فصل:
الاول |
قبل |
بعد
| الاخير
| الفهرس
بينات من الآيات
قوم يونس تابوا في الوقت المناسب
هدى من الآيات
بعد ان استعرض السياق قصص الرسالات السابقة ، و كيف كفر بها الناس ، فتوكل المؤمنون بها على ربهم ، حتى نصرهم ، بين هذا الدرس عبرة تلك القصص فيما يخص الرسالة الخاتمة ، و أمر رسوله ومن ورائه كل من يقرأ الكتاب بانه لو كان في شك من الرسالة أو من انتصارها، فليسأل العارفين بالتأريخ ، وان هذا هو الحق من الله ، ولا يكونن من الشاكين ، ولا من الذين كذبوا بآيات الله و خسروا ، فيكون مثلهم خاسرا .
بلى ان الذين ظلموا أنفسهم و انحرفوا سلوكيا ، انهم حكموا من قبل الله بالضلالة ، فحقت عليهم كلمة ربك ، ولذلك فهم لا يؤمنون حتى ولو جاءتهم مختلف الآيات التي يطالبون بها ، والتي يعتقد انها لو جاءتهم آمنوا بها ، أجل انهم سوف يؤمنون في لحظة مشاهدة العذاب، حين لا ينفعهم ايمانهم ، كما لم ينفع أية قرية من هذه القرى الظالم أهلها الذين أهلكهم الله بكفرهم و بذنوبهم فلم يؤمنواالا في لحظة الهلاك ، إلأ قوم يونس لما آمنوا كشف الله عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا و أعطاهم مهلة الى فترة محددة .
بينات من الآيات :
بين الشك و اليقين :
[ 94] لم يشك الرسول في صحة رسالة الله التي أنزلت اليه ، ولكن خشية الرسول كانت من عدم تطبيق الرسالة بسبب جحود الكفار ، و بسبب حكمة الله البالغة التي قد تقتضي تأجيل نصر الله لرسالته ، كما كانت خشية موسى (ع) حين ألقى السحرة حبالهم فسحرت أعين الناس ، كانت خشيته آنئذ من ان تشاء حكمة الله الأ ينصر رسالته في تلك اللحظة فتنة للناس ، و ابتلاء للرسول .
بيد ان هذا الشك وهذا الخوف يقل حينما نراجع التأريخ ، و نسأل الذيــن يقرأونه ، حيث ينصر ربنا سبحانه رسالته في لحظة الحرج و ساعة العسرة .
[ فان كنت في شك مما انزلنا اليك فسئل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك ]ولا يعني السؤال هنا أن يذهب رسول الله أو المؤمنون به الى شخص مثل " عبد الله بن سلام " الذي آمن بالرسالة ، وكان عارفا بتأريخ الرسالات ، إنما جرى الحديث مجرى العموم ، أي مراجعة الخبراء و العارفين بالتأريخ من جميع الطوائف ، و طبيعي ان سؤالهميؤيد الحقائق القرآنية ، ولكن بشرط ان يكونوا ثقاة - و الثقة - شرط فطري و عقلي للعالم الذي يسأله الناس .
[ لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ]
أي حين تراجع التأريخ و ترى كيف نصر الله رسالاته آنئذ ابتعد عن الشك الىاليقين ، و هذه الآية توحي ببعض الحقائق التي نشير اليها فيما يلي : -الف : ان الخطابات القرآنية لا يجب ان تكون موجهة الى شخص الرسول ، لأن القرآن كتاب الله الى الناس جميعا ، وبذلك لا نحتاج الى التأويل كلما وجدنا خطابا في الآيــات ، و لذلك قال الزجــاج في هذه الآية كلاما نراه في كل الآيات المتشابهة تقريبا قال : بأن هذه الآية قد كثر سؤال الناس عنها و خوضهم فيها ، وفي السورة ما يدل علــى بيانهــا ، فان الله سبحانه يخاطب النبي و ذلك الخطاب شامل للخلق ، فالمعنى : " فان كنتم في شك فاسألوا " و الدليل على قوله في آخر السورة : " يا أيها الناس ان كنتم فيشك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ، ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم و أمــرت ان أكــون من المؤمنين " (1) فأعلم الله سبحانه ان نبيه ليس في شك .
ويبقى ان نذكر ان عدم شك الرسول و متانة يقينه انما جاء بسبب الوحي ، فلولا الوحي ولولا روح القدس الذي كان يأتيه بالوحي ، اذا كان الرسول بشرا كسائرالخلق ، ولذلك ينبغي الا نحاول فصل الرسول و عصمته و رفعه درجتة درجته عن القرآن و اثره فيه .
باء : ان الانتفاع بالعلم الحقيقي جزء من رسالة الدين ، ولا يقتصر هذا العلم بالفيزياء و الكيمياء مما يتعلق بالعلوم التجريبية ، بل وايضا التأريخ و الاجتماع و التي تسمى بالعلوم الانسانية ، ولكن بشرط فصل الرواية عن الدراية ، و فصل المعلومات الحقيقية عنالنظريات الاحتمالية .
جيم : ان الشك و اليقين عملان من عمل البشر الذي يختارهما اختيارا ، ذلك(1) يونس / 104
لأن الشك قد يكون بسبب انعدام العلم ، وهذا مفروض على البشر و موجود بسبب عجز البشر الطبيعي ، ولكن قد يكون الشك نابعا من الهوى و اتباع الشهوات ، فكثير أولئك الذين يشكون في الحقائق ، لأنهم قرروا سلفا البقاء في شكهم ، ولأنهم لا يفكرون منطقيا ولا يبحثون عنالمصادر السليمة للمعرفة ولأنهم بالتالي يخافون من مسؤوليات العلم التي لابد ان يتحملها كل عالم ، لذلك نهى ربنا عن ان يكون الفرد من الشاكين ، لأن الشك من عمل الانسان .
كيف تخسر نفسك ؟
[ 95] كما أن الكفر و الأيمان من عمل الانسان ، لذلك نهى القرآن من أن يكون الفرد مكذبا بآيات الله ، بأن يتخذ موقفا سلبيا مسبقا من كل دليل علمي يدل على الحقيقة .
[ ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين ]ولماذا يكذب الفرد بالحق ، أوليس من أجل مصالحه و شهواته ؟! ولكن عليه ان يعرف ان التكذيب بالحق يسبب له خسارة نفسه و مصيره .
[ 96] و السؤال الذي يفرض نفسه لماذا يسبب الفرد خسارة نفسه عن طريق تكذيبه بآيات الحقيقة ؟
الجواب : ان فريقا من الناس يكذبون بالحق بسبب سوء أعمالهم و سلوكهم ، فمن اعتاد الظلم ، و مارس الجرائم يطبع الله على قلبه حتى لا يؤمن ، الا في وقت لا ينفعه ايمانه .
[ ان الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ]
[ 97] وعدم ايمان هذا الفريق من الناس ليس بسبب نقص في الآيات ، بل بسبب انغلاق انفسهم دون نور الايمان .
[ ولو جاءتهم كل آية ]
أجل انهم يؤمنون فقط حين يرون العذاب فلا ينفعهم ايمانهم .
[ حتى يروا العذاب الاليم ]
التكذيب سنة اجتماعية :
[ 98] يبقى ان نعرف ان ذلك ليس قدرا مقضيا عليهم بل سنة اجتماعية ، و الفرق بين القدر و السنة ، ان القدر كطلوع الشمس من مشرقها في وقتها لا يخضع ابدا لارادة البشر ، بينما السنة كما الثورة ضد الظلم ، و سقوط الطاغوت ، قد يتقدم او يتأخر ، أو حتى لا يقع إذا أراد الانسان ، فقد لا يقرر الشعب المضطهد الثورة ضد جلاديه ، وقد يغير الطاغوت عاداته الظالمة في الوقت المناسب فيمدد في أجله ، وهكذا جحود الظالمين و كفر المكذبين بآيات الله ليس قدرا ، بل سنة ، فمن الممكن عقلا ان يدور المرء مائة و ثمانين درجة باتجاه الصلاح كما فعل قوم يونس ، ولكن لا يقع ذلك عادة بسبب تكبر الفاسقين و تعاليهم عن التوبة الا بعد فوات الوقت .
[ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها ايمانها ]
أي لماذا لم يقدم هؤلاء إيمانهم في الوقت المناسب ؟ لماذا لم يتب الطاغوت حين رأى تململا اجتماعيا ، بل أخذته العزة بالاثم ، حتى أصبح التململ ثورة عارمة ؟ ولماذا لم يتب الشعب المتوغل في الفساد الخلقي ، وفي ظلم بعضهم لبعض ، حين رأوا نقصا في الثمرات ، وتدهورا في الاقتصاد ، وفي الصحة العامة ، بل استمروا في غيهم حتى انهار اقتصادهم و صحتهم تماما ؟!
أن هذا التحريض القرآني الشديد يدل أولا : على امكانية تحول الفرد و المجتمع تحولا جذريا قبل فوات الاوان ، و ثانيا : أنه يدل على الصعوبة البالغة لهذا التحول ، مما يقتضي التحريض بكلمة عنيفة وهي ( لولا ) .
أجل ان قوم يونس ضربوا مثلا رائعا في هذا التحول ، الذي ينبغي ان يكون قدوة للمجتمعات الضالة التي يعبر عنها القرآن الحكيم عادة بكلمة ( قرية ) .
[ الا قوم يونس لما ْءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا و متعناهم الى حين ]الى ان انتهى اجلهم الطبيعي الذي حدده الله لهم ، فالأمم كما الأفراد ينتهون بطريقتين : اما بصورة طبيعية كحالة الشيخوخة ، وٍأما بسوء أعمالهم كحالة القتل في الفرد ، و الاضطراب في الأمة .
وقد سميت هذه السورة باسم يونس لأهمية التحول الاجتماعي الذي حدث عند قومه فليس من السهل ان يستيقظ مجتمع مسترسل في الفساد ، سادر في الميوعة و اللامبالاة مرة واحدة ، و يعود الى رشده الاولي .
وجاء في حديث الصادق (ع) عن قصة قوم يونس :
( انه كان فيهم رجل اسمه ( مليخا ) عابد ، واخر اسمه ( روبيل ) عالم ، وكان العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم ، وكان العالم ينهاه و يقول له لا تدع عليهم ، فان الله يستجيب لك ولا يحب هلاك عباده ، فقبل يونس قول العابد فدعا عليهم ، فأوحى الله اليه انه يأتيهم العذاب في شهر كذا .. في يوم كذا .. فلما قرب ذلك الوقت خرج يونس من بينهم مع العابد ، وبقي العالم فيهم فلما كان اليوم الذي نزل بهم العذاب قال لهم العالم : افزعوا الى الله فلعله يرحمكم و يرد العذابعنكم فأخرجوا الى المغارة و فرقوا بين النساء و الاولاد ، و بين سائر الحيوان و اولادها ، ثم ابكوا و أدعوا ففعلوا فصرف عنهم العذاب ، وكان قد نزل بهــم و قرب منهم )وجاء في بعض التفاسير ان قوم يونس قد تابوا بعدئذ توبة نصوحا ، حتى رد كل ظالم ، حق المظلوم اليه ، حتى ان الحجر كان في أساس البناء وكان غصبا ، كان الفرد يهدم بناءه و يرده الى صاحبه .
وفي هذا الحديث اشارة واضحة الى السبب في توبة قوم يونس وهو : تواجد العلماء بينهم ، و احترامهم لمقام العلم .
(1) نور الثقلين / ج 2 / ص 328 .
|