بينات من الآيات
الغرور سبب الكفر :
[130] سبب كفر الانسان و تكذيبه بآيات الله هو استكباره و غروره ، و كلما كانت حضارة الانسان و مدنيته و غناه أكثر كلما كان غروره أكبر .
و لكي يكسر الله غرور البشر ، فيرتفع عنهم هذا الحجاب الكثيف فيرون الحقيقة ، فانه يبعث اليهم رسولا ينذرهم و يحذرهم ، ويعمل بكل طاقته في سبيل إثارة فطرتهم ، و تنوير قلوبهم ، و إيقاظهم من السبات ، و لكن إذا ظل أولئك كافرين و مستكبرين عن الحقيقة فهنايتخذ ربنا سبيلا اخر لهدايتهم هو : إبتلاؤهم في أموالهم أو في نفوسهم ببعض البلاء العام ، فاذا لم ينتفعوا بها أيضا أخذهم الله بالعذاب الشديد ، لذلك أخبر الله عن آل فرعون و قال :
[ و لقد أخذنا آل فرعون بالسنين ]
أي بالقحط و الجدب ، و كانوا قبل ذلك مغرورين بالأنهار التي تجري من تحتهم ، و بالنيل الذي فجر الله به خيرات الأرض لهم .
[ و نقص من الثمرات ]
كان المطر يملأ مراعيهم خضرة ، و يملأ نيلهم ماء فيسقي البساتين فتزداد الثمرات ، و لكن حين قل المطر أصبحت الصحاري جفافا و البساتين يابسة .
[ لعلهم يذكرون ]
فيعرفون أن هذه المدنية ليست من ذاتهم بل من الله سبحانه .
[131] البشر قد يغفل و قد ينام و قد يغمى عليه ، و لكنه بالمعالجة يتذكر و يستيقظ و يحس ، أما الذي فسدت رؤيته و انحرفت ثقافته فانه لا تنفع معه المعالجة ، فمثلا : البشر العادي حين تراه قد استغنى و لا يحتاج الى أحد يستبد به الغرور و الاستكبار ، و لكن إذا فقد سبب غروره و افتقر عادت نفسه الى حالته الأولية و تقبل الهداية .
أما البشر المعقد الذي تحضر و استبدت به ثقافة خاطئة ، و فقد فطرته الأولية ، فان تلك الثقافة تبقى معه حتى بعد رحيل النعم عنه ، و عودته الى الحالة الطبيعية ، فلا يزال مغرورا بذاته و بمنجزات آبائه و بمكاسبهم ، لذلك لا يصدق نفسه حتى أن نـــزل عليه البلاء ، بل ويزعم ان هذا البلاء انما سببه بعض الطوارئ الخارجة عن ارادته ، و انه إستثناء إذ يزعم أن الحضارة جزء من ذاته ، و معلولة عن عنصره و عن بلده و عن أفكاره ، لذك ترى قوم فرعون ينسبون الحسنة الى أنفسهم و السيئة الى موسى ( عليه السلام ) .
[ فاذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه و ان تصبهم سيئة يطيروا بموسى و من معه ]يقولون ان السيئة انما هي بسبب موسى ، كما تنسب الأنظمة الفاسدة اليوم المشاكل كلها الى الحركات الثورية ، حيث تزعم انها - دون فساد أنظمتهم -سبب التخلف الاقتصادي و التبعية و الارهاب وما أشبه .
[ الا إنما طائرهم عند الله و لكن أكثرهم لا يعلمون ]المشاكل ليست بسبب هذه الحركة أو تلك الفكرة ، و إنما بسب النظام ذاته و بسبب فساد الاعمال ، و الله هو الذي يقدر الخير و الشر ، و الحسنة و السيئة حسب قوانين دقيقة و ثابتة عند الله سبحانه ، يجريها ربنا بحكمته البالغة و بعلمه النافذ ، و معرفة هذه الحقيقة تعطي البشر قدرة على التحكم في الحياة .
التطرف في الكفر :
[132] و بلغ الكفر و الجحود بآل فرعون حدا بنوا بينهم و بين الحقيقة سدا منيعا من الجحود ، و تشبثوا بسلسلة من الأفكار المخدرة التي تفسر كل آيات الحقيقة و معالمها ببعض التفسيرات الباطلة .
[ و قالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين ]فموسى ( عليه السلام ) لا يزال عندهم ذلك الساحر العليم الذي يعــــرف كل وسائل السحر ، و هدفه ليس هداية البشر بل تسخير الناس لأهدافه الخاصة ، لذلك فهم مصرون على الكفر به ، و بآياته أنى كانت واضحة .
و هذه المرحلة السحيقة من الكفر هي أخطر دركات السقوط ، حيث يصنع الفرد لنفسه تابوتا من المسلمات الفكرية و يصمم على الاحتفاظ بها أنى كان الثمن ، إنه عين الضلالة و قمة التعصب الأحمق .
على الانسان أن يبقى أبدا مفتوح العين ، يقظ الضمير ، نابه الروح ، و لا يقتل وجدانه تحت مطرقة شهواته ، و لا يعمي عينه بمسامير بغضه و حقده ، ولا يميت ضميرهبحب أو بغض .
إن كثيرا منا يزعم انه اذا فتح عينه مرة واحدة ، و اتخذ طريقا لنفسه يستطيع أن يبقى على ذات الطريق الى الابد ، و يستغني عن عينه ، ولكن كلا .. إن عقل الفرد يتكامل ، و روحه تكبر حتى تتسع لمزيد من الحقائق ، و فكره ينمو ، و العالم يتغير ، و آيات الحقيقةتترى .. و لذلك فعلى الانسان أن يبقى أبدا على يقظة و انتباه ، و يستغل كلما لديه من وسائل اكتشاف الحقيقة من عقل و ضمير .
[133] و لأن آل فرعون افقدوا أنفسهم نعمة البصيرة ، و اختاروا التفسير الخاطئ لكل الحوادث ، فان الآيات المختلفة التي توالت عليهم لم تزدهم إلا رسوخا في الكفر ، و توغلا في الجحود ، لذلك أرسل الله عليهم الطوفان ففاضت أوديتهم حتى دخل الماء بيوتهم ، فنصبوا الخيام في الصحراء ، ثم ارسل الله عليهم الجراد فأكلت محاصيلهم الزراعية ، و انتشر فيهم القمل ، و الحشرات ، و الضفادع التي توالدت بسرعة في برك الماء المكونة من الفيضانات ، و ابتلوا بالدم ربما بسبب الرعاف أو بعض الأمراض الآتية بسبب بعض الجراثيم ( كما قال بعض المفسرين ) و لكن كل ذلك لم ينفعهم علما و هدى .
[ فارسلنا عليهم الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم آيات مفصلات فاستكبروا ]و تعالوا عن الحقيقة ، و زعموا أن ذواتهم هي أعلى من الحقيقة ، و أرادوا تغيير قوانين الكون حسب أهوائهم ، لا تزكية ذواتهم حسب أنظمة الكون .
[ و كانوا قوما مجرمين ]
حيث انهم ظلموا أنفسهم باستكبارهم عن الحقيقة ، إن تقدم البشر في أي حقلمن حقول الحياة انما هو رهن بمعرفة أنظمة الكون ، و استغلال هذه المعرفة من أجل تسخير الحياة ، و تبدأ مسيرة القهقرى حين يستهين بهذه الأنظمة ، و يتعالى عنها فيظلم نفسه بذلك .
كذب و إستكبار :
[134] و لقد أتم الله حجته على آل فرعون بتلك المصائب التي توالت عليهم ، إذ ان البلاء يكشف الحجب الكثيفة التي يجعلها الفرد على عينيه مثل : التعصب ، و الحقد ، و الحب المفرط ، و لكن إذا انكشف البلاء عادت الحجب ، و عادت مشكلة الجحود .
[ و لما وقع عليهم الرجز ]
وهو العذاب الآتي بسبب الانحراف ، و الشذوذ في الطبيعة أو في السلوك .
[ قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك ]
إن نظرتهم المادية الضيقة لم تزل لاصقة بأذهانهم ، إذ انهم لا يزالون يزعمون أن الهدف من بعثة موسى هو الانتفاع من وجوده في كشف الضر عنهم ، و لم يفقهوا دور المعنويات في حياة البشر ، و أن رسالات الله تنفع البشر في رفع معنوياتهم ، و وضع برامج صائبة لهم، وليس فقط في دفع البلاء الذي يصيبهم بسوء أعمالهم ، أما آل فرعون فقد كانت نظرتهم الى الدين و الى حاملي رسالته كنظرة كثير منا حيث نريد الدين لمصالحنا الذاتية لذلك قالوا :
[ لئن كشفت عنا الرجز ]
و الرجز يكشفه الله بالتوبة و العمل الصالح ، و لكنهم نسبوا الأمر الى موسى ( عليه السلام ) لقصر نظرهم .
[ لنؤمنن لك و لنرسلن معك بني اسرائيل ]
[135] و لكن هل كانوا يصدقون ؟ كلا ..
[ فلما كشفنا عنهم الرجز الى اجل هم بالغوه اذا هم ينكثون ]عهدهم و يعودون الى سابق كفرهم و جحودهم ، وعند ذاك تكتمل حجة الله عليهم ، إذ لا يمكنهم في يوم الانتقام التعلل بأنهم إنما كفروا غفلة أو جهلا ، فقد عرفوا الحقيقة و لجؤوا إليها ، و تعهدوا بالوفاء لها عندما احاط بهم البلاء ، و الآن ينقضون العهد ، و هذهالتجربة يمر بها كل فرد و كل مجتمع ، حيث أن الله سبحانه يأخذ البشر بالبأساء و الضراء لكي يرفع عن أنفسهم حجب الغفلة و النسيان ، و لكي يحتج عليهم لو عادوا الى الكفر بعد الايمان في أوقات العسرة .
سوء المصير :
[136] و حان ميعاد الانتقام ، و اغرق الله آل فرعون في البحر بسبب تكذيبهم بآيات الله ، و بالتالي بالحقائق التي وراءها ، و بسبب غفلتهم عنها و عن دورها في سعادتهم و خلافتهم .
[ فانتقمنا منهم فاغرقناهم في اليم بانهم كذبوا بآياتنا و كانوا عنها غافلين ][137] و كما انتقم الله من آل فرعون لتكذيبهم بآيات الله ، أنعم الله على بني إسرائيل لتصديقهم بها ، و أورثهم الأرض المباركة ذات الخيرات الوفيرة .
[ و اورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون ]
و يقهرون من قبل فرعون و قومه ، و هم بنو إسرائيل ، أورثهم الله .
[ مشارق الارض و مغاربها التي باركنا فيها و تمت كلمت ربك الحسنى علىبني إسرائيل ]
كل ذلك بسبب تصديقهم بالحقيقة تصديقا نظريا و عمليا ، والشاهد على تصديق بني إسرائيل بالحقيقة هو صبرهم و استقامتهم .
[ بما صبروا و دمرنا ما كان يصنع فرعون و قومه ]
من زخرف ، و صور ، و أسلحة ، و أدوات ، و أمتعة .. و .. و ..
[ و ما كانوا يعرشون ]
من بنايات فخمة ، و حدائق ، و حقول ، و تماثيل ، و بالتالي دمر الله أموالهم المنقولة و غير المنقولة بسبب كفرهم ، و هكذا ينتقم الله للحقيقة .
|