بينات من الآيات
كيف نتصرف في مال اليتيم ؟
[152] من الميزات الهامة في التشريعات القرآنية هي الواقعية ، فتأتي واجبات و محرمات القرآن مطابقة لانحرافات الواقع الخارجي و مركزة عليها . مثلا : في باب الاقتصاد لا يكتفي القرآن ببيان حق الملكية الخاصة ، و حرمة الاعتداء على أموال النـاس ، بل ويهتم أبدا بتلك الحلقات الاكثر عرضة للاعتداء ، فيركز حديثه عليها ، ولذا يتوقف المجتمع عن الاعتداء في الحلقات الأكثر عرضة للاعتداء و يسرا ، فأنه بالطبع لا يعتدي على غيره ، و من هنا ذكر القرآن الحكيم هنا مال اليتيم ، و النقص في المكيال و الميزان ، أما مال اليتيم فلأن صاحبه ضعيف لا يقدر على المطالبة به ، و لانه أيسر وأقرب للضياع ، و اما النقص في المكيال فلأنه أسلوب شائع و بعيد عن ملاحقة القانون لان من الصعب التعرف عليه .
[ و لا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن ]
اي من اجل تنميته ، أو المحافظة عليه ، و إلا فلا يجوز أساس وضع اليد على مال اليتيم لانه لا يعرف رضا صاحبه بذلك .
[ حتى يبلغ أشده ]
فاذا بلغ أشده ، و بلغ سن الكمال و كان رشيدا فلابد ان تعاد اليه أمواله ، و لا يجوز حتى التصرف بالتي هي أحسن فيها ، كما جاء في آية أخرى .
" و ابتلوا اليتامى حتى اذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا اليهمأموالهم و لا تأكلوها اسرافا و بدارا ان يكبروا " (1)وقد يكون بلوغ النكاح وحده نهاية السماح بالتصرف في أموال اليتيم لانه بعد ذلك سيصبح سفيها ، و مسؤول عن أموال السفهاء من جهة اخرى .
[ وأوفوا الكيل و الميزان بالقسط ]
فيحرم الغش في المكيال لانه نوع خفي للاعتداء على ثروة المجتمع ، و علاقة شركية و ليست توحيدية بين أبناء المجتمع ، و الوفاء بالكيل واحد من مصاديق احترام حقوق الآخرين أشار اليه القرآن لمعرفة سائر المصاديق مثل الغش و الغبن و مماطلة المدينين ، و استعجالالدائن .
في المجتمع الاسلامي الذي تسود علاقاته نظرة توحيدية لا يقتصر الفرد في النظر الى نفسه ، بل الى الآخرين أيضا ، و يرى ان بلوغ الآخرين الى مآربهم جزء من أهدافه ، بل هو طريق لبلوغه هو الى مآربه .
[ لا نكلف نفسا الا وسعها ]
الوفاء بالكيل و عدم بخس الميزان لا يعني ضرورة الدقة العقلية في ذلك مما يصعب عملية التبادل التجاري ، بل يعني أن يكون هدف الفرد القسط ، و لا يعتمد التجاوز على حقوق الآخرين ، و من هنا جاء في الآية الكريمة : أن الله لا يكلف نفسا الا وسعها . أي حسب استطاعتها دون حرج أو عسر ، ذلك لأن المجتمع المسلم تنتشر فيه روح المسامحة و الاحسان الى جانب الالتزام بالحقوق .
المسؤولية الاجتماعية :
و حين يلتزم سائر الافراد بالحقوق تنتهي المشكلة ، و لكن اذا تعاسروا و اختلفوا(1) النساء / 6
فان ابناء المجتمع يجب أن يصبحوا قضاة عدولا ، و لا يحكموا ضد أو مع هذا و ذاك ، من دون دليل ثابت حتى ولو كان الشخص من اعدائي أو من اقاربي . لابد ان يكون كلامي عدلا .
[ و اذا قلتم فاعدلوا و لو كان ذا قربى ]
و اذا امتلك المجتمع روحا قضائية عادلة حكم ابناؤه لصاحب الحق و ضد الظالم أنـى كان ، فانه يصبح ذا مناعة كافية عن انتشار الظلم فيه ، و عن نمو الجريمة ، اذ أن الظالم لا يبدء ظلمه بظلم كبير ، و كذلك المجرم لا يقترف جرائم كبيرة مرة واحدة ، انما يتدرج نحوها شيئا فشيئا ، فاذا ظلم الشخص مرة فعارضه أقرب رفاقه و أقاربه فسوف ينسحب لصالح المظلوم ، يتأدب ، و يتخذ لمستقبله درسا لا ينساه ، و كذلك المجرم لو قام في البدء بجريمة صغيرة في محيط معارض له فسوف يتوقف عن الاستمرار في الجريمة .
[ و بعهد الله أوفوا ]
هناك صلات طبيعية بين أبناء المجتمع كصلة الآباء بالأبناء ، وقد سبق الحديث عنهــا فـي الدرس السابق ، و هناك صلات حضارية أساسها التعاون على الخير ، و المصالح المشتركة و قد تحدث عنها القرآن في هذا الدرس ، بيد أن شرط بقاء هذه الصلات هو تحكيم النظرة التوحيدية في العلاقات ، و ذكرها الله سبحانه متمثلا في حرمة الحقوق ، و عدالة القضاء ، والآن ذكر الله سبحانه العهد باعتباره الحبل المتين الذي يشد المجتمع ببعضه ، و من دون تقديسه و احترامه لا يثق المجتمع ببعضه ، فيختل التعاون ، بل يستحيل التعاون ، اذ لا يمكن أن تعوض القوانين المستوردة و الضابط الالكتروني بالعهد ، حيث أن البشر قادر على تجاوزها و الالتفاف حولها ، و لكنه لا يستطيع تجاوز ضميره ، و الالتفاف حول وجدانه .
وقد جعل الله العهد بين الناس وثيقة بينه وبينهم مباشرة فسماه عهد الله حتى يعطيه الضمانة الايمانية لاجرائه .
ان هذه وصايا ربنا الاجتماعية التي لو امعنا فيها النظر لرأينا أنها حقائق واضحة كنا غافلين عنها ، فذكرنا ربنا بها :
[ ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ]
الخطوط السياسية في المجتمع :
[153] في الآيات السابقة بين الله ضرورات بناء المجتمع المتكامل ، و علاقاته الداخلية بينما في هذه الآية يبين الله وجهة هذا المجتمع العام ، و تياراته السياسية و علاقاته العامة ، فيأمر الله المسلمين باتباع الصراط المستقيم الذي لا ينحرف مع ظروف سياسيةمتغيرة .
[ وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ]الجماعة السياسية تعيش كما الفرد في المجتمع بين تيارات مختلفة منشؤها سائر المجموعات السياسية المجاورة لنا ، و كما على الفرد ان يلتزم خط الاستقامة بين افراد المجتمع كذلك المجموعة السياسية يجب أن تلتزم بالحق بين سائر المجموعات .
[ ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ]
وحيث يكون الخط السياسي العام خطا صحيحا يكون من السهل على أبناء هذا المجتمع الالتزام بالواجبات الشرعية و التقوى عن المحرمات ، بينما لو لم يكن الخط العام كذلك فان مساعي الافراد في الالتزام بالخط الاسلامي تكون قليلة الجدوى .
|