فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الايات


بين الرقابة الذاتية والاجتماعية :

[ 58 ] يجب ان يكون كل شخص واعظا لنفسه ، رقيبا عليها . فلا يفرط فيأموال الناس عندما تكون عنده بل يرجعها اليهم متى تسلمها . وعلى كل مسلم ان يكون واعظا للناس ، رقيبا عليهم فيسعى من أجل اعادة حقوقهم اليهم بالعدل .

[ ان الله يامركم أن تؤدوا الامانات الى أهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به ان الله كان سميعا بصيرا ]ان هناك صلة وثيقة بين أداء الامانة و اقامة العدل لان من لا يؤدي حقوق الناس ، كيف يمكنه ان يساعد الاخرين على أداء الحقوق ؟! وبالتالي كيف يمكن ان يصبح رقيبا على العدالة في المجتمع ؟!

ولا يجب ان يكون الحكم بين الناس بصورة السلطة الرسمية ، بل يكون في الاكثر في صورة التعاون الاجتماعي على حل المشاكل القائمة بين بعضهم البعض قبل الرجوع الى المحاكم .

حينما يبدأ النزاع بين شريكين ، فأول ما يصنع كل واحد منهما هو عرض وجهة نظرة على أصدقائه المقربين ، فإذا كان هؤلاء مؤمنين حقا أوضحوا للخاطيء منهما طبيعة خطئه ، وأعطوا الحق لصاحبه ، فيتراجع المخطىء قبل أن يرفع دعوى الى المحكمة أما إذا لم يلتزموا بواجبهم كمؤمنين في الحكم بالعدل ، فإن كل فريق يؤيد صاحبه ويشجعه على مطالبه ، حقا كانت أم باطلا ، فترفع القضية الى المحاكم ، وتبدأ سلسلة المشاكل وهنا نعرف دور الرقابة الاجتماعية على العدالة ومدى تأثيرها في أداء الحقوق .


السلطة وفصل القرار :

[ 59 ] ولكن الرقابة الاجتماعية لا تردع كثيرا من الناس من الاعتداء علىحقوق الآخرين ، وهي لا تستطيع ان تكون فيصلا حاسما في كثير من المشاكل المعقدة ، التي يظن كل طرف انه صاحب الحق فيها ، ويورد أدلة كثيرة على ظنه . هنالك نرى ضرورة وجود السلطة الشرعية القوية التي يلتزم الجميع بحكمها ، وهي متمثلة في النبي و أولي الامر من بعده .

[ يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الامر منكم ]ان أولي الامر هم الامتداد الطبيعي للرسول ، وهم أهل بيته من بعده ، و العلماء بالله ، الامناء على حلاله و حرامه ، الاكفاء على القيام بامره ، الصابرون المتقون ، وبالتالي هم أكثر الناس طاعة لله ، وأقربهم الى نهج رسوله ، و يتحقق اليوم في حملة رسالة اللهفي الارض انى كانوا .

والهدف من هذه الطاعة هو فض الخلافات بردها الى حكم الله وقضاء رسوله أو أولي الامر من بعده .

[ فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله و الرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذلك خير وأحسن تأويلا ]أي ان رفع الدعاوى الى الرسول خير لكم ، لانه يساعد على فض النزاعات ، وهو أفضل عاقبة في المستقبل ، لانه يعطيكم التلاحم و الرصانة .


طاعة الطواغيت ضلال :

[ 60] والتحول عن قضاء الرسول الى قضاء حكام الجور من الطواغيت ضلال شيطاني ، اذ أن الله أمر المؤمنين بالكفر بالطاغوت والثورة على سلطانه ، فكيف يجوز التحاكم اليه ودعوته للتدخل في شؤون المؤمنين الداخلية ؟!


[ ألم تر الى الذين يزعمون انهم ءامنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون ان يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا ان يكفروا به ويريد الشيطان ان يضلهم ضلالا بعيدا ]أصحيح زعم هؤلاء بأنهم مؤمنون وهم يخالفون أبسط قواعد الايمان ، وهو الكفر بالطاغوت ؟ ويذهبون اليه خاضعين ، أم انه ضلال بعيد ؟

ان الله بعث رسله لكي يذكروا الناس بربهم ، ويعبدوه وحده ، ويتحرروا من عبادة الطاغوت ، فاذا عاد الناس الى الطاغوت إنتهى كل شيء ، ولم يبق الا قشور الايمان .

[ 61] في حالة الرخاء يبتعد هؤلاء عن قيادة الرسول ، ويبعدون عنها الناس بكل عناد ويلتجأون الى الطاغوت زاعمين انه أفضل لهم ، ولكن سرعان ما يكتشفون ان الطاغوت قد خدعهم وأراد استعبادهم . فيعودون الى الرسول وهم يبررون موقفهم السابق بأنه كان بنية طيبة ، حيث أرادوا خدمة الناس ، وحل الخلافات بينهم ، أو حل خلافات ناشئة من سوء الفهم وليست خلافات مبدئية ؟ وبالطبع ان هذا التبرير باطل وسخيف ، ولكن على الرسول الا يطردهم ، بل ينصحهم بكلام ينفذ في أنفسهم عسى الله ان يهديهم الى الايمان الواقعي .

[ واذا قيل لهم تعالوا الى ما انزل الله والى الرسول ]أي عودوا الى كتاب الله و قيادة الرسول .

[ رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ]


[ 62] فكيف اذا اصابهم مصيبة بما قدمت أيديهم ]

أي بالذنب الذي ارتكبوه وهو التحاكم الى الطاغوت .

[ ثم جاؤوك يحلفون بالله ان أردنا الا إحسانا وتوفيقا ]أي ما كان هدفنا من التحاكم الى الطاغوت ( السلطات الظالمة ) الا الاحسان الى الناس بسبب قربنا من مواقع السلطة ، و التوفيق بين الناس ، وفض خلافاتهم ، أو تلطيف الاجواء بين السلطات الظالمة وبين انصار الرسالة المناوئين لهم .

[ 63] [ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم ]أي لا تعاقبهم بالذي بدر منهم من التحاكم الى الطاغوت .

[ و عظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ]

نافذا من منطلق انهم سوف لا يحصدون من الطاغوت الا الاستعباد والظلم والخيانة ، فعليهم ان يبتعدوا عن الطاغوت ان هم أحبوا أنفسهم .

ان المنافقين يريدون مصالحهم ، ولابد للرسالي ان يوجههم من هذا المنطلق .


هدف بعث الانبياء :

[ 64] ان الهدف من بعث الرسل ليس سوى تحرير الناس من قيــادة الطاغوت ، وتوفير قيادة صالحة لهم ، ولذلك يجب على الناس ان يطيعوا الرسول ، إذسيجدون مغفرة من الله و فضلا .

[ وما أرسلنا من رسول الا ليطاع بإذن الله ولو انهم اذ ظلموا أنفسهم جاؤوكفاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ]ان الله يتوب على عباده ، وينشر رحمته عليهم ان هم تابوا اليه ، واطاعوا ممثله في الارض وهو الرسول ، وطاعة الرسول تشفع للبشر ذنوبهم الصغيرة إذ أن في ذلك طاعة لله في أعظم ما أمر به ، وان الحسنات الكبيرة تشفع في السيئات الصغيرة ، كما ان السيئات الكبيرة( كالشرك بالله وطاعة الطاغوت ) تحبط الحسنات الصغيرة .


مفهوم الشفاعة في القرآن :

ان فكرة الشفاعة الصحيحة هي ، ان الرسول يستغفر لمن يطيعه ، و يتوب اليه باخلاص ، ولا يعني استغفار الرسول لاحد ان الله يغفر له حتما ، كما جاء في نص القرآن : ( ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) .

وقد رد الله شفاعة نوح في ابنه و استغفار إبراهيم في أبيه .

وهذا هو الفارق بين فكرة الشفاعة الاسلامية و نظيراتها في الديانات الوثنية و المسيحية و اليهودية المنحرفة ، ان الشفاعة الاسلامية لا تعرف الحتمية ، وما هي سوى دعاء الرسول ربه أن ينزل رحمته ، و بالرغم من ان الرسول مستجاب الدعاء ، فإن ذلك لا يحتم على الله سبحانه أن يستجيب للرسول ، بل قد يرفضه رفضا لانه هو الله الحكيم العليم .

اما فكرة الشفاعة أو الفداء عند الوثنية و اليهودية و المسيحية ، فهي آتية من فكرة خاطئة اخرى هي : الزعم بتعدد الآلهة ، و وجود شركاء لله يتغالبون و يتنافسون في شؤون العباد ، و بتعبير آخر : الاعتقاد بفكرة وجود مراكز قوىفي سلطان الكون ، وان كل مركز يستطيع ان يعمل باتجاه معين ، و يجبر ذي العرش ( وهو الله سبحانه ) على فعل شيء .

هــذه الفكرة مرفوضة في القرآن ، لانها مخالفة لرؤية التوحيد و بصيرة الاحدية ، و أهمية الشفاعة الاجتماعية ، انها تعطي المجتمع الاسلامي مزيدا من التلاحم و الصلابة ، إّذ أن الرسول يصبح محورا يستقطب حوله جميع الطاقات ، ليس فقط بدوافع مادية ، بل وايضا بدافع إيماني غيبي .

ومثل الرسول في ذلك أوصياؤه الائمة ، ومن بعدهم القادة الرساليون الذين يستمدون قدراتهم الاجتماعية من إلتفاف الناس حولهم طوعا لا كرها ، كل واحد منهم يامل ان يشفع له القائد عند الله ، و يستغفر له ربه ، وهذا الالتفاف يخدم قضية الامة الاساسية ، وبذلك يستطيع القائد أن يطبق سائر الواجبات الدينية .

وتكون النتيجة وجود مرونة في التشريع الاسلامي ، بحيث تتقدم الاهداف الكبرى على الاهداف الجانبية ، ويكون الوصول الى تلك شفيعة في عدم الوصول الى هذه مؤقتا ، بل و طريقا اليها في المستقبل .

ولنتصور قائدا رساليا يخوض معركة مصيرية مع أعداء الامة ، ويجد شابا مندفعا يطيعه حتى الموت في هذه المعركة ، فلا ريب ان هذا الشاب يعتبر من الصالحين عند الله حتى ولو استخف بالصيام مثلا ، لان طاعته لامامه ، و تضحيته في المعركة المصيرية التي تواجه الامة، قد تشفعان له في ترك الصيام لان الانتصار في المعركة المصيرية سوف يساعد على اقامة الشعائر ومنها الصيام ولكنيجب الا يدفعنا ذلك الى الاستهانة بالواجبات بتبرير قيامنا بالواجبات الاهم ومنها الطاعة للامام ، إذ أن هذه الواجبات قد لا تشفع في تلك وقد لا يستجيب الله دعاء الرسول ، فماذا نصنع ؟؟

ان رفض الاسلام لفكرة الحتمية في الشفاعة تنفع المسلم في عدم التوغل في الذنوب ، كما ان وجود الفكرة أساسا تساعده على الاهتمام بالواجبات الاهم حتى ولو كان على حساب الاقل أهمية .

ان الغموض الذي اكتنف فكرة الشفاعة و الخلافات الكبيرة فيها دفعنا الى الحديث حولها في هذه الاية التي نراها تتحدث مباشرة عن هذه الفكرة ، وكما ترى فانها جاءت في سياق الآيات التي تبين ضرورة الطاعة للرسول ، مما يوحي بأن فكرة الشفاعة ذكرت أساسا لدعم الطاعة للقيادة الرسالية دعما غيبيا .


الطاعة دليل الايمان :

[ 65] وإذا لم تكن عند المؤمن صفة الطاعة للرسول فماذا يبقى عنده من الايمــان ؟ أليــس الايمــان هو التسليم لله ، وماذا يعني التسليم لو لم تكن الطاعة للرسول ؟ وما قيمة القيادة التي لا تستطيع فض الخلافات بين الناس ؟ !

ان الايمان وقر في القلب ، يجعل صاحبه يسلم لله حتى فيما يصيبه من مصيبات ، أو يخالف مصالحه أو آراءه ، فإذا لم يرضى الفرد قلبيا بحكم الله المتمثل في قضاء الرسول في الخلافات الاجتماعية بينه وبين أخوته ، إذا لم يرض بذلك فليس هو بمؤمن أبدا .

[ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهمحرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ]

فيما شجر : أي فيما يبرز بينهم من خلافات ، الحرج : الضيق ، وهو يتنافى مع الرضا الكامل ، والتسليم هو : التسليم القلبي والعملي .


الطاعة شاملة :

[ 66] و طاعــة الرســول يجب أن تكون شاملة لكافة القضايا الصغيرة و الكبيرة ، حتى ولو خالفت مصالح الانسان الاساسية .

[ ولو أنا كتبنا عليهم أن أقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما فعلوه الا قليل منهم ]هذا القليل هم المؤمنون حقا ، وهم الذين يعملون بالخير و الهداية .

[ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم و أشد تثبيتا ]الطاعة بين التأثير و الجزاء :

[ 67] كيف تكون الطاعة خيرا ؟

انها خير لأن الله يعطي المطيعين أجرا عظيما متمثلا في الدنيا بالنصر ، و التقدم ، و الرفاه ، وفي الاخرة بالجنان الخالدة .

[ وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ]

[ 68] كيف تكون الطاعة أشد تثبيتا ، وبالتالي مؤثرة في دعم ايمان صاحبها و هداه ؟


الجواب : ان الانحراف يحدث عند الانسان بسبب ضغط الشهوات ، فالخوف من الموت ، و حب الوطن و الاولاد و الراحة وما أشبه هو الذي يجعل الواحد منا يفكر بالمقلوب ، و يعكس الحقائق الكونية .

أما لو تجاوز الانسان ذاته في سبيل أهدافه و استعد للتضحية ، فليس هناك أي سبب لانحرافه .

[ ولهديناهم صراطا مستقيما ]

[ 69] هذا الصراط المستقيم ينتهي بصاحبه الى الانتماء للصفوة المختارة من عباد الله ، وما أحسن هذا الانتماء !!

[ ومن يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا ][ 70] وهذه هي الدرجة الرفيعة التي لا يصل الشخص الى مستواها الا بجهد بالغ ، و بتوفيق من الله ، وليس رخيصا ولا سهلا الحصول على بطاقة الانتماء الى حزب الله الغالب المنتصر .

[ ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما ]

يعلم سرائر الناس فيقبل انتماء خالصي النية فقط .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس