فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[1 - 2] فـي اول آية من السياق يوجه الله الخطاب الى رسوله بصورة خاصة : " يا ايها النبي " باعتبــاره مسؤولا عن الامة و شاهدا عليها ، ثم يعم المسلمين ببلاغة فائقة : " طلقتم " ، و ذلك لكي ينسف المزاعم التي تقول بان علاقة الرجل بزوجته و تدبيره لشؤونها أمرا خاصا به ، و لا يمت بصلة الى الدين الذي تمثله القيادة الاسلامية ، و يؤكد بان هذا الوهم غلط فاضح ، لان علاقة الرجل بزوجته لا تقف عند حدود مصالح الفرد بل تنتشر الى كل امرأة . اوليست الزوجة عضوة في المجتمع الاسلامي ، و بالتالي لها امتداداتها و علاقاتها بالمجتمع و بقيادته ؟ فلابد اذا ان يكون التعامل معها ضمن حدود الله و توجيه القيادة الالهية ، و لذلك بدا الخطاب بالنبي ثم توسع الى سائر المسلمين .

[ يا ايها النبي اذا طلقتم النساء ]

و الملاحظ انه تعالى قال : " طلقتم " بصيغة الماضي ، ثم قال : " فطلقوهن " مما يدل على ان للطلاق مرحلتين : المرحلة النفسية الداخلية ، و المرحلة القانونية الظاهرية ، و تلك تسبق هذه الا انها لا تكفي لتحقق الطلاق لانه يجب اجراؤ الطلاق وفق حدوده و منها الصيغة التي تفيد ايقاعه كقول الرجل : زوجتي فلانة طالق ، او : انت طالق .. كما يفيد قوله : " طلقتم " الجزم و الاستقرار اي جزمتم و استقريتم على هذا القرار في انفسكم و اردتم ايقاعه .

و لعل كلمة " النساء " تنصرف الى الزوجات اللاتي تم الدخول بهن ، فان غير المدخول بها ليس لها عدة ، لان الحكمة منها حسب الاخبار منع اختلاف المياه ، و هذا منتف الا في المدخول بهن .

و لان هناك طلاق الجاهلية و طلاق البدعة لم يدع الوحي الكلمة هكذا انما حدد النوع المشروع و الصحيح من الطلاق ، و هو الذي الآيات اللاحقة تأتي على بيان حدوده و شروطه ، و من شروطه العدة ، و ان يتم في طهر لم يواقعها فيه ، لانه وحده الذي يدخل في حساب العدة الشرعية (1) .

[ فطلقوهن لعدتهن ]

و كلمة " طلقوهن " من الناحية القانونية تعتبر تشريعا للطلاق ، الامر الذي يختلف فيه الاسلام عن بعض المذاهب التي حرمته و منعته فلم تحل المشكلة ، بل تسببت في كثير من المشاكل النفسية و الاسرية و الاجتماعية . و لم يقل الله للعدة لكونها تختلفمن امرأة لاخرى ، فعدة الحامل تختلف عن غير الحامل ، قالوا في تفسير كلمة " لعدتهن " أي لزمان عدتهن ، و ذلك ان يطلقها في طهر لم يجامعها فيه ، عن ابن عباس و ابن مسعود و الحسن و مجاهد و ابن سيرين و قتادة و الضحاك و السدي ، فهذا هو الطلاق للعدةلانها تعتد بذلك الطهر من عدتها ، و تحصل في العدة عقيب الطلاق . فالمعنى فطلقوهن لطهرهن الذي يحصين من عدتهن ، و لا تطلقوهن لحيضهن الذي لا يعتدون به من قرئهن ، فعلى هذا يكون العدة الطهر (2) .

و تهدينا الآية الى ان المرأة لا تنفصل كليا عن زوجها بمجرد ان تنطلق من لسانه صيغة الطلاق الاولى ، لتكون حرة في اختيار غيره مثلا ، انما تبقى في بيته و تحت مسؤوليته اثناء عدتها ، فاذا انتهت العدة سرى مفعول الطلاق عمليا فتنفصل المراة عن زوجها تماما لتصبح في غير عهدته الا ان يرجع اليها و ترجع اليه ، لذلك قال تعالى :


(1) قال الامام الصادق (ع) " لا طلاق الا على طهر من غير جماع " نور الثقلين / ج 5 ص 347 نقلا عن اصول الكافي .

(2) مجمع البيان / ج 10 - ص 303 .


[ و احصوا العدة و اتقوا الله ربكم ]

و قد أمر الرجل بالذات بالاحصاء لان الطلاق بيده و لانه المسؤول عن المراة في سكنها و نفقتها و حمايتها ، فلابد ان يحصي لكي يعرف بالضبط متى يمكنه التحلل من هذه المسؤولية الشرعية . و التأكيد على التقوى بعد الامر بأحصاء العدة يهدينا الى ضرورة الدقة فيالحساب ، لان التقوى هي التي تمنع الكذب و التلاعب . و في الآية تحذير للزوجين بأن الله رقيب و شاهد لا يمكن مخادعته ابدا ، و ينبغي اتقاء سخطه و عذابه . و لان فترة العدة مصيرية بالنسبة لعلاقة الطرفين ففيها يراجع الرجل نفسه و يقيم زوجته من جديد ليقرر الرجوع اليها او الانفصال عنها فيجب عليه ان يراقب الله من كل ذلك و يكون منصفا . ولعل الرجل بالذات يستطيع مضارة زوجته فيتلاعب بالمدة بعيدا عن علم اي احد ، و حيث لا يوجد النظام الاسلامي المتكامل فهو قادر على صنع ما يشاء دون ان يواجه اي اجراءات قضائية و قانونية تخالف هواه ، لذا فهو محتاج الى مراقبة الله قبل كل شيء وتقواه ( باعتبارها اهم الضمانات التنفيذية للحدود و الشرائع ) .

و يوصل القرآن الدعوة للتقوى بالنهي عن اخراج المطلقات من بيوت الزوجية قبل العدة ، و هكذا نهيهن عن الخروج ، لان ذلك هو الآخر يحتاج الى المزيد من خشية الله و تقواه .

[ لا تخرجوهن من بيوتهن و لا يخرجن ]

اذن فقول الرجل لامرأته : انت طالق لا يخرجها من مسؤوليته ، و لا يبرر لها التمرد عليه .. فان البيت يبقى بيتها لا يجوز له اخراجها منه ، و هي تبقى في عهدته لا يحق لها الخروج من تحت يده مادامت العدة لم تنقض " ثلاثة قروء و هي ثلاث حيضات ، وان لم تكن تحيض ثلاثة اشهر ، و ان كان بها حمل فاذا وضعت انقضى أجلها " (1) كما يقول الامام الصادق - عليه السلام - .

و لعل بقاء المرأة في بيت زوجها اثناء العدة - بالذات مع ملاحظة ما ندب اليه الاسلام من التبرج و التزين لزوجها - صلاح كبير ، باعتباره يشدهما لبعضهما ، و يعيد الرجل الى زوجته من زوايا انسانية عاطفية و جنسية حيث يرى ضعفها و انكسارها بين يديه و حيث يرىالزينة و الجمال ، و من زاوية دينية باستشعار التقوى ان كان ثمة طريق للرجعة و الانسجام . قال الامام الصادق - عليه السلام - : " المطلقة تكتحل و تختضب و تطيب و تلبس ما شاءت من الثياب لان الله عز وجل يقول : " لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " لعلها ان تقع في نفسه فيراجعها " (2) .

و يستثني القرآن مبررا واحدا تبين بسببه الزوجة من زوجها مباشرة بحيث يجوز له اخراجها من بيته فلا يكون بيتها ولا يتحمل مسؤولية الانفاق و ما اشبه في العدة ، وهو ان تأتي بفاحشة .

[ الا ان يأتين بفاحشة مبينة ]

الاقرب ان الفاحشة هي المعاصي الجنسية و اظهرها الزنا و السحاق ، لقوله تعالى : " و لا تقربوا الزنى انه كان فاحشة و ساء سبيلا " (3) ، و في ذلك جاء الحديث المأثور عن الامام الصادق - عليه السلام - حيث قال في تفسير الآية : ( الا ان تزني فتخرجو يقام عليها الحد ) " (4) ..


(1) تفسير القمي / ج 2 عند الآية الرابعة .

(2) تفسير نور الثقلين / ج 5 - ص 352 .

(3) الاسراء / 32 .

(4) تفسير نور الثقلين / ج 2 - ص 350 .


و لكن الفاحشة المبينة تعم حتى سائر الذنوب الكبيرة ، و بالذات تلك التي تؤثر في العــلاقات الزوجية ، كما جاء في عدة نصوص منها المروي عن الامام الباقر - عليه السلام - في تفسير الآية " انها الايذاء " (1) ، و منها المأثور عن الامام الرضا - عليه السلام - قال : " الفاحشة ان تؤذي اهل زوجها و تسبهم " (2) .

[ و تلك حدود الله ]

و ما دامت حدود الله فهي مفروضة و واجب مراعاتها بالسير على هداها و الخريطة التي ترسمها ، لما فيها من صلاح للفرد وللأسرة و المجتمع ، و لا يجوز للانسان ان يصطنــع لنفسه حدودا غيرها و يتبعها باللف و الدوران ، او بادعاء ان القضية شخصية ، كلا ... انماالتشريع لله وحده .

[ ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ]

لان لا تبقى سعادة و لا قيمة في العلاقات الزوجية التي لا تحكمها الضوابط ، و لان المجتمع الذي لا يحترم النظام يحطم بعضه بعضا و يسوده الظلم و التبادل ، و لكن أجلى صورة لظلم الانسان نفسه بتعدي حدود الله العذاب الذي يلقاه في الآخرة جزاء انتهاكه حرمة احكام الله و شرائعه .

و يبين الله الحكمة الاساسية التي جعلت من اجلها العدة ، و وجب بقاء المرأة في بيت زوجها اثنائها ، و هي رجاء تغير المواقف و عودة العلاقة الى حالها الطبيعي حيث الوئام و المحبة ، فلا يصح اذن ان يحكم الانسان في لحظة غضب و انتقام وردة فعل حكم يأس على علاقته مع شريكة حياته بانها لا تصلح أبدا ، فان الأمور بيد الله يبدل فيها كيف يشاء ، فربما عطف القلوب على بعضها ، و الفها بعد الفرقة(1) المصدر / ص 351 .

(2) المصدر .


برحمته .

[ لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ]

و لعلنا نهتدي هنا الى فكرة تشريعية هامة هي : ان تشريع الطلاق من قبل الله عز وجل ينبغي ان لا يتنكر له البشر ، او يلغوه من قائمة القوانين الاجتماعية ، لانه اذا يرى في موارده الموضوعية و ضمن الحدود الالهية فانه يعود على المجتمع بالنفع ، فاذا بتلك الروابط الضعيفة تصير متينة جدا ، و تنتهي المشاجرات و اسباب الخلاف ، و يزداد الحب بين الطرفين فلا يفكرا الا في المزيد من التلاحم بعد ان ذاقا طعم الفراق بينهما ، و بعبارة : يحدث تحول ايجابي في الروابط الزوجية و الاسرية بسببه . و معرفة الانسان انه مكره علىقبول زوجته لا يبعث فيه التطلع الى تطوير علاقته معها و تنمية حبه لها بل يجعلها و كأنها شر لابد منها .

و اذا انقضت العدة هنالك لا يسمح له بان يذرها كالمعلقة انتقاما كما يفعل اهل الجاهليـــة الذين لا يؤمنون بحد و لا قيمة في العلاقة الزوجية سوى الهوى و الشهوة ، كلا .. انه مخير بين امرين لا ثالث لهما ، فاما ان يرجع الى العلاقة الطبيعية مع اهله و التيشعارها المعروف ( الحب و الاحترام و العقلانية ) ، و اما الفراق و الانفصال بالمعروف ( بعيدا عن التشفي و الاذى و سوء الخلق ) . و يقدم القرآن خيار الرجوع ترجيحا له على الفراق لان الله يريد خير الاسرة و المجتمع و الحفاظ على كيانهما بالحفاظ على تماسكهما منخلال العلاقات الوطيدة التي منها العلاقات الزوجية .

[ فاذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف او فارقوهن بمعروف ]و استخدام القرآن تعبير امسكوا يؤكد على ان الطلاق في الاسلام قبل انتهاء العدة لا يعني انهاء العلاقة الزوجية و طرد الزوجة من أسرتها ، انما يبقى كل شيء على طبيعته ، فالزوج لا يزال زوجها و القائم عليها ( ممسك بها ) الا ان يختار الفراق فهنالك تتغير الامور ، فتطلق من زوجها بالمفهوم العرفي .

[ و اشهدوا ذوي عدل منكم ]

على الطلاق اذا كان هو الخيار لا الرجعة ، لانها لا تحتاج الى شهود بل يكفي التصريح بارادتها او مقاربة الزوجة ، فقد جاء في كتاب الكافي قال الامام ابو الحسن موسى الكاظم - عليه السلام - " ان الله تعالى أمر في كتابه في الطلاق و أكد فيه بشاهدين و لميرض بهما الا عدلين " (1) و أهمية الشهود في الطلاق لامور منها وضع النقاط على الحروف في الارث و في حرية المرأة بعد فراق زوجها . فلولا الشهود لكانت المطلقة تدعي في الارث ما ليس لها ، و لكان الرجل يمنع مطلقته من الزواج بادعاء انها لا تزال في عصمتهمثلا .

و لكــن الشهادة العظمى التي يجب على المؤمن اعتبارها و اقامتها هي الشهادة لله .

[ و اقيموا الشهادة لله ]

ولا تقوم الشهادة لله الا بشروطها التي تتوافر عند المتقين الذين يؤمنون بالغيب ، لان الله لا يحضر عند العيون و الاسماع انما يحضر عند القلوب المؤمنة به عز وجل . و كذلك الآخرة ليست شيئا محسوسا في الدنيا انما يؤمن بها المؤمنون بالغيب .

[ ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر ]

أي يؤمن بعلم الله بالحقائق كما تكون ، و يؤمن بالجزاء بعد البعث على كل(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 352 .


خير و شر ، و شهادة الله لمن يؤمن بذلك اعظم واعظ له عن مخالفة أمره و حدوده علنا او بما يسمى بالحيل الشرعية .

و قد أورد الدكتور بدران ابو العينين استاذ الشريعة الاسلامية في كلية الحقوق بجامعتي الاسكندرية و بيروت الغربية بحثا حول الشهادة على الطلاق و دورها في تقليل نسبة الطلاق ، هذا نصها من كتابه : الفقه المقارن للاحوال الشخصية :

( ذهب اكثر الفقهاء على انه لا يشترط الاشهاد على الطلاق ، بل استحبوه فقط استنادا الى انه لم يؤثر عن الرسول و لا صحابة رسول الله - صلى الله عليه وآله - اشتراط الشهود في الطلاق ، و حملوا الامر الوارد في قوله تعالى " و اشهدوا ذوي عدل منكم "على الندب كما في : " و اشهدوا اذا تبايعتم " ، و اشترط الامامية و الظاهرية لوقوع الطلاق اشهاد عدلين ، لقوله تعالى : " فاذا بلغن اجلهن فامسكوهن بمعروف او فارقوهن بمعروف و اشهدوا ذوي عدل منكم " ( الطلاق / 2 ) فالله سبحانه طلب الاشهاد على الطلاق الـذي سيق الكلام لبيان احكامه ، و من المستهجن ان يعود طلب الاشهاد الى الرجعة ، لانها انما ذكرت تبعا و استطرادا ، كما قالوا ان من المعلوم انه ما من حلال أبغض الى الله من الطلاق ، فالدين الاسلامي لا يرغب في اي نوع من انواع الفرقة ، و لا سيما في العائلة و الاسرة ، و على الاخص في الزوجية بعدما افضى كل منهما الى الاخر بما افضى . فالشارع بحكمته العالية يريد تقليل وقوع الطلاق و الفرقة ، بتكثير قيوده و شروطه بناءا على القاعدة المعروفة من ان الشيء اذا كثرت قيوده عز ، او قل وجوده . فلهذا اعتبرالشاهدين العدلين للضبط اولا ، و للتأخير و الأناة ثانيا ، عسى الى ان يحضر الشاهدان ، او يحضر الزوجان ، او احدهما عندها يحصل الندم ، و يعودان الى الالفة ، يشير الى هذا قوله تعالى : " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمــرا " و ايضا قوله تعالى :
" و اقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله و اليوم الاخر " ، فهذا الأمر بالشهادة جاء بعد ذكر انشاء الطلاق ، و جواز الرجعة ، فكان المناسب ان يكون راجعا الى الطلاق ، و ان تعليل الاشهاد بانه يوعظ به من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر يرشح ذلك و يقويه ، لان حضور الشهود العدول لا يخلو من موعظة حسنة يزجونها الى الزوجين ، فيكون لهما مخرج من الطلاق .

فاذا لم يشهد على الطلاق شاهدين ظاهرهما العدالة يسمعان انشاء الطلاق كان غير واقع ، و كذا لا يقع اذا اشهد عدلا واحدا او فاسقين يكون باطلا ، فانهم قالوا : ان بالاشهاد على الطلاق يظهر التناسق بين انشاء الزواج و انهائه ، بل قالوا : انه لو طلق ثم اشهدلم يكن ذلك شيئا ، و الشرط ان يكونا رجلين عدلين ، فلا شهادة للنساء منفردات و لا منضمات للرجال .

و رأي الشيعة الامامية هو الراجح اذ انه يضيق دائرة الطلاق التي اتسعت الان كثيرا ، كما يسهل اثباته فيما لو وقع خلاف بين الزوجين في الطلاق ، و يجري العمل في مصر على انه يجب على الموثق " الماذون " ان يجري الطلاق بحضور شاهدين يثبتهما في اشهاد الطلاق ، و يوقعان على وثيقة الطلاق بالشهادة . و قد نص قانون حقوق العائلة في المادة (110) على ان الزوج الذي يطلق زوجته مجبور على اخبار المحاكم بذلك ) (1) .

و هذه شهادة بصورة اخرى يقرها القانون المدني نظرا لاهميتها و واقعيتها .

و يقول الدكتور محمد يوسف موسى استاذ و رئيس قسم الشريعة الاسلامية بكلية الحقوق بجامعة عين شمس بالقاهرة في كتابه : ( الاحوال الشخصية ) مشيدا براي الامامية في الشهادة : ( و هذه وجهة نظر يجب عدم التغاضي عنها ، فان الأخذ(1) الفقه المقارن للاحوال الشخصية بين المذهب الاربعة السنية و المذاهب الجعفري و القانون طبعة دار النهضة العربية / ص 378 .


بهذا الرأي يمهد السبيل للصلح في كثير من الحالات حقا ) (1) .

و من هنا جاء في الحديث المأثور عن الامام الكاظم - عليه السلام - انه قال لابي يوسف ( الفقيه الحنفي الشهير ) : " يا ابا يوسف ان الدين ليس بقياس كقياسك و قياس اصحابك . ان الله تبارك و تعالى أمر في كتابه في الطلاق و أكد فيه بشاهدين ، و لم يرض بهما الا عدلين ، و أمر في كتابه بالتزويج فأهمله بلا شهود ، فأتيتم بشاهدين فيما ابطل الله ، و ابطلتم شاهدين فيما أكد الله تعالى " (2) .

و يعود القرآن ليؤكد على أهمية التقوى بالذات في الظروف الصعبة و الحرجة ، فانها قبل كل شيء سبيل الانسان للأنتصار على المشاكل و حلها ، لما فيها من زخم ايماني يثبت المؤمن على الحق ، و لان التقوى في حقيقتها برنامج متكامل يجد فيه حلا لكل معضلة و مخرجا من كل حرج مهما كان الظاهر باعثا على اليأس و القنوط .

[ و من يتق الله يجعل له مخرجا ]

و تنقض هذه الآية ظنون البعض بان اتباع شرع الله و احكامه يضيق على الانسان مدار حريته ، و يسبب له في الحرج و الضيق ، كلا .. انما يصل البشر لاهدافه و يتخلص من مشاكله ، و يجد الحلول الناجعة لها و المخارج من العسر و الحرج بأتباع سنن الله و احكامه ، وذلك لان سنن الله كما السبل اللاحبة التي لو مشى عليها الانسان بلغ اهدافه بيسر و بلا عقبات ، و من يتقي الله يتقي - في الواقع - الانزلاق عن هذه السنن الى المتاهات التي لا تزيد السائر فيها الا ضلالا و بعدا عن اهدافه ، فقد تبدو للبعض ان السرقة و الانتهاب والحيلة و الغش و الظلم


(1) الاحوال الشخصية للدكتور محمد يوسف موسى ص 271 طبعة 1958 م .

(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 352 .


و الاعتداء و الربا و سائر الطرق المحرمة هي وسائل جيدة للارتزاق لما في بعضها من ربح عاجل ، الا ان عاقبة هذه الطرق هي الخسارة ، بينما السعي النظيف و الكسب الحلال هو باب الرزق الواسع و السبيل اللاحب للثروة المشروعة ، اما غير المؤمن فهو ينهزم امام الازماتو المشاكل الى حد الانتحار ، و كثيرهم الذين انتحروا بسبب عقدة الفشل في العلاقات الزوجية او الجنسية . و في تضاعيف الآية اشارة الى ان المآزق التي يتورط فيها الانسان تأتي في الاغلب نتيجة ذنوبه و مخالفته لاحكام الله ، فاذا اتقى ابتعد عن الذنوب و نفذ القوانين ، و هل نأتي الطرق المسدودة الا بسبب مخالفة القوانين و الانظمة ؟ !

[3] و لان الفقر و الضيق من المآزق التي يواجهها الرجل في ادارة اسرته و الانفاق على اهله و عياله ، فان الاسلام يسعى ان لا يكون مبررا للطلاق ، و ذلك من خلال تنمية روح الامل بالله و التوكل عليه في روعه بانه يضمن له رزقه ، و هذه الافكار و المنهجية ترتكز على قيمة اساسية في الاسلام هي ايمانه بضرورة دفع الانسان باتجاه المزيد من تحمل المسؤولية و ليس تبرير التهرب منها .

[ و يرزقه من حيث لا يحتسب ]

اي ان هناك افاقا للرزق لا يتوقعها الانسان لمحدودية علمه و احاطته يفتحها الله له ، و خير شاهد على ذلك ما يكتشفه العلم الحديث من الوسائل و الافاق الجديدة للتنمية و الاستثمار و الاقتصاد و التي ما كانت تخطر على بال احد منذ قبل ، جاء في الحديث المرويعن الامام الصادق - عليه السلام - في رسالته الى بعض اصحابه : " اما بعد فاني اوصيك بتقوى الله ، فان الله قد ضمن لمن اتقاه ان يحوله عما يكره الى ما يحب ، و يرزقه من حيث لا يحتسب ، فاياك ان تكون ممن يخاف على العباد من ذنوبهم ، و يأمن العقوبة من ذنبه" (1) .

و قال (ع) : " ان الله عز وجل جعل ارزاق المؤمنين من حيث لا يحتسبون ، و ذلك ان العبد اذا لم يعرف وجه رزقه كثر دعاؤه " (2) .

و قال - في حديث آخر يفسر هذه الكلمة - : " يبارك له فيما آتاه " (3) .

و الايمان بهذه الحقيقة يقشع عن عقل الانسان و روحه سحب اليأس و يفك أغلاله ، و يدعوه الى المزيد من البحث و السعي طلبا لتلك الآفاق . و ما دام ربنا يرزقنا مــن حيـث لا نحتسب فبالاولى ان ياتنا رزقه من حيث نتوقع حيث نعمل و نسعى و نتبع سبله ، و من المعروف : ان مالتز كان قد حذر العالم قبل قرن من نقص هائل في الموارد الغذائية في هذا القرن ، و اتبعه الكثير من الكتاب و المؤسسات الدراسية ، بينما فتح الله آفاقا جديدة في حقل التقدم العلمي و تنمية الموارد الغذائية التي تضاعفت خلال القرن الحاضر .. و تبشر الدراسات بانها ستتضاعف في المستقبل .

ان افاق التقدم لا تحد ، و ان قدرات الانسان على التكامل عبرها لا تحصى ، و انما اليأس و سائر الاغلال و الاصر تقيد البشر من الانبعاث ، و لو عرف الانسان قيمة التوكل على الله فاتقى ربه لرزقه الله من حيث لا يحتسب .

و لا ريب ان الآية لا تدعونا الى الكسل و الجلوس في البيت على أمل نزول رزق الله بالمعجزة ، كلا .. بل ينبغي النظر لمعناها و التدبر فيها ضمن الاصول العامة التي جاء بها الاسلام و الموجودة في الآيات الاخرى ، كأصل السعي و العمل و الكدح ، بل الآية نفسهاتشير الى ذلك في الخاتمة و تدعو الى نفض غبار اليأس و القنوط ،(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 355 .

(2) المصدر / ص 354 .

(3) المصدر / ص 357 .


و الانبعاث بروح الأمل و التوكل . كذلك الآية تواجه الوسوسة الشيطانية التي تجعل البعض يزعم ان الرزق لا يتأتى الا عبر الحرام ، لذلك يجد مثلا انفصاله عن دوائر الانظمة و مؤسساتها امرا لا يطاق ، بينما لو توكلنا على الله فسوف نجده عند حسن ظننا به .

[ و من يتوكل على الله فهو حسبه ]

أي الذي يكفيه ، و لا ينبغي للمؤمن ابدا ان يشك في قدرة الله على تحقيق ما يعد به ، مهما كانت الظروف صعبة و معاكسة كما يبدو للانسان فان ارادته تعالى فوق كل شيء .

[ ان الله بالغ أمره ]

بلــــى . نحن البشر تثنينا الاسباب ، و تحول بيننا و بين ما نريد العقبات و الموانع ، لان ارادتنا محدودة ، اما الله فان ارادته مطلقة . و لكنه تعالى ابى ان يجري الامور الا بحكمة و موازين .

[ قد جعل الله لكل شيء قدرا ]

على الاطلاق ، فليس من شيء خارج على هذا القانون الالهي العام ، و كما تحكم المقاييس الظاهرية الحجم و الوزن و الكثافة و اللون و الاجل وجود كل شيء و من ذلك المشاكل فان هناك سننا و قوانين معنوية تحكمه ايضا ، فلا يمكن للانسان ان يجد رزقا حلالا من غير سعي مادي او معنوي . و وعد الله برزق من يتقيه و يتوكل عليه امر من اموره و هو لاريب بالغه ، و لكنه جعل لذلك موازين و ضوابط " قدرا " ينبغي للانسان معرفتها و حل مشاكله من خلالها ، و يجب عليه السعي في الحياة لتحقيق اهدافه و تطلعاته و مقاصده انطلاقا من الايمان بهذه الحقيقة في تدبير الله لشؤون خلقه . من هنا جاء في تفسير هذه الآية : " ان الامام الصادق - عليه السلام - سأل بعض أصحابه فقال : ما فعل عمر بن مسلم ؟ فقال له البعض : جعلت فداك اقبل على العبادة و ترك التجارة ، فقال : ويحه اما علم انتارك الطلب لا يستجاب له . ان قوما من اصحاب رسول الله لما نزلت : " و من يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب " اغلقوا الابواب ، و اقبلوا على العبادة ، و قالوا : قد كفينا ، فبلغ ذلك النبي فأرسل اليهم قال : ما حملكم على ما صنعتم ؟ فقالوا : يا رسول الله تكفل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة ، قال : انه من فعل ذلك لم يستجب له ، عليكم بالطلب " (1) .

[4 - 5] و كما تتجلى هذه الحقيقة في عالم التكوين الطبيعية الاقتصاد و الفيزياء و ما أشبه ، فانها تطبع آثارها في عالم التشريع ايضا ، حيث فرض الله عدة معينة كحق من حقوق المرأة و واجب من واجبات الرجل بعد الطلاق . و بالطبع ان هناك حكمة ليست لذات الاعتداد و حسب ، بل لاختلاف العدة من امرأة الى اخرى كذلك ، قد تتكشف للانسان في مفردات العدة بالتفكير العميق .

[و اللائي يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم ]

في كونهن هل يئسن ام لا ؟

[ فعدتهن ثلاثة اشهر ]

بناء على الاصل السابق هو عدم اليــأس ، مما يجعل حكمهن كحكم النساء العاديات . اما لو تبين كونهن يائسات فليست لهــن عدة ، فعن الامام الصادق - عليه السلام - في التي يئست من المحيض يطلقها زوجها قال : " قد بانت منه(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 155 .


و لا عدة عليها " (1) . و يظهر من النصوص ان الاشهر هي الاشهر الهلالية .

[ و اللائي لم يحضن ]

اذا ارتيب في كونهن بلغن الحيض فان عدتهن كالمشكوك في يئسهن ، اي ثلاثة اشهر ، تأسيسا على الاحتياط ، فان كن لم يحضن فليس ذلك بضار احدا ، و ان تبين حيضهن يكون الرجل قد احرز التكليف الشرعي الملقى عليه . و الا فان الصبية لا عدة لها و لو دخل بها ، فعن علي ابن ابراهيم ، عن ابيه عن بن محبوب ، عن حماد عن عثمان ، عمن رواه عن زرارة ، عن ابي عبد الله - عليه السلام - في الصبية التي لا تحيض مثلها و التي قد يئست من الحيض قال : " ليس عليهما عدة و ان دخل بهما " (2) و اعتبار الاسلام مجرد الريب و الشكبمنزلة اليقين بعدم الياس لدى النساء و بالحيض للصبية عمليا بحيث يعطي للمرأة حق الاعتداد ثلاث اشهر يظهر حرصه على سلامة الاسرة و العلاقات الزوجية ، اذا لعل الاختلاف يحل و تعود المياه الى مجاريها في هذه الفرصة .

[ و أولات الاحمال أجلهن ان يضعن حملهن ]

فاذا ما وضعت الحمل انتهت عدتها ، قال ابو عبد الله - عليه السلام - " طلاق الحبلى واحدة و ان شاء راجعها قبل ان تضع ، فان وضعت قبل ان يراجعها فقد بانت منه وهو خاطب من الخطاب " (3) اي تقبله او ترفضه . و وضع الحمل خروجه من بطنها ولدا او سقطا، تماما او مضغة ، عن عبد الرحمن الحجاج عن ابي الحسن - عليه السلام - قال : سألته عن الحبلى اذا طلقها زوجها فوضعت(1) المصدر / ص 409 .

(2) وسائل الشيعة / ج 15 - ص 408 .

(3) المصدر / ص 419 .


سقطا تم او لم يتم او وضعته مضغة فقال : " كل شيء يستبين انه حمل تم او لم يتم فقد انقضت عدتها و ان كان مضغة " (1) ، و لا يعتد بالمدة أكانت ثمانية اشهر او لحظة واحدة بين الطلاق و وضع الحمل . و قد تكون العلة التي صارت من اجلها عدة الحامل وضع الحمل ان مسؤولية الحمل مشتركة بين الام و الاب لذلك تمتد عدتها زمنيا حتى تضع و قد يطول ذلك ثمانية أشهر ، كما ان ذلك يعطي للزوج فرصة اكبر للمراجعة و التفكير ، فعسى يعدو الى تكفل الولد بعد ان يلقي الله في قلبه حبه ، و لعل ظاهر الآية يدل على ان العدة تنقضي حتى لو اجهضت المرأة نفسها لان المعول على وضع الحمل . اما الحامل التي يتوفى زوجها فعدتها ابعد الاجلين ، فعن سماعة عن الصادق عن الباقر - عليهما السلام - قال : " المتوفى عنها زوجها الحامل أجلها آخر الأجلين ، ان كانت حبلى فتمت لها أربعة أشهر و عشر و لم تضع فان عدتها الى ان تضع ، و ان كانت تضع حملها قبل ان يتم لها أربعـة أشهر و عشر تعتد بعد ما تضع تمام اربعة اشهر و عشر ، و ذلك ابعد الاجلين " (2) .

[ و من يتق الله يجعل له من أمره يسرا ]

اذن فالطريق السليم الذي ينبغي للانسان ان ينتهجه للخروج من العسرة و المشاكل المتازمة هو التقوى ، و خطأ ظن البعض انه يصل الى اليسر في اموره بمخالفة حدود الله و احكامه .

[ ذلك أمر الله أنزله اليكم ]

و أمره أحكامه و تعاليمه .

[ و من يتق الله يكفر عنه سيئاته ]


(1) المصدر / 421 .

(2) المصدر / ص 455 .


و نتساءل : كيف تكفر التقوى سيئات الانسان ؟ و الجواب لسببين :

1 - لان أخطاء الانسان التي تنتهي به الى المآزق و المشاكل كالطلاق و خراب علاقته مع أهله نتيجة مباشرة لمنهجية خاطئة يتبعها في الحياة ، كمنهجية الهوى او المناهج البشرية الضالة ، و بالتالي عدم اتباعه لنهج الله القويم . و التقوى بمفهومها الواسع ليس مجرد الايمان بالله و الخشية منه بل هي اضافة الى ذلك عودة الانسان الى نهج ربه المستقيم الكفيل بتصحيح أخطائه و إزالة آثارها السلبية في الواقع .

2 - و لان التقوى حسنة كبيرة تشفع عند الله في الاخطاء الجانبية . و الى جانب التكفيــر عن السيئات هناك ثمرة عظيمة اخرى للتقوى تتمثل في المزيد من الجزاء و الثواب .

[ و يعظم له أجرا ]

اذ لا شك ان العمل الصالح كالصدقة أعظم ثوابا و أجرا مع التقوى منه بدونها ، ذلك انه كلما زاد ايمان الانسان كلما زاد اتقانه للعمل و خلوصه فيه و قربه بالتالي به الى ربه ، مما يزيد في جزائه عنده .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس