فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


المعذرون و المعتذرون
هدى من الآيات
بينات من الآيات

المعذرون من الاعراب :

[ 90] وفي سياق بيان القرآن لطوائف المنافقين اخذ يعدد الاعراب الذين لما يدخل الايمان في قلوبهم ، و الذين يعرفون ظاهرا من الدين ، وهؤلاء جاؤوا الى الرسول (ًص) ليأذن لهم بالانصراف عن الحرب بعد ان انتحلوا عذرا ، ولم يكن الهدف من بيان عذرهم الا الفرار من الجهاد لذلك عبر القرآن الحكيم عنهم :

[ و جاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم ]

و يبدو من معنى كلمة ( المعذر ) انه الذي يتكلف عذرا و يختلقه ، و الهدف من مجيئهم كان الاذن للانصراف لا الاستفهام الحقيقي عن واجبهم الديني ، وفسر بعض المفسرين هذه الآية بطريقة اخرى فقال : الظاهر ان المراد بالمعذرين هم أهل العذر كالذي لا يجد نفقة ولاسلاحا بدليل قوله : " و قعد الذين كذبوا " .. الآية ، و السياق يدل على ان في الكلام قياسا لا حدى الطائفتين الى الاخرى ليظهر به لؤم المنافقين و خستهم و فساد قلوبهم و شقاء نفوسهم حيث ان فريضة الجهاد الدينية و النصرة لله و رسوله هيج لذلك المعذرين من الاعراب حيث جاؤوا الى النبي (ص) يستأذنونه ، ولم يؤثر في هؤلاء الكاذبين شيئا . (1)[ وقعد الذين كذبوا الله و رسوله ]

هؤلاء قعدوا عن الحرب دون استئذان وذلك بسبب كذبهم على الله و رسوله .

[ سيصيب الذين كفروا منهم عذاب اليم ]


(1) تفسير الميزان / ج 9 / ص 361


ان هؤلاء قد يكونون ممن تتكامل شخصيته و يضحي مسلما حقيقيا بعد ان كان اعرابيا جاهلا و كاذبا يتشرد من الواجبات مع او بدون انتحال عذر ، فحسابه على الله تعالى ، و قد يكشف عن جهله و كفره في المستقبل فيكون له عذاب اليم .

ويبدو لي من ظاهر هذه الآية : ان الاعراب نوع خاص من المنافقين وهم الذين ينافقون بسبب جهلهم وعدم رسوخ الايمان في قلوبهم لحداثة عهدهم بالاسلام ، و لتراكم الرواسب الجاهلية على قلوبهم ، و يرجى لهؤلاء الهداية و لذلك خص القرآن العذاب ببعض الاعراب وهم الذين كفروا منهم ( دون جميعهم )


من يجوز له التخلف ؟

[ 91] ولكن من هو صاحب العذر الحقيقي ، الذي يجوز له التخلف عن واجب الجهاد ؟

في الايتين التاليتين توضيح لذلك :

الف : - ليس على الضعفاء الذين لا يتحملون جسديا مشاق الجهاد واجب الجهاد . وهؤلاء مثل المعوقين و المبتلين بالضعف العام ، والذين يبلغ ضعف بصرهم او ضعف سمعهم او ضعف اعصابهم او ضعف قلبهم او ما اشبه يبلغ حدا يمنعهم من الخروج للحرب فيجعلهم افراد غير صالحين للقتال ابدا .

باء : - و كذلك يسقط الجهاد عن المريض بأمراض خطيرة او طويلة او معدية ، او مما يسبب منعا للخروج .

جيم : - وكذلك يسقط الجهاد عن الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقونه على انفسهم او على عوائلهم المفروض عليهم اعالتهم .


دال : - كذلك يسقط الجهاد عمن لا تقدر الدولة الاسلامية تحمل نفقات خروجهم .

[ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ]اي لا يكلفون فوق طاقتهم ، او ما يسبب لهم الاذى و المشقة التي لا تحتمل .


جهاد المعذورين :

من هذه الكلمة يتبين : ان سقوط الجهاد عن الضعيف و المريض و الفقير ليس مطلقا انما في صورة وجود الحرج و المشقة البالغة التي تختلف حسب اختلاف الظروف ، و حسب الاشخاص . من هنا كان الواجب ان يذكر القرآن المؤمنين بان الواجب النصيحة لله و لرسوله (ص) حتى يكون كل فرد حسيب نفسه و رقيبها فيما يرتبط بوجود او عدم وجود الحرج فربما يدعي الشخص انه مريض وحتى يبرهن على ذلك للناس ولكنه يعلم فيما بينه و بين الله انه ليس بمريض مرضا يمنعه عن الخروج لذلك اكد ربنا على هذه الحقيقة و قال :

[ اذا نصحوا لله و رسوله ]

و النصيحة هي خلوص النية و العمل الجدي ، وعلى الانسان ان يخلص نيته لله فلا يدعي كذبا انه معذور وهو ليس بمعذور . كما عليه ان يخلص عمله لله ، فاذا كانمعذورا و قعد عن القتال فلابد ان يقوم بدور معين من اجل المعركة ، ولو كان ذلك الدور هو الاعداد الحربي او بث روح المقاومة في المجتمع او محاربة اعمال الطابور الخامس مثل الاشاعات او الانباء الكاذبة .


انما الاعمال بالنيات :

اذا كان مجمل سلوك الفرد سليما و حسنا فان اشتراكه المباشر في المعركة او تخلفه عنها بسبب عذر شرعي لا ينافي ايمانه و تقواه .

[ ما على المحسنين من سبيل ]

أي ليس على من كان محسنا و أراد فعل الخير فلم يقدر على القيام بكل الواجب سبيل المؤاخذة و العقاب ، و الكلمة مطلقة و نستوحي منها : ان كل من اراد الخير و تحرك نحوه فسواء اصاب او اخطأ . سدد في عمله او لم يسدد . بلغ هدفه او لم يبلغ فانه مجزي عند الله تعالى و ليس عليه عقاب .

ومن هنا جاء في الحديث عن انس : ان رسول الله (ص) لما قفل عن غزوة تبوك فاشرف على المدينة قال : " لقد تركتم في المدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديا الا كانوا معكم " قالوا : يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم في المدينة ؟ قال : " حبسهم العذر " (1) .

وانما اكد القرآن على هذه الحقيقة : " ما على المحسنين من سبيل "لانه من الممكن ان يتكبر المقاتلون على العاجزين و المرضى فيؤذونهم بألسنتهم ، او يحاولون منع بعض حقوقهم بحجة انهم لم يساهموا في المعركة ، فأكد القرآن على ان هؤلاء محسنون لانهم ارادوا المشاركة فلم يقدروا ، ولذلك لا سبيل عليهم ، ولا تفوق او استعلاء .


وقد يستبد بالمؤمنين ذوي الاعذار وسواس الشيطان فيوقعون انفسهم في الحرج(1) المصدر 368


الشديد لانهم يخافون مثلا الا يكون الحرج قد بلغ حدا يمنعهم من الخروج واقعا ، وفي هذه الحالة لا سبيل على المحسنين ذوي النيات الصالحة ، و السلوك الاجمالي الصالح ، واضاف سبحانه قائلا :

[ و الله غفور رحيم ]

فحتى ولو كان هناك بعض التقصير فان غفران الله تعالى يجبره و يعوض المؤمن عن تقصيره .

[ 92] كذلك لا حرج على من يريد الخروج و يسجل اسمه في قائمة المتطوعين للحرب ولكن الدولة الاسلامية لا تجد وسائل الحرب له . من سلاح او ذخيرة او حتى و سائل المواصلات .

[ ولا على الذين اذا ما اتوك لتحملهم قلت لا اجد ما احملكم عليه تولوا و اعينهم تفيض من الدمع حزنا الا يجدوا ما ينفقون ]انك تجد في هؤلاء مثلا رائعا لذوي الاعذار الناصحين لله تعالى و لرسوله و المحسنين الذين تحدثت عنهم الآية السابقة . انهم ممتلؤون اندفاعا نحو المعركة الى درجة انهم يتفجرون بكاء حين لا يقدرون على المشاركة فيها .

وقد جاء في التفسير ( نزلت هذه السورة في البكائين وهم سبعة جاؤوا الى رسول الله (ص) فقالوا يا رسول الله احملنا فانه ليس لنا ما نخرج عليه فقال : " لا اجد ما احملكم عليه .. " (1) .

وربما تدل هذه الآيات على ان المفروض على المسلم ان يكون مستعدا للجهاد(1) تفسير مجمع البيان / ج 5 / 60


بكل وسيلة ممكنة . فأن عجز فلا اقل باستعداده النفسي ، وقد جاء في حديث مروي عن النبي (ص) .

" من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية " .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس