فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


الاولى : تكبير الله .
[ و ربك فكبر ]

ان المؤمن حينما يقوم منذرا لله يواجه في طريقه عشرات العقبات النفسية و التحديات الاجتماعية ، كما يواجه القوى المضادة اقتصادية و سياسية و اجتماعية ، و واجبه تحديها و رفض الخضوع لها ، الا انه يجد نفسه عادة امام احد خيارين : اما الانهزام و اما التحدي والنصر ، فكيف يسير باتجاه خيار التحدي ؟ انما يرتكز الانتصار ذلك على مدى رسوخ توحيد الله في نفسه ، و ذلك بان يكبره في وعيه و يعظمه في نفسه قبل ان يكبره بلسانه ، فانئذ يصغر كل شيء دونه ، و تتساقط في داخله كل الاصنام . و هذا هو سر انتصار المؤمنين على العقبات و التحديات و الضغوط و القوى المضادة . و انها لصفة اصيلة فيهم يصفها الامام امير المؤمنين ( ع ) بقوله : " عظم الخالق في انفسهم فصغر ما دونه في اعينهم " (1) ، و على ضوء هذه المعادلة يجب ان نفهم معنى التكبير في حياتنا الفردية و الاجتماعيةو السياسية .

و انما تتعمق هذه الحقيقة في وعي الانسان بالمعرفة السليمة بالله ، و انه الكبير المتعال ، و انه فوق ان يوصف او ترقى الى ذاته كلمات البشر او تصوراته ، و لهذا ورد في معنى ( الله اكبر ) عن ائمة الهدى - عليهم السلام - انه اكبر من ان يوصف (2) ، و فيما يليننقل رواية تبين نورا من انوار عظمة الله عز وجل : روى الامام الصادق ( ع ) عن جده المصطفى - صلى الله عليه واله - انه قال : " و الاشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة ، و ان لله تعالى ملكا يقال له " خرقائيل " له ثمانية عشر الف جناح ، ما بينالجناح الى الجناح خمسمائة عام ، فخطر له خاطر : هل فوق العرش شيء ؟ فزاده الله تعالى مثلها أجنحة اخرى ، فكان له ست و ثلاثون الف(1) نهج البلاغة / خ 193 / ص 303 .

(2) الميزان / ج 20 / ص 80 .


جناح ، ما بين الجناح الى الجناح خمسمائة عام ، ثم أوحى الله اليه : ايها الملك طر ، فطار مقدار عشرين الف عام لم ينل رأس قائمة من قوائم العرش ، ثم ضاعف الله له في الجناح و القوة ، و أمره ان يطير فطار مقدار ثلاثين الف عام لم ينل ايضا ، فأوحى الله اليه : ايها الملك لو طرت الى نفخ الصور مع اجنحتك و قوتك لم تبلغ الى ساق عرشي ! فقال الملك : سبحان ربي الاعلى فأنزل الله عز وجل : " سبح اسم ربك الاعلى " فقال النبي " اجعلوها في سجودكم " (1) .

و لعل من مفاهيم تكبير الله ان يسعى الانسان المؤمن لتحطيم كيان الضلال و الكفر ، كي تتهاوى الانظمة و المعادلات الاستكبارية ، و تبقى كلمة الله هي العليا في الواقع السياسي و الاجتماعي ، و يكون هو الاكبر في نفوس الناس و وعيهم ، و تكبره ألسنتهم بالغدو والاصال ، قال الفخر الرازي : و هكذا تنبيه على ان الدعوة الى معرفة الله و معرفة تنزيهه مقدمة على سائر أنواع الدعوات (2) ، و الذي يريد ان يدعو الناس الى التوحيد يجب عليه ان يسقط كل الاصنام في نفسه بالتكبير اولا ، ثم يقدم نفسه نموذجا حقيقيا لرسالته ، فانذلك يعظم الله و يكبره في نفوس الاخرين . و من معاني تكبيره الله ان يتجرد الفرد الرسالي في دعوته لربه ، فلا يتخذ رسالته وسعيه وسيلة لتكبير احد دونه ، كالحكومات الجائرة ، او الذات و العشيرة و القومية .. كما يصنع علماء السوء الذين يتخذون الدين ذريعة لمصالحهم و تضخيم انفسهم في المجتمع .

الثانية : تطهير الثياب .

[ و ثيابك فطهر ]


(1) موسوعة بحار الانوار / ج 58 / ص 34 .

(2) التفسير الكبير للرازي / ج 30 / ص 191 .


و يبدو ان الثياب هي عموم ما يتصل بشخصية الانسان ظاهريا ، و لذلك مصاديق ذكر المفسرون بعضها و منها :

1 - اللباس ، فانه يجب على الداعية الرسالي ان يهتم بأناقته و نظافته في جو العمل الرسالي الحاد ، و ليس صحيحا ان ينسى مظهره بحجة خوضه الصراع الاجتماعي و السياسي ، و التحديات المضادة ، و لابد ان يعلم بان تصرفاته و سلوكه و مظهره كل ذلك مقياس عند البعض ودليل على شخصيته و من ثم رسالته .

و تطهير اللباس يعني رفع النجاسة عنه ، و مراعات القواعد الصحية العامة ، و هناك روايات فسرت التطهير بأنه تقصير الثياب كي لا تعلق النجاسات و الاوساخ الارضية بها ، قال الامام علي ( ع ) : " ثيابك ارفعها لا تجرها " (1) و عن طاووس : و ثيابك فقصر، قال الزجاج : لان تقصير الثياب ابعد من النجاسة ، فانه اذا انجر على الارض لم يؤمن ان يصيبه ما ينجسه (2) ، فالغرض اذن ان لا يطال الارض ، و ليس كما فهم بعض المتزمتين الذين راحوا يقصرون ثيابهم الى قريب الركبة ! و قيل في معنى تطهير الثياب : اتخاذها من الحلال دون الحرام لانه نوع من الطهارة (3) .

2 - الازواج ، قال في المجمع : و قيل معناه : و ازواجك فطهرهن من الكفر و المعاصي حتى يصرن مؤمنات (4) ، و لعل في قول الله عن الزوجات : " هن لباس لكم " (5) أشارة الى هذا المعنى ، و من الناحية الواقعية فان أسرة الانسان و بالذات زوجه مظهر لشخصيته كما الثوب .


(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 453 .

(2) مجمع البيان ج 10 / ص 385 .

(3) المصدر .

(4) المصدر .

(5) البقرة / 187 .


3 - و قيل ان البدن من مصاديق الثياب باعتباره ثوب الروح و وعائها ، و قيل معناه : و نفسك فطهر من الذنوب ، و الثياب عبارة عن النفس (1) ، يقال : طاهر الثياب اي طاهر النفس منزه عن العيب ، و دنس الثياب اي خبيث الفعل و المذهب (2) .

و لعل التكبير هو عنوان الطهارة الباطنية و وسيلتها ، و أمر الله بتطهير الثياب بعد الامر بالتكبير يهدينا الى ضرورة الطهارتين الباطنية و الظاهرية عند الداعية الرسالي ، فإن الآخرين و بالذات المغرضين منهم قد لا يجدون ثغرة في رسالة المؤمن و مبادئه و حتىشخصيته الذاتية و لكنهم يجدون بعض الثغرات في مظاهره ( ثيابه ) يطعنونه من خلالها ، و يشوهون شخصيته و سمعة رسالته عبرها .

الثالثة : مقاطعة الباطل مقاطعة تامة و شاملة :

[ و الرجز فاهجر ]

اي اقطع صلتك به . و اختلف في الرجز فقيل : هو الاصنام و الاوثان عن ابن عباس ، و قيل : المعاصي عن الحسن ، وقيل معناه : جانب الفعل القبيح و الخلق الذميم ، و قيل معناه : أخرج حب الدنيا من قلبك لانه رأس كل خطيئة (3) ، و قيل : اهجر ما يٌؤدي الى العذاب (4) ، و قال الرازي : الرجز العذاب ، قال الله تعالى : " لئن كشفت عنا الرجز " اي العذاب ، ثم سمي كيد الشيطان رجزا لانه سبب للعذاب ، و سميت الاصنام رجزا لهذا المعنى ، فعلى هذا القول تكون الآية(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 385 .

(2) المنجد مادة ثوب .

(3) مجمع البيان / ج 10 / ص 385 .

(4) التبيان / ج 10 / ص 173 .


دالة على وجوب الاحتراز عن كل المعاصي (1) ، و مثله صاحب الكشاف و الميزان . و عن جابر قال : سمعت رسول الله . ( ص ) يقول : " هي الاوثان " (2) .

و كل ما ذكره المفسرون صحيح ، الا انه مصاديق لشيء واحد هو الباطل ، و اظهر مفردات الرجز التي يجب على الداعية الرسالي مقاطعتها التالية :

الف : على الصعيد الفردي .. العقائد و الافكار الباطلة ، و الاخلاق و الصفات السيئة ، و الممارسات و السلوكيات الخاطئة .

باء : و على الصعيد الاجتماعي .. الفواحش ما ظهر منها و ما بطن ، كالزنا و السرقة و شهادة الزور و ظلم الناس و أكل أموالهم بالباطل .. و يدخل في الرجز الاجتماعي مجالس البطالين و رفاق السوء ، فانهما يفسدان أخلاق المؤمن ، و يؤثران سلبا على مسيرته .

جيم : و على الصعيد السياسي .. التعاون مع الطاغوت و الحكومات الفاسدة ، و الركون الى الظالمين ، و هكذا الانتماء الى التجمعات السياسية المنحرفة ، و الخضوع للقيادات الضالة و الجائرة .

الرابعة : عدم المنة على الله بل الاحساس الدائم بالتقصير تجاهه .

[ و لا تمنن تستكثر ]

و المؤمن الصادق لا يتبع جهاده وسعيه بالمن و الاستكثار ابدا ، ذلك لانه يعد عمله الصالح شرفا وفقه الله اليه ، و أنه الذي يستفيد من العمل في سبيل الله في(1) التفسير الكبير / ج 30 / ص 193 .

(2) الدر المنثور / ج 6 / ص 281 .


الدنيا و الاخرة و ليس العكس ، لانه المحتاج الى الله و الفقير لرحمته ، و الى ذلك أشار القرآن بقوله تعالى : " قل لا تمنوا علي اسلامكم بل الله يمن عليكم ان هداكم للايمان ان كنتم صادقين " (1) . ثم ان المؤمن انما يعمل صالحا لينال ثواب الله و رضوانه ، و المن يبطل الأجر فلماذا يمن على ربه ؟ قال الامام علي ( ع ) يوصي مالك الاشتر لما ولاه مصر : " و اياك و المن على رعيتك باحسانك .. فإن المن يبطل الاحسان " (2) . ثم كيف يمن المؤمن على ربه وهو يعلم بانه لولا فضله و رحمته لما صدر منه الاحسان و لما استطاع اليه سبيلا ؟ !

و لكلمة " تستكثر " معنيان يهتدي اليهما المتدبر :

الاول : لا تمن على الله باستكثار عملك ، قال الرازي : لا تمنن على ربك بهذه الاعمال الشاقة كالمستكثر لما تفعله .. و نقل عن الحسن قوله : لا تمنن على ربك بحسناتك فتستكثرها (3) .

الثاني : لا تمن على الله فان ذلك يزيدك عملا صالحا و أجرا بعد أجر ، فان أصل المن هو القطع ، و الذي يمن على ربه عمله في سبيله فانه لا يستزيد عملا ، و السبب انه حينئذ يشعر بالاكتفاء و الاشباع فلا يجد حاجة تدعوه الى المزيد من السعي و الاستكثار من الخير. و على الصعيد الاجتماعي فان المن على الناس يدعوهم الى النفور من الداعية ، كما ان عدمه يدعوهم للالتفاف حوله بكثرة . و ما اكثر ما منع المن و لايزال الخير و التكامل عن الكثير من الناس ! اما المؤمنون المخلصون و الواعون فانهم لا يمنون على الله ابدا لعلمهم بان الانسان مهما عمل صالحا فانه قليل بالنسبة الى أهدافه ، و بالنسبة للجزاء الذي سوف يؤجره ربه به على(1) الحجرات / 17 .

(2) نهج البلاغة / كتاب 53 / ص 444 .

(3) التفسير الكبير / ج 30 / ص 194 .


أعماله .

الخامسة : الصبر و الاستقامة في طريق الحق .

[ و لربك فاصبر ]

و هــذه الآية تكشف لنا طبيعة المسيرة الرسالية بانها مليئة بالضغوط و المشاكل ، لانها الطريق الى الجنة التي حفت بالمكاره ، و يجب على كل داعية الى الله و كل مجاهــد ان يعــي هذه الحقيقة و قد اختار الانتماء الى حزب الله و العمل في سبيله ، ومن ثم يعد نفسه لمواجهة كل التحديات و المكاره بسلاح الصبر و الاستقامة .

ان الذي يتصور طريق الحق خاليا من الاشواك يخطىء فهم الحياة و سنن التغيير . او لست تريد بناء كيان الحق على انقاض الباطل ؟ بلى . فانت اذن في صراع جذري مع الباطل بكل أثقاله و امتداداته .. مع النظام الفاسد ، و الطاغوت المتسلط ، مع الثقافة التبريرية ، معالاعلام التخديري ، مع التربية الفاسدة ، مع العلاقات المتوترة بين الناس .. و بكلمة : مع تخلف المجتمع الفاسد الذي تسعى لعلاجه ، فلابد ان تتوقع ردات الفعــل المضادة ، و الضغوط و التحديات المتوالية و المركزة في طريقك .

و حيث يحتدم الصراع و يصعد مرحلة بعد مرحلة تتضاعف التحديات و الضغوط ، الأمر الذي يضع الرسالي ( فردا و حركة ) أمام خيارين : الهزيمة او الصمود ، و خياره الاصيل هو الاستقامة ، فيجب اذن ان يصبر لربه ، و الذي يعني عدة أمور :

الاول : ان يجعل صبره خالصا لوجه الله ، لا يريد الا رضوانه و ثوابه .

الثاني : ان يستقيم على الحق حتى لقاء ربه عز وجل ، كما قال الله : " و اعبدربك حتى ياتيك اليقين " (1) ، فالصبر اذن ليس له حد كما يزعم البعض الذين يبررون هزيمتهم و تراجعهم ، بل يجب ان يصبر المؤمن و يصبر حتى يلقى ربه .

الثالث : ان يصبر لحكم ربه و يسلم لقضائه بعد ان يقوم بما ينبغي عمله ثم يترك الأمر لله يقدر فيه ما يشاء ، و هذا معنى التسليم لله و التفويض اليه ، و هو درجة عالية من اليقين تضمد جراحات الداعية ، و تطمئنه بان الله ليس بغافل عما يلاقيه ، و هو رقيب على كل شيء ، وسوف ينتقم في المستقبل من أعدائه ، و تتضمن الآية تحذيرا موجها الى الكفار و المعاندين بالانتقام ، و هذا ما يفسر العلاقة بينها و بين الآيات القادمة .

[ 8 - 10 ] [ فاذا نقر في الناقور ]

في المنجد : الناقور جمعه نواقير ، و هو العود او البوق ينفخ فيه ، و النقر هنا بمعنى النفخ ، و كانت هذه الالة تستخدم قديما لجمع الناس و الجيوش في المناسبات ، و الذي يقصد بالناقور في هذه الآية الصور ، الذي ينفخ فيه اسرافيل مرة فيصعق من في السماوات و الارض ، و أخرى فيبعثون للحساب و الجزاء ، و هو كهيئة البوق . و قد اختلف المفسرون في النفخة هذه هل هي الاولى او الثانية ، فقوى صاحب التبيان كونها الاولى ، و قال : قيل : ان ذلك في اول النفختين ، وهو اول الشدة الهائلة (2) ، و قيل : انها النفخة الثانية (3).

و الأقرب عندي حمل النقر على الاطلاق ، فإن كلا النفختين عسيرتان على الكافرين ، فاما الاولى فانها تسلبهم ما في ايديهم من نعيم و حياة ، و اما الثانية(1) الحجر / 99 .

(2) التبيان / ج 10 / ص 174 .

(3) مجمع البيان / ج 10 / ص 385 .


فهي تبعثهم للوقوف بين يدي جبار السماوات و الارض للحساب و الجزاء . و لا ريب ان النفخة التي يعقبها الحساب أعسر من الاخرى التي تميت الناس فقط .

و قد يكون التعبير مجازيا ايضا ، بحيث يصير النقر في الناقور كناية عن يوم الانتقام .. كما نقول قرعت طبول الحرب .

[ فذلك يومئذ يوم عسير * على الكافرين غير يسير ]

فهو يوم عسر مطلق لا يسر فيه على الكافرين ، اما المؤمنون فانهم مخصوصون بلطف الله و رحمته ، مما يهدينا الى ان الجزاء و الانتقام الالهي قائم على اساس الحكمة و التدبير الدقيق . و من الايتين مجموعة يتبين ان ذلك اليوم بذاته عسير جدا لما فيه من احداث و مواقف عظيمة لولا انه تعالى ييسره على المؤمنين .

و حضور ذلك اليوم في وعي المؤمنين ، و بالذات الطلائع و القيادات الرسالية الذين يخوضون الصراع ، و يواجهون الاف الضغوط و التحديات ، من شأنه ان يثبتهم على الطريقة ، و يصبرهم على الاذى في جنب الله ، اذ لا يخشون الفوت فيستعلجوا ، بل هم على يقين بان في ضمير المستقبل يوم انتصار على الاعداء و انتقام حتمي منهم للحق ، و ان السبيل لدفع عسره تجرع آلام الجهاد من أجل الحق ، و الصبر لله في الحياة الدنيا .

[ 11 / 16 ] و ليس بالضرورة ان يتحقق هذا الوعد غدا او بعد غد ، و ليس صحيحا ان نشكك فيه لو تأخر عنا قليلا و نترك الجهاد في سبيل الله ، او انذار الكفار .. كلا .. فان تدبير الأمور بيد الله ذي الحكمة البالغة و العلم المحيط ، و خطأ ان يعترض أحد على تقديراته ، بل يجب ان نسلم له تسليما مطلقا بانه يفعل ما فيه الخير و الصلاح ، اما نحن فقاصرون عن إدراك حكمة كل قضاء و قدر ، فلعله آخر طاغية يتسلط على رقاب الناس ، و يعيث الفساد في الارض ، او جعل أمر شعب منالشعوب رهن اسرة فاسدة طاغية يتوارثون الحكم و الظلم فليفعل ربنا ما يشاء مسلمين بقضائه كما أمرنا بذلك و قال :

[ ذرني و من خلقت وحيدا ]

ان حمل أمانة الرسالة و من ثم مسؤولية الانذار و التغيير واجب إنساني شرعي ، مكلف به كل مؤمن ، بل كل انسان عاقل مستطيع ، اما متى و كيف يتغير النظام الحاكم ، و ينتصر أهل الحق على حزب الشيطان ، فإنه أمر يختص به رب العزة و ما ينبغي لنا الايمان به حكمته البالغة ، و بذلك نزداد صبرا و استقامة .

-3- و للآية عدة تفاسير أهمها و أقربها :

الاول : انها وعيد للكفار ، اي دعني و إياه فاني كاف له في عقابه ، كما يقول القائل : دعني و إياه ، و عن مقاتل : معناه : خل بيني و بينه فانا افرد بهلكته (1) .

الثاني : انها أشارة الى أصل خلقة الانسان ، فمعناه : دعني و من خلقته في بطن أمه وحده لا مال له و لا ولد (2) ، شبيه قوله تعالى : " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة " (3) ، و في ذلك أشارة لطيفة الى انه تعالى سوف يسلب منه ما أعطاه من النعيم ، فهو في الاصل كان وحيدا جاء الى الدنيا لا شيء معه ، فمن الله عليه بالأموال الممدودة و البنين الشهود .

الثالث : انها طعن في نسب الوليد بن المغيرة بصورة خاصة اذ كان مجهول(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 387 .

(2) المصدر .

(3) الانعام / 94 .


الوالد ، فعن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن الامام الصادق ( ع ) قال : " ان الوحيد ولد الزنا " (1) ، و قال زرارة : ذكر لابي جعفر - عليه السلام - عن أحد بني هشام إنه قال في خطبته : انا ابن الوحيد ( يعني المتميز المنقطع عن النظير ، و هكذا كانهذا الاموي يفتخر بالوليد الذي لعنه الله من فوق عرشه ) ، فقال الباقر عليه السلام : " ويله لو علم ما الوحيد ما فخربها " فقلنا له : و ما هو ؟ ! قال : " من لا يعرف له أب " (2) .

و قيل معناه : دعني و من خلقته متوحدا بخلقه لا شريك لي في خلقه .. هكذا في مجمع البيان و التفسير الكبير (3) ، و عن ابن عباس : كان الوليد يسمى الوحيد في قومه (4) ، قال الفخر الرازي : و كان يقلب بالوحيد ، و كان يقول : انا الوحيد بن الوحيد ، ليس لي في العرب نظير ، و لا لأبي نظير ، فالمراد " ذرني ومن خلقت " اعني " وحيدا " و طعن كثير من المتأخرين في هذا الوجه ، و قالوا : لا يجوز ان يصدقه الله في دعواه : انه وحيد في هذه الامور .. ذكر ذلك الواحدي ، و الكشاف ، ورد عليه ثلاثة ردود (5).

و لقد كان الوليد بن المغيرة من طغاة الجاهلية المترفين ، الذين أقبلت عليهم الدنيا بزينتها ( المال و البنون ) كما وصف الله بقوله :

[ و جعلت له مالا ممدودا ]

و ما دام الله هو الذي جعله فإنه قادر على سلبه و الذهاب به ، لانه لم يجعله الا(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 387 .

(2) المصدر .

(3) راجع مجمع البيان / ج 10 / ص 387 و التفسير الكبير / ج 30 / ص 198 .

(4) المصدر الاول .

(5) التفسير الكبير / ج 30 / ص 198 .


لحكمة بالغة . و المال الممدود هو الكثير و المتنامي ، قال الطبرسي في المجمع : ما بين مكة الى الطائف من الإبل المؤبلة - المجمعة - و الخيل المسومة ، و النعم المرحلة ، و المستغلات التي لا تنقطع غلتها ، و الجواري و العبيد و العين الكثيرة ، و قيل : الذي لاتنقطع غلته عن سنة حتى يدرك غلة سنة اخرى فهو ممدود على الايام ، و كان له - يعني الوليد - بستان بالطائف لا ينقطع خيره في شتاء و لا صيف (1) .

[ و بنين شهودا ]

اذا كان له عشرة اولاد " شهودا " حضورا معه بمكة ، لا يغيبون لغناهم عن ركوب السفر للتجارة (2) . و قد كانت كثرة الاولاد - الذكور بالذات - تعد من اكبر النعم في ذلك العصر بالخصوص بسبب العادات و الظروف الاجتماعية و الامنية الحاكمة . اضف الى ذلكان مشيهم مع والدهم و سيدهم يعطيه عزة و هيبة بين الناس ، فكيف اذا كان نفسه شيخ عشيرة و صاحب جاه و ثروة ؟ ! و الى هذا المعنى اشار الرازي فقال : انهم رجال يشهدون معه المجامع و المحافل (3) .

و كلمة " بنين " شاملة تتسع لاكثر مما تتسع اليه كلمة الأولاد ، فهي تشمل الأولاد من الصلب ، و الأولاد بالتبني ، و الأتباع ، لان بين التابع و المتبوع علاقة التبني ذات الطرفين ، و ما اكثر اولئك المصلحيين الذين تحلقوا حول الوليد ، و لا يزالونيتبعون المترفين طمعا في ان يصيبهم فتات من طعامهم .

ثم انه تعالى حيث اراد به كيدا فتح عليه أبواب الخيرات كي يلقاه في الآخرة و ماله من خلاق ، فبالاضافة لنعمتي المال الممدود و البنين الشهود بسط له من فضله ما مهد به سبل العيش الرغيد و ذلل العقبات .


(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 387 .

(2) المصدر .

(3) التفسير الكبير / ج 30 / ص 198 .


[ و مهدت له تمهيدا ]

قال في المنجد : مهد الفراش : بسطه و وطأه ، و الأمر سواه و سهله و أصلحه ، و تمهد الرجل : تمكن ، و المهدة جمعها مهد و هي ما انخفض من الارض في سهولة و استواء (1) بحيث يتمكن الناس من المشي عليها بسهولة و راحة . و على مثل هذا اجمع المفسرون ، قال الرازي : اي و بسطت له الجاه العريض و الرياسة في قومه ، فأتممت عليه نعمتي المال و الجاه ، و اجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا ، و لهذا يدعى بهذا فيقال : أدام الله تمهيده ، اي بسطته و تصرفه في الامور (2) ، و من التمهيد صحة البدن و راحة البال و ما اشبه . و المفعول المطلق " تمهيدا " يفيد التأكيد و المبالغة في الاستغراق .

و كانت هذه النعم داعية الى الشكر و الايمان لكل عاقل و صاحب ضمير حي ، فهي بمثابة عامل يعبد طريق الهداية للانسان و يمهده له لو تفكر و عقل ، و لكن الوليد كان مريض القلب ، و لذلك كان يزداد ضلالا و إصرارا على الكفر بنسبة طردية كلما توالت عليه النعم ، والسبب ان غير المؤمن يقف عند حد الدنيا ، و تسيطر عليه الروح المادية بحيث يصبح جمع حطامها هدفا بذاته ، فاذا به يفكر في الاستزادة بدل العمل على الشكر لصاحب النعمة .

[ ثم يطمع أن أزيد ]

اما المؤمن فانه يتطلع عند كل نعمة الى توفيق الشكر و اداء حقها لله و الى الناس ، و صدق رسول الله ( ص) حينما قال في حق طالب الدنيا : " منهومان لا يشبع طالبهما : طالب العلم ، و طالب الدنيا " (3) " فاما طالب العلم فيزداد رضى(1) المنجد مادة مهد بتصرف .

(2) التفسير الكبير / ج 30 / ص 199 .

(3) كنز العمال / ح 38932 .


الرحمان ، و اما طالب الدنيا فيتمادى في الطغيان " (1) ( و بئس العبد عبد له طمع يقوده الى طبع ) (2) ( اي طبع قلبه بالرين ) ، و صدق الامام علي ( ع ) اذ قال : " اكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع " (3) و انما اعشى قلب الوليد تقادم الخير عليه و طمعه في زيادته ، و انه لمكر الله بالمترفين ، الذي يزيدهم ضلالا عن الحق ، و خسارة في الدنيا و الآخرة ، فلا يشكر ربه و لا هو يصل الى غايته ( الزيادة ) لان توسيع الله على أحد ليس مطلقا ابدا بل له حد و قيد ، و ليس خارجا عن سننه و قوانينه في الحياة ،فكيف يزيد من لا يؤدي شكر النعمة وهو القائل : " لئن شكرتم لازيدنكم و لئن كفرتم ان عذابي لشديد " (4) ؟ ! قال صاحب التبيان : اي لم يشكرني على هذه النعم ، و هو مع ذلك يطمع ان ازيد في انعامه و التمهيد و التوطئة و التذليل و التسهيل .

[ كلا ]

اي لن يكون ذلك ابدا ، فهذه كلمة تفيد النفي القاطع و العنيف ، و السبب هو عناده للآيات الربانية .

[ انه كان لاياتنا عنيدا ]

و معاندتها يمنع الزيادة لسببين :

الاول : السبب الغيبي ، فانه تعالى يدافع عن رسالاته و آياته ، و ينتقم للحق من جاحديه ، بالاهلاك و الاستئصال تارة ، و بالقحط و سلب البركة تارة اخرى .

الثاني : السبب الظاهر و ذلك ان آيات الله هي النهج القويم الذي يهدي(1) موسوعة بحار الانوار / ج 1 / ص 182 .

(2) المصدر / ج 77 / ص 135 .

(3) المصدر / ج 73 / ص 170 .

(4) ابراهيم / 7 .


الانسان الى كل خير مادي و معنوي ، و يأخذ بيده الى الرفاه و النمو الاقتصادي لو عمل بها و طبقها في حياته ، و حيث يعاندها الكفار و مرضى القلوب فكيف يستزيدون ، و كيف توطأ لهم سبل العيش ، و تمهد أسباب السعادة ؟ ! قال المفسرون : و لم يزل في نقصان - يعنون الوليد - بعد قوله : " كلا " حتى افتقر و مات فقيرا (1) ، و قال العلامة الطبرسي عند تفسيره اللآية : اي لا يكون كما ظن ، و لا ازيده مع كفره (2) ، و الى مثله ذهب الزمخشري في الكشاف .

و العناد مرحلة من الكفر و النفور تشبه الجحود ، فان الانسان حينما يكفر بالحق يكفر تارة لانه لما تتوفر الآيات الدالة عليه ، او لانه يكفر للتهرب من مسؤولية الايمان به ، و لكنه تارة بلا مبرر سوى محاربة الله و الاستهزاء بآياته و هذا هو العناد .. او تأخذه العزة بالاثم ، و يخلط بين الأمور كان يكفر بالاسلام و القرآن لصراع شخصي بينه و بين الداعية الى الله ، قال الرازي : و قوله : " انه كان " يدل على انه من قديم الزمان كان على هذه الحرفة (3) .

[ 17 - 31 ] و معاندة آيات الله و من ثم محاربته ليس تمنع عن العنيد النعمة و الخير و حسب ، بل و تؤدي به الى الشر و العذاب في دنياه و آخرته .

[ سأرهقه صعودا ]

أي سأجعله يتكلف الصعود حتى يرهق إرهاقا شديدا ، و الصعود كناية عن المشقة ، ففي التحقيق نقلا عن التهذيب : و يقال لأرهقنك صعودا ، أي لأجشمنك مشقة من الامر ، لان الارتفاع في صعود أشق من الانحدار في هبوط ، و منه اشتق(1) التفسير الكبير / ج 30 / ص 199 .

(2) مجمع البيان / ج 10 / ص 387 .

(3) التفسير الكبير / ج 10 / ص 199 .


تصعد في ذلك الأمر اي شق عليه (1) .

و لا ريب ان من يعاند آيات الله و شرائعه ثم يتبع هواه و شرائع البشر فانه سيلاقي أنواع المصاعب و المشاكل باعتباره يسبح خلاف قوانين الله و سنن الطبيعة ، فهو على شبه ممن يصعد الجبال الرفيعة الوعرة يرهقه الصعود . اترى كيف لقيت و لا تزال تلاقي أمتنا الاسلامية من العقبات كالتمزق و الظلم و التخلف الحضاري حينما هجرت كتاب ربها ؟ فهي اذا حقيقة واقعية يواجهها كل من يعاند آيات ربه فردا او مجتمعا أو أمة و في الجانبين المادي و المعنوي .

و لا ينتهي الامر عند هذا الحد ، بل يمتد العذاب الى الاخرة و يتجلى بصورة أشد و أكثر و أوضح حيث يتبين للمعاندين خطأهم الكبير في صورة جبل مخيف من العذاب ، قال الامام الصادق ( ع ) : " صعود جبل في النار من نحاس يحمل عليه ( الكافر ) ليصعده كارها ، فاذا ضرب بيديه على الجبل ذابتا حتى تلحق بالركبتين ، فاذا رفعهما عادتا ، فلا يزال هكذا ما شاء الله " (2) ، و في فتح القدير عن النبي ( ص ) قال : " الصعود جبل في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفا ثم يهوي ، و هو كذلك فيه ابدا " (3) ، و عن الامام الباقر - عليه السلام - قال : " ان في جهنم جبلا يقال له صعود ، و ان في صعود لواديا يقال له سقر ، و ان في سقر لجبا يقال له هبهب ، كلما كشف غطاء ذلك الجب ضج أهل النار من حره ، و ذلك منازل الجبارين " (4) ، و يقال للألم الذي يصل الى الرأس صعود لانه يرتفع اليه و لانه شديد أثره ، و ربما تتسع الكلمة الى معنى التزايد فان العذاب الالهي في تصاعد مستمر .


(1) التحقيق في كلمات القران / ج 6 / ص 273 .

(2) تفسير البصائر / ج 50 / ص 430 .

(3) فتح القدير / ج 5 / ص 329 .

(4) تفسير البصائر / ج 50 / ص 430 عن روضة الواعظين .


و يبين القرآن السبب الرئيسي الآخر الذي يؤدي بالانسان الى الشقاء و العذاب في الحياة و هو اولا : فقدانه بركة رسالات الله و آياته ، و ثانيا : اتباعه المناهج البشرية الضالة ، و اعتماده على فكره الضحل و تقديره الخاطىء .

[ انه فكر و قدر ]

و التفكير هو تقليب وجوه الرأي ، بينما التقدير هو تحويل التفكير الى خطة بعد الدراسة ، يقال فكر في الأمر و تفكر ، اذا نظر فيه و تدبر ، لما تفكر رتب في قلبه كلاما وهيأه ، و هو المراد من قوله : " و قدر " (1) ، و في تفسير الميزان قال علامة الطباطبائي : و التقدير عن تفكير نظم معاني و اوصاف في الذهن بالتقديم و التأخير ، و الوضع و الرفع لاستنتاج غرض مطلوب ، و قد كان الرجل يهوي ان يقول في أمر القرآن شيئا يبطل به دعوته (2) . و لقد توهم الوليد بتفكيره و تقديره ان تهمه السحر ستدحض الحق .. و ليسالامر كذلك .

[ فقتل كيف قدر ]

و لقد ذم الله تفكره لانه فكر فكرا يحتال به للباطل ، و لو فكر على وجه طلب الرشاد لم يكن مذموما بل كان ممدوحا (3) ، لان التفكير و التخطيط بأعمال العقل على ضوء المعلومات و المعطيات أمر حسن بذاته ، و إنما جاءت رسالات الله و بعث الانبياء لغرض إصلاح الناس و هدايتهم باستثارة العقول .

بلى . ان العقل بذاته وسيلة خير و صلاح ، و هو يعمل لصالح الانسان ، و لكن بشرط ان يكون خياره الاول صحيحا ، اما لو اختار الباطل ثم استثار عقله في هذه(1) التفسير الكبير / ج 30 / ص 200 .

(2) الميزان / ج 20 / ص 86 .

(3) التبيان / ج 10 / ص 177 بتصرف .


القناة فلن يجني من تفكيره و تقديره سوى الضلال و العذاب ، و يسمى ذلك بالمكر و هي حيل الشيطان ، و هكذا الفكر ، و ذلك انه سلاح ذو حدين ، يكون تارة لصالح صاحبه و خير البشرية اذا كان قائما على أساس العقل ، و يكون أخرى اداة لدمارها و وسيلة لاشعال الحروب ، كما تفعل خبرات القوى الإستكبارية في هذا العصر .

ان الانسان قادر على نيل الحياة بالتفكير و التقدير اذا اختار مسبقا هدفا نبيلا و اتخذ فكره وسيلة لتحقيقه ، فالمهم ليس ان تفكر و تقدر بل الأهم لماذا تمارس التفكير و التقدير ، و الى ذلك يوجهنا القرآن بطرح السؤال : " كيف قدر " مكررا ؟

و يصف علي بن ابراهيم القمي حالة الوليد عندما فكر و قدر و يقول : نزلت في الوليد بن المغيرة و كان شيخا كبيرا و مجربا من دهاة العرب ، و كان من المستهزئين برسول الله ( ص ) ، و كان رسول الله ( ص ) يقعد في الحجرة و يقرأ القرآن فأجتمعت قريش الى الوليد بنالمغيرة ، فقالوا : يا أبا عبد الشمس ما هذا الذي يقول محمد أشعر هو ام كهانة أم خطب ؟ فقال : دعوني أسمع كلامه ، فدنا من رسول الله ( ص ) فقال : يا محمد أنشدني من شعرك ، قال : " ما هو شعر ، و لكنه كلام الله الذي ارتضاه لملائكته و أنبيائه " فقال: اتل علي منه شيئا ، فقرا رسول الله ( ص) حم السجدة ، فلما بلغ قوله " فان اعرضوا ( يا محمد أعني قريشا ) فقل ( لهم ) أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود " فاقشعر الوليد ، و قامت كل شعرة في رأسه ولحيته ، و مر الى بيته ولم يرجع الى قريش من ذلك ،فمشوا الى ابي جهل فقالوا : يا أبا الحكم ان أبا عبد الشمس صبا الى دين محمد اما تراه لم يرجع الينا ؟ فغدا ابو جهل فقال له : يا عم نكست رؤوسنا و فضحتنا و أشمت بنا عدونا و صبوت الى دين محمد ، فقال : ما صبوت الى دينه ، و لكني سمعت منه كلاما صعبا تقشعرمنه الجلود ، فقال أبو جهل : أخطب هو ؟ قال : لا . ان الخطب كلام متصل و هذا كلام منثورو لا يشبه بعضه بعضا ، قال : أفشعر هو . ؟ قال : لا . أما اني قد سمعت أشعار العرب بسيطها و مديدها و رملها و رجزها و ما هو بشعر ، قال : فما هو ؟ قال : دعني أفكر فيه ، فلما كان من الغد قالوا : يا أبا عبد الشمس ما تقول فيما قلناه ؟ قال : قولوا هو سحرفإنه أخذ بقلوب الناس ( 1) . لقد انتهى به تفكيره القائم على أساس العناد الى هذه النهاية الخاطئة ، فتفوه بهذا الباطل ، و كان من الممكن ان يوصله العقل الى ساحل الأمن و الهدى ، و لكنه لم يفكر و يقدر حينما فكر و قدر بمنهجية موضوعية و منطلقات سليمة ، انمامارس كل ذلك بهدف تضليل الآخرين ، و تبرير ما هو عليه من الباطل و الضلال لنفسه أمام و جدانه اولا ثم للناس المغرورين به ، فاوقع نفسه في الشقاء ، و استحق بذلك اللعنة و العذاب .

[ ثم قتل كيف قدر ]

و تكرار اللعنة بالقتل عليه دلالة على استحقاقه ضعفا من العذاب ، الاول على عناده الآيات الربانية ، و الآخر على اتباعه هواه و بنات فكره بدل تشريع الله ، او يكون أحدهما جزاء التفكير المنحرف ، و الثاني جزاء التقدير الخاطىء . قال العلامة الطبرسي : هذا تكرير للتأكيد ، اي لعن عذب ، و قيل : لعن بما يجري مجرى القتل ، و قيل : معناه لعن على أي حال قدر ما قدر من الكلام ، كما يقال : لأضربنه كيف صنع ، أي على أي حال كان عليه (2) .

بلى . ان الناقد المنصف لا يستطيع الا التسليم بصدق الرسول ، و ان الرسالة حق ، و لكن الوليد و أمثاله من المترفين و أعداء الحق لم يكونوا كذلك ، بل سعوا الى الانتقاد عبر منهجية خاطئة تتركز على العزة بالاثم ، و الموافق العدائية السابقة ،(1) تفسير القمي / ج 2 / ص 393 .

(2) مجمع البيان / ج 10 / ص 388 .


و هذه من المؤثرات السلبية على نتيجة أي بحث و تفكير ، و لعل السبب يعود الى حالتهم الاجتماعية اذ هم من المستكبرين الذين يبنون كيانهم على أساس الظلم و استثمار المحرومين و قهر المستضعفين ، فانى لهم القبول بقيادة ربانية تفتخر بانها من الفقراء ، و تسعى منأجل إسعاد المحرومين ، و تحرير المستضعفين من نير المترفين .

[ ثم نظر ]

و الأقرب ان النظر هنا بمعنى اعمال الفكر و البصر ، فان الطغاة المستكبرين حينما يريدون تضليل الناس عن الحق يفكرون و يقدرون اولا ثم ينظرون مفتشين عن ثغرات و أساليب لبث أفكارهم و تقديراتهم و نشرها بين الناس ، فوسائل الاعلام المضللة من اذاعات و تلفزة وصحافة و حتى وسائل التثقيف و التربية التي تروج ثقافة الباطل ، و ثبت الاشاعات ضد المؤمنين و القيادات الرسالية .. انها لا تتحدث اعتباطا ، بل هناك وراء القناع خبراء إعلاميون و نفسيون و سياسيون و .. و .. يخططون للتضليل ، و هذه سمة للانظمة الفاسدة .. فالىجانب فرعون كان هامان و جنود كثيرون متخصصون في كل جانب من الجوانب ، و من قصة قريش و ابي جهل مع الوليد يتضح انه من قياداتهم و عقولهم المدبرة ، و هناك إشارات الى هذا التفسير و جدتها لدى بعض المفسرين ففي البصائر : أي نظر في وجوه قومه (1) ، و في الميزان :
أي ثم نظر بعد التفكير و التقدير نظر من يريد ان يقضي في أمر سئل ان ينظر فيه (2) .

و بعد ان اختمرت الفكرة الشيطانية في رأسه بدأ حركته نحو الانتاج و الاخراج كي تكون أمضى أثرا في نفوس الآخرين ، فاذا بكل ملامحه مشحونة بامارات الحقد(1) البصائر / ج 50 / ص 362 .

(2) الميزان / ج 20 / ص 87 .


و الغيظ على الرسالة و الرسول ( ص ) .

[ ثم عبس و بسر ]

و هذه المظاهر الخارجية و أخرى غيرها ملامح لحالات نفسية من الحقد و العناد يعكسها القرآن بأسلوبه التصويري البديع ، و انها لطبيعة في الانسان ان تبدو على مظهره علامات مخبره بحيث يقول علماء النفس انك تستطيع قراءة داخل الانسان بمظاهره ، و في الحديث الشريف قال أمير المؤمنين ( ع ) : " ما اضمر أحد شيئا الا ظهر في فلتات لسانه و قسمات وجهه " (1) .

قال القمي : العبوس للوجه ، و البسور القاء الشدق (2) ، و عن قتادة قال : قبض ما بين عينيه و كلح (3) ، و في فقه اللغة للثعالبي : اذا زوي ما بين عيني الرجل فهو قاطب عابس ، فاذا كشر عن أنيابه مع العبوس فهو كالح ، فاذا زاد عبوسه فهو باسر مكفهر (4) ، و ذكر اللغويون الإستعجال كواحد من معاني البسور يقال : بسر الغريم اي تقاضاه قبل الأجل ، و بسر الدمل : عصره قبل نضجه ، و بسر الفحل الناقة قبل الضبعة اي قبل ان تطلب اللقاح (5) ، فكان الباسر في وجه احد يستعجل به الأذى و الشر ، و بذلك قال الراغب في مفرداته (6) .

و قد تعبر عن العبوس و البسور المفردات و التصرفات التي تصدر عن الانسان بقلمه و فيه و مواقفه ، فالطاغوت قد يعبر عن عبوسه و بسوره وجهه ، و قد تظهر في قمعه(1) نهج البلاغة / حكمة 26 / ص 472 .

(2) تفسير القمي / ج 2 / ص 394 بتصرف .

(3) الدر المنثور / ج 6 / ص 283 .

(4) فقه اللغة للثعالبي / ص 140 .

(5) البصائر / ج 50 / ص 280 و الى مثله ذهب صاحب المنجد .

(6) مفردات الراغب مادة بسر .


الجنوني للمعارضة و الجماهير ، و ما يقصه القرآن الكريم عن الوليد بن المغيرة ليس الا شاهدا على طبيعة الموقف الذي يتخذه المترفون في كل مكان و زمان ضد الدعوات الاصلاحية ، فإنهم باعتبارهم بؤرة الفساد في المجتمع أول المتضررين بهذا التغيير ، و لهذا يكونون طليعة المعارضة للحق .

[ ثم ادبرو استكبر ]

بلى . انه فكر في الموقف من الرسالة ، كان يريد الوصول الى افضل طريقة للمعارضة و التضليل .. بل و تبرير كفره أمام عقله و ضميره ، و لكنه كلما أعمل فكره و نظره كلما تجلت له الحقيقة و عاد بصره خاسئا وهو حسير ، و كان من المفروض ان يقبل على الايمان بالحق ،و يتواضع له عن مراتب النفور و الاستكبار و الاعتزاز بالاثم ، الا انه أصر على الكفر من لحظته الاولى فازداد إدبارا ، و حيث اختار موقف الكفر فكر مرة أخرى لتبرير موقفه من الحق المبين ، فما وجد تهمة أصلح - في نظره - من قذف الرسالة بالسحر .

[ فقال ان هذا الا سحر يؤثر ]

و لكلمة " يؤثر " هنا معنيان ربما أرادهما السياق معا :

الاول : ينقل عن الآخرين ، و قد اتفق أكثر المفسرين عليه ، أي يؤثره عن غيره من القوى القادرة عليه كالسحرة و الشياطين ، من قولهم : اثرت الحديث اثره أثرا اذا حدثت به عن قوم في آثارهم ، و منه قولهم : حديث مأثور عن فلان .

الثاني : تميل الى النفوس و تفضله على غيره ، قال في المجمع : و قيل هو منالإيثار ، أي سحر تؤثره النفوس ، و تختاره لحلاوته فيها (1) ، و بذلك سعى الطاغية للتقليل من شأن أمرين مهمين : أحدهما : معجزة القرآن العظيمة بظاهره و محتواه و الآخر : ظاهرة الاستجابة للرسالة الجديدة و الدخول في دين الرسول ، و من ثم كان الوليد - كما هو حال أي طاغية و مترف - يسعى لتحقيق عدة أهداف خبيثة من وراء هذه الشائعة الضالة :

1 - تبرير هزيمتهم في الصراع المبدئي و الحضاري مع الاسلام بقيمه و قيادته و حزبه .

2 - تضليل الناس عن الحق و وضع حد لزحفهم باتجاه الدخول في الدين الجديد .

و قد جعل تهمة القرآن بالسحر مدخلا اليه لحل عقدة تواجه كل من يحارب الذكر الحكيم ، الا و هي ان آثار الحكمة و العلم الالهية واضحة في آياته . و انها لتهدي كل ذي لب منصف الى كونها متنزلة من عند رب العزة ، و باعتراف الوليد نفسه حينما قال : سمعت منه - يعني الرسول ( ص ) - كلاما صعبا تقشعر منه الجلود .. لا خطب و لا شعر ، فمستحيل إذن ان ينسبه الى المخلوقين من دون مقدمة ، فالمسافة بينه و بين كلام المخلقوقين لا تحد و فضله عليه لا يوصف ، و هو كفضل الله على سائر خلقه .. و من هذه المقدمة انطلق الى ما أراد قوله بالضبط .

[ ان هذا الا قول البشر ]

فمتى ما أوصل هذه القناعة الى أذهان الناس تقدم خطوات أساسية في الصراع ضد الرسالة الربانية في زعمه ، و من أجل هذا الهدف جند طاقاته .. ففكر و قدر ..


(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 388 .


انه يستطيع الى ذلك سبيلا ، و غاب عنه ان معجزة القرآن أعظم من ان يحجب نورها تقدير الإنس و الجن لو تظاهروا ، فكيف بجاهل سفيه كالوليد بن المغيرة ؟ ! " فقتل كيف قدر " ؟ !

من هنا فشلت كل جهوده و مساعيه الرامية الى تضليل الناس عن الحق و حجبهم عن نوره ، بل و حكم على نفسه بتفكيره و تقديره الخاطئين بالخسارة و باللعنة التي خلدها القرآن في الاجيال بعد الاجيال في الدنيا ، و جر نفسه الى الهلاك و العذاب المهين في الآخرة ،و أعظم منه غضب الله الذي توعده بسقر فقال :

[ سأصليه سقر ]

قال في التبيان : أي الزمه جهنم ، و الاصطلاء الزام موضع النار .. و أصله اللزوم (1) ، و صلى الكفار بالنار جعلها أكثر و أشد مساسا بهم ، قال الامام الصادق ( ع ) : " ان في جهنم لواديا للمتكبرين يقال له سقر ، شكا الى الله عز وجل حره ، و سأله أن يأذن له ان يتنفس فتنفس فأحرق جهنم " (2) ، و عن أبن عباس قال : سقر أسفل الجحيم ، نار فيها شجرة الزقوم (3) ، و إنها من رهبتها و ما تتميز به من الصفات لا يستطيع بشر ان يتصور مداها و يعي حقيقتها .

[ و ما أدراك ما سقر ]

و في هذه الصيغة استثارة للانسان نحو السعي الى المعرفة و لو بصورة إجمالية ، و القرآن يبين بعض صفات سقر فيقول :

[ لا تبقى و لا تذر ]


(1) التبيان / ج 10 / ص 180 .

(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 457 .

(3) الدر المنثور / ج 6 / ص 283 .


قيل : لا تبقيهم أحياء فهي تميتهم ، و لا تترك لأبدانهم أثرا فهي لا تذرهم ، أي ان لها أثرين : الاول على الروح ، و الآخر على الجسم ، و قيل : ان الكلمتين مترادفين في المعنى مختلفين في الدرجة و الأثر ، و ذكرهما معا يفيد المبالغة و التاكيد ، و قال في التبيان : قيل : لا تبقي أحدا من أهلها الا تناولته ، و لا تذره من العذاب (1) ، و في الميزان قال العلامة الطباطبائي : لا تبقي شيئا ممن نالته الا أحرقته ، و لا تدع أحدا ممن القي فيها الا نالته ، بخلاف نار الدنيا التي ربما تركت بعض ما القي فيها و لم تحرقه (2) ، و عن مجاهد قال : لا تحيي و لا تميت (3) ، و استدل صاحب الميزان على هذا الرأي بقوله تعالى : " الذي يصلى النار الكبرى * ثم لا يموت فيها و لا يحيى " (4) ، و الأقرب عندي ان معنى " لا تبقى " لا تدع أحدا من الناس الذين فيها باقيا بلتفنيهم جميعا ، و معنى " لا تذر " اي لا تذر شيئا من أي واحد منهم ، فالاول يشمل كل من فيها ، و الثاني يتسع لكل جزء ممن فيها ، و هو أعظم ، و هذه - فيما يبدو لي - صفة النار مع قطع النظر عن صفة جهنم التي يجدد الله فيها ما تحرقه النار ، فلا منافاةبينها و بين قوله سبحانه " لا يموت فيها و لا يحيى " اذ الحديث عن النار هنا جاء بقدر فهمنا لها و حسب مقاييسنا . و لعل من المعاني : ان سقر من حيث شدة العذاب و نوعيته لا تبقي من يلقى فيها ، و من حيث المدة و الملازمة فانها لا تترك أهلها أبدا ، وهذا يهدينا الى ان أهلها من الخالدين في العذاب ، فلا تترك سقر أهلها بل يبقون خالدين في العذاب ، لأن الإحتراق هناك ليس احتراقا عاديا و انما هو احتراق يشبه الإحتراق الذري الذي لا ينتهي ، و الله العالم .

و صفة أخرى لسقر هو تلويحها أهلها .


(1) التبيان / ج 10 / ص 180 .

(2) الميزان / ج 20 / ص 88 .

(3) الدر المنثور / ج 6 / ص 283 .

(4) الاعلى / 12 -13 .


[ لواحة للبشر ]

في المنجد : ألاح فلانا أهلكه (1) فهي المهلكة للبشر ، و يقال : لوح فلانا بالعصا و السيف و السوط و النعل : علاه بها و ضربه (2) ، و قيل : المعطشة ، تقول العرب : إبل لوحى ، و رجل ملواح أي سريع العطش ، و يقال لمن ضربته الشمس و غيرت لونه لوحته تلويحا ، وكأن سقر من حرارتها تغير جلود أهلها و وجوههم .

و حين يرد المجرمون وادي سقر يستقبلهم ملائكة غلاظ شداد .. هم مالك و ثمانية عشر ، أعينهم كالبرق الخاطف ، و أنيابهم كالصياصي ، يخرج لهب النار من أفواههم ، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة ، تسع كف أحدهم مثل ربيعة و مضر ، نزعت منهم الرحمة ، يرفع أحدهم سبعين ألفا فيرميهم حيث أراد من جهنم (3) .

[ عليها تسعة عشر ]

و تحتمل الآية معان عدة :

الأول : المعنى الظاهر وهو ان خزنة سقر هذه عدتهم ، و ليس ذلك بالقليل اذا كانت صفتهم كما ذكر صاحب المجمع ، بل انه تعالى قادر ان يجعل عليها واحدا يدير شؤونها و يعذب أهلها أشد أنواع العذاب .

الثاني : ان التسعة عشر خزنة وادي سقر فقط ، و لبقية أجزاء جهنم خزنة آخرون .

الثالث : ان العدد المذكور هم بمثابة القواد و المدراء ، و تحت إمرتهم مالا يدرك(1) المنجد مادة لوح .

(2) المصدر .

(3) مجمع البيان / ج 10 / ص 388 .


عددهم الا الله من الملائكة ، و الى هذا المعنى أشارة في قول الله : " وما يعلم جنود ربك الا هو " ، و الجهل بهذه الحقائق هو الذي دفع المشركين الى الاستهزاء ، و كفرهم بالغيب .. قال أبو جهل يوما : يا معشر قريش ! يزعم محمد ان جنود الله الذين يعذبونكم في النار تسعة عشر ، و أنتم أكثر الناس عددا ، أفيعجز مائة رجل منكم عن رجل منهم ؟ ! (1) ، و قال رجل من قريش يدعى أبا الأشد : يا معشر قريش ! لا يهولنكم التسعة عشر ، أنا ادفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة ، و بمنكبي الأيسر التسعة (2) فأنزل الله : " الآية 31 " .

[ وما جعلنا أصحاب النار الا ملائكة ]

إن الله يمتحن عباده بما يشاء ، و مما يمتحنهم به أمرهم بالإيمان بالغيب ، و كلما كان الغيب أشد غموضا كلما صعب الايمان به ، و كان أرفع درجة في القرب من الله ، و لذلك جاء في الحديث عن الامام الصادق ( ع ) : " انا صبر و شيعتنا أصبر منا " ( قالالراوي ) قلت : جعلت فداك ! كيف صار شيعتكم أصبر منكم ؟ ! قال : " لأنا نصبر على ما نعلم ، و شيعتنا يصبرون على ما لا يعلمون " (3) ، ولقد جعل الله الايمان بالغيب ركنا أساسيا في الشخصية الإيمانية ، و من هذا المنطلق أخفى كثيرا من الحقائق كالموت والبرزخ و الآخرة ، فإما الكفار و المشركون و الذين في قلوبهم مرض فان الغيب يزيدهم فتنة و نفورا ، ليس لانه لا واقعية له ، فالآيات الهادية اليه كثيرة ، و إنمالأان الإيمان به درجة رفيعة من العلم و الإيمان ، لا يصل إليها إلا عباد الله المتميزون المتقون " الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة " (4) ، و سبيل المؤمنين الى اليقين بالغيب أمران :


(1) اسباب النزول للسيوطي / ص 224 .

(2) المصدر اخرجه السدي .

(3) موسوعة بحار الانوار / ج 71 / ص 80 .

(4) البقرة / 3 .


أحدهما : الآيات و الحجج الهادية اليه ، فمن آثار الحكمة و العلم و النظام المتجلية في الكون يهتدون الى الايمان بربهم ، و من شواهد سنة الجزاء في التاريخ و الواقع يؤمنون بالجزاء الأعظم في الآخرة ، فهم لا ينتظرون ان تلامس جلودهم النار ، و تبصر أعينهمالملائكة ، و يقعون في قبضة الموت حتى يؤمنوا بكل ذلك ، إنما يكتفون بظهور الإيات و الحجج .. و هذه من أهم الخصائص التي تميز العاقل عمن سواه .

الثاني : إيمانهم بالله عز وجل كما وصف نفسه و تجلى في كتابه و خلقه بأسمائه الحسنى ، فهم يؤمنون بالله القادر ، القاهر ، العليم ، الرحمن الرحيم و .. و .. إيمانا قائما على اليقين و المعرفة . و متى ما بلغ الانسان هذه الغاية صار مسلما بكل الحقائق الغيبية ، فلا يشك في الجنة و النار و ما فيهما من النعيم و العذاب ، لأن الله الذي وعدنا بهما مطلق القدرة لا يعجزه شيء أبدا ، و لا يدخل في نفق الجدال و الشك في عدد أصحاب النار و صفاتهم ، بل يسلم بما يسمعه عن الله تسليما مطلقا . و لان الكفار و المشركين و مرضىالقلوب لم يبلغوا هذه الغاية الأساسية صاروا الى الشك في حقائق الغيب ، بل في حقائق الشهود ايضا ، فاذا بواحدهم يشك في أصل وجوده ، كما فعل السوفسطائيون !

ان المؤمن ليس مسلما لله بفعله و قوله فقط ، بل هو مسلم بعقله و علمه ايضا ، ففي سلوكه و مواقفه لا يخالف الحق ، و في داخله لا يثير أدنى تساؤل شكي حول آيات ربه .. و هذه من أهم مرتكزات الإيمان و الاسلام ، كما قال الله : " فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما " (1) .. بلى . قد لا ندرك خلفيات بعض الأحكام الالهية ، و قد لا نستوعب بصورة تامة بعض الحقائق ، و لكن ذلك ليس مبررا للكفر بها ابدا في منطق الاسلام و لا عند العقلاء ، و هذه قيمةعلمية مسلمة و من صفات الراسخين في


(1) النساء / 65 .


العلم ، قال تعالى : " هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و آخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله الا الله و الراسخون في العلم يقولون آمنا بل كل من عند ربنا و ما يذكر الا أولوا الألباب " (1) ، فالراسخون في العلم - غير أهل البيت - قد لا يدركون تأويل بعض الآيات و لكنهم لا يكفرون بها ، فلذلك ليس من منطق العقلاء و أصحاب الألباب ، و الا لكان الكفر بالله أولى من كل شيء لاننا قاصرون عن إدراك كنهه و معرفة ذاته!

ان في قلوب الكفار و المشركين لمرضا عضالا هو كفرهم بالله ، و ذلك الكفر الذي تأباه عقولهم و فطرتهم ومن ثم اتباعهم الباطل بصورة مفضوحة ، و لذا فانهم يبحثون دائما عما يبرر لهم هذا الموقف ، فاذا بهم يختلفون في عدد الملائكة و الوانهم و أشكالهم ، بدل ان يسلموا لآيات الذكر الحكيم . و ماذا ينفعهم الاطلاع على ذلك ؟ هل ينجيهم من عذاب النار ؟ كلا ..

[ و ما جعلنا عدتهم الا فتنة للذين كفروا ]

فهي من جهة تزيدهم ضلالا و نفورا ، و من جهة أخرى تظهر حقيقة معدنهم و شخصيتهم ، كما تظهر النار طبيعة المعدن ذهبا و غيره ، بينما ترفع هذه الآية و ما تبينه من حقيقة المؤمنين درجة رفيعة في الإيمان .. حيث اليقين و التسليم بآيات الله و وعوده .

[ ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ]

قيل هم اليهود و النصارى ، و سبب استيقانهم أنه مذكور في كتابهم ( التوراة(1) آل عمران / 7 .


و الانجيل ( ان هذه عدة ملائكة سقر ، و حيث يبينها القرآن فذلك يدعوهم لليقين بأنه من عند الله ، و الأقرب حمل المعنى على أنهم العلماء الذين حملوا رسالة الله ، او الذين أعطوا الكتاب ، و الكتاب هنا كناية عن العلم الذي يسطر فيه . و إنما يستيقنون لان ما تطرحه الآية تكشف لهم عن حقيقة جديدة من الغيب تزيدهم إيمانا باعتبار كل حقيقة من الغيب يؤمنون بها يرتفعون بها درجة في معراج اليقين .

[ و يزداد الذين آمنوا ايمانا ]

لان المؤمن كلما اطلع على شيء من الغيب كلما تكاملت معرفته به ، و لا ريب ان هذه المعرفة تعكس أثرها الروحي في شخصيته ، فيزداد خوفا من ربه ، و إيمانا به ، و عملا بأحكامه و شرائعه .

[ و لا يرتاب الذين اوتوا الكتاب و المؤمنون ]

أي يصلون الى مرتبة من الإيمان لا شك معها ، و هذه من الدرجات الرفيعة ، لان القليل من المؤمنين هم الذين يستطيعون تطهير قلوبهم من رواسب الشك و التردد . و اذا بلغ أحد ذلك فانه يتجاوز كل ابتلاء و فتنة لان " الشكوك و الظنون لواقح الفتن ، و مكدرة لصفو المنائح و المنن " كما قال الامام زين العابدين ( ع ) (1) .

[ و ليقول الذين في قلوبهم مرض ]

يعني المنافقين و ضعاف الايمان ، الذين يخالط إيمانهم الشك و الريب و الشرك .

[ و الكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا ]

و بكلمة : إن الحكمة من وراء ذكر عدة التسعة عشر ابتلاء الناس ليعلم من(1) الصحيفة السجادية / مناجاة المطيعين .


يؤمن بالغيب فيزداد درجة في إيمانه حتى يبلغ مستوى اليقين الذي لا ريب معه ، و ليعلم المنافق و الكافر بالغيب فيزداد شك و ضلالا . و هكذا نجد هذه الحكمة في سائر شرائع الدين .

و إشارة القرآن لسؤال الكافرين و مرضى القلوب : " ماذا أراد الله بهذا مثلا " يكشف عن جهلهم و مدى ضلالهم و طريقتهم الاستهزائية بالآيات ، فان هدفهم من وراء ذلك ليس البحث عن الحق ، بل هو مجرد السؤال كطريق للهروب من مسؤولية الإيمان ، و تشكيك أنفسهم و المؤمنين في الحق .. فهم لا يعلمون الغيب حينما راحوا يشككون في صحة قول الله عن عدة أصحاب النار ، و لا يستطيعون انكار ذلك اذ لا دليل عندهم على خلافه .. و لذلك تساءلوا عن الخلفيات لهذه الحقيقة . و لو أجابهم القرآن ببيان سر هذا العدد لا ختلقوا سؤالا آخرا ، و هكذا .

[ كذلك يضل الله من يشاء و يهدى من يشاء ]

أي ان ما طرحته الآيات هو مثل حي للضلال و الهداية ، فالحقيقة التي بينها الله في كتابه واحدة ، و المعطيات لدى الفريقين و من بينها العقل و الإرادة واحدة ، الا ان الموقف مختلف تماما ، و هذه الصورة العملية للموقفين تكشف عن ان الهدى و الضلالة و ان كانا بيد الله الا ان العامل الرئيسي فيهما هو الانسان نفسه .. بإرادته و اختياره ، و ليس كما يزعم الجبرية أبدا .

[ و ما يعلم جنود ربك الا هو ]

لانهم غيب مستور ، و لانهم من الكثرة بحيث لا يستطيع عدهم أحد ، فكيف و ربنا يخلق كل لحظة من ملائكته ما لا يحصيه الا هو سبحانه و تعالى ؟ ! ففي الاخبار ان لكل قطرة غيث تنزل من السماء الى الارض ملكا موكلا بها ، و أنه عزو جل خلق ملكا إسمه الروح له ألف رأس في كل رأس ألف لسان و كل لسان ينطق بألف لغة يسبح الله تعالى ، فيخلق الله بكل تسبيحة من تسبيحاته ملكا يسبح الله الى يوم القيامة ، أي أنه يخلق عند كل تسبيحة واحدة مليارد ملك ( سبحان الله ) .

[ وما هي الا ذكرى للبشر ]

قيل : ان الضمير عائد الى سقر ، و قيل : عائد الى عدة الملائكة ، و كلاهما صحيحان لان الحقيقة واحدة ، فكلاهما ذكرى للناس و متصلان بموضوع الجزاء و العذاب . فالمهم اذا أن يتذكر الإنسان ربه و حقائق الغيب ، لا أن يجادل في القشور .. و قد حذرنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( ع ) من النار مبينا صفة واحد من خزنة جهنم فقال : " و اعلموا أنه ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار ، فارحموا نفوسكم ، فإنكم قد جربتموها في مصائب الدنيا . أفرأيتم جزع احدكم من الشوكة تصيبه ، و العثرة تدميه ، و الرمضاء تحرقه ؟ فكيف اذا كان بين طابقين من نار ، ضجيع حجره ، و قرين شيطانه ؟ ! اعلمتم ان مالكا اذا غضب على النار حطم بعضها بعضا لغضبه ، و اذا زجرها توثبت بين أبوابها جزعا من زجرته .. فالله الله معشر العباد ! و أنتم سالمون في الصحة قبل السقم ، و في الفسحة قبل الضيق ،فاسعوا في فكاك رقابكم من قبل أن تغلق رهائنها " (1) .


(1) نهج البلاغة / خ 183 / ص 267 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس