فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الايات
الكتاب الحق :

[ 48] كما أنــزل الله التــوراة و الانجيــل و لنفــس الاهــداف ، أنــــزل الكتاب ( القرآن ) الذي يتصل بالحق إتصالا عضويا، فهو حق يتطابق و سنن الحياة و أنظمة الكون و فطرة الانسان ؛ و وسيلته الحق وهو العمل الصالح و الايمان و الفداء ؛ وهدفه الحق وهوفلاح البشر و سعادته ، وربما كانت لفظة ( الباء ) دالة على هذا التفاعل بل الوحدة التامة بين الكتاب و الحق ، لأنه حق أصلا و وسيلة و هدفا .

[ و أنزلنا اليك الكتاب بالحق ]

و الكتاب يصدق ما أنزل في الكتب السابقة ، مما يدل على وحدتها سلفا ، ولكنه يهيمن عليها ، ويكمل ما سبق منها و يسيطر عليها .

[ مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه ]

فاذا كان الانجيل غامضا فيما يتصل بمنهج ما ، فان تفصيله في القرآن .


لماذا الاختلاف ؟!

ويبدو لي : ان القرآن الكريم اخد يعالج مسألة الخلافات البشرية بصفة عامة هنا ، بمناسبة الاختلاف القائم بين كتب السماء ، واتباع الديانات السماوية ، وأجاب على هذا السؤال لماذا يختلف الناس في ممارساتهم ؟!

باجابة واضحة نفصلها في عدة نقاط :

ألف : إن كل امة تتميز بممارسات حياتية مادية و معنوية خاصة ، فاقتصاد كل أمة واجتماعياتها و سلوكياتها الفردية ( وسائر ما تسمى بالشرعة ) تختلف عن غيرها ) ، كما ان لغتتها و ثقافتها و تطلعاتها ( و سائر ما يسمى بالمنهاج ) تختلف عن غيرها .

باء : إن هذا الاختلاف فطري نابع من خلقة البشر ، و طبيعة اختلاف الحياة ، وانعكاس هذا الاختلاف على كيان البشر ، والا فان الله قادر على ان يجعل البشر - كما الطيور و الاسماك وما اشبه - أمة واحدة دون اختلاف يذكر فيما بينهم .

جيم : والاختلاف نافع للحياة البشرية لانه يدعوالى التنافس و التسارع الى الخيرات ، إذ كل طائفة تسعى من اجل معرفة أفضل بأنظمة الحياة ، و وسائل أفضل لتسخير إمكاناتها بهدف تحقيق التقدم على الطوائف الاخرى ، ولذلك نجد الحضارات الكبرى في التأريخ إنما نشأتبسبب تصارع الطوائف مع بعضها ، تصارعا خفيا لا يدعوا الى التدمير داخل الامة الواحدة .

دال : إن هذا الاختلاف ينبغي الا يجعل عدوا رئيسيا يتسهدف كل فريقالقضاء عليه بالقضاء على صاحبه أو بالجدليات الكلامية كلا . بل ينبغي ان يترك الحكم على عاقبة الاختلاف و نهاية الصراع ان يكون لهذا أو لذاك يترك ذلك الى الله و اليوم الاخر حتى لا توجه هذه الطاقة البناءة ( طاقة الصراع و التنافس ) الى الدمار و الهلاك ، فيصبح هدف كل فريق القضاء على مكاسب الفريق الاخر كلا . بل ليكن هم كل فريق الحصول على مكاسب أكبر من صاحبه في ميدان الحياة الرحيب الذي يسع الجميع دون تضايق .

ان حكمة الله في إيجاد الناس مختلفين هي إختيارهم في مدى القوى الذاتية و الامكانات الطبيعية التي وفرها لهم لكي يعلم أي الفريقين أكثر معرفة و علما بالحياة ، وأفضل تسخيرا لها و بالتالي أكثر إيمانا ، و أفضل عملا صالحا .

[ فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق ]ويجعل العلم في القرآن في مقابل الهوى لأن الاهواء هي الحجب الكثيفة التي تمنع الانسان من الوصول الى الحق .

[ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ]

بالرغم من ان الشرعة و المنهاج بمعنى واحد وهو الطريقة حتى قالوا : بانهما مترادفان بالرغم من ذلك فان المنهاج هو : الطريق المستقيم ، بينما الشريعة هي : الطــريق العــريض الواضح ، فيتبادر ان المراد بالمنهاج هو ما يخص الامور المعنوية ( والتي نسميها بالثقافة ) باعتبارها لحاظ الاستقامة في الحكمة ، بينما المراد من الشريعة هو الامور المادية والله اعلم .


الأهداف البعيدة للآختلاف :

[ ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم ]ليخرج طاقاتكم و طبائعكم الكامنة ، ومدى إستقامتكم .

[ فأستبقوا الخيرات ]

وهذا هو هدف الاختلاف البعيد وهو : التنافس البناء من أجل الوصول الى الخيرات ، اما الخلافات فلان :

[ الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ]لذلك دعوها جانبا ، ولا تتعبوا انفسكم في محاولة إنهائها أو اثبات كل فريق بأنه أحق من غيره .

[ 49] ولا يعني السلام مع سائر الأمم وفق هذه الرؤية الرسالية البناءة ، التنازل لاهوائهم و انحرافهم أو الخضوع لضغوطهم بل يعني المزيد من الالتزام بالاحكام و التطبيق العملي لاستباق الخيرات و التنافس البناء .

[ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم ان يفتنوك عن بعض ما أنزل الله اليك ]تسريب الثقافة الباطلة :

ان المنافسين و الاعداء يسعون من أجل تسريب أفكارهم و ثقافاتهم الى الامة الاسلامية في حالات السلم القائمة بينهم وبين المسلمين ، لذلك فان القرآن يوصي بضرورة إتخاذ جانب الحذر حتى لا يتأثر المسلمون بتلك الافكار .

وعلى المسلمين الا ينبهروا بالحياة الامنة التي يظهر وجودها عند الكفار أو الامم الاخرى ، لان هذه الحياة سوف تتحول الى جحيم بسبب ذنوبهم ، ولذلكيجب التحصن ضد التأثر بهم ، و تقليد أفكارهم أو عاداتهم .

[ فان تولوا فأعلم انما يريد الله ان يصيبهم ببعض ذنوبهم وان كثيرا من الناس لفاسقون ]تصدير الاسلام :

[ 50] إن الامة الاسلامية تسعى من أجل تصدير برنامجها و رسالتها بالنموذج المتكامل الذي تصنعه حياتها الخاصة ، ولذلك فهي لا تحتاج دائما الى شن الحروب ضد الامم الاخرى ولكن هذا التصدير غير ممكن من دون تحصن أبناء الامة عن تسرب أفكار و برامج الاخرين الجاهلية اليها ، وذلك بان تعرف الامة ان حكم اولئك حكم جاهلي عفن قد أكل الدهر عليه و شرب وانه لا يمكن ان يستمع اليه المسلمون .

[ أفحكم الجاهلية يبغون ]

يريدون الجاهلية ، والجاهلية هي الحكم الذي لا يستمد أصوله من العلم . و العلم بدوره نابع من أحد المصدرين العقل أو الوحي .

[ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ]

أي لاولئك الذين يبلغ بهم العلم درجة اليقين ، وهذا أرقى درجات العلــم بالحقيقة ، فقد يكون هناك علم من دون يقين كأن تطمئن نفسك الى الحق بعيدا عن دواعي الشهوة و الغضب .

و الحكم المثالي في رؤية الاسلام هو : الحكم الذي تكون برامجه نابعة من العلمالاتي بدوره من العقل أو الوحي ) بشرط أن يكون تطبيق هذه البرامج من قبل الناس معتمدا على الالتزام الذاتي و الواعي الذي يوفره اليقين ، لذلك اكدت الاية على أن أحسن أنواع الحكومة هو حكم الله بشرط ان يطبقه أهل الوعي و اليقين لا أن يفرض على الناس فرضا .. أويتبعه الناس تقليدا أعمى .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس