فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[6] لكــي لا يظلــم المرء زوجته التي عافتها نفسه ، و مشى الشيطان بينهما بألف عقدة و عقدة ، يأمر القرآن بان يختار لها زوجها سكنا مناسبا لوضعهم الاجتماعي بلا تميز .

[ اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ]

و الوجد : ما يجده الانسان و يقدر عليه ، و في المنجد : انا واجد للشيء اي قادر عليه . و الوجد القدرة ، يقال انا واجد الشيء اي قادر عليه . و الآية تحدثنا عن نوعالسكن و انه واجب على الرجل ليس السكنى و حسب بل اسكان زوجته في العدة بالذات كما يسكن ، فلا يصح ان يسكن هو في المكان المكيف صيفا و تشاء و يسكنها فيما دون ذلك ، و لهذا جاء التعبير ب " من " التبعيضية و لا يكون بعض الشيء الا من نوعه و جنسه . و يحرم الاسلام ان يضر الرجل بزوجته اثناء العدة ليضطرها للتنازل عن النفقة او الخروج من بيته قبل انتهاء العدة باستخدام الضغوط المختلفة المادية او المعنوية نفسية و اقتصادية و اجتماعية و اخلاقية او ما اشبه مما يحقق نفس الغرض ، بل لابد ان تجد الزوجة الراحة و السعة من جميع جوانبها قدر الامكان .

[ و لا تضاروهن لتضيقوا عليهن ]

و لعل ابلغ ضرر تناله المرأة المطلقة من زوجها هو جراحات اللسان ، قال الامام الصادق - عليه السلام - : " لا يضار الرجل امرأته اذا طلقها فيضيق عليها حتى تنتقل قبل ان تنقضي عدتها فان الله قد نهى عن ذلك " (1) و التي لزوجها عليها السكنى و النفقة غير المبتوته (2) ، فعن ابي بصير عنه - عليه السلام - انه " سأله عن المطلقة ثلاثا لها سكنى و نفقة ؟ قال : حبلى هي ؟ قلت : لا ، قال : لا " (3) و عن زرارة عن ابي جعفر - عليه السلام - قال : " المطلقة ثلاثا ليس لها نفقة على زوجها ، انما ذلك للتي لزوجها عليها رجعة " (4) .

و كما تمتد عدة الحامل الى الوضع كذلك يجب ان يسكنها و ينفق عليها حتى تضع حملها ، لان الولد له ، و ثابت علميا ان الولد يستهلك ما يحتاج من امه ، فلو(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 362 .

(2) المصدر .

(3) المبتوته : المطلقة بائنها فلا يحق لزوجها الرجعة لها بتة .

(4) تفسير نور الثقلين / ج 5 - ص 362 .


نقص الكالسيوم في غذاء أمه فانه سوف يؤثر على تركيبة عظامها ، يقول الدكتور محمد علي البار في كتابه خلق الانسان بين الطب و القرآن : ( تصاب بعض الامهات الحوامل بلين في العظام اثناء الحمل ، كما تصاب اسنانهن بالالتهابات المتكررة ، و السبب في ذلك ان الجنين لكي يبنى عظامه يسحب من دم امه و عظامها الكالسيوم و المواد الضروية لبناء عظامه ، حتى و لو تركها هزيلة هشة العظام شاحبة الوجه تعاني من لين العظام و من فقر الدم .. و يضيف : يقول مجموعة من اساتذة طب النساء و الولادة : و الطفل يعتبر كالنبات الطفيلي الذي يستمد كل ما يحتاج اليه من الشجرة التي يتعلق بها ، يعيش و يأخذ غذاءه من الام مهما كانت حالتها او ظروفها حتى و لو تركها شبحا ) (1) ، لهذا فالمرأة احوج ما تكون للعناية في فترة الحمل .

[ و ان كن اولات حمل فانفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ]و جاء في اصول الكافي عن ابي جعفر - عليه السلام - قال : " الحامل اجلها ان تضع حملها و عليه نفقة بالمعروف حتى تضع حملها " (2) ، و لو انها ارضعت وليدها بعدئذ فلها الحق ان تتقاضى اجرا على الارضاع ، لانه من الناحية الشرعية ليس واجبا على الامبشكل عام حتى غير المطلقة التي تنتهي عدتها و قيمومة الرجل عليها بعد الوضع ، فالحليب ملكها و ان كان من الناحية التكوينية يتكون مع الحمل و بسببه .

و العلم الحديث يقر هذه الحقيقة ، و على اساسه دعت التشريعات الحديثة الى تخصيصات للمرأة اثناء الرضاعة ، و بعض البلدان تشرف على طعام المرأة المرضع و الحامل ، و تدعو الى الاهتمام بطعامها في هاتين الفترتين .


(1) المصدر نقلا عن الكافي .

(2) المصدر / ص 448 .


[ فان ارضعن لكم فاتوهن اجورهن ]

في مقابل الرضاعة . اما السكنى و النفقة فليسا واجبين على الزوج بعد الوضع .

و لا يحق للزوج ان يلزم زوجته - و بالذات المطلقة - بالرضاعة ، بلى . يجوز التفاهم فــي هــذه المسألة بين الطرفين بعيدا عن اي لون من الضغوط و السبل الملتوية ، بل بالحق .

[ و أتمروا بينكم بمعروف ]

اي ليأمر بعضكم بعضا بالمعروف بالتشاور و التحاور ، و لابد ان يتم ذلك في اطار صحيح لا يتنكر له العقلاء " بمعروف " حتى يستقر التآمر على رأي يرضاه الطرفان . اما اذا حدث الاختلاف فان الحق للأم تقبل الرضاعة او ترفضها لتكون المرضعة غيرها .

[ و ان تعاسرتم فسترضع له اخرى ]

و لا يجوز للاب ان يجبر ام ولده على رضاعته كحل للتعاسر ، لان ولاية الرجال على النساء لا تمتد الى هذه الحدود في الظروف الطبيعية فكيف بعد الطلاق ؟! و نهتدي من خاتمة الآية ان للحاكم الشرعي ان يلزم الام بالرضاعة لو توقفت حياة الولد عليها ، فيكون الزوجحينئذ ملزما باعطاء اجرة المثل .

[7] و يعود القرآن لبيان المقياس الذي ينبغي ان يكون ميزانا فيصلا بين الطرفين في مقدار النفقة ، و لكن الوحي لا يحدد دينارا و لا درهما بل يضع قيمة تصلح لكل زمان و مكان واحد لانه لم ينزل لأمة دون اخرى ، و لا لجيل دون جيل . من هنا يطرح المقاييس الفطرية العامة بوضوح كاف لينطبق على كل عصر ، فما هو المقياس الذي يحدد كيف و كم تكون النفقة ؟ انه استطاعة الزوج المادية الممكنة ، و ليست صفاته ، فلو كان غنيا بخيلا فانه لا يجوز منه التقتير على زوجته المطلقة بالذات حيث تجب عليه نفقتها ، بل عليه التوسيع عليها، كما لا يجوز للزوج و لا للحاكم ان يفرض عليه التوسيع في النفقة لو كان مقترا فقيرا .

[ لينفق ذو سعة من سعته ]

اي بعضها و بنسبتها ، فليس مطالبا ببذل كل ما يملك ، انما الواجب ان يفيض عليها من غناه بحيث يوسع عليها .

[ و من قدر عليه رزقه ]

و كان فقيرا .

[ فلينفق مما اتاه الله لا يكلف الله نفسا الا ما اتاها ]فتشريعه عز وجل تشريع واقعي عملي ، و حاشا له ان يكلف احدا ما لا يطيق ، و هذه الآية لا تقتصر على مسألة النفقة على الزوجة حيث العدة ، بل هي قاعدة لتنظيم الاقتصاد الفردي ، و حل المشاكل المتصلة به في المجتمع و الاسرة ، فلا غرو ان يوسع الغني على نفسه منالمال الحلال لان الله اذا انعم على عبد نعمة احب ان يراها فيه ، قال الامام ابو عبد الله - عليه السلام - و قد سأله احد اصحابه عن الرجل الموسر يتخذ الثياب الكثيرة الجياد و الطيالسه و القمص الكثيرة يصون بعضها بعضا يتجمل بها أيكون مسرفا ؟ قال " لا لان الله عز وجل يقول : " الاية " (1) ، و من جهة اخرى يجب ان لا ينفق الفقير اكثر من طاقته تلبية لرغباته الشخصية او تظاهرا بين الناس او لكي يوافق المجتمع المحيط في معيشته و مظاهره ، فان ذلك يوقعه في(1) المصدر / ص 363 .


مشاكل اقتصادية تنتهي الى انحرافات خطيرة بعض الاحيان .

و هذه الآية يجب ان يتخذها الانسان شعارا في ادارة نفسه و اسرته . و حيث ان النفقة من واجبات الرجل تجاه أسرته و أهله فان للمرأة الحق في طلب الانفصال عنه لو لم يؤدها الرجل ، فعن ابي بصير عن ابي عبد الله - عليه السلام - قال : " ان انفق الرجل على امرأته ما يقيم ظهرها مع الكسوة و الا فرق بينهما " (1) ، و لكن الله يعطي الانسان شحنة من الامل برحمته و رزقه ، و في نفس الوقت يدعو من طرف خفي الزوجة الى الصبر و التحمل تسليما لقضاء الله ، و املا في فضله ، فانها لا تدري لعل زوجها الفقير يصبح غنيا مقتدرا بفضله تعالى .

[ سيجعل الله بعد عسر يسرا ]

[8] و بعد ان يبين ربنا هذه الحدود الشرعية يحذر من عواقب خرقها و تعديها حيث الفشل و العذاب في الدارين ، فانها سنة الله التي تتجلى في تاريخ البشرية ، و هي كما تجري في المجتمعات الكبيرة حينما تحادد الله و تخرج عن أمره تجري في الاسرة ذلك المجتمع الصغير ، لان سنن الله واحدة تجري في الموضوعات الصغيرة بمثل ما تجري في الحقائق الجليلة ، ارايت سنة الله في النار . انها تحرق سواء كانت في عود الثقاب او في فرن عظيم ! من هنا علينا ان ندرس التاريخ لنعتبر به في سلوكنا الفردي في تنظيم حياتنا الاسرية و في نظامالمجتمع و حركة الحضارة .. لان التاريخ تجسيد لسنن الله و سنن الله واحدة في الصغير و الكبير .

و تنتظم الآيات اللاحقة في السياق العام للسورة ( التقوى ) من زاوية مباشرة لهذا الموضوع ، ذلك ان التفكر في مصير الامم الماضية التي تمردت على شرائع الله و سننه فلقيت من العذاب ما لا يخطر ببال بشر كفيل بتنمية روح التقوى عند(1) المصدر .


الانسان .

[ و كأين من قرية ]

أي : و كم من قرية ؟!! فكأين تفيد الكثرة .

و لعل التعبير بصيغة الكثرة الرهيبة يهدف مواجهة حالة الاسترخاء التي تصيب الانسان بسبب تواتر نعم الله و تتابع آلائه الكثيرة ، حتى يزعم بان الرب قد غفل عنه او اهمله او فوض اليه أمره فيدعوه ذلك الى الايغال في الذنوب ، كلا .. ان قرى كثيرة قد دمرت فحـــذار ان تـدمر ايضا قريتك الصغيرة المتمثلة في الاسرة و الكبيرة المتمثلة في بلدك ، لانها ليست فوق سنن الله بل هي كأي من القرى الاخرى .

و القرية - كما يبدو - تطلق في القرآن عادة على المجتمعات المتخلفة الفاسدة ، بينما تستخدم كلمة بلد او المدينة عن المجتمعات المتحضرة ، و عدم تحديد الآية لقرية بذاتها ينطوي على دعوة لدراسة شاملة لتاريخ البشرية ، ذلك لان الانسان مفطور على مراجعة التاريخ و الاعتبار به ، و نظرته اليه تحدد نظرته الى الحاضر و تطلعه نحو المستقبل . و الرسالات الالهية تسعى الى تصحيح تقييمه للتاريخ ، لكي لا تكون نظراته خاطئة و لا حتى عابرة ، و ذلك لان الكثير حينما يمرون على اثار الماضين يكتفون بالسياحة او النياحة ، و الادب العربي - كما سائر آداب البشر - زاخر بروائع الشعر التي تستوقف الانسان على الاطلال و البكاء حزنا عندها ، و قد اشتهر هذا الاستهلال في شعر العرب ، قفا نبكي من ذكرى حبيب و منزل .. حتى قيل انه مطلع لسبعين رائعة شعرية !!

بينما القرآن الكريم يستوقف الانسان ايضا عند القرى المدمرة و لكن ليس لمجرد السياحة او النياحة بل للاتعاظ و الاعتبار .

و لقد مر المسلمون في عهد الامام علي - عليه السلام - على اطلال عاصمة كسرى فانشد بعضهم :

جـرت الريـاح على ديارهــم فكـأنهــم كانــوا علــى ميعــــادفنهره الامام و أمره بأن يقرأ : " كم تركوا من جنات و عيون " .

و هكذا يوجه القرآن هذه النظرة الكامنة في الانسان ليقف على الاطلال ، و يتذكر الغابرين ، و يعتبر بمصيرهم ، و يهتدي بالسنن التي كشفتها حياتهم و مماتهم من أجل بناء حياة سعيدة آمنة .

و عادة ما ينقل القرآن تاريخ الشعوب و ليس الافراد ، و حتى اذا تحدث عن فرد كفرعون او هامان او قارون فغالبا ما يضع الحديث عنه في اطار اجتماعي باعتباره طاغية او مرتزق او مترف ، و السبب ان حركة التاريخ اجلى و اوضح حينما يوجه الانسان نظره و فكره الى مسيرة الامم و تاريخها ، و تدمير المجتمعات و الشعوب ادل على سنن الله و حاكميته من هلاك فرد لانه قد يكون موته بسبب طبيعي ، بل ان موته لا يثير الانسان للتفكر و الاعتبار كما يثيره هلاك الامم و المجتمعات .

ان هلاك الامم و بصورة متعاقبة لا يمكن ان يكون امرا اعتياديا ، و هذا ما يتضح عند دراسة تاريخ القرى التي دمرت و الحضارات التي بادت ، فاننا لا شك سنجد سببا لهذه العاقبة وهو الفساد الواقع الذي افقدها مبرر الحياة ، حيث تمردت على النظم الالهية ، كما قالالله :

[ عتت عن أمر ربها و رسله ]

و العتو : هو المبالغة في العصيان و الانحراف و التحدي ، اما الامر فهو النهج و السبيل المتمثل في الشرائع و الحدود الالهية ، كما قال تعالى بعد ان عدد مجموعة من الاحكام و الحدود في الآيات (1 / 4) : " ذلك أمر الله انزله اليكم " (1) ، و لكن الله سماها كلها أمرا بصفة الافراد ربما ليؤكد لنا بأنها لا تقبل التجزأة أبدا ، فمن يعص الله او الرسول و لو في امر واحد فانه يعتبر عاصيا لهما ، كما لا يسمى مطيعا و ملتزما الا من يسلم لكل ما يصدر عنهما و يعمل به .

و قد أضاف الى أمره " رسله " لان الطاعة للقيادة الرسالية من اعظم و اجلى أوامر الله ، لان أمر الله هو القيم التشريعية كالاحكام و النظم و القوانين الصادرة عن الله مباشرة و المذكورة في رسالته التي أنزلها للناس ، بينما أمر الرسول - صلى اللهعليه وآله - هو الجانب العملي و السياسي من أمر الله المتجسد في النظام السياسي و الديني الذي يقوده (ص) و من يمثله بحق ، فلا يصح اذن ان يقول احد : حسبي كتاب الله ، بل لا بد له من البحث عن القيادة الالهية لكي ينتمي الى خطها و يجند نفسه تحت لوائها فلا يعتوعن امر من أوامرها أبدا ، فان في ذلك الخسران و بئس العاقبة .

إن الهدف من الخلق و الوجود هو عبادة الله : " و ما خلقت الجن و الانس الا ليعبدون " (2) ، فاذا لم يحرز المجتمع هذا الهدف لم يبق مبرر لوجوده ، و ان قيمة الانسان يستمدها من مدى تجسيده للحق و طاعته لربه ، فاذا تمحض في الشر و العصيان لم تبق لهقيمة عند الله ، و لا عجب حينئذ ان ترى في التاريخ تلك القرى التي دمرها الله لعتوها عن أمره .

[ فحاسبناها حسابا شديدا و عذبناها عذابا نكرا ]

اذن العذاب الذي حل بتلك القرى ليس بالصدفة ، وإنما هو نتيجة طبيعية(1) الطلاق / 5 .

(2) الذاريات / 56 .

لاعمالهـــا السيئة التي تتكشف بالدراسة و المتابعة و التحليل لمسيرتها التي سبقت الهلاك ، فلكل فعل رد فعل ، و لكل معصية مردود سلبي على صاحبها ، فشرب الخمر يسبب مجمـــوعة مـن الامراض ، و الربا يؤدي الى الفساد الاقتصادي ، و الزنا يعدم الاسرة ، و لكنك اذا جمعت بالحساب الدقيق انحرافات امة من الامم تعتو عن امر ربها فستجد رد فعلها الخسران و الدمار لا غير ، و هذا ما حل بتلك القرى من العذاب المنكر الذي لا يتصوره البشر .

و ما دامت حركة التاريخ في الامم و الافراد قائمة على الحسابات الدقيقة فحري بالانسان ان يدرس كل خطوة يقوم بها في الحياة ، و كل قرار يتخذه صغيرا و كبيرا ، في ضوء معادلة الربح و الخسارة و العاقبة المصيرية .

و الحساب الشديد هو الحساب الدقيق ، ذلك لان الله يحاسب الناس بلطفه فيتغاضى عن كثير من سيئاتهم ، و لكنه اذا سخط على احد بسبب انحراف مجمل سلوكه ( امة او فردا ) حاسبه بعدله فيصير من الحساب اليسير الى الاخر الشديد و العسير ، و حينئذ لا ينجو من العذاب ،و قد اشار الله الى ذلك بقوله : " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة " (1) ، و كما ان الله يحاسب الانسان الذي يكون مجمل مسيرته الصلاح و الحسنات الكبيرة حسابا يسيرا فيكفر عنه سيئاته ، فانه سبحانه يحاسب الذي يكون مجمل مسيرته الفساد و الفواحش الكبيرة حسابا عسيرا لا تغفر فيه سيئة بل تتضاعف ، و هكذا فعل الله بالقرى التي دمرها ، من هنا قال العلامة الطبرسي رحمه الله : " الحساب الشديد الذي ليس فيه عفو " (2) .

و تعذيب الله لتلك القرى ينسف ظنون البعض بانه وهو الرحيم أجل من ان(1) فاطر / 45 .

(2) مجمع البيان / ج 10 - ص 309 .

يؤاخذ العباد بما يعصون ، و بالتالي مما يبعثهم نحو الاسترسال في الفسق و الانحراف من خلال هذا التبرير الواهي ، و هذا احد معاني قوله سبحانه " و ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم ارداكم فاصبحتم من الخاسرين " (1) و ذكر ذلك يزرع روح التقوى في القلب ، و يوقف مسيرة الاسترسال نحو الهاوية !

[9] ان الانسان لا يمكنه ان يتحرك في الفراغ ، لذلك فان القرى حينما عتت عن أمر الله ( مناهجه و نظمه ) اصطنعت لنفسها نظما و قوانين بشرية ، و لكن هل وصلت الى اهدافها الحقيقية ، بل هل حققت مصالحها و رغباتها لا اقل ؟ كلا .. لان رسالات الله و سبله وحدهاالتي تسعد الانسان و تلبي حاجاته ، لذلك بقيت وحدها الخط الثابت عبر الزمن ، رسالة بعد اخرى ، و جيلا بعد جيل ، اما المذاهب البشرية فهي تبطل الواحد بعد الاخر ، فكلما ابتدع المترفون مذهبا وضعيا ليكون بديلا عن رسالات الله و رسله و غطاء لتسلطهم غير المشروععلى رقاب الناس لم يلبث ان ظهر فساده ، و انتشرت اثاره السيئة فاستبدلوه بمذهب اخر او افسد منه ، و ها نحن اليوم نسمع و نقرا عن افلاس الشيوعية ، و ظهر ما جرت على الناس من دمار و قمع و فساد عريض . اوليس هذا و بالا و عذابا ؟ ! بلى ؛ و لكن هل يعود الناس الىمناهج الوحي ؟ كلا .. انما يبتدع لهم كبراؤهم مذهبا باطلا اخر و يأفكونهم به .

[ فذاقت و بال أمرها ]

أي ثقل عاقبة أمرها المتمثلة في الخسران .

[ و كان عاقبة أمرها خسرا ]


(1) فصلت / 23 .


فهي من جهة خسرت المكاسب و المعطيات العظيمة التي تنال بتطبيق امر الله و رسله ، و من جهة اخرى خسرت سعيها و جهودها و الاهداف التي تمنت بلوغها و هذه هي نتيجة المسيرة الخاطئة التي اختارها الناس لانفسهم ، و هكذا كل حضارة لا تقوم على اساس رصين من الحق فانها تكون كبناء على شرف هار ، كلما ارتفع البناء كلما اقترب من الانهيار ، و في لحظة يتلاشى كل شيء ، و تذهب جهود الملايين من البشر !!

[10 - 11] و الخطير في الامر ان الخسارة و العذاب ليسا في الدنيا فحسب فان ما في الاخرة اشد و أخزى !

[ اعد الله لهم عذابا شديدا ]

و لعل اعداد العذاب بسبب انه يأتي نتيجة الافعال التي يجترحها المذنبون في الدنيا فيهيء الله لكل ذنب ما يناسبه من العذاب كما و كيفا ، مما يجعلنا اشد حذارا من السيئات لانها تتحول الى عذاب شديد فور و قوعها و لكننا محجوبون عنه اليوم .

و كما تهبط الامم الى حد الهلاك بالعتو عن امر الله و رسله ، و اتباع المناهج البشرية ، فانها ترتقي في مدارج الكمال و التقدم بالتسليم لامر الله و رسله و بالتقوى و تطبيق شرائعه و مناهجه في الحياة ، فتفلح في الدنيا بالخروج من الظلمات الى النور ، و فيالاخرة بالخلود في جنات النعيم .

[ فاتقوا الله يا أولي الالباب الذين ءامنوا ]

ان التقوى درجة رفيعة من الايمان بالله تبعث الانسان الى المزيد من الوعي لأمر الله و التسليم له ، فهي اذن تكمل لبه و عقله ، كما تكمل ايمانه و جوانبه الروحية .

من هنا فانها اكبر عامل و اوثق ضمانة لاستجابته للحق و التزامه به .

و قد قالوا ان " أولي الالباب " بدل عن " الذين آمنوا " ، و اللب هو مخ الشيء و عمقه ، و ذي اللب هو صاحب البصيرة التي تنفذ الى اغوار الامور ، و قد خاطب الله المؤمنين من هذه الزاوية لان دراسة التاريخ و ما صارت اليه تلك القرى و الاعتبار منه يحتاج الى الايمان و الى الالباب و البصائر التي هي محور الثواب و العقاب ، ففي محاسن البرقي مرفوعا الى الائمة - عليهم السلام - قال : " ما يعبأ من اهل هذا الدين بمن لا عقل له " ، قال ( الراوي ) قلت : جعلت فداك انا آتي قوما لا بأس بهمعندنا ممن يصف هذا الامر ليست له تلك العقول ؟ فقال : " ليس هؤلاء ممن خاطب الله في قوله : " يا أولي الالباب " . ان الله خلق العقل فقال له : أقبل فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، ثم قال : و عزتي و جلالي ما خلقت شيئا أحسن منك و لا أحب إلي منك أبدا ، بك آخذ و بك أعطي " (1) ان تقوى الله تعني تجنب الوقوع في سخطه و عذابــه ، و هي لا تتحقق بالايمان وحده ، بل لا بد من لب يعرف به الانسان ما يسخط الرب و ما يرضيه ، ذلك لان الشروط الموضوعية للتقوى متوافرة ، فتلك هي عبر التاريخ أمامنا ، و هذاكتاب الله و رسوله يذكرنا الله بهما .

[ قد أنزل الله اليكم ذكرا ]

يذكر الانسان بربه ، و بالحقائق الفطرية ، و يذكره بطاقاته ، و قدراته الكامنة ، و اهدافه ، و تطلعاته ، و يستنقذه من الغفلة ، فما هو ذلك الذكر ؟

[ رسولا يتلوا عليكم آيات الله مبينات ]

قال اكثر المفسرين ان الذكر هو الرسول ، و الذي يبدو لي ان الذكر اعم . انه(1) المحاسن / ج 1 - ص 194 .


الرسول و الرسالة ، لانهما جنبا الى جنب يكمل احدهما الآخر ذكر الله للناس ، و الرسول ليس منزلا انما المنزل هي صفة الرسالة التي اشتق اسم الرسول منها ، و هكذا وصف الرسول بالذكر لانه يتلو آيات بينات ، و من هنا : لا يكون الذكر الكتاب وحده ، و لا الرسول وحده، و انما هما معا . و هما معا يشكلان حالة واحدة لا ينفصلان و لا يفترقان حتى يوم القيامة .

و الاية هي العلامة و الدلالة ، و آيات الله كل ما يعرف الانسان به و يهديه ، فالسماء آية ، و الشجر آية ، و المطر آية و .. و .. ، و لكن اجلى الآيات هي التي جاءت بها رسالة الله عز وجل ، و التي وصفها بانها " مبينات " لانها آية في ذاتها و تهدينا الى سائر آيات الله ، و هذا ما يميز آيات القرآن عن الآيات الطبيعية الاخرى .

ثم انها ترسم الطريــق المستقيم ، فتبين الصواب و الخطأ ، و ما أحوجنا ان نتبعها . أوليست تنصب لنا انوار الهداية ، كما قال تعالى :

[ ليخرج الذين ءامنوا و علموا الصالحات من الظالمات الى النور ]من ظلمات الكفر الى نور الايمان ، و من ظلمات الجهل الى نور العلم ، و من ظلمات التفرق الى نور الوحدة و .. و .. و بعبارة اخرى : من كل شر و ظلمة الى كل خير و نور ، و نتساءل : او ليس المؤمنون قد خرجوا فعلا من ظلمة الكفر الى ضياء التوحيد ، فماذا يعني بيان ان الله يخرجهم من الظلمات الى النور ؟ الجواب : للانسان في البدء فرصتان متساويتان للايمان و للكفر ، و قلبه كالشفق فيه ضغث من نور و اخر من ظلمة ، و آيات الله ليس تكشف له عن النور و الظلمة فقط ، بل ترجح فيه فرصة الايمان و تزيد النور الذي في قلبه لتميل به الى الحق ، ثم ترقى به درجة فدرجة في مدارج النور و الكمال حتى يتمحض في الايمان فيخرج خروجا كليــــا من الظلمات الى النور ، لان كل عمل قبيح و نية فاسدة و صفة ذميمة ظلام في القلب ، و كل عمل صالح و نية رشيدة وصفة حميدة نور ، و كلما تزكى القلب و تطهرالسلوك من السيئات كلما زاد القلب نورا حتى يصبح العبد من المخلصين ، كالذهب المصفى لا يشوب نور ايمانه اي ظلام ، و هذا مقام اولياء الله المقربين .

و هكذا ليس آيات الله بديلا عن سعي الانسان نفسه ، انما دورها هو رسم النهج السليم للكمال و الرقي ، و على الانسان الاجتهاد للعروج عبرها الى الكمال .

[ ومن يؤمن بالله و يعلم صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا ]و الرزق ما يعطى للانسان شيئا فشيئا مما يوحي بان نعيم المؤمنين في الاخرة لا ينحصر في ما يعطونهم اول مرة ، انما هو في ازدياد و تكامل يوما بعد يوم .

[12] و حيث دعتنا أكثر آيات السورة الى تقوى الله جاءت الخاتمة تعرفنا بربنا سبحانه ، لان التقوى بنت المعرفة ، فكيف اذن نزداد معرفة بربنا لكي نزداد تقوى ؟

لننظر الى الافاق من حولنا ، الى السماوات و الارض ، و الى اسمائه المتجلية في هذه الافاق . انها سبيلنا الى معرفته تعالى ، فحيثما رميت ببصرك رأيت عجيب الصنع و عظمة الخلقة ، و أنى جلت ببصرك و تعمقت بفكرك فلن تجد الا اجابة واحدة تقودك الى حقيقة التقوىو سنام المعرفة .

[ الله الذي خلق سبع سماوات و من الارض مثلهن ]

قيل : السبع كالسبعين كلمة تدل على الكثرة ، و قيل : ان الظاهر هو المقصود ،فهناك سبع سماوات ، فما هي السماوات السبع ؟ هل هي ما تحيط بالاقاليم السبع من الفضاء القريب ، باعتبار ان السماء هي الجهة المقابلة للارض ، فاذا كانت الارضون سبعا - حسب تقسيم الناس يومئذ - فان سماواتها ايضا سبع ، و على هذا فان الارضين السبع هي تلك الاقاليم المشهورة في ادب العرب و في عرف الذين خوطبوا بالقرآن ، و قد جاء في حديث الامام أمير المؤمنين - عليه السلام - : " لو اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها " (1) ،ام ان السماوات السبع اشارة الى الكواكب او الى سبع منظومات شمسية او الى المجرات ؟ لعل الانسان يطلع على معاني اخرى اذا تقدم به العلم . و المماثلة بين السماوات و الارضين هنا قد تكون عددية و جنسية حيث ان الارض من رتق السماء .

[ يتنزل الأمر بينهن ]

" و الأمر " : سنن الله و قضاؤه و تقديراته و ما يبدو له مما يدبر به شؤون الخلق و لعـل ذلك سمي أمرا لان الله و كل ملائكة على كل شيء ينفذون ارادته في الكائنات ، فهو يأمرهم من فوقهم و هم يعملون بما يريد .

و اذا نبحث عن الفلسفة الاساسية التي خلقت من اجلها السماوات و الارض ، و بالذات السماوات التي لا يطالها الانسان فاننا سنجدها ليست المتعة بالنظر اليها ، و لا ما تقوم به من دور في وجوده و حياته ، انما هي كماله المعنوي و الروحي بمعرفة ربه من خلال اسمائه المتجلية في الكون من حوله .

[ لتعلموا أن الله على كل شيء قدير ]

حيث تتجلى آية قدرته في الخلق العظيم للسماوات و الارض لتهدينا الى هذه(1) نهج / خ 224 .


الحقيقة .

[ و ان الله قد احاط بكل شيء علما ]

و آية ذلك أمره الذي يتنزل لتدبير كل شيء . و علم الانسان بقدرة الله على كل شيء و علمه المطلق و بالتالي ايمانه بذلك هو الذي يزرع في نفسه التقوى ، حيث يخشى سطوة الله القادر ، و يتحسس رقابته عليه فلا يعصيه في علن و لا خفاء .

و كلمة اخيرة : ان الانسان الذي لا يتخذ الخليقة وسيلة لتكامل معرفته و ايمانه بربه ضال عن هدف الخلقة ، او تدري كيف ؟ لان الله سبحانه قد خلق ما في الارض للانسان حتى اصبح الانسان محور الخليقة ، فهل خلقها لجسده ام لروحه ؟ ان الانسان لا يتميز بجسده عنأي حيوان آخر ، و لا فضيلة له في ذلك أبدا . اذا حكمة الخلق تكمن في روحه ، و مــاذا في روح الانسان غير العقل الذي ينمو بالنظر في افاق السماوات و الارض ؟! فمن لم يتكامل عقله فانه ليس يبطل حكمة خلقه فقط ، بل و حكمة الوجود من حوله ايضا . أليس كذلك ؟


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس