فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس

بينات من الآيات
الآن حصحص الحق

[50] صاحب يوسف في السجن عاد الى الملك يحمل اليه بشارة حل اللغز الذي أعجز الملأ من قومه بما فيهم من كبار العلماء ، فأمر الملك باحضار يوسف عنده .

[ و قال الملك ائتوني به ]

و لكن يوسف أبى الحضور عند الملك ، إلا بعد ان يثبت عنده براءته ، و بعد اثبات فساد نظامه الذي يلقي بشخص في السجن بضع سنين من دون محاكمة أو إثبات للتهمة .

[ فلما جاءه الرسول ]

أي جاء صاحبه اليه .

[ قال ارجع الى ربك فسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ]و احتج يوسف على الملك بالنسوة اللاتي شهدن له أول يوم بالبراءة و الطهر ، و استشهد بهن على زوجة العزيز التي اتهمته بالفجور ، كما ذكرهم بربهم العليم بكيدهن .

[ إن ربي بكيدهن عليم ]


يبدو أن كل النسوة اشتركن في المؤامرة ضد يوسف ، لذلك اتهمن يوسف ، و ذكر الملك ان الكيد الشيطاني لا يدوم .

و جاء في حديث ظريف مأثور عن النبي (ص) انه قال بهذه المناسبة :

" لقد عجبت من يوسف و كرمه و صبره - و الله يغفر له - حين سئل عن البقرات العجاف السمان ، و لو كنت مكانه ما اخبرتهم حتى اشترط أن يخرجوني من السجن ، و لقد عجبت من يوسف و صبره و كرمه - و الله يغفر له - حين أتاه الرسول فقال إرجع الى ربك و لو كنت مكانه و لبثت في السجن ما لبث ، لأسرعت الاجابة و بادرتهم الباب و ما ابتغيت العذر - انه كان لحليما ذا أناة - " (1)[51] و هكذا بقي يوسف في السجن الى أن يتم التحقيق في سبب سجنه ، و استحضر الملك النسوة و سألهن عن سبب تقطيع أيديهم ، و هل كان ذلك بسبب فعـل يوسف لشيء - حاشاه - ، و لم يحرن جوابا ، فاعترفن بحقيقة الأمر ، وان يوسف كان نقي الجيب ، و انهن دونه طلبن الفاحشة .

[ قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ]

أي هل بسبب انه كان أهلا لهذا .

[ قلن حاشا لله ما علمنا عليه من سوء ]

لقد كان نظيفا للغاية ، و استعذن بالله من اتهام يوسف بسوء ، فلما شهدن بالأمر اضطرت امرأة العزيز إلى الاعتراف هي الأخرى .


(1) نور الثقلين ج 2 - ص 431


[ قالت امرأت العزيز الان حصحص الحق ]

اي الآن ظهر الحق و ابان عن الباطل .

[ أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين ]

فأنا و ليس هو الذي طلب مني الفجور .

[52] و قال يوسف (ع) - و هو يؤكد براءته امام عزيز مصر - انما طلب منه التحقيق مجددا ، ليعلم اني بريء ، و أنني لم اخن الملك في بيته و هو غائب عنه .

[ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ]

و ان الخائن كانت امرأته التي لم يوفقها الله ، بل اظهر حقيقتها للناس .

[ وأن الله لا يهدي الخائنين ]

و الكيد : الحيلة ، و الله لا يوفق الخائنين في حيلهم و مكرهم .

[53] ثم اكد يوسف (ع) ان كلامه لا يعني انه من انصاف الآلهة ، و انه ليس من جنس البشر ، و ان الذين يعملون السيئات هم من الشياطين . كلا .. بل إن النفــس لأمارة بالسوء ، و ان السقوط في اوحال الرذيلة ليس بعيدا عن طبيعة البشر ، و انما يعني ان التمسك برسالات الله و التسلح بقوة الايمان و التقوى يمنع من هذا السقوط .

[ و ما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربي ]فرحمة الله تعطي الانسان قدرة كبيرة للتغلب على النفس الأمارة بالسوء .

[ إن ربي غفور رحيم ]


المؤمن يدركه الله في الظروف التي يتعرض فيها للضغوط الاجتماعية أو النفسية كما فعل سبحانه بيوسف الذي احاطت به اسباب الرذيلة الاجتماعية . حيث هددته زوجة العزيز بالسجن ، و كذلك عواملها النفسية حيث عرضت امرأة شابة جميلة نفسها عليه و هو في عنفوان شبابه، حيث الشهوة الجنسية في اوجها ، و لكنه نجا من الرذيلة برحمة الله حيث قال : " و إلا تصرف عني كيدهن أصب اليهن " .

[54] و بعد ان ثبتت براءة يوسف (ع) امام الملك طلبه لكي يصبح من المقربين اليه .

[ وقال الملك ائتوني به استخلصه لنفسي ]

اي اجعله خالصا لنفسي ، استعين به في اموري ، و يبدو ان الكلمة توحي بمفهوم الوزارة عندنا .

و جاء يوسف (ع) تحدث معه الملك ، فعرف رشد عقله ، و اكتمال شخصيته من خلال كلامه .

" المرء مخبوء تحت لسانه "

كما جاء في الحديث ، لذلك خول اليه المناصب الهامة .

[ فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين ]

اي ذا مكانة ثابتة ، و اننا نثق بك .

[55] و لكن يوسف (ع) لم يكتف بذلك ، و لم يفرح بالتحول الفجائي الذي حدث عنده من السجن ، الى الوزارة ، بل سعى من أجل الوصول الى خطته البعيدة المدى .


[ قال اجعلني على خزائن الأرض ]

اي طالب بما يسمى بوزارة المالية ، و ادارة البنوك لأنه عرف ان المشكلة الاساسية في الدولة هي مشكلة القحط الذي سوف يصابون به ، و عليه من جهة العمل من اجل حل هذه المشكلة ، و ان يسعى من جهة اخرى نحو هداية الناس من خلالها .

و بين أنه افضل فرد تخول اليه شؤون المال و هو صاحب علم و امانة ، فبعلمه يخطط و بأمانته يعمل دون فساد .

[ إني حفيظ عليم ]

[56] و قبل الملك ذلك ، فلما امتلك يوسف (ع) سلطة المال في الدولة نشر سلطته الى سائر المرافق ، و تمكن في الأرض بفضل ربه الذي جازاه على احسانه .

[ و كذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء ]اي بنشر سلطته فيها في اي مجال يريد بسبب علمه و امانته و سلطته المالية .

[ نصيب برحمتنا من نشاء ]

ذلك لأن الامور بيد الله ، و الله سبحانه اجرى في الدنيا نوعين من الأنظمة :

النوع الاول : الانظمة الطبيعية ، مثل السعي و الحكمة و الصبر والاستقامة .

النوع الثاني : الانظمة الغيبية مثل الايمان و التقوى و الاحسان ، ويوسف تقدم من خلال تطبيق هذين النوعين من الأنظمة ، فمن جهة عمل بحكمة و أناة و استقامة ، و من جهة ثانية قاوم الشهوات ، و اتقى ربه ، و احسن الى الناس .

[ و لا نضيع أجر المحسنين ]


ان الاحسان الى الناس يتضاعف باذن الله ليعود اليك في يوم قريب او بعيد .

[57] و جزاء المؤمن في الدنيا شاهد على جزائه الأوفى في الآخرة ، و ان الله سبحانه لا يخلف وعده معه .

[ و لأجر الأخرة خير للذين ءامنوا و كانوا يتقون ]

و هكذا نستوحي من هذه الآيات ان اسباب التقدم الغيبية هي التقوى و الايمان و الأحسان بيد أن الأحسان اشد و اسرع اثرا في امور الدنيا .

و جاء في حديث مأثور عن الامام الرضا (ع) :

" و اقبل يوسف على جمع الطعام فجمع في السبع السنين المخصبة ، فكـبسه في الخزائن ، فلما مضت تلك السنون ، و اقبلت المجدبة اقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الاولى بالدراهم و الدنانير حتى لم يبق بمصر و ما حولها دينار و لا درهم إلا صار في مملكة يوسف ، و باعهم في السنة الثانية بالحلي و الجواهر حتى لم يبقى بمصر و ما حولها حلي و لا جواهر ، الا صار في مملكته ، و باعهم في السنة الثالثة بالدواب و المواشي حتى لم يبق بمصر و ما حولها دابة و لا ماشية ، الا صارت في مملكته ، و باعهم في السنة الرابعة بالعبيد و الاماء حتى لم يبق بمصر عبد ولا امة الا صار في مملكته ، و باعهم في السنة الخامسة بالدور والعقار حتى لم يبق بمصر و ما حولها دار و لا عقار الا صار في مملكته ، و باعهم في السنة السادسة بالمزارع و الانهار حتى لم يبق بمصر و ما حولها نهر و لا مزرعة الا صار في مملكته ، و باعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر و ما حولها عبد و لا حر الا صار عبد يوسف ، فملك احرارهم و عبيدهم و اموالهم ، و قال الناس ما رأينا و لا سمعنا بملك اعطاه الله من الملك ما اعطى هذا الملك حكما و علما و تدبيرا ".

ثم قال يوسف للملك : " ايها الملك ما ترى فيما خولني ربي من ملك مصرو اهلها ؟! اشر علينا برأيك فاني لم اصلحهم لأفسدهم ، و لم انجهم من البلاء لأكون بلاء عليهم ، و لكن الله انجاهم على يدي قال له الملك الرأي رأيك .

قال يوسف : اني اشهد الله و اشهدك - ايها الملك - اني قد اعتقت اهل مصر كلهم و رددت عليهم اموالهم و عبيدهم ، و رددت عليك ايها الملك خاتمك وسريرك و تاجك على الا تسير الا بسيرتي و لا تحكم الا بحكمي .

قال له الملك ان ذلك لزيني و فخري ألا أسير إلا بسيرتك ، و لا أحكم الا بحكمك ، و لولاك ما قويت عليه ولا اهتديت له ، و لقد جعلته سلطانا عزيزا لا يرام ، و انا اشهد ان لا اله الا الله و حده لا شريك له ، و انك رسوله ، فاقم على مــا وليتك ، فانك لدينا مكين امين " . (1)

و جاء في خبر :

" ان يوسف (ع) كان لا يمتلئ شبعا من الطعام في تلك الايام المجدبة فقيل له : تجوع و بيدك خزائن الارض ، فقال (ع) : اخاف ان اشبع فانسى الجياع " .


(1) نور الثقلين ج 2 ص 435


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس