بينات من الآيات و جاء الضيوف [61] جاء ضيف إبراهيم الى قرى لوط حيث كان يقطنها مجموعة من المجرمين ، و قطاع الطرق . [ فلما جاء ءال لوط المرسلون ] و التغيير بكلمة " آل " يدل على أن نظامهم كان عشائريا . شأن سائر القبائل العربية آنئذ . [62] فلما رآهم و قد جاؤوا اليه ، بهيئة شباب عليهم مسحة من الجمال و الجلال فسألهم بعد أن استضافهم . [ قال إنكم قوم منكرون ] فلستم من أهل المنطقة ، و لكي لا يمسهم قومه بسوء لذلك أجارهم على عادة القوانين الشائعة في قومه التي ينبغي أن يأخذ المؤمن الرسالي بأفضلها و أنفعها . [63] افصحوا عن أنفسهم و بينوا أنهم ملائكة الله ، و قد جاؤوا بالعذاب الذي شكك قومه فيه أنفسهم طويلا . فها هو العذاب يأتيهم . [ قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون ] [64] و كانت المفاجأة ، و ارتسمت على وجه لوط علائم الاستغرب و عاد الملائكة يؤكدون على أن ميعاد العذاب قد حان اليوم بلا شك . [ و اتيناك بالحق و إنا لصادقون ] [65] ثم أمروه بالرحيل ، و هجرة الصالحين نذير العذاب على الآخرين و كانت الهجرة سرية ربما خوفا من منع الناس لهم ، و كان المفروض على لوط أن يسير خلفهم و يشهد تحركهم لكي لا يبقى أحد منهم . [ فأسر بأهلك بقطع من الليل ] يبدو أن لوط أثر فقط في أهله بينما بقي الآخرون على فسادهم . [ و اتبع أدبارهم ] أي اقتفي أثرهم و لان الهجرة كانت صعبة لذلك جاءهم الأمر . [ و لا يلتفت منكم أحد ] أي لا ينظر الى ما وراءه . [ و امضوا حيث تؤمرون ] و استمروا من دون تردد أو تراجع ، و هكذا ينبغي ان يهاجر الرسالي قومه بعد يأسه منهم دون شفقة عليهم أو حنان ، أو ميل الى ما يخلفه فيهم من مال أو أقارب . [66] و قضى الله ، و اخبر لوطا بقضائه بذلك الأمر الخطير ، و هو الحكم بالإعدام الكامل لسلالة تلك العشيرة الفاسدة . [ و قضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ]فلا أحد يبقى منهم ليستمر نسلهم فيه حتى زوجة لوط التي كانت منهم هلكت معهم حيث حنت على قومها ، و التفت الى ما ورائها من اهل و متاع . و هكذا تجسد الحق في انتقام شديد من قوم فسدوا ولم ينفعهم الإصلاح شيئا . [67] هــذه صورة من المشهد ، أما الصورة الثانية فإن أهل المدينة استبشروا بالضيوف ، لأنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمر عليهم ، و كان موقعهم الجغرافي يساعد على هذه الفعلة حيث كانوا على الطريق الرئيسي الذي يربط المدينة بالشام على ما نقل عن قتادة . [ و جاء أهل المدينة يستبشرون ] المسؤولية الإجتماعية : [68] فتلقاهم لوط بالنصيحة ، و أجار الضيوف . [ قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون ] و كان الاعتداء على الضيف بمثابة الاعتداء على من هو في بيته في عرف تلك القبيلة الصحراوية . [69] ثم نصحهم أكثر فأكثر و دعاهم إلى الحذر من عذاب الله ، و بين أن الاعتداء على ضيوفه يلحق الخزي به ، و هو لذلك يدافع عن شرفه اذا تعرض ضيوفه لأذى . [ و اتقوا الله و لا تخزون ] [70] أما هم فقد رفضوا قبول إجارة لوط ، لأنه كان يفعل ذلك دائما ، فكلما دخل قريته غريب استضافه حتى لا يصاب بأذى من قبل قومه ، و كانوا قد أكدوا عليه ألا يقبل بعدئذ أي ضيف . [ قالوا أو لم ننهك عن العالمين ] و نستوحي من هذه الآية أمرين : الأول : ان القبيلة العربية فقدت مع الزمن خصائصها الانسانية كاجارة الضيف ، و لم تبق فيها بقية من قيم يتشبث بها الضعيف و الغريب . الثاني : ان لوطا عليه السلام ضحى بكل ما يملك من أجل الضعفاء ، فبذل شرفه و كرامته من أجلهم ، و هكذا ينبغي ألا يكتفى بترداد شعار الدفاع عن المحرومين ، بل لابد أن يدعم بالعمل الواقعي . [71] و بلغ الأمر بلوط أن عرض على قومه التزوج ببناته لكي لا يتعرضوا لضيوفه بأذى . [ قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين ] و يبدو أن توجيه لوط الى البنات كان يهدف بالاضافة الى ما قلنا : تذكرة قومه ان السبيل القويم لإفراغ الشهوة الجنسية هو السبيل الفطري الذي يحافظ على النسل ، و ليس الشذوذ الجنسي ، و من هنا يكون حديثه شاملا لبناته من صلبه ، و بنات قومه باعتباره شيخا ، أو قائدا يعتبر كل الفتيات بناته . [72] و لكنهم كانوا مترفين قد اسرفوا في الشهوات حتى أسكرتهم الغريزة الجنسية فلم يعــودوا يفرقو بين الإناث و الذكران ، و لا بين الغريب و الضيف و المستجار و بين قومهــم . [ لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ] أي قسما بحياتك يا رسول الله ، و أنت يا من تتلو القرآن ان قوم لوط قد فقدوا أبصارهم بسبب سكرة الشهوات ، و العمر و لعمر بمعنى و لكن عند الحلف يستخدم عمر بالفتح . [73] عندما لم يبق أمام لوط أي حل ، ركن الى الله ذلك الركن الشديد فكشفت الملائكة عــن حقيقتهم له ، و طمأنوا لوطا بانهم لن يصلوا اليه ، و جرى بينهم و بين لوط ، الحوار الذي بينه السياق . [ فأخذتهم الصيحة مشرقين ] عند الصباح ، حين لم يستطيعوا أن يردوا عن أنفسهم البأس . [74] و قلب الله مدينتهم على رأسهم . [ فجعلنا عاليها سافلها و أمطرنا عليهم حجارة من سجيل ]و السجيل فارسي معرب ، أي سنك و كل ( حجارة و طين ) و قال أبو عبيدة : هوالحجارة الشديدة . (1) [75] و ها هي بلادهم مهدمة ، فمن يعتبر منها ؟ بالطبع ليس كل الناس بل المتوسمون منهم فقط الذين يكتشفون الحقائق من خلال سماتها و علائمها . [ إن في ذلك لأيات للمتوسمين ] أما الذين يجمدون على ظواهر الأمور ، و ينظرون الى ركام الصخور دون أن يتفكروا انها كانت في يوم بيوتا معمورة فما الذي جعلها هكذا ، فهم لا يعتبرون من قصص قوم لوط . [76] [ و إنها لبسبيل مقيم ] قال الطبرسي : معناه ان مدينة لوط بطريق يسلكها الناس في حوائجهم ، فينظرون الى آثارها و يعتبرون بها لان الآثار التي يستدل بها مقيمة ثابتة بها و هي مدينة سروم . (2)و يبدو إن ضمير " إنها " يعود الى الآيات ، فمعناها اذا : أن الآيات قد وضعت معالم على طريق ثابت ، و ثبات الطريق وضوحها ، و لذلك جاء في الحديث المأثور عن أهل البيت (ع) : " و السبيل فينا مقيم " . (3)[77] و لكن لا يسلك هذا الطريف إلا المؤمنون ، و هم في المتوسمين حقا لأن(1) مجمع البيان / ج 5 ص 183 (2) مجمع البيان / ج6 ص 343 (3) المصدر الايمان بصيرة المرء ، من خلالها ينظر الى الحقائق الظاهرة فيؤمن بما ورائها من حقائق واقعية . [ إن في ذلك لأية للمؤمنين ] و من هنا جاء في الحديث : " إتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله " . (1)أصحاب الأيكة تحت الغمام : [78] هناك شاهد تاريخي آخر نجده في أصحاب الأيكة الذين اتاهم الله ، حقولا مزروعة فظلموا أنفسهم . [ و إن كان أصحاب الأيكة لظالمين ] [79] و أصبح ظلمهم ظلمات عليهم ، فعاقبهم الله بالحر سبعة أيام ثم جاءت سحابة استظلوا بها يلتمسون البرد فيها ، فلما تجمعوا تحولت الى صاعقة أحرقتهم جميعا . [ فانتقمنا منهم ] و بقيت لنا عبرتهم ، و عبرة قوم لوط ألا وهي : ان تدبير الحياة يتم مرة بالرحمة و مرة بالانتقام فلا ينبغي الركون الى النعمة ، أنما يجب الحذر باستمرار من يوم الانتقام و ها هي قصص قوم لوط و أصحاب الأيكة ظاهرة ، و آثارها قائمة في طريق واضح يؤمه الناس . [ و إنهما لبإمام مبين ] (1) بح 17 ص 75 رقم 9 و يبدو أن معناه : ان قوم لوط و أصحاب الأيكة كانا مع إمام واضح ، من رسول و كتاب ، فلم نعذبهما من دون إنذار مسبق . أصحاب الحجر : الأمن الحجري : [80] و شاهد ثالث من واقع أصحاب الحجر و هم ثمود الذين كذبوا أخاهم صالحا و كذبوا من ورائه كل الرسالات و الرسل . اذ لا ينفع الايمان برسول مضى و الكفر بهذا الرسول . [ و لقد كذب أصحاب الحجر المرسلين ] و حجر اسم مدينتهم . [81] و لقد وفر الله لهم سبل الهداية و لكنهم أعرضوا عنها عمدا . [ و ءاتيناهم ءاياتنا فكانوا عنها معرضين ] [82] كل ذلك ثقة بحضارتهم و بالمتعة التي شعروا بها في ظل البيوت الصخرية العالية التي نحتوها من الجبال . [ و كانوا ينحتون من الجبال بيوتا ءامنين ] [83] و لكن الصيحة العالية التي أخذتهم كشفت عن مدى خطأهم ، و ان البيوت لا تعوض عن القيم ، كما ان القوة لا تحمي الشخص عن انتقام الحق . [ فأخذتهم الصيحة مصبحين ] [84] [ فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ] فهل استطاعت مكاسبهم المادية أن تمنع عنهم العذاب الذي لحقهم بسبب كفرهم بالحق و بالقيم الالهية ؟! إذا مقياس الأمن ليس القوة بل الحق لأن بناء السماوات قائم على أساس الحق حسبما يأتي في الدرس القادم إنشاء الله . |
|