بينات من الآيات
حكمة الغيبة :
[142] مع انتصار بني إسرائيل تلك الفئة المستضعفة التي آمنت بموسى و برسالته الاجتماعية ، ازداد تعلق الجماهير بقائدهم موسى ( عليه السلام ) تعلقا شخصيا ، و كان من الضروري تحول هذه العلاقة من شخص موسى ( عليه السلام ) الى رسالته و قيمه ليستمر خطه من بعده و ربما لذلك غاب موسى ( عليــه السلام ) بأمر من ربه عن قومه أربعين ليلة ، و كانت غنية - كما سيأتي في الدرس القادم - بأمتحان عسير لقومه ، كشف ما بهم من نقاط ضعف ثقافية و اجتماعية ، و أعطى لموسى ( عليه السلام ) فرصة كافية لتربيتهم وهدايتهم .
[ و واعدنا موسى ثلاثين ليلة و اتممناها بعشر ]
وسيأتي في الدروس القادمة حكمة إتمام الثلاثين بعشر .
[ فتم ميقات ربه أربعين ليلة ]
أما وصية موسى ( عليه السلام ) لخليفته و أخيه هارون فكانت هي ضرورة المحافظة على الاصلاح .
[ و قال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي و أصلح و لا تتبع سبيلالمفسدين ]
لقد سبق الحديث عن أن الأمم في بداية انطلاقها تهتم بالبناء و الانتاج و الاصــــلاح ، أمـا بعدئذ فانها تقوم بالاستهلاك و الهدم و الفساد ، و عندها كان الرسل ( عليهم السلام ) يحذرون الناس من الفساد ، فأوصى موسى أخاه بهذه الوصية عندما تخلص بنو إسرائيلمن الطاغوت ، و خف عندهم شعورهم الثوري السابق .
و يتبين من الآية كما من سائر الآيات : أن قوم قوم موسى ( عليه الســلام ) كانوا فريقين ، مصلحين و مفسدين ، و كانت تجربة غياب قائدهم و منقذهم كافية لفرز هذين الفريقين ، و بالتالي تزكية المجتمع عن طريق تصفية فريق المفسدين .
من أين تبدأ الثورة الثقافية ؟
[143] لا يزال بنو إسرائيل تلك الطائفة التي عاشت فترة طويلة في ظل الطاغوت ، و تعرضت لعمليات غسل الدماغ من قبل السلطة الظالمة ، لا تزال هذه الطائفة تحمل رواسب الماضي بعد تحررها ، و لابد من تفجير ثورة ثقافية فيها ، و لكن من أين تبدا هذه الثورة ؟
الثورة تبدأ من إصلاح جذر مشكلة الثقافة عند البشر ، حيث أن الانسان يحن نحو الماديات الظاهرة ، و ينسى المعنويات ، و يغفل عن الغيب ، يغفل عن غيب القيم ، و عن قدرة الله و حكمته و رحمته ، ، يغفل عن المستقبل و ما فيه من امكانيات ، و يلتجئ الى الظواهر فيالحاضر ، الى ما يشاهده من قوة السلطة الجبارة ، و ما يراه من امكاناته الحالية ، فيخضع لها ، و يستسلم لاتجاهها .
و رسالات السماء توجه الناس الى الله ، الى غيب الغيوب ، الى ملهم القيم و مالك المستقبل ، الى مبعث الأمل المشرق ، و إذا تعلق الانسان بالله ( الغيب ) فانهيتخلص من كل رواسب الثقافة المادية ، لذلك بدأ الله في إصلاح قوم موسى (عليه السلام) إنطـلاقا من هذه النقطة ، حيث كان قوم موسى يلحون عليه بأن يريهم ربهم و مــرة قالوا له : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، و مرة صنعوا لانفسهم عجلا و زعموا انه هو إله موسى و هكذا ، لذلك راح موسى يدعو الله أن يريه نفسه و هو يعلم ان الله لا يرى .
[ و لما جاء موسى لميقاتنا و كلمه ربه قال رب أرني أنظر أليك قال لن تراني و لكن انظر الى الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا ]هدف المعجزة :
هناك فكرة تقول : بأن كثيرا من طلبات الرسل ، بل و كثيرا من أوامر الله لهم ، تهدف تبليغ الرسالة بطريقة صارخة ، حين أمر الله نبيه إبراهيم ( عليه السلام ) بذبح إبنه كانت الحكمة من وراء ذلك نسخ عادة جاهلية معروفة آنئذ و هي ذبح الأبناء لله أو للأصنام ،و لكن حين أمر إبراهيم بذبح ابنه و لم تعمل السكين ، كانت تلك المعجزة أبلغ أمرا في النفوس ، و أقدر على نسخ هذه العادة من الموعظة الكلامية ، و كذلك حين طلب موسى (عليه السلام ) من ربه بأن ينظر اليه ، كانت دعوته هذه بهدف صنع واقعة عينية تذهب مثلا في الآفاق، و تتناقلها الألسن ، حتى تنتزع من النفوس جذور المادية ، و لذلك طلب موسى ( عليه السلام) المستحيل و هو رؤية ربه و تجلى الله للجبل و جعله دكا متهاويا على نفسه ، و وقع موسى مغشيا عليه .
[ فلما افاق قال سبحانك تبت إليك و أنا أول المؤمنين ]و يبقى السؤال : ما هي مناسبة اندكاك الجبل مع استحالة النظر الى الله ؟
و الجواب : أن قدرة الانسان محدودة بشكل انه لا يتحمل رؤية جبل يندك ، و هوأهون شيء في ميزان قدرات الله سبحانه التي لا تحد فكيف يرى الله ؟ و ينظر اليه ؟ و هو مبعث القدرة و الحكمة و الرحمة و العظمة و .. و .. و بالتالي الاسماء التي لا تعد و لا تحصى ، فكيف يراه البشر المحدود . الذي يتناهى في ضعفه و محدوديته ؟ ( سبحان الله ) ؟!
[144] و حين ترسو قاعدة التوحيد الراسخة على أساس الايمان بالغيب ، فان بناء الثقافة الأصيلة و التشريع السليم سيكون قويا و رفيعا ، لذلك فان ربنا أوحى الى موسى (عليه السلام) برسالاته التي تمثل الثقافة و التشريع .
[ قال يا موسى انى اصطفيتك على الناس برسالاتي و بكلامي ]و عبر الرسالة اصطفى الله القيادة السليمة المبدئية التي تجسد الولاية الالهية في الأرض ، و ميز هذه القيادة بكلامه سبحانه المباشر لها ، و لكنه أمر موسى (عليه السلام) في المقابل بحراسة رسالاته ، و العمل بها ، و الشهادة لها ، و أيضا الاطمئنان اليها و الرضا بها ، و الاحساس بانها نعمة كبيرة يجب ألا يفرط بها أبدا .
[ فخذ ما اتيتك و كن من الشاكرين ]
محتوى رسالات الله :
[145] ماذا كان في رسالات الله و كتبه ؟
كان فيها أولا : رسالة متكاملة بالنسبة الى كافة شؤون الحياة في الثقافة و السياسة و الاقتصاد و .. و ..
[ و كتبنا له في الالواح من كل شيء موعظة و تفصيلا لكل شيء ]ثانيا : كان في الكتب موعظة لتزكية نفوس البشر ، و اثارة عقولهم ، و استجلاءفطرتهم .
ثالثا : كان فيها تشريع مفصل للحياة ، و لتلك السبل التي يهتدي اليها العقل و الفطرة .
[ فخذها بقوة ]
أي اتبعها و أنت قوي الارادة ، لتتحدى الضغوط التي تترى عليك من اتباع هذه الرسالة من لدن ذاتك و شهواتك ، أو من جانب المجتمع المحيط بك .
إن أهم ميزة في القيادة هي : الثقة بالرسالة التي تحملها ، و الاعتماد عليها ، مما يستقطب ثقة الجماهير بها و بالرسالة .
أما الجماهير فان اتباعها لتلك المناهج لا يكون إتباعا أعمى ، بل سوف يكون إتباعا واعيا بعد دراسة الظروف المحيطة بها ، ليعرفوا أي منهج هو الأقـوم في هذا الظـــرف أو ذاك ، و كذلك بعد دراسة الحكم ذاته و هل جاء دائما أو خاصا بظرف معين ؟
[ و امر قومك يأخذوا بأحسنها ]
إن تقييم الأحسن من الحسن إنما هو وظيفة الأمة ، و من هنا يدخل الوعي و العقل في الساحة .
[ سأوريكم دار الفاسقين ]
الذين لا يتبعون الاحكام الشرعية كلها ، فان دارهم ستكون مهدمة على رؤوسهم ، و تلك عبرة كافية لكم بألا تعصوا ربكم في مناهجه .
|