لسليمان حيث كان وصي داود ، و كان شديد الاهتمام بتحمل مسؤوليته ، و كان يسعى نحو تطبيق العدالة ، فوهب الله له حكما .

[ و كلا آتينا حكما و علما ]

داود أيضا كان على حق ، و هنا نتعرض للسؤال التالي : إذا كان داود نبيا كسليمان ، فكيف اختلف قضاؤهما ، و هل كان كلا الحكمين صحيحا ، كما نستوحي من هذه الآية ، إذا كيف يكون لواقعة واحدة حكمان مختلفان ؟

الجواب :

أولا : جاء في النصوص ما يوحي الى أن الحكم الثاني كان بمثابة النسخ ، حيث يسأل أبو بصير عن أبي عبد الله (ع) قال قلت له : قول الله عز وجل : " وداود و سليمان إذ يحكمان في الحرث " قلت : حين حكما في الحرث كان قضية واحدة ؟ فقال (ع) : " إنهكان أوحى الله عز وجل الى النبيين قبل داود الى أن بعث الله داود : أي غنم نفشت في الحرث فلصاحب الحرث رقاب الغنم ، و لا يكون النفش إلا بالليل ، فان على صاحب الزرع أن يحفظه بالنهار ، و على صاحب الغنم حفظ الغنم بالليل ، فحكم داود بما حكمت به الأنبياء (ع)من قبله ، و أوحى الله عز وجل الى سليمان (ع) : وأي غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلا ما خرج من بطونها ، و كذلك جرت السنة بعد سليمان (ع) و هو قول الله عز وجل : " وكلا آتينا حكما و علما " فحكم كل واحد منهما بحكم الله عز وجل " . (1)


(1) نور الثقلين / ج 3 / ص 442 .


ثانيا : جاء في حديث مأثور : " إن الله أراد أن يكشف للناس فضل سليمان ، و إنه وصي أبيه و خليفته من بعده " . (1)ثالثا : إن داود لم يحكم إنما كان يناظر ابنه في الحكم ، و بذلك أيضا وردت نصوص شرعية .

رابعا : إن قيمة ما أتلفه الغنم في حقل القوم كانت بقيمة الغنم ، و كانت هناك طريقتان لاستيفاء هذه القيمة : الأولى أخذ الغنم ، و الثانية أخذ نتاجها لعام واحد ، و قد حكم كل نبي بطريقة معينة ، و قد قال داود لسليمان بعد الحكم ، فكيف لم تقض برقاب الغنم ،و قد قوم ذلك العلماء من بني إسرائيل فكان ثمن الكرم قيمة الغنم ، فقال سليمان إن الكرم لم تجتث من أصله و إنما أكل حمله و هو عائد في قابل . (2)النعمة و المسؤولية :

[ و سخرنا مع داود الجبال يسبحن و الطير و كنا فاعلين ]هناك تفاسير مختلفة وردت في هذه الكلمات لعل أقربها - و الله العالم - إن الله سبحانه و تعالى سخر لداود (ع) الجبال بما فيها من معادن و إمكانات ، و سخر له الطيور بما تملك من قدرات على الطيران ، فما بال الانسان يتمرد على ربه ، و هو يستخدم المعادن من الجبال ، و يسخر الطيور ، فيا أيها الانسان : إن الحديد المسخر لك ليس ملكك إنما هو بيدك لفترة محدودة ، و هذه الآلة الحديدية التي تستخدمها قد تأتي يوم القيامة و تقول : إلهي أنت سخرتني لفلان فما فضله علي ، فاذا استطعت أن تثبت - يوم القيامة - بأنك كنت إنسانا، و تحملت مسؤوليتك في الحياة فأنت أفضل من الحديد .


(1) المصدر / ص 443 .

(2) المصدر .


إن الطيور و الجبال و الأشياء كلها لله و ليست لنا ، و لكن كلما سخرنا الأشياء ، كلما ازدادت مسؤوليتنا و كبرت ، و يوم القيامة نحاسب حسابا عسيرا . إذا كانت هناك أرض ( موات ) و كان من الممكن إصلاحها و استصلاحها بناء أو زراعة أو رعيا أو أي شيء آخر ، ولم تصلحها ، فان هذه الأرض قد تأتي يوم القيامة لتشتكي عند الله قائلة : إلهي أنت سخرتني من أجل الناس و لكنهم لم يستفيدوا مني .

إن المسؤوليــة بالنسبة للانسان دقيقة و شاملة فهو مسؤول عن كل ما يحيط به ، كما هو مسؤول عن نفسه و أهله و مجتمعه .

إن داود لم يكن بالذي يسخر الجبال بقوته الذاتية ، و البشر ليسوا بالذين يسخرون الحديد و النار بطاقاتهم الذاتية ، بل الله يفعل كل ذلك بقدرته و يسخرها لهم بفضله ، فلو نامت البشرية ليلة ثم استيقظت و قد سلب الله منهم العقل لأصبحوا وحوشا بكماء ، فهل يقدرون على شيء من حضارتهم ؟ كلا .. ولا تشغيل سيارة أو إنارة مصباح فلماذا لا يشكرون الله بعمل الصالحات ، و تحمل المسؤولية ؟

[ 80] [ و علمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ]اللبوس : كل أداة حربية يلبسها الانسان من درع و جوشن و غيره ، و البأس الحرب .

لقد كانت حركة داود إصلاحية في الأرض ، تتطلب صد هجمات الأعداء و المعارضين ، و لذلك فقد ألهمه الله طريقة صنع الدروع ، و ألان له الحديد ، و هناك نكتة ظريفة في الآية و هي : إن الله لم يعلمه صناعة آلات حربية هجومية مدمرة ، بل اقتصر على الآلات الدفاعيةو لعل ذلك يوحي بأن الرسالات الالهية لا تدعو الى القتل و الدمار ابتداء ، و انما هي تدعو الى الاصلاح و السلام ، و لذلك فهي بحاجة الى الدفاع عن نفسها في مواجهة أعداء الإسلام و الانسانية .

[ 81] [ و لسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ]كانت الريح تحمل سليمان (ع) بأمر الله سبحانه لتنقله الى أي مكان شاء في مدة قصيرة ، و قد يأتي يوم يكتشف فيه علماء التأريخ و الآثار إن الطائرة كانت مصنوعة من أيام سليمان (ع) ، حيث كانت تنقله يوميا بين القدس و قلاع بعلبك ليشرف على أمور مملكته .

[ 82] [ و من الشياطين من يغوصون له و يعملون عملا دون ذلك ]الى الآن لم يصل العلم هذا المستوى ، و لكن ليس من المستحيل أن يستخدم البشر الشياطين في يوم ما ليقوموا ببعض الأدوار ، إن البشر الآن يستخدم أنواعا من الحيــوانات كالدلافين في أعمال الانقاذ أو عملية التجسس ، و الكلاب لاكتشاف المجرمين ، و الحمام الزاجللنقل الرسائل ، و هكذا .. و لكنه في المستقبل ينبغي أن يصل الى درجة استخدام الأرواح و الشياطين .

الغوص كان أصعب الأعمال حيث لم يكن أحد من البشر في تلك الأيام يستطيع القيام به و لكن الشياطين كانوا يقومون به بكل سهولة بالاضافة الى أعمال أخرى أيضا ، مثل البناء ..

إن الذاهب الى بعلبك يرى تلك القلاع الضخمة المبنية من صخور هائلة و التي لا يعرف البشر الى الآن كيف جيء بها إلى هناك من أماكن بعيدة ، حيث إن تلك الصخور لم تكن موجودة في تلك الأرض ، من أتى بهذه الصخور ، و من بنى تلك القلاع ؟ يبدو ان الشياطين فعلوا ذلك .

[ و كنا لهم حافظين ]

إن هذه الطاقة الهائلة المتمثلة بالشياطين لم تكن فالتة الزمام ، بل كانت محفوظة في إطارها المرسوم من قبل الله سبحانه و تعالى ، و هذه إشارة للانسان بأن توجهه الى الله و توكله عليه يعطيه إمكانية لتسخير الأشياء ، و حل المشاكل في الحياة .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس