بينات من الآيات [ 1] في حياة المرء لحظات حاسمة لو وعاها و نظم مسيرته و فقها تجاوز خطرها ، و من أبرزها عند نزع الروح ، عندما يودع حياة طالما عمل لها ، و يدخل في حياة مجهولة تماما لديه ، و عندما يقسم القرآن بمثل هذه اللحظات فلكي نعيد النظر في تصوراتنا عن انفسنا ، ونكبح منها جماح الغرور و الطيش .
[ و النازعات غرفا ]
قسما بتلك القوى التي تنزع الارواح من ابداننا بقوة كما ينزع القوس فيغرق فيه حتى يبلغ غاية مداه .
و يبدو ان المراد منها الملائكة الذين يقومون بهذا الدور .
[ 2] ثم قسما بالقوى التي تنشط في هذا الأمر نشطا .
[ و الناشطات نشطا ]
قالوا : النشط هو الجذب بسهولة و يسر ، فالمعنى هنا ان الملائكة تنشط أرواح المؤمنين ، كما ينشط العقال من يد البعير اذا حل عنها . من هنا يعتقد ان القسمين هما بملك الموت و أعوانه في حالتين : عند نزع ارواح الكفار غرقا اي بقوة و شدة ، و عند نزع ارواح المؤمنين بنشط و رفق .
و قد روي عن الامام علي - عليه السلام - معنى معاكسا في هذه الآية حيثقال انها : " الملائكة تنشط ارواح الكفار بين الجلد و الاظفار حتى تخرجها من أجوافهم بالكرب و الغم " (1) .
[ 3] ثم تحمل الملائكة أرواح المؤمنين الى السماء فتسبح فيها سبحا .. كما تسبح النجوم في افلاكها .
[ و السابحات سبحا ]
[ 4] ثم تتسابق بسرعة لتبلغ غاية الروح النار او الجنة .. فقسما باولئك الكرام .
[ فالسابقات سبقا ]
[ 5] و قسما بأولئك الملائكة الذين يدبرون أمر الارواح و غيرها من أمور عالمنا باذن ربهم .
[ فالمدبرات أمرا ]
قسما بهم جميعا : ان يوم الفصل آت ، و ان الجزاء واقع لا ريب فيه .
كان هذا احد التفاسير في معنى هذه الآيات ، و هناك تفسيرات أخرى :
1 / ان المراد بالنازعات فانها تنزع من افق لآخر ، و تنشط في سيرها ، و تسبح في الفضاء ، و تساءلوا عن معنى تدبيرها الامر فقالوا معناه ان الله يدبر الأمر بها .
2 / ان النازعات هي الارواح التي تنزع كما يقال لابن و تأمر لمن يملك اللبن و التمر ، و هي ايضا التي تنشط اي تخرج ثم تسبحس في الفضاء ، و تساءلوا مرة اخرى عن تفسير المدبرات أمرا فقالوا : ان ارواح بني ادم تدبر عبر الاحلام لبعض الامور بعد(1) تفسير مجمع البيان / ج 10 / ص 429 .
فراقها من الدنيا ، و هذا تفسير غريب .
3 / و قال بعضهم : انها صفة خيل الغزاة او الغزاة انفسهم ، لانها تنزع في اعناقها نزعا تغرق فيه الأعنة لطول لانها عراب ، و هي ناشطات لانها تخرج من دار الامان الى جبهات الحرب ، و هي سابحات لان العرب تشبه الخيل الاصيل بالسفينة التي تجري بيسر و سرعة ، وقالوا : انها تدبر أمر الغلبة و النصر .
و ان هذا التفسير يبدو مقبولا اذا لاحظنا ان ربنا اقسم بخيل الغزاة او عموما بالخيل في قوله سبحانه : " و العاديات ضبحا ، فالموريات قدحا " (1) ، و كانت للعرب علاقة حميمة مع الخيل ، كما انه كان رمزا للشجاعة و الفروسية .
الا ان تفسير " المدبرات أمرا " بها يبقى غريبا ، لذلك قال بعضهم : انه لا خلاف في تفسير هذه الآية بالملائكة انى فسروا سائر الآيات ، بينما يبدو ان المراد بكل هذه الكلمات نوعا واحدا من الخلائق ، و الله العالم .
[ 6] و انى كان تفسير هذه الكلمات الصاعقة فانها تهز الضمير ، بل و يزداد المرء هلعا حين لا يعلم المراد منها بالضبط ، و هنا يقول الرب :
[ يوم ترجف الراجفة ]
حين تزلزل الارض زلزالها ، حين تعم الصيحة أرجاء الكون ، حين تهتز كل الثوابت فلا يبقى ما يعتمد عليه الانسان سوى الحق . و سواء كانت الرجفة بمعنى الحركة كقوله سبحانه : " يوم ترجف الارض و الجبال " ، ام بمعنى الصيحة كما قال سبحانه : " فاخذتهم الرجفة " ، فانها تخلع القلوب هلعا ، و تبعثنا نحو التفكير الجدي فيما يفعل بنا غدا .
(1) التفسير الكبير / ج 32 / ص 63 .
[ 7] و بعد الرجفة هناك صاعقة أخرى يدعها السياق مجهولة .
[ تتبعها الرادفة ]
الرادفة الشيء يقع بعد شيء آخر ، فهل هي الصيحة الثانية التي يحيى بها الله الناس بعد ان يميتهم بالاولى ، ام ان عند الاولى يموت أهل الارض بينما يموت عند الثانية أهل السماوات ؟ ! انى كانت فانها صاعقة فظيعة تبعث الهيبة في انفسنا .
[ 8 - 9] تتسارع نبضات قلوب الفجار فأنى لهم الفرار من أهوال الساعة و قد ضيعوا فرصهم في الدنيا فلم يدخروا لانفسهم ما ينجيهم منها ؟
[ قلوب يومئذ واجفة * ابصارها خاشعة ]
اما المؤمنون فانهم آمنون من فزع يومئذ ، لانهم قد و فروا لانفسهم من صالح الاعمال ما يبعث في انفسهم السكينة .
[ 10] طالما كفروا بالنشور ، و بنوا كل مواقفهم على أساس هذا الكفر ، فاذا بهم يكتشفون خطاهم .
[ يقولون أءنا لمردودون في الحافرة ]
قالوا : رجع فلان في حافرته اي في طريقته التي جاء فيها فحفرها اي اثر فيها بمشيه . و هكذا يبعدون البعث لانفسهم حتى لا يتحملوا مسؤولياته .
[ 11] و يحاولون تبرير استعبادهم للبعث بانه كيف يمكن اعادة هذه الاعظم البالية التي تنخر فيها الرياح لما فيها من ثقوب كثيرة .
[ أءذا كنا عظاما نخرة ]
حكي عن كتاب الخليل : نخرت الخشبة اذا بليت فاسترخت حتى تفتت اذا مست ، و كذلك العظم الناخر (1) و قيل : الناخرة من العظم ما فرغت و خرج منها صوت بسبب هبوب الرياح .
[ 12] ثم عادوا الى الواقع و قيموا موقفهم الجاحد فقالوا اذا كانت القيامة حقا فانهم الخاسرون لكفرهم بها .
[ قالوا تلك اذا كرة خاسرة ]
و لعل هذا القول كان اعترافا منهم يدانون به يوم القيامة ، او جحودا بعد اليقين و عنادا بعد الاذعان . و قيل : انما هو استهزاء و سخرية .
[ 13] دعهم يقولوا ما يشاؤون فان القيامة واقعة ، و بزجرة واحدة تراهم قياما في الساهرة .
[ فانما هي زجرة واحدة ]
زجر البعير اذا صاح عليه ، و يبدو ان المراد منها النفخة الثانية التي يحيي بها الله من في القبور .
[ 14] [ فاذا هم بالساهرة ]
الساهرة الارض المستوية سميت بذلك لان سالكها لا ينام فيها خوفا منها .
و يبدو ان الساهرة هي وجه الارض في مقابل باطنها حيث انهم كانوا في باطن الارض فتحولوا الى ظاهرها .
(1) تفسير الجامع لاحكام القرآن / ج 19 / ص 198 .
[ 15] حقيقة كيوم القيامة ، عندما تدق ساعة الحساب الرهيب ، جديرة بان نتذكرها ، بل نجعلها نصب اعيننا ابدا حتى نكيف على أساسها كل ابعاد سلوكنا و كل جوانب تفكيرنا ، و من اجل هذا بعث الله الرسل لكي ينذروا الطغاة لعلهم يخشون من تلك العاقبة ، و لكنهم تمادوا في غيهم حتى أهلكهم الله و عجل بهم الله النار ، فهل لنا ان نعتبر بتاريخهم المأساوي ؟
[ هل أتاك حديث موسى ]
بلى . و لكن هل اعتبرت بهذا الحديث ؟ فان لم تكن اعتبرت به فكانك لم تسمعه ابدا .
[ 16] لقد بدات قصته بدعاء ربه ، عندما صار في الواد المقدس طوى .
[ اذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ]
لقد تقدست تلك الارض بالوحي . و لعل اسمها كان طوى او ان هذه صفة الارض من الطي كانها طويت بالقداسة او طويت بموسى حيث قربته الى الرسالة . و لعل طوى صفة لكل ارض مباركة حيث ان سالكها يتمتع بالسير فيها حتى و كانها تطوى له .
[ 17] ثم أمره الرب بان يذهب الى رأس الطغيان و الفساد فرعون .
[ اذهب الى فرعون انه طغى ]
و بالرغم من طغيانه لم يدعه الله بلا نذر ، و لم يهلكه قبل ان يبعث اليه رسولا ، ليتم الحجة عليه .
[ 18] و تلخصت رسالة الوحي اليه في دعوته الى التزكية و اصلاح نفسه ، و عدم هلاكها بالاستمرار في الطغيان . سبحانك يا رب ما ارحمك بعبادك ، و كيف تريد لهم الفلاح و يأبون الا التمادي في الفساد .
[ فقل هل لك الى ان تزكى ]
[ 19] فاذا تزكى المرء ، و تطهر من العناد و الغرور و الكبر ، كانت نفسه مهيأة لاستقبال نور الايمان عبر رسول الله ، فاذا هداه الله اليه بالرسول خشعت نفسه و تخلص جذريا من حالة الطغيان .
[ و أهديك الى ربك فتخشى ]
[ 20] و طالب فرعون موسى بالآية ، لعله يتهرب عن الهداية عندما لا يأتيه بها لحكمة بالغة ، ولكن الله اظهر له الآية على يد نبيه اتماما لحجته .
[ فأراه الاية الكبرى ]
متمثلة في العصا و اليد البيضاء .
[ 21] و اذا نزلت الآية الواضحة ثم كفر المرء فان العقوبة تعجل له ، لان الكفر انْئذ يكون تحديا صارخا لسلطان الرب ، و لعله يكون ايضا سببا لضلالة سائر الناس ، و هكذا تتابعت حلقات النهاية .
[ فكذب و عصى ]
كذب بالآية ، و عصى الرب تعالى حين عصى موسى نبيه عليه السلام .
[ 22] و تمادى في التكذيب و العصيان حين راح يسعى في الارض فسادا .
[ ثم ادبر يسعى ]
[ 23] و اخذ يضلل الناس ، و يجند الضالين ضد رسالة الله .
[ فحشر فنادى ]
اي جمع الناس و نادى فيهم بضلالاته .
[ 24] و أعظم تلك الضلالات دعوته بانه الرب الاعلى ، و استكباره في الارض ، و فرض قانونه الوضعي على الناس في مقابل شريعة الله سبحانه .
روي عن ابي جعفر ( الباقر ) عليه السلام انه قال : " قال جبرئيل - عليه السلام - : نازلت ربي في فرعون منازلة شديدة فقلت : يا رب تدعه و قد قال : انا ربكم الاعلى ؟ ! فقال : انما يقول هذا عبد مثلك " (1) ، و في رواية أخرى قال ربنا : " انمايقول هذا مثلك من يخاف الفوت " (2) .
[ فقال انا ربكم الاعلى ]
جاء عن ابن عباس ان جبرئيل قال لرسول الله - صلى الله عليه وآله - : " يا محمد لو رايتني و فرعون يدعو بكلمة الاخلاص : " آمنت انه لا اله الا الذي آمنت به بنو اسرائيل و انا من المسلمين " و انا أرسه في الماء و الطين لشدة غضبي عليه مخافة انيتوب فيتوب الله عز وجل عليه ! قال رسول الله : ما كان شدة غضبك عليه يا جبرئيل ؟ قال : لقوله " انا ربكم الاعلى " ، و هي كلمته الأخرى منهما قالها حين انتهى الى البحر و كلمته الاولى : " ما علمت لكم من إله غيري "(1) تفسير نور الثقلين / ج 5 / ص 500 .
(2) المصدر .
فكان بين لأاولى و الآخرة أربعون سنة ، و انما قال ذلك لقومه " انا ربكم الأعلى " حين انتهى الى البحر فرأه قد يبست فيه الطريق فقال لقومه : ترون البحر قد يبس من فرقي ، فصدقوه لما راوا ، و ذلك قوله عز وجل : " و اضل فرعون قومه و ما هدى "(1) .
[ 25 ] و جاءت النهاية المريعة حيث أخذه الله أخذا و بيلا ، و الزمه عذاب الدنيا فالاخرة .
[ فأخذه الله نكال الآخرة و الأولى ]
قالوا : النكال من النكل و أصله الامتناع ، و منه النكول عن اليمين ، و النكل : القيد ، و معناه هنا : العاقبة السيئة للعمل و التي تبقى عبره لمن بعده ، لان النكال اسم لما جعل نكالا للغير اي عقوبة له حتى يعتبر به . ثم قالوا : انه بمعنى أخذه الله أخذا وبيلا فجعل النكال محل " أخذ و بيلا " ، و هذا كثير في العربية حيث يوضع مصدر آخر قريب من مصدر الكلمة محل مصدرها ، وقال بعضهم : إنه بمعنى : أخذه بنكال الآخرة و الأولى . و يبقى السؤال : ما هو معنى نكال الآخرة ؟ يبدو لي ان معناه نكالا ( اي عقوبةعلى عمل سيء ) يوجد في الحياة لآاخرة ، و عقوبة وجدت في الحياة الدنيا .
[ 26] و هذا النكال - عاقبة العمل السيء و جزاؤه - بقي عبرة لكل معتبر ، فمن هو المعتبر ؟ الذي يخشى ، و لا يخشى الا من أهتدى ، و لا يهتدي الا من تزكى .
[ ان في ذلك لعبرة لمن يخشى ]
(1) المصدر .
|