فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات


الادارة الحكيمة و القدرة المهيمنة :

[57] القرآن الحكيم يلفت نظر البشر الى الطبيعة الزاخرة بالحيوية و الجيشان ، و إنطلاقا من الحقائق الظاهرة المشهورة يبلغوا الحقائق الغيبية المعقولة .

الحقيقة المشهورة هي أن الرياح التي تبشر بالمواسم الخيرة و تحمل السحاب الثقال ، فيسوقها الله الى البلد الميت لينزل منها الماء و يخرج به الثمرات ، هذه الحقيقة المشهورة تكشف لنا أمرين :

الأول : أن وراء الطبيعة إرادة حكيمة تسيرها .


الثاني : أن تلك القدرة المهيمنة على الكون هي التي تخرج الموتى من الأرض و تبعثهم للحساب .

[ و هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ]

فالرياح لا تأتي عفويا ، بل يرسلها الله إرسالا ، و الدليل هو هدفية الظواهر ، فالرياح تهدف البشارة برحمة قادمة ، و البشارة هدف لا يمكن تحقيقه عبثا ، و من دون خطة حكيمة و فعل منظم .

[ حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات ]إن كل ذلك يتم بارادة الله و حسن تدبيره ، و لو لا ذلك لم تكن الصدفة قادرة على تحقيق هذه الأهداف ، إذ أن الهدف هو البشارة بالرحمة ، و إحياء البلد الميت ، و إخـــراج الثمرات ، و لا يمكن تحقيق ذلك بمجرد تحرك السحاب ، بل بمجموعة عوامل متفاعلة و متزامنةكأن تكون الأرض مستعدة ، و الطقس مناسبا ، و الأمن مستتبا ، و أن يكون مقدار المطر كافيا ، غير ناقص ولا زائد عن الحد ، و هكذا حتى يحيي الأرض و يخرج النبات ، و ذلك يدل على أن هناك هدفا وراء السحاب يجريه الله سبحانه بعلمه و قدرته .

و إذا تبصرنا قدرة الله في الطبيعة آمنا بأن هذه القدرة المطلقة الحكيمة هي التي تخرج الموتى للحساب ، فلا تبقى عقبة في طريق إيماننا بالبعث و النشور .

[ كذلك نخرج الموتى ]

و لكن لا يمكننا أن نفهم حقائق الكون من دون تذكر و تبصر و ربط للحقائق ببعضها .


[ لعلكم تذكرون ]

فالتذكر يربط الحقائق ، و يستنتج من خلاله المعلومات ، و يلقي بالمسؤوليات و الواجبات .


بين البصيرة و الاستنباط :

[58] حين يزود الانسان بسلاح البصيرة النافذة و يتذكر يستنبط الحقائق المختلفة ، أو بالاحرى الأبعاد المختلفة من الظاهرة الواحدة ، فمن ظاهرة السحاب و المطر و إحياء الأرض يتوصل إلى أن نبات الأرض مختلف بالرغم من أن الماء الذي ينزله الله على الأرض واحد ،مما يدل على أن استجابة الأرض للماء شرط أساسي لحياة الأرض ، كذلك استجابة البشر لرسالة الله شرط لانتفاعه بها .

[ و البلد الطيب يخرج نباته باذن ربه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا ]أي عسيرا و بخيلا .

[ كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون ]

فالذين لا يشكرون النعمة ولا يقدرونها حق قدرها لا ينتفعون بالآيات ، كما أن الأرض الخبيثة لا تنتفع بالمواسم الخيرة ، و في القصص التالية عبر كافية لهذه الحقيقة .


لماذا نوح بالذات ؟

[59] لأن الله رب العالمين و رب الانسان الذي يحب للبشرية التكامل و الرقي ، فقد أرسل نوحا الى قومه و لم يرسل غيره ، لأنه منهم و أثره في تطورهم أبلغ ، و لم يدع نوح قومه الى نفسه بل الى ربهم الله الذي لا إله غيره .


[ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ][60] أما الملأ الذين كانوا يستثمرون الجماهير و يتسلطون قهرا عليهم فقد قاوموا رسالة الله .

[ قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين ]

إنهم وقفوا عقبة أمام انتشار نور الهداية بين الناس ، فاتهموا نوحا بالضلالة ، و زعموا أنهم يرون ذلك رؤية ظاهرة .

[61] و نفى نوح وجود أي نوع من الضلالة عنده ، و بين لهم انه رسول ارسل اليهم من قبل الرب الذي ينزل بركاته على العالمين .

[ قال يا قوم ليس بي ضلالة و لكني رسول من رب العالمين ][62] و ينبغي أن يستجيب الجميع لنوح لعدة أسباب :

أولا : لانه مبلغ لرسالات الرب ، و من الطبيعي أن تكون تلك الرسالات ذات محتوى تكاملي للبشر ، لأنها صادرة من ربهم الذي يطورهم الى الأفضل .

ثانيا : لانه ناصح يعمل في سبيل رشدهم .

ثالثا و أخيرا : لأنه أعلم منهم ، و علمه مستلهم من الله ، و يرتبط بتعاليم الله و شرائعه .

[ أبلغكم رسالات ربي و أنصح لكم و أعلم من الله ما لا تعلمون ][63] و ليس بعيدا أن يبعث الله رسولا لعدة أسباب هي :


أولا : لان الله رب الناس الذي ينزل بركاته المادية المشهودة عليهم في كل لحظة .

ثانيا : لان البشر بحاجة الى تذكرة حتى يهتدوا و يكتملوا ، و الرب يوفر كلما يحتاج البشر إليه .

ثالثا : لان الله لا يعذب الناس حتى يبعث سلفا رسولا إليهم ، فينذرهم ، و يوفر لهم فرصة التقوى و الحذر من العذاب ، و لكي يوفرلهم بالتالي فرصة الرحمة و الرخاء و الحياة السعيدة .

[ أو عجبتم ]

ولا عجب مما تقتضيه سنن الحياة و فطرة البشر ، و من ذلك :

[ أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم و لتتقوا و لعلكم ترحمون ][64] و لكن مع كل ذلك البيان كذب قوم نوح برسالة الله ، و جاءت العاقبة المناسبة للمؤمنين حيث انجاهم الله ، و الكافرين أغرقهم الله لأنهم لم يستفيدوا من نعمة البصيرة .

[ فكذبوه فانجيناه و الذين معه في الفلك و اغرقنا الذين كذبوا بآياتنا انهم كانوا قوما عمين ]هكذا تتجلى صفة الربوبية في قصة نوح و قومه ، إن الله يبعث رسالته رحمة بالناس و تكميلا لنواقصهم ، بيد انهم يرفضون الانتفاع بها ، كما الارض الخبيثة لا تستجيب للسماء حين تبعث اليها السحاب الثقال .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس