فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


كيف نتخلص من طبيعة الجدال ؟
[54] [ و لقد صرفنا في هذا القرءان للناس من كل مثل ]

كل تجسيد للحقيقة يسمى مثلا ، و القرآن يجسد الحقائق المجردة في امثلة تاريخية مضت أو حوادث مستقبلية تقع ، لكن لماذا ، لكي يقرب هذه الحقائق المجردة الى اذهان الناس و قلوبهم ، و لكــن الانسان مهما أوتي من أمثال ، و صرفت له من قصص و حوادث ، تراه يجادلفيها .

[ و كان الانسان أكثر شيء جدلا ]

الانسان يبحث عن أي وسيلة يتهرب بها عن حفظ أمانة العقل ، و ثقل مسؤولياته انه يبحث عن مخرج من الهداية للصعوبة القصوى التي يعانيها في رحلته الشاقة من ارض الطبيعة الى قمة الكمال ، و ما دامت طبيعته الجدل ، فان عليه ان يعمل جاهدا لكي يقاوم هذه الطبيعة ،و يعرف بأنه لو ترك نفسه و شأنها فانها نزاعة للهوى و أمارة بالسوء ، تدعوه الى الجدل و الإبتعاد عن الحقيقة و الهبوط الى حضيض الشهوات .

ان عليك ايهــا الانسان ان تقاوم ، العلم بحاجة الى جهاد و الهدى بحاجة الى سعي ، و الكمال بحاجة الى مقاومة مستمرة لنوازع الهوى حتى تكتمل .

و لعلنا لو تعمقنا قليلا في كلمة الجدل نصل الى معرفة طبيعة الانسان التي هي مخلوقة من مجموعة متناقضة من الأهواء ، و النزعات ، و التطلعات و ما اشبه ، فالانساندائما في حالة صراع و تجاذب داخلي ، ففي نفسك توجد مجموعة جواذب مختلفة كل يجذبك الــى جهة ، عنصر يجذبك الى طاعة الآباء ، و آخر يدعوك الى الغلو في حب الأبناء ، و ثالث يدعوك الى الذوبان في تيارات و هكذا ، و كل هذه العناصر لها تأثير على عقلك و تفكيرك و لايمكنك الكمال الا إذا قطعت كل حبال الطبيعة .

لذلك جاء في الأحاديث أنه يوجد في قلب كل انسان 33 ملكا و 33 شيطانا ، و هؤلاء الملائكة احدهم يمثل الصبر ، و الثاني يمثل اليقين ، و الثالث يمثل التقوى .. الخ و أولئك الشياطين أحدهم يمثل الغيبة ، و الثاني يمثل التهمة ، و الثالث يمثل الفجور .. الخ . والملائكة و الشياطين جميعا و ما يمثلونه في حالة جدال مستمر في داخل الانسان .

بعض المفسرين قالوا : ان كلمة " اكثر شيء " إنما هي على سبيل المبالغة ، و الواقع انه لا مبالغة هناك ، فلا يوجد شيء في الطبيعة أكثر جدلا من مخ الانسان ، و لنفترض ان شلالات الماء في ( نياجارا ) تحدث جدلا لأنها تنزل و تصطرع مع المياه التي تصطدم بها ، و لكن هذا الجدل اكثر أم جدل الفكرة ؟ و التيارات المتعارضة في بعض البحار ، و الرياح المختلفــة ، و الزوابع العاصفة اكثر جدلا أم القلب ، الذي تنعكس عليه كل تناقضات الوجــود ؟!

و اذا بحثت فلن تجد تناقضا قائما في الدنيا اكثر من ذلك الموجود في فكرك ، لأن عقلك يحتوي على كل تناقضات الدنيا ، ماديات و معنويات ، حق و باطل ، خير و شر ، ففكر الانسان انعكاس لكل تناقضات الكون ، لذلك فهو اكثر شيء تناقضا و جدلا .

[55] و من أنــواع التناقض و الجدل عند الانسان هو ذلك الموجود بين الواقع و الحقيقة ، فللواقع ضغطه و جاذبيته ، و للحقيقة صحتها و عاقبتها .


ان الله يبعث بالهدى للناس ، و يأمرهم ان يصححوا حياتهم وفق هذا الهدى و يصلحوا ماضيهم ، و لكن هؤلاء ينتظرون حتى يأتيهم العذاب ، فأما أن يأخذهم بغتة ، و اما يأتيهم فيروه أمامهم مباشرة ، فهم ينتظرون الواقع ، و لا ينظرون الى الحقيقة ، ويقول القرآن :

[ و ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى و يستغفروا ربهم ]ان يؤمنوا بالهدى ، و ان يصلحوا حياتهم الماضية وفق ذلك الهدى .

[ إلا أن تأتيهم سنة الأولين ]

أي العذاب المحيط بهم .

[ أو يأتيهم العذاب قبلا ]

أي يرون العذاب امامهم مباشرة .

[56] اذن لماذا ينزل ربنا العذاب على الناس حتى يهتدوا ؟

لأن المطلوب هو ان يهتدي الناس بعقولهم وارادتهم ، و دور رسالات الله هو دور التبشير و الإنذار ، و ليس دور الجبر و الحسم .

[ و ما نرسل المرسلين إلا مبشرين و منذرين و يجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق ]يريد الكفار ان يهدموا كيان الحق بسلاح الباطل ، و لما كانوا لا يقدرون على ذلك ، فانهم يتخذون سلاحا آخر هو سلاح الإستهزاء ، و هو اخطر سلاح يستخدمه الانسان في مقاومة الحقيقة .


[ و اتخذوا ءاياتي و ما أنذروا هزوا ]

تكمــن خطورة هذا السلاح في ناحيتين : فمن جهة حينما يستهزئ الانسان بالحقيقة ، فانه لا يمكنه ان يهتدي بها أبدا .

و من جهة ثانية حينما يستهزئ بها ، فلا يمكن لأحد أن يضرب له مثلا ، أو يأتي له بدليل على تلك الحقيقة لكي يقنعه بها .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس