فصل:
الاول |
قبل |
بعد
| الاخير
| الفهرس
بينات من الآيات
قصة النبي الصابر
[ 83] أصيب بالمرض و مات أهله ، و نفذت مواشيه ، و كان عزيزا في قومه فافتقر ، فابتعد عن الناس بسبب فقره و مرضه ، و كانت زوجته الوفية هي التي تخدمه ، و تنفق عليه و ذلك بقيامها بالخدمة في بيوت الناس بعد أن كانت ملكة في قريتهــا ، و حينما يطفح به الكيليبدأ بالدعاء ، ذلك هو النبي الصابر أيوب عليه السلام ، و لكن انظر كيف يدعو ؟
[ 83] [ و أيوب إذ نادى ربه أني مسنى الضر ]
لأن الله عالم بما أصاب أيوب ، فلابد أن يكون نداءه استعطافا و دعاء وكأنه يقول يا رب إن الضر قد بلغ مني غايته ، و لعل التعبير بـ ( النداء ) هنا للدلالة على إن الضر قد دفع بأيوب الى أن يعلو صوته و يصرخ ، مع إن الله قريب يناجى و ليس ببعيد حتى ينادى .
[ وانت أرحم الراحمين ]
أرحم الراحمين ، فاليك أتوجه بالدعاء لترفع عني هذا الضر .
[ 84] [ فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر و آتيناه أهله و مثلهم معهم رحمة من عندنا و ذكرى للعابدين ]هذه عبرة لنا نحن الذين نعبد الله لكي نعلم ، أي رب رحيم نعبده ، و كيف إنه يستجيب دعاءنا ، فلا يكشف السوء عنا فقط ، إنما و يزيدنا من فضله أيضا .
و يبقى سؤال : لماذا ابتلى الرب أيوب و هو النبي العظيم المكرم عند ربه ؟
و ماذا كانت بليته ، و ما الذي نعتبره من قصته ؟
للاجابة عن هذه الأسئلة و غيرها أنقل هنا نص حديثين مأثورين عن أئمة الهدى عليهم السلام :
1 - الحديث الأول مأثور عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عن أبيه الباقر (ع) يفند فيه الامام المزاعم التي كانت رائجة و تدعي أن أيوب ابتلي بسبب ذنب ارتكبه ، و أنه قد بلغ به البلاء حدا نبذه الناس ، يقول الامام (ع) : " إن أيوب (ع) ابتلي بغير ذنب ، وأن الأنبياء معصومون لا يذنبون ولا يزيغون ولا يرتكبون ذنبا صغيرا ولا كبيرا " و قال (ع) : " إن أيوب مع جميع ما ابتلي به لم تنتن له رائحة ، ولا قبحت له صورة ولا خرجت منه مدة من دم ولا قيح ، ولا إستقذره أحد رآه ، ولا استوحش منه أحد شاهده ، ولاتدود شيء من جسده ، و هكذا يصنع الله عز وجل بجميع من يبليه من أنبيائه و اوليائه المكرمين عليه ، و إنما اجتنبه الناس لفقره ، و ضعفه في ظاهر أمره ، لجهلهم بما له عند ربه تعالى ذكره من التأييد و الفرج (1) ، و قد قال النبي (ص) أعظم الناس بلاء الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، و إنما ابتلاه الله بالبلاء العظيم الذي يهون معه على جميع الناس لئلا يدعوا له معه(1) في المصدر ( القرح ) و أظنه خطأ .
الربوبية (1) إذا شاهدواما أراد الله تعالى ذكره أن يوصله إليه من عظائم نعمه متى شاهدوه ، ليستدلوا بذلك على إن الثواب من الله تعالى على ضربين : استحقاق و اختصاص و لئلا يحقروا ضعيفا لضعفه ، ولا فقيرا لفقره ، ولا مريضا لمرضه ، و ليعلموا أنه يسقم من يشاء ويشفي من يشاء ، متى شاء كيف شاء بأي شيء شاء ، و يجعل ذلك عبرة لمن يشاء ، و شقاوة لمن يشاء ، و هو عز وجل في جميع ذلك عدل في قضائه ، و حكيم في أفعاله ، لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم ولا قوة إلا بالله " . (2)هكذا يؤكد هذا الحديث : إن حكمة إبتلاء أيوب ( أولا أقل العبرة التي نستوحيها منه ) عدم جعل البلاء في الدنيا دليلا على غضب الله ، بل قد يكون دليلا على قرب صاحبه من الله .
2 - أم الحديث الثاني المروي عن أبي بصير عن الامام الصادق (ع) فانه يفصل القول في بلاء أيوب كيف كان ، و متى طفح كيل الصبر عنده :
" إنما كانت بلية أيوب التي ابتلي بها في الدنيا ، لنعمة أنعم الله بها عليه فأدى شكرها ، و كان إبليس في ذلك الزمان لا يحجب دون العرش ، فلما صعد عمل أيوب بأداء شكر النعمة ، حسده إبليس ، فقال : يا رب إن أيوب لم يؤد شكر هذه النعمة إلا بما أعطيته من الدنيا فلو حلت بينه و بين دنياه ، ما أدى إليك شكر نعمة ، فقال : قد سلطتك على دنياه ، فلم يدع له دنيا ولا ولدا إلا أهلك كل شيء له ، و هو يحمد الله عز وجل ، ثم رجع إليه فقال : يا رب إن أيوب يعلم إنك(1) كذا في النص و أظنه خطأ و المعنى لكي لا ينسبوا أيوب الى الربوبية ، هذه الفكرة مذكورة في نصوص أخرى أيضا .
(2) المصدر / ص 447 .
سترد إليه دنياه التي أخذتها منه ، فسلطني على بدنه تعلم إنه لا يؤدي شكر نعمة ، قال الله عز وجل : قد سلطتك على بدنه ما عدا عينه و قلبه و لسانه و سمعه ، فقال أبو بصير : قال أبو عبد الله (ع) : فانقض مبادرا ، خشية أن تدركه رحمة الله عز وجل فتحول بينه و بينه ، فنفخ في منخريه من نار السموم ، فصار جسده نقطا نقطا (1) ، فلما اشتد به البلاء و كان في آخر بليته جاءه أصحابه فقالوا : يا أيوب ما نعلم أحدا ابتلي بمثل هذه البلية إلا لسريرة سوء ، فلعلك اسررت سوء في الذي تبدي لنا ، قال : فعند ذلك ناجى أيوب ربه عز وجل: رب ابتليتني بهذه البلية و أنت تعلم إنه لم يعرض لي أمران قط إلا لزمت أخشنهما على بدني ، و لم آكل أكلة قط إلا وعلى خواني يتيم ، فلو أن لي منك مقعد الخصم لأدليت بحجتي (2) قال : فعرضت سحابة فنطق فيها ناطق فقال : يا أيوب أدل بحجتك ، قال : فشد عليه مأزرهوجثا على ركبتيه و قال : أبتليتني و أنت تعلم إنه لم يعرض لي أمران قط إلا لزمت أخشنهما على بدني ، ولم آكل أكلة من طعام إلا وعلى خواني يتيم ، قال : فقيل له : يا أيوب من حبب إليك الطاعة ؟ قال : فأخذ كفا من تراب فوضعه في فيه ثم قال : أنت يارب . (3)و نستوحي من هذه الرواية عدة حقائق :
أ - إن شكر أيوب كان عظيما فامتحنه الله سبحانه بأعظم البلاء ليعرف الناس أن الشكر ليس عند الرضاء في منطق الأنبياء ، بل و أيضا عند البلاء ، و إن ايوب و سليمان في الشكر سواء .
(1) الى هنا ينقطع الحديث الماثور عن كتاب علل الشرائع عن أبي بصير ، و يستمر بعدئذ حديث آخر مشابه له مأثور في الإمام موسى بن جعفر (ع) . انظر المصدر .
(2) ادلى لحجة : طرحها و أصبح بها .
(3) المصدر / ص 447 - 448 .
ب - إن حكمة النبوة تتنافى مع التعيير ، و لذلك فان الله لا يدع أنبياءه عليهم السلام يتعرضون للشماتة بل يستجيب دعاءهم .
ج - إن أيوب ذلك العبد الصابر و ذلك النبي الكريم عند الله ، تاب الى ربه فور ما صدر منه ما يبدو أنه نوع من الفخر بعمله ، بالرغم من إن صبره و شكره و اجتهاده كان كل ذلك عظيما غاية العظمة .