فصل:
الاول |
قبل |
بعد
| الاخير
| الفهرس
الرسول يتحدى الضغوط
[73] و كل انسان مسؤول عن بصيرته الا يحجبها الشيطان ، و عن هداه الا ينحرف عنه تحت وطأة الضغوط ، و هكذا كان الرسول يتحدى الضغوط التي يمارسها اتباع الشيطان لتغيير الرسالة .
و التعبير القرآني بليغ في بيان مدى كثافة الضغوط التي يتعرض لها صاحب الهداية ، حتى انها تكاد تؤثر في الرجل العظيم الذي يصفه الامام علي عليه السلام بقوله :
" صل على الدليل اليك في الليل الاليل ، و الماسك من اسبابك بحبل الشرف الاطول ، و الناصع الحسب في ذروة الكاهل الاعبل ، و الثابت القدم على زحاليفها في الزمن الاول ، و على آله الاخيار " .
يقول ربنا : وهو يشير الى تلك الضغوط :
[ و إن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك ]
يسعى الكافرون و المشركون ان يفتنوا الرسول ، و يبعدوه عما اوحي اليهبالتشكيك ، أو بالارهاب ، أو بالضغوط الاجتماعية ، و النفسية .
[ لتفتري علينا غيره ]
ليـــس فقط يريدون ان يبعدوك عن رسالتك ، بل يريدون ان تسخر هذه الرسالة لصالحهم ، لانهم يفكرون لو انهم ابعدوك عن دينك ، فانه من الممكن ان ترجع إليه ، و لكن عندما تفتري على رسالتك ، و تكذب فيها آنئذ ستفهم هذه الرسالة بشكل مشوه ، و بالتالي ستبتعد عن دينك ، و هذا ما يفعله الاستعمار اليوم ، حين يصيغ الاسلام كما يريد ، ويحرفه عن مساره ، يحوله الى دين الطقوس و الشكليات المجردة بعد ان يفرغه من جوهره ، و يختار لذلك بعض ادعياء الدين .
[ و إذا لاتخذوك خليلا ]
إذا كيفت رسالتك حسبما يريدون فانت اذا مخلص لهم و ما جزاء المخلص لهم الا ان ترفع مرتبته عندهم ، و هكذا يجب على الداعية ان لا يتنازل عن مبادئه في اي ظرف من الظروف ، و ان يضحي من أجل اداء رسالات ربه .
[74] [ و لولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ]لولا اتصال الرسول (ص) بينبوع القوة ، لكانت الضغوط تجبره للتنازل عن رسالته ، و حاشا الرسول ان يتنازل عن مبادئه ، و ينقل الرواة ان سبب النزول هو : ان المشركين جاؤوا الى الرسول و قالوا له : ( كف عن شتم آلهتنا ، و تسفيه أحلامنا ) ، و اطرد هؤلاء العبيدو السقاط الذين رائحتهم الصنان ( الصنان : نتن الابط ) حتى نجالسك و نسمع منك ، فطمع الرسول في اسلامهم ، فنزلت هذه الآية ، و جاء في حديث العياش عن الصادق عليه السلام انه سئل عن هذه الآية فقال : لما كان يوم الفتح اخرج رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم اصناما من المسجد و كان منها صنم
على المروة ، و طلبت اليه قريش ان يتركه و كان مسخا ، فلم يتركه ، ثم أمر بكسره فنزلت الآية (1) .
و لعل الآية توحي بان الداعية قد يهم لتغيير بعض بنود رسالته طمعا في ادخال الناس في الدين و هذا بدوره خطأ ، و الروايتان تشهدان على هذا التفسير .
بالرغم من ان عصمة الرسول التي تدل عليها الآية (74) بصراحة تشهد على ان الرسول لم يعزم ابدا على تقديم تنازل للمشركين ، ولعله استعرض ذلك في ذهنه كاحد الخيارات المطروحــة ، الا انه سرعان ما نبذه بسبب عصمة الله له ، و روي عنه انه صلى الله عليـه و آله وسلم قال بعد نزول الآيات " اللهم لا تكلني الى نفسي طرفة عين أبــدا " (2) .
[75] [ إذا لأذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات ]
اي لاذقناك ضعف العذاب في الدنيا و الآخرة ، و نظرا لمقام الرسول و عظم مسؤولياته فانه يحاسب بقدر تلك المسؤوليات فكلما ارتفعت مسؤولية الانسان ، كلما حوسب اكثر بعكس الذين لا يحملون مسؤولية كبيرة ، لان انحراف القيادة يعني انحراف قطاع كبير من الامة .
[ ثم لا تجد لك علينا نصيرا ]
هذه الآية هي جواب على الآيات الاولى " و ان كادوا ليفتنونك عن الذي اوحينا اليك لتفتري علينا غيره ، و اذا لاتخذوك خليلا " اي لو انحرفت فقد تجد من ينصرك في الدنيا ، و لكن من الذي ينصرك من عذاب الله .
(1) و (2) تفسير الصافي / ص 208 - ج 3
[76] [ و إن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ]الانسان الذي يحمل الرسالة لابد ان يضع في اعتباره انه سوف يتعرض للضغوط الاجتماعية ، و المادية ، و من ضمن هذه الضغوط ( الاخراج و التهجير و المقاطعة الاجتماعية و الايذاء ) و من يقرأ ما عانى رسول الله من الايذاء لا يمتلك دموعه و خاصة عندما فقد عمه و زوجته في عام الاحزان ، و لم يجد احدا يمنع المشركين عن أذاه ، فاشتد ايذاؤهم له ، و تولى ابو لهب سيادة قريش ، و يزداد أذى له و هو عمه و اقرب الناس اليه ، و اذا كان عمه هكذا فكيف يكون المشركون ؟!
ثم بعدما ضاقت عليه الارض بما رحبت هاجر الى الطائف ، و لقي من العنت مثلما لقي في مكة ، فاذا بصبيانها يدمون رجلي الرسول بالحجارة ، و عندما تأزمت الامور اكثر بين الرسول و اهل مكة حاولوا اخراجه ، و من ثم تآمروا على قتله ، فهاجر الى المدينة ليفتح بذلكصفحة جديدة أطلت على التاريخ ببوارق الأمل .
" يستفزونك " اي يخرجوك و ينفرونك ، و هذه ثانية خطط ابليس و شياطينه حيث انهم حين يفشلون في تغيير الرسالة لتوافق مصالحهم ، و لا اقل لكي لا تضرها رغم اغرائهم لصاحب الرسول بانهم سوف يدخلون في دينه لو فعل ذلك - اقول بعد فشلهم هذا يتوسلون بالارهاب ، و يحاولون طرد صاحب الرسالة - من ارضهم .
و نلاحظ ان القرآن اشار الى هاتين الخطتين في الآية (63) حيث قال : " و استفزز من استطعت منهم بصوتك و اجلب عليهم بخيلك و رجلك " .
و كأن السياق هنا يذكرنا بفشل إبليس مع نبينا ، و ان علينا الا ندعه ينجح معنا ايضا ، أو لسنا اتباع ذلك الرسول ؟!
[ و إذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ]
اي لن يستطيعوا ان يواجهوك بعد ما يخرجوك . لعل الآية تشير الى سنة الهية ، قضاها الرب لعباده : ان رسل الله ، و الذين هم يسيرون على نهجهم ، أوتاد الارض ، فمن دونهم تسيخ باهلها ، بهم يحفظ الله العصاة ان يدمرهم شر تدمير ، فاذا طغى الناس و اخرجوا هؤلاء منبلادهم فان العذاب يصب عليهم صبا . و لو لا ان نبينا (ص) اختار الهجرة الى المدينة لكان أهل مكة يتعرضون لعذاب شديد ، بل انك ترى انهم تعرضوا للقتل و الاسر ، و فتح بلدهم لانهم هموا باخراج الرسول .
[77] [ سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا و لا تجد لسنتا تحويلا ]سنة الله لن تتغير حتى يوم القيامة ، فهذه من الحتميات الالهية ، و التحويل هو تحويل الشيء الى غيره ، و سنة الله المتمثلة بنصر الرسل ، سنة ابدية محتومة ، كما الظروف الطبيعية تحتمها ، لان الكفر يسير ضد التيار العام للطبيعة ، بينما تنتصر رسالات الله ،لانها تتحرك باتجاه التيار الطبيعي للحياة ، كما انها تتوافق مع الفطرة .
|