بينات من الآيات
الكفر بعد الايمان :
[138] هيأ الله أسباب النجاة لبني إسرائيل ، تلك الأمة الفتية التي تستعد الآن لبناء حضارتها بعد تخلصها من سلطة الطاغوت ، فتركوا أرض مصر باتجاه فلسطين بعد أن هيأ الله لهم أسباب العبور على البحر ، و قبل أن تجف أقدامهم من آثار العبور اصيبوا بنكسة إيمانية ، حيث مروا على قوم يعبدون أصناما لهم فطالبوا موسى ( عليه السلام ) و هو رسولهم و قائد مسيرتهم باتخاذ إله لهم كما لأولئك القوم .
[ و جاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على اصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ]إن بني إسرائيل كانوا يعيشون تحت سيطرة الطاغوت سياسيا و ثقافيا ، و كانت علاقاتهم الاقتصادية ببعضهم منسوجة حسب تلك السيطرة ، وقام موسى ( عليه السلام ) و المؤمنون من أصحابه بتفجير ثلاث ثورات متتالية لانقاذ قومه من السيطرة - السياسية ، فالثقافية ، فالاقتصادية - ( و قد سبق الحديث عن ذلك في تفسير سورة البقرة ) و يبدو أن هذه المرحلة هي مرحلة الثقافة التي تحمل أيضا في طياتها تصفيــة آثار السيطرة السياسية أيضا .
إن قوم موسى عاشوا ردحا طويلا من الزمن و هم يعانون الذل و الخضوع و الاستسلام للآخرين ، و كانت السياسة الطاغوتية لفرعون هي التي فرضت عليهمهذه الحالة ، و لكنهم على أي حال تأثروا بها نفسيا ، فحين أنقذهم الله غيبيا بقيت آثار تلك السيطرة عالقة بنفوسهم ، و لم يقدروا على ممارسة حريتهم و الحضور في ساحــــات الحياة ، و اتخاذ القرارات المناسبة فيها اعتمادا على أنفسهم ، لذلك حنوا الى حالتهم السابقة فطالبوا موسى باله - كما لهم آلهة - و الاله هو السلطان الاجتماعي و السياسي و الثقافي ، و رمز هذا الاله هو الصنم ، و بنو إسرائيل في هذه الصفة كانوا تماما مثل الشعوب التي تتحرر من الاستعمار السياسي ، و لكنها تقلد الغرب و الشرق في أنظمتها و ثقافتها ،و كأنها تخرج من الاستعمار القسري و تعود الى الاستعمار اختياريا ، و ذلك لاستمرار قابلية الاستعمار في أنفسهم .
أما موسى ( عليه السلام ) فقد شرح لقومه أولا العامل الداخلي لهذا الطلب و هو الجهل و قلة الوعي .
[ قال إنكم قوم تجهلون ]
[139] و بين لهم ثانيا : ان وضع هؤلاء هالك و لا دوام له ولا إستمرار ، إذ أن الوضع الفاسد لا يملك رصيدا واقعيا ، كشجرة مجتثة من فوق الأرض ، ظاهرها شجرة ، و واقعها حطبة .
و بين ثالثا : أن العمل الذي يقوم به الانسان في اطار النظام الفاسد هو عمل باطل ، و ينتهي الى الدمار حتى و لو كان ظاهر العمل حسنا ، مثلا : ظاهر البناء أنه عمل جيد ، ولكن إذا كان المهندسون و البناؤون و مصانع الحديد و معامل الاسمنت كلها تعمل من أجل بناء معتقل أو قاعدة صاروخية تقذف المستضعفين فان هذا العمل تخريب و ليس بناء ، كذلك كل عمل لا يكون ضمن إطار صالح أو هدف مقدس فانه باطل و ينتهي ، لذلك قال موسى ( عليه السلام ) لقومه :
[ إن هؤلاء متبر ما هم فيه و باطل ما كانوا يعملون ]العبودية لله = تحرر الانسان :
[140] ثم بعد أن وضح فساد الوضع الذي يدعون اليه ، شرح لهم موسى بأن الرب الذي أنقذهم من سلطان فرعون ، و حررهم من الطاغوت خير لهم مما يدعون اليه .
[ قال اغير الله ابغيكم إلها و هو فضلكم على العالمين ]إن الله فضلهم بالحرية و العلم ، و أن يقودوا أنفسهم بعيد عن ضغوط الطاغوت ، و هم يريدون العودة الى العبودية .
إن البشر حين ينفي ألوهية أي شيء أو أي شخص من دون الله سبحانه فسوف يكون محررا ، مسلطا على نفسه بقدر ما يأذن الله له .
[141] و الله سبحانه هو الذي أنجاهم من آل فرعون و بطشهم و قهرهم بالتوحيد ، و إن فكرة التوحيد التي أنقذتهم من تلك الورطة ، أولى بالاتباع من تلك الثقافات الجاهلية التي سهلت استعبادهم و استغلالهم .
[ و إذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ]أي يحملونكم الارهاب و العذاب .
[ يقتلون أبناءكم و يستحيون نساءكم و في ذلكم بلاء من ربكم عظيم ]و هل هناك نعمة أفضل من التحرر من إرهاب الطاغوت و سيطرته ، و كم يكون البشر غبيا لو أراد العودة الى العبودية بعد الحرية ، و التعاسة و البؤس بعد الرفاه و الراحة .
إن استمرار حالة الثورة التي رافقت نجاة الأمة من الطاغوت هو أفضل وسيلة للخلاص من عوامل الانتكاس في الثورة ، وهذا ممكن مع تذكر أيام الطاغوت و كيف تغيرت .
|