فصل:
الاول |
قبل |
بعد
| الاخير
| الفهرس
بينات من الآيات
[84] في طرف الجزيرة العربية كانت مساكن مدين تلك القبيلة التي وسع
عليها الله الرزق فبطروا ، و أخذ بعضهم يظلم بعضا ، ويحاول البعض الأنقاص من البعض . و ان يفسد ما في الأرض .
فجــاء شعيب رسولا من قبل الله اليهم و أمرهم بعبادة الله ، و تنفيذ تعاليم السماء ، و نهاهم عن عبادة ذواتهم ، أو عبادة الثروة الزائلة ، كما نهاهم عن الانقاص في المكيال و الميزان لأنه نوع من الظلم و العلاقة الفاسدة بين أبناء البشر و التي سوف تؤدي الىزوال الخير ، و حذرهم من يوم يحيط بهم عذابه فلن يجدوا مفرا منه .
[ و إلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ]ربما كانت مدين كغيرهم من الشعوب الجاهلية ، تدعي الايمان بالله ظاهرا ، و لكنهم لا يطبقون واقعا رسالة الله . فلذلك امرهم شعيب بعبادة الله و تحكيم سيادته التشريعية على واقعهم الاجتماعي ، دون أن يكتفوا بترداد اسمه سبحانه ، بينمــا يتخذون آلهة أخرى للعبادة ، كالكهنة و الطغاة و الاشراف و اصحاب المال .
[ و لا تنقصوا المكيال و الميزان إني أراكم بخير ]
أي إني أجد حياتكم المادية مرفهة ، و لكن هذه الحياة قد تزول في اية لحظة بسبب الظلم الاجتماعي الذي تمارسونه .
[ و إني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ]
عوامل الانهيار :
[85] و أمرهم شعيب بأن يوقفوا رحلة الانهيار التي بدأت في حضارتهم المزدهرة عبر ثلاث ثغرات هامة وجدت فيهم و هي :
أولا : الاستهانة بالمقاييس الاقتصادية التي كانت موضع ثقة الجميع كالمكيال و الميزان فاذا بخسوا فيهما فان النظام الاجتماعي ذاته يصبح مهددا بالزوال . اذ ان النظام يقوم على أساس الثقة و التوافق الاجتماعي عليه ، و لا ثقة و لا توافق مع الاحتيال على المقاييس و القيم التي يجب ان تكون ثابتة و معتمد عليها .
ثانيا : تبديل العلاقة الاجتماعية السابقة التي كانت تعتمد على احترام حقوق الآخرين ، و التنافس البناء من أجل الحصول على خيرات الأرض بتعاون الجميع و ثقتهم ببعضهم ، و لكنهم بدلوا ذلك بعلاقة الصراع و محاولة كل فرد أو كل جبهة أو جماعة السطو على حقوق الآخرين ، مما يهدد محور المجتمع ، و أساس المدنية .
ثالثا : تبديل علاقة الانسان بالطبيعة من علاقة الاصلاح و التعمير و البناء ، و الانتفاع المعقول الى علاقة الافساد و الهدم ، و الاسراف في الانتفاع أو الشذوذ فيه .
هكذا جاءت رسالة الله لأهل مدين على يد شعيب في لحظة التحول . حيث كانوا أحوج شيء الى الهداية . فقال لهم شعيب (ع) :
[ و يا قوم أوفوا المكيال و الميزان بالقسط ]
أي احترموا المكيال و الميزان ، و ليكن كيلكم و وزنكم بالعدل التام .
[ و لا تبخسوا الناس أشياءهم ]
سواء كانت مادية أو معنوية ، و ليكن همكم أداء حقوق الآخرين و احترامهم ، و الاعتراف بمنزلتهم و كرامتهم دون أي نقص في ذلك .
[ و لا تعثوا في الأرض مفسدين ]
توجيه المستقبل :
[86] و أضاف شعيب (ع) في توجيهه لقومه الجاهلين توجيها هاما يعتبر ضمانا لاستمرار الحضارة و حفظا لها من أسباب التدهور و الزوال ، و هو التسامي عن جاذبية المادة ، و التحليق في سماء الايمان ، و الاعتقاد العملي بالمستقبل ، و بالتالي التسلح برؤية بعيدة فقال :
[ بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ]
ما هي بقيت الله ؟
انه رضوانه و ثوابه .
و الســـؤال هو : كيف يمكن لقوم مثل قوم شعيب الحصول على الباقيات الصالحات ؟ إلا بترك الموبقات التي ذكرت في الآية السابقة ، ثم العمل في سبيل الله باطعام المساكين ، و أداء حقوق الفقراء ، و بناء المساجد و المرابط ، و الانفاق من أجل بناء السدود و القنوات و الطرق و .. و .. ، و كلما هو في سبيل الله . أليس كذلك ؟!
و العمل بكل ذلك يوجب استمرار الحضارة في الازدهار للمستقبل ، و عدم الاسراف في استهلاك المكاسب الآن ، و كل حضارة تقوم بالأزدهار في بداية تكونها و لكنها تتوقف عن الازدهار ، ثم تبالغ في الاستهلاك انها تنتهي و تزول ، أما اذا استمرت الحضارة في العمل للمستقبل ، و في ايجاد علاقة ايجابية وبناءة مع الناس و مع الطبيعة ، فانها سوف تبقى و تستمر ، لذلك اعتبرنا هذا الأمر الآلهي الذي أظهره شعيب ضمانا لاستمرار الحضارة . و تشير بعض الآيات القرآنية الاخرى الى هذه الحقيقة مثل قوله سبحانه .
" المال و البنون زينة الحياة الدنيا و الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا و خيرأملا " (1)
" زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين .. الى قوله .. و الله عنده حســن المآب " (2)ثم قال شعيب :
[ و ما أنا عليكم بحفيظ ]
أي لا تفتروا : بأن القائد قادر على منع العذاب عنكم من دون أن تفعلوا شيئا صالحا ، أو تغيروا ما بأنفسكم ، بل عليكم أنتم المسؤولية أولا و أخيرا ، و ربما أشارت الآية الى حالة حضارة اعترت قوم شعيب كتلك التي تعتري الشعوب المتخلفة فيلقون كل المسؤولية علىقياداتهم .
[ 87] و لكن قوم شعيب ظلوا على وضعهم الفاسد و عيروا شعيبا .
[ قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ]و كأن عبادة الأصنام تحولت عندهم الى دين مقدس لأنه من عمل الأباء ، و لا يجوز ان يعارضها شخص مؤمن كشعيب ، و كما عادة الاصنام كذلك سائر الأنظمة كالملكية الفردية المطلقة .
[ أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ]
و نكسب المال بطريقة مشروعة أو غير مشروعة ، سواء نظلم الناس أو بالبخس(1) 46 / الكهف
(2) 14 / آل عمران
عنهم ، و أن نصرف المال في أي وجه نشاء صلاحا كان أم فسادا .
[ إنك لأنت الحليم الرشيد ]
و لست بشاب طائش يخالف تقاليد الآباء أو يعترف بحقوق أصحاب المال و مزاياهم ، و يبدو من حديث قوم شعيب أنهم قد ضلوا ضلالا بعيدا حتى رأوا المعروف منكرا ، و المنكر معروفا ، و أصبح الفساد دينا مقدسا عندهم و ليس فقط سلوكا شاذا ، لذلك لم تنفعهم نصيحة شعيب(ع) .
|