فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الايات
[1] في اول كلمة من سورة الملك يطالعنا اسم من اعظم اسماء الله و هو تبارك و الذي يقول عنه ( و عن اسمين اخرين يماثلانه في العظمة ) الحديث المأثور عن الامام الصادق - عليه السلام - : " ان الله تبارك و تعالى خلق إسما بالحروف غير منعوت ، و باللفظ غير منطق ، و بالشخص غير متجسد ، و بالتشبيه غير موصوف ، و باللون غير مصبوغ ، منفي عنه الاقطار ، مبعد عنه الحدود ، محجوب عنه حس كل متوهم ، مستتر غير مستور ، فجعله كلمة تامة على اربعة اجزاء معا ليس منها واحدا قبل الآخر ، فاظهر منها ثلاثة اسماء لفاقة الخلقاليها ، و حجب واحدا منها ، و هو الاسم المكنون المخزون بهذه الاسمـــاء الثلاثـة التي اظهرت ، فالظاهر هو : الله ، و تبارك و سبحان ( و في رواية : و تعالى ) لكل اسم من هذه اربعة اركان ، فذلك اثنى عشر ركنا ، ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين اسما فعلا منسوبا اليها " (1) .

و ربما بسبب عظمة الاسماء الثلاثة التي اظهرها الله لخلقه نجد ائمة الهدى ينعتون عادة ربهم بها ، فما تكاد تقرا حديثا عن الله الا يقولون فيه : قال الله تبارك و تعالى .. فما هو معنى " تبارك " ؟

إن أهم و اظهر معاني هذا الاسم العظيم الخير الكثير المستمر الذي يتصل في مقام الخالق بتواتر نعمه على الكائنات و تتابع الائه ، التي لولاها ما استمرت و لزالت(1) موسوعة بحار الانوار / ج 4 - ص 166 .


و تلاشت السماوات و الارض و ما بينهما ، كما يتصل في مقام الخليقة بانها في حالة نمو و تكامل مستمر ، لان خالقها يعطيها بركة تلو اخرى ، مما يدل على ان مسيرة الخلق تصاعدية . و ما التوسعة التي يضيفها الخالق للسماوات حينا بعد اخر و التي اشار اليها بقوله : " و السماء خلقناها بايد و انا لموسعون " (1) الا مظهر لبركات الله ، و في القرآن أشارات الى هذا المعنى اليك بعضها : قال تعالى و هو يتحدث عن الرسالة ، " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا " (2) ذلك لان الفرقان نعمة تتواصل و خير يستمر و عطاء لا ينقطع من الدنيا و الى الاخرة . اذا فهو تجعل لاسم ربنا " تبارك " ، و قــال في معرض حديثه عن انشاء الانسان من طور الى آخر حتى سواه كاملا بنعمة العقل : " ثم انشأناه خلقا آخر فتبارك الله احسن الخالقين " (3) ،و قال في سياق بيانه لنعمه التي في السماء و بركاته : " تبارك الذي جعل في السماء بروجا و جعل فيها سراجا و قمرا منيرا " (4) .

و هكــذا يكون اسم " تبارك " الركن الاخير من اربعة اركان جعلها الله لاسمه الاعظم ، و هو يشير الى صفات فعله ، الفعال لما يريد ، الجواد ، الكريم ، المنان ، المتفضل ، الوهاب ، الخالق ، البارىء ، المصور ، و هو صانع كل مصنوع ، و خالق كل مخلوق ،و رازق كل مرزوق ، و مالك كل مملوك ، و راحم كل مرحوم ، و .. و ..

أما الأركـــان الثلاثــة فـان واحدا منها مخزون عند رب العزة ، بينما الثاني هو : ( الله ) الذي يشير الى صفات الذات ، و الثالث هو : ( تعالى او سبحان ) الذي يشير الى صفات الجلال .


(1) الذاريات / 47 .

(2) الفرقان / 1 .

(3) المؤمنون / 14 .

(4) الفرقان / 61 ( و لقد مر في مطلع سورة الفرقان تفصيل في بيان هذا المعنى من تبارك فراجع ) .


[ تبارك الذي بيده الملك ]

فالملك الحقيقي بيده وحده تعالى ، لانه الباقي بعد فناء كل شيء ، و لانه وحده القادر على التصرف في ملكه بصورة مطلقة ، اما ما يملكه الخلق فمالكيتهم له محدودة بقدر ما منحهم الله ، فمتى شاء زاده او نقص منه او سلبه و حوله الى غيرهم .

و هذه الاية تفتح افاقنا على وجود اوسع من الارقام الفرضية التي يقدرها العلماء و الفلكيون ، بل اوسع مما للانسان المقدرة على تخيله مهما ذهب بعيدا ، و انى له تصور ملك الله و هو بيد قادرة على كل شيء و تمده بالبركة بعد البركة ؟ !

[ وهو على كل شيء قدير ]

و كفى دلالة على ان الملك بيده تعالى و انه صاحب القدرة المطلقة ان ينظر الانسان الى الوجود من حوله و ما فيه من ايات القدرة و العظمة ، و كيف انه مسير وفق نظام دقيق وضعه الله له لا يخرج عنه ، و لا ترى فيه ثغرة او نقصا او فطورا .

ولقد وردت رواية عن امير المؤمنين علي بن ابي طالب - عليه السلام - في بيان جوانب من معاني اسماء الله الحسنى نذكر بعضها للفائدة : " و لما تسمى بالملك اراد تصحيح معنى الاسم لمقتضى الحكمة ، فخلق الخلق و امرهم و نهاهم ليتحقق حقيقة الاسم و معنى الملك ( و يظهر من هذه الكلمات ان الشرائع من مظاهر اسم الملك الالهي ) و الملك له وجوه اربعة : القدرة ( على التصرف في الملك بمطلق التصرف ) ، و الهيبة ( و هي انعكاس لقـــدرة المـالك علــى المملوك ) ، و السطوة ( بأخذ المملوكين بالقوة و البطش حين المخالفة . فسبحان من لا يعتدي على اهل مملكته بسطوته ) ، و الامر و النهي ( تشريعيا و تكوينيا ) (1) .


(1) موسوعة بحار الانوار / ج 93 ، ص 41 - 42 .


[2] و من اظهر ايات ملك الله ، و اظهر ايات قدرته : الموت و الحياة ، و قد اختلف في معناهما هنا الى رأيين : احدهما : انهما ظاهرتا الموت و الحياة اللتان تطبعان آثارهما على كل شيء ، سواء الماديتين كموت الانسان و حياة الارض بالزرع ، او المعنويتين كالهدىو الصلاح في مقابل الضلال و الفساد ، و الآخر : انهما اشارة الى تقسيم الكائنات الى اشياء جامدة و ذات حياة .

[ الذي خلق الموت و الحياة ]

و قد اشار الامام الباقر - عليه السلام - الى المعنيين فقال : " الحياة و الموت خلقان ( من ) خلق الله ، فاذا جاء الموت فدخل في الانسان لم يدخل في شيء الا و خرجت منه الحياة " (1) و الذي يظهر لي ان الموت هنا بمعنى انفصال الحياة من كائن حي كما تفيد الرواية ، و بما ان معرفة الحياة بصورة اجلى تتحقق بمعرفة الموت فانه قدم الموت على الحياة ، و لا اعتقد ان ما قاله بعض المفسرين و الفلاسفة من ان الموت سابق للحيـــاة صحيحـا ، لان الانسان قبل خلقه و وجوده لا يقال له ميت ، و كيف يقال للعدم ميت ؟! منهنا جاء في الحديث المروي عن الامام الباقر - عليه السلام - : " و ان الله عز وجل خلق الحياة قبل الموت " (2) و قد يكون تقديم الموت على الحياة في الاية لحكمة اخرى هي ان قدرة الله تتجلى بالموت حيث لا يجد سبيلا لتحديه و لا مفرا من سطوته .

كذلك جاء في الدعاء الماثور : " و قهر عباده بالموت و الفناء " (3) .

و يضع الله الانسان امام سنة الموت الحتمية ، و فرصة الحياة ، و يذكره في نفس(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 379 .

(2) المصدر نقلا عن اصول الكافي .

(3) مفاتيح الجنان / دعاء الصباح .


الوقت بالهدف الذي خلق هو كما خلقا من أجله ، الا و هو الابتلاء لاستخراج معدن كل فرد و استظهار خبايا شخصيته ، و مع ان الموت من مفرات الابتلاء الا ان الابتلاء اكثر و اعظم تجليا بالحياة .. بل لا يكون الا اثناء الحياة ، و لذلك تأخر ذكر الحياة على الموت لتكون هذه الكلمة لصيقة بكلمة الابتلاء .

[ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ]

إذن يجب على الانسان و هو يعيش فرصة الحياة ان لا يضل عن هذا الهدف الكبير ، بل يقاوم كل عوامل الانحراف و الغفلة عنه ، و يسخر كل قدراته المعنوية و المادية للفلاح و الفوز فيه ، بان يجعل عمره مزرعة لاحسن العمل .

فما هو أحسن العمل ؟ انه ما اخلص فيه الانسان النية ، و اتقن الاداء ، و تحدى به هوى نفسه و اهواء القوى الشيطانية في مجتمعه ، و كان العمل نفسه من اشرف الطاعات و اعظمها ثوابا عند الله ، هكذا روي عن النبي (ص) انــه قال في تفسير الآية : " أيكـــماحســن عقـلا ، و أورع عن محارم الله ، و اسرع في طاعة الله " (1) ، و قال : " اتمكم عقلا ، و اشدكم لله خوفا ، و احسنكم فيما امر الله و نهى عنه نظرا " (2) ، و قال الامام الصادق - عليه السلام - : " ليس يعني اكثركم عملا ، و لكن اصوبكم عملا ، و انما الاصابة خشية الله ، و النية الصادقة " (3) .

و قوله : " ليبلوكم " لا يعني انه تعالى لا يعلم بخلقه ، بل ليتحقق ذلك العلم في عالم التكوين و يطلع الناس انفسهم على معادنهم ، و يعقلون جزاء الله انه بعدل لا بظلم ، قال الامام علي بن موسى الرضا - عليه السلام - : " خلق خلقه ليبلوهم


(1) تفسير نور الثقلين / ج 5 - ص 380 .

(2) المصدر .

(3) تفسير البرهان عند الآية .


بتكليف طاعته و عبادته لا على سبيل الامتحان و التجربة لانه لم يزل عليما بكل شيء " (1) .

و لعل اظهر تاويل لهذه الاية هم الانبياء و الرسل و ائمة الهدى من اهل بيت الرسول ، حيث انهم جميعا كانوا الاحسن عملا بين خلق الله ، فهم - على هذا - ابرز الحكم الالهية للخلق . اليس قد اظهرت البلايا انهم القمم المضيئة ، و الذرى المتسامية ؟ و ان الله مااختارهم و لا اصطفاهم الا بعلم و حكمة ، و ما جعلهم سادات البشر و امراء الصالحين من عباده الا لانهم السابقون في طاعة الله .

و قد قدر بعضهم في الاية كلمة فقالوا : الاصل هو : " ليبلوكم فينظر ايكم " ، و لا أرى لهذا الافتراض و اشباهه مبررا في كتاب الله ، فالآية اعمق بلاغة بوضعها مما لو اضفنا اليها شيئا ، لاننا نفهم منها انه تعالى يصنع الصالحين في رحم الابتلاء ، بل ان خلق الانسان يكون ناقصا لو لم يأت الى الدنيا و يبتلى فيها . و هكذا تكون الآية مظهر من مظاهر اسم " تبارك " حيث تظهر بركة الله بأجلى صورها و شواهدها في الصفوة من عباده المؤمنين الصالحين ، الذي يتجاوزون في سبيله كل الجاذبيات السلبية و العقبات الكاداء ، و يسمون بانفسهم الى آفاق الفضيلة ببركة الايمان به عز وجل و بنعمة العقل التي وهبها لهم ، و لذلك جاء في الاخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - في قوله : أيكم أحسن عملا " قال : " احسن عقلا " (2) .

و لان الانسان يفلح تارة و يخطىء اخرى وهو يواجه الأبتلاءات ، او يتعنت احيانا على الحق ، جاءت خاتمة الاية لتسوقه نحو اهدافه في مسيرة العمل بمعادلة متوازنة كفتها الاولى الخوف و كفتها الاخرى رجاء رحمة الله و غفرانه ، و ذلك من(1) المصدر .

(2) المصدر .


خلال تعريفه باسمين لربه من اهم ما ينبغي له التعرف عليهما .. فلا يسترسل مع الرجاء المفرط ، و لا يصير فريسة للقنوط .

[ وهو العزيز الغفور ]

يأخذ بعزته العاصين المذنبين ، و يغفر لمن يتوب ، فمن احسن العمل غفر له ، و من أساء عذبه . ثم اننا نهتدي من هذه الخاتمة ان للابتلاء هدفا اخر غير استظهار معدن الناس ، وهو الجزاء .

[3 - 4] ثم تأخذ الآيات بأبصارنا وبصائرنا الى بديع خلقه الكائنات ، فاننا اذا امعنا النظر فيها و القينا نظرة الى السماء التي تمتد مدى ابعد من ادق النواظير و اعظمها التي اخترعها الانسان بما لا يقدر بشر على تخيله .. و اعظم من حجم السماوات ذلك النظام المتناهي في الدقة الذي يحكمها على ما فيها من المنظومات و المجرات الهائلة ، فسنقرا في الافاق أسماء ربنا الجليل . ان التفكر في خلق الله يوقف الانسان امام حقيقة بديعة هي متانة الحق و التدبير في كل مفردات الكون و اجزائه ، و النظرة السليمة التي ينبغي ان نسلكها ليست التي تقف بنا عند ظواهر الاشياء ، بل التي تحملنا من الظاهر المشهود الى الباطن المحجوب ، و من معرفة المخلوق الى معرفة الخالق انشأه و ابدع له النظام الذي يسير عليه .

[ الذي خلق سبع سماوات طباقا ]

قالوا : يعني بعضها فوق بعض ، كما قال الله : " لتركبن طبقا عن طبق " (1) و يبدو ان التطابق هنا بمعنى الدقة في التكامل و التناسق ، من باب المطابقة و الموافقة ضد التناقض و التنافر ، و ان دل ذلك على شيء فانما يدل على دقة(1) الانشقاق / 19 .


النظام الحاكم في الكون و مدى قدرة خالقه و عظمته ، فانك مهما بحثت و اجهدت نفسك فلن تجد ثغرة و لا عيبا في خلق الله .

[ ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ]

أي ثغــرات و تناقضات ، فان التفاوت بمعنى الاختلاف ، و الاختلاف يعني التناقض ، قال تعالى : " افلا يتدبرون القران ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كبيرا " (1) و قد ذكر اسم " الرحمن " هنا عند الحديث عن نظام الخليقة لانذلك من اعظم تجليات رحمته عز وجل . اترى لو كان النظام الكوني متناقضا هل كانت الحياة ممكنة او ميسرة ؟! كلا .. و اننا مهما تفكرنا في الخلائق فاننا نجدها محكومة بنظام التكامل المتقن ، فالشمس تختلف عن القمر و لكن احدهما يكمل مسيرة الآخر ، بل يقوم بدور محــدد بحــيث لا تنتظم مسيرته الا بـه ، بلــى . قـد نــزعم انهما متنــاقضان لان احــدهمــا ( الشمس ) نار مشتعلة و الاخر ( القمر ) نور هادىء و لكن احدهما وجه للثاني .

و اللطيف في التعبير القراني عند هذه الاية انه حدثنا في المطلع عن السماوات السبع ، و لكنه عندما نفى وجود التناقض نفاه عن كل خلق الله ، و ذلك ان الانسان قد يسلم بان خلقا من خلقه تعالى كالسماوات محكم و متقن ، و لكنه يشك في وجود هذه الحقيقة عندما يتفكر في خلق اخر ، فاذا به يتساءل : و لماذا خلق الله الذباب و الميكروبات المهلكة ؟ لماذا الزلازل التي يذهب ضحيتها الالوف من البشر ؟

و لكن عليه اولا : ان يقيس ما يعرفه من خلق البشر بما لا يعرفه ، و ثانيا : ان يعالج شكه باليقين ، فلا يسترسل مع وساوس الشيطان ، بل يظل باحثا عن الحقيقة حتى يكتشفها . لذلك ياتي الخطاب الالهي الكريم يدعو كل فرد فرد من ابناء(1) النساء / 82 .


البشر للنظر و التفكر في خلق الله ، و دراسة الظواهر المختلفة ، لاننا كلنا مسؤولون عن معرفة الحقيقة و الوصول الى درجة اليقين من الايمان بالله ، و يقول :

[ فارجع البصر هل ترى من فطور ]

و الى جانب البصر ينبغي ان يعمل الانسان بصيرته ايضا ، فان العين نافذة القلب على الحياة . و لعل الفرق بين كلمتي " تفاوت و فطور " ان التفاوت يكون بين خلق و خلق اخر ، و هو منفي لان كل خلائق الله يكمل بعضها بعضا فهي منسجمة مع بعضها ، اما الفطـور فيكون في ذات الخلق الواحد بين اجزائه ، و ليس في خلق من خلقه تعالى ثغــرة .

و انه لعجيب قول ذلك الدكتور الالماني بخنر : " بما اننا لم نجد ظاهرة واحدة في هذا الكون الرحيب من ابعد نقطة اكتشفناها في الفضاء و الى اقرب جرم الينا ، لم نجدها شاذة عن النظام الكوني ، فليس لنا الحاجة الى افتراض وجود الله " (1) . سبحانه الله كيف عمي قلبه و لم يعرف ان وجود النظام دليل على من نظمه و هيمن على اجرائه ؟!

نعم لو ثمة تناقض او تنافر في نظام الكون لامكن افتراض ان الصدفة هي التي اوجدته ، او ان هناك الهة متعددة شركاء في الربوبية يتناقض الكون بتناقض ارائهم و تدبيرهم ، و لكننا لا نرى شيئا من ذلك ، فما هي الا حقيقة التوحيد الخالص اذن . و ليست مشكلـــة الدكتور بخنر الا واحدا من امرين : فاما ان يكون جاحدا معاندا لم يرد التسليم للحق ، و اما ان يكون قد اخطا في منهج البحث و الدراسة لظواهر الكون ، بحيث انه جعل المزايا العلمية المجردة هدفا من بحثه فلما وجدها توقف عندها ، و هذا خلاف المنهج السليم الذي يامر بهالعقل و الدين


(1) الفكر الاسلامي مواجهة حضارية - للمؤلف / ص 188 .


و الذي يدعو الى تجاوز ظواهر الامور الى بواطنها .

ان الانسان لا يستطيع ان يصنع شيئا الا و فيه ثغرة ، و لكنك لا تجد و لا بعضا من فطور في خلق الله ، و انى يكون ذلك و هو الرحمن ، الذي لا يريد لخلقه عناء و لا نصبا ؟ اترى لو كانت الشمس تتغير من موقعها هل نستطيع العيش على هذا الكوكب ؟! و هل يمكن لنا الحياة على الارض لو انعدم الاوكسجين او تلاشى قانون الجاذبية ؟! كلا .. اذن فذلك من رحمة خالقنا و تلطفه بنا سبحانه .

بلى . قد ينظر الانسان الى خلــق الله و يتفكــر فيه فيزعــم ان وجــود اللوزتيـن - مثلا - ثغرة في خلق الانسان ، الأمر الذي دعى بعضهم قبل سنين معدودات الى اقتلاعهما بعيد الولادة ! او يسمي عضوا داخله بالزائدة الدودية ، و تسود هذه الافكار بين الناس بلفي الاوساط العلمية ايضا ردحا من الزمن ، و لكنه بعد ان يتقدم العلم يكتشف خلاف تلك المزاعم ، و يتبين له ان اعتقاداته السابقة كانت ظنونا سببها الجهل و التسرع في الحكم . لذلك يدعو القران للتفكر و النظر في الامور بامعان مرات عديدة :

[ ثم ارجع البصر كرتين ]

و اكثر من ذلك ، و ابحث بكل ما تستطيع عن تناقض و ثغرات في خلق الله ، بل افترضه ذلك ثم حاول ان تثبت وجوده ، فهل ستجد الى ذلك سبيلا ؟ كلا .. و انما ستصل الى حقيقة واحدة هي التي اشار اليها القران : " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " عند تفكركفي اي خلق من خلقه تعالى ، حتى .

[ ينقلب إليك البصر خاسئا و هو حسير ]

و الخاسىء المطرود المبعد ، و تقال هذه الكلمة للكلب و الخنزير ، قال صاحب المنجد : الخاسىء من الخنازير و الكلاب المبعد المطرود ، لا يترك ان يدنو من الناس (1) و كان الانسان حينما يجول ببصره يبحث عن عيب في خلق الله يطرد بلسان حال الخلائق ، و كأنها تقول له : اخسا اننا خلق الرحمن الحكيم العليم فلن تجد فينا نقصا ، حيث يقال خسأ و خسوء البصر : كل واعيا (2) ، وهذا المعنى قريب ايضا لان الباحث سوف يتعب و يشقى دون العثور على عيب ، و كيف يعثر على شيء ليس بموجود ؟! و يؤيد هذا القول قوله تعالى : " ينقلباليك البصر " فهو يتعب و يكل من النظر الى الخلائق فلا يعود الى ذلك مرة اخرى .. بل يرجع صاحبه منهكا دون نتيجة .

اما الحسير فقيل : المحقر ، و قيل : من اشتدت حسرته و ندامته على امر فاته (1) ، وهما محتملان الصحة . . و هناك معنى قريب جدا من الاية هو العاري من الحسر : الرجالة فـي الحرب يحسرون عن وجوههم و رؤوسهم ، او يكونون لا درع عليهم ، و يقال : ارض عارية المحاسر اي لا نبات فيها (4) و ان الانسان ليعود ببصره و بصيرته من رحلة البحث عن التفاوت او الفطور في خلق الله و هما مجردان عاريان من اي دلالة و نتيجة تثبت ذلك .

قال أمير المؤمنين (ع) : " فمن فرغ قلبه ، و أعمل فكره ، ليعلم كيف اقمت عرشك ، و كيف ذرات خلقك ، و كيف علقت في الهواء سماواتك ، و كيف مددت على مور الماء ارضك ، رجع طرفه حسيــرا ، و عقله مبهورا ، و سمعه والها ، و فكره حائرا " (5) .


(1) المنجد مادة خسا .

(2) المصدر .

(3) المصدر - مادة حسر .

(4) المصدر .

(5) نهج البلاغة / خ 160 - ص 225 .


و لنا في الاية الرابعة وقفة عند معنى " كرتين " ، فلماذا قال الله : " ثم ارجع البصر كرتين " ؟ و الاجابة :

1 - للتأكيد على ضرورة ان يركز الانسان في بحثه و دراسته ، فلا يحكم على شيء من نظرة واحدة عابرة ، انما يجب ان يدرس اموره مرات عديدة ثم يقول رأيه ، فقد يكون في مرته الاولى غفل عن بعض الجوانب و المعطيات ، او لم يفكر تفكيرا كافيا .

2 - ان المعرفة السليمة قد لا تتاتى الا بالمقارنة بين الاشياء ، فينبغي للدارس ان يراجع ببصره و فكره مرتين ، مرة يرجع الى ما يريد معرفته و التحقيق في شانه ، و اخرى يرجع الى ما يشابهه او يناقضه للمقارنة .

3 - ان دراسة الشيء دراسة شاملة تتم بدراسة جانبين فيه : الجانب المادي الظاهر ، و الجانب المعنوي الباطن ، و يحتاج الباحث ان يكر مرة ببصره لملاحظة الجانب الاول ، و كرة اخرى يرجع بها الى الجانب الثاني منه .

4 - لكي يرقى الانسان في معارفه سلم التكامل فهو بحاجة الى اعادة النظر في ما توصل اليه سابقا بهدف نقده او تكميله من خلال نظرة تفكر جديدة ، لاحقة بعد السابقة و هكذا .

[5] و مما يؤكد حاجة الانسان الى اعادة النظر في معارفه ان هناك جملة من الافكار و الاعتقادات الخاطئة ( الاساطير ) ينطوي عليها فكره لا تتصحح الا بكرات اخرى جديدة يرجع فيها البصر و البصيرة ، و من بينها تصوره المتصل بنظام السماء انه فيه ثغرات تنفذ منهاالشياطين الى الملا الاعلى فتطلع على اقدار الله ، و زعمه بان النجوم هي مراكز الاقدار و ان لكل فرد نجما يخصه اذا مات سقط ، و على ذلك فسروا ظاهرة الشهب و النيازك ، و مضى القول : ( نجمي لا يوافق نجمك ) . و القران يشير الى تلك التصورات و يصححها حيث يقولتبارك و تعالى :

[ و لقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ]

و هي النجوم التي تعتبر لاهل الارض قناديل الليل ، اذ تهتدي بها السفن التي اضلتها العواصف عن مسارها و تضيء درب الراعي الساري بغنيماته ليلا في صحراء بعيدة ، كما تناغي المستلقي تحت السماء في الليالي الصافية . و لكن متانة الخلقة تربط بين تلك الزينة والاضاءة و بين حراسة السماء في تلك النجوم ، فهي كما تزين السماء و تضيء لاهل الارض كذلك تقصف الشياطين رجما فلا يستطيعون العبث بمقدرات الكون ، و لا حتى استراق السمع لمعرفة تلك المقدرات .

[ و جعلناها رجوما للشياطين ]

و هذه الاية تنسف زعم الجاهلين بان الشياطين قوى خارقة و عالمة بأقدار الله لانها تخترق السماوات و تصل الى الاعلى ، الامر الذي جعل البعض يشرك بهم ، و يتبعون الكهنة باعتبارهم وسائط بين الشياطين و بين الادميين ، فان النجوم ليس كما يتصورون بل هي زينة ومصابيح و رجوم ، و ان الشياطين ليسوا كذلك لانهم يرجمون .

و لعل هذه الاية تؤكد متانة النظام الكوني و هيمنة الله من زاويتين :

الاولى : ان مانراه من الشهب و النيازك ليست مجرد قطع تنفصل عن مدار بعض النجوم و الشموس في الفضاء نتيجة عوامل و قوانين فيزيائية بحتة و من دون هدف ، انما تنفلت من مواقعها بارادة الله ولاهداف محددة من بينها رجم الشياطين .

الثانية : ان النظام الكوني نظام متقن ، و هو بالرغم من وجود العوامل المضادة التي تحاول خرقه كالشياطين فانها لا تؤثر في مسيرته و نظمه ، و ان مصير كل محاولة لخرقه هو الفشل . و هذه الحقيقة تعطي الانسان الاطمئنان و الامن حيث يشعر انه يعيش في كون منظم ومحروس .

و يؤكد ربنا في خاتمة الآية بان ما هو اعظم من جزاء الرجم الدنيوي للشياطين هو ذلك العذاب المعد لهم في الآخرة .

[ و أعتدنا لهم عذاب السعير ]

و يدل هذا المقطع على ان الشياطين مخلوقات مكلفة و مختارة و مسؤولة حيث تجري عليهم سنة الجزاء .

[6] و بعد ان انتهى الفصل الاول الذي استهدف زرع الخشية من الله بالغيب من خلال معرفته بالشهود و من خلال تعريفه نفسه بالآيات ، يبدا السياق القراني فصلا اخر لا ينفك عن الاول ، بل يلتقي معه في ذات الهدف ، حيث تذكرنا الآيات التالية بعذا جهنم و جزاء اللهللكافرين .

[ و للذين كفروا بربهم عذاب جهنم ]

ان الكفر بالله من قبل الانسان هو الاخر كعمل الشياطين خرق لنظم الله مما يستوجب العذاب . و لهذه الاية صلة متينة بالاية الثانية في السورة التي بينت بان حكمة الخلق استظهار معدن الانسان بالابتلاء ، و الكفر و العذاب صورة لفشل الانسان في القيام بدوره و واجبه الذي خلق من اجله ، فيتردى في الجحيم .

[ و بئس المصير ]


و المصير من الصيرورة اي ما يصير الانسان نفسه اليه .

و يلاحظ فـي هذه السورة تأكيد الله على اسم الرحمن اربع مرات ( في الآية الثالثة ، و التاسعة عشر ، و العشرين ، و التاسعة و العشرين ) ، و كانه تعالى يريد ان يؤكد بانه انما خلقنا ليرحمنا لا ليعذبنا و لكننا نحن الذين نختار العذاب لانفسنا بارادتنا حينمانكفر به ، فان ما يصير اليه الانسان من العقاب نتيجة كفره لا لان الله سبحانه يريد له بئس المصير .. و بماذا يكفر و يمارس الكفر ؟ انه يكفر بخالقه و رازقه و واهبه الحياة و كل ما يملك ، و يمارس عناده له بنعمه .. بنعمة المال و القوة و الصحة و السمع و البصرو .. و .. ؟ و لعل هذا ما توحي به كلمة " بربهم " اي به و بوسيلة نعمه .

[7 - 9] و يفصل القرآن القول في موضوع العذاب مبينا بعض صفات جهنم و احوال اصحابها حينما يلقون فيها ، لعلنا نتحسس ذلك الغيب ، و نخشى سطوة الله .. فما هي صفات جهنم ؟

اول صفة لها انها - كما الحفرة او الوادي - ذات قعر سحيق ، و قد يكون اول عــذاب يــواجهه أهـــل جهنم فيها هو الالقاء من الاعلى الى الاسفل ، فعن الامام الصادق - عليه السلام - عن الرسول - صلى الله عليه واله - عن جبرئيل قال :

" و إن جهنم اذا دخلوها هووا فيها مسيرة سبعين عاما " (1) و يعلم الله كم هم يقاسون في هويهم من ألوان العذاب ؟!

[ اذا ألقوا فيها ]

و بناء الفعل هنا للمجهول يدل على انهم يلقون مكرهين في النار ، و في(1) نور الثقلين / ج 3 - ص 477 .


النصوص اشارة الى ذلك ، قال الامام الصادق - عليه السلام - : " و الذي نفسي بيده انهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط " (1) .

[ سمعوا لها شهيقا ]

و من انواع العذاب ما يسمعه الكافرون حين هويهم في جهنم من عظم شهيقها . و الشهيق هو اخذ الهواء الى داخل الرئة ، و كأن النار يومئذ تعطى قدرة هائلة على الجذب فتسحبهم الى جوفها بشهيق ذي صوت مرعب اعظم بملايين المرات من الرعد القاصف .

وصفة ثالثة لجهنم انها تفور .

[ و هي تفور ]

و للفوران معنيان : احدهما : الغليان بارتفاع ما في الاناء لشدة الحرارة ، و في المنجد : ( فارت القدر : غلت و ارتفع ما فيها ) (2) و جهنم يومئذ تتداخل السنتها و تتموج بما يشبه فوران الماء في القدر لشدة حرارتها ، و الثاني : الغضب ، و يقال فار فائره ايثار ثائره و هاج غضبه (3) و كلا المعنيين مجتمعان في هذه الكلمة القرآنية ، فان النار يومئذ تفور كالقدر غضبا .

[ تكاد تميز من الغيظ ]

إنها أعظم من ملايين القنابل النووية التي تنفجر مرة واحدة ، حتى تكاد(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 8 نقلا عن مجمع البيان .

(2) المنجد مادة فور .

(3) المصدر .


تنفجر و يمتاز بعضها عن بعض لولا مشيئة الله ! و الغيظ الذي يكاد يفجرها هو انعكاس لغضب الله على الكافرين في واقع جهنم ، و الاية توحي بان النار لها شعور يوم القيامة ، و ليس من شيء يدعوها للغيظ اعظم من عصيان اصحابها لربهم عز وجل !

و يأبى الله سبحانه الا ان يظهر عدالته حتى لاولئك الذين تسير بهم الاقدار الى قعر جهنم فاذا بملائكته يسألونهم عن سبب وصولهم الى هذا المصير البئيس ، لكي لا يدخل النار احد و في قلبه ذرة من شك بانه سبحانه قد ظلمه ، و لكي يصير اهل النار الى العذاب و همفي اعظم ما تكون الملامة لانفسهم على ما فرطوا في جنب الله و في الاعداد لتلك الدار الآخرة .

[ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير ]يحذركم من معصية الله و من هذه النار .

[ قالوا بلى قد جاءنا نذير ]

فالحجة اذن بالغة عليهم ، و اسباب الهداية الى الحق و الوقاية من العذاب و أهمها المنذر و الانذار كانت متوافرة . فعن الامام الصــادق - عليه السلام - انه سأله رجل : لاي شيء بعث الله الانبياء و الرسل الى الناس ؟ فقال : " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، و لئلا يقولوا ما جاءنا من بشير و نذير ، و ليكونوا حجة الله عليهم . الا تسمع الله عز وجل يقول حكاية عن خزنة جهنم ، و احتجاجهم على اهل النار بالانبياء و الرسل : " الايتين " (1) .

و حيث إنتفى التقصير عن الله المعذب ثبت على الطرف الاخر و هم الكافرون(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 381 .


المعذبون ، فما هو خطؤهم الفظيع الذي ادى بهم الى بئس المصير ؟ انه التكذيب بالنذر .

[ فكذبنا و قلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير ]و في الآية بيان لثلاثة ذنوب كبيرة اقدم عليها الكفار :

الاول : تكذيبهم الحق في داخل انفسهم و عدم استجابتهم له .

الثاني : انهم بادروا للهجوم المضاد ضد القيم الرسالية التي جاء بها المرسلون و ائمة الحق محاولين سحب الشرعية ( انها من عند الله ) عنها ، بتصنيفها في خانة القيم البشرية للتحلل من مسؤولية الالتزام بها ، و ذلك ان الملزم للانسان هو الحق الذي يتصل باللهفقط .

الثالث : اتهام النذر المصلحين بألوان التهم في محاولة لاسقاط شخصيتهم و ضرب قيادتهم في المجتمع ، و من أبرزها اتهامهم بالضلالة من خلال قيمهم الفاسدة و ثقافتهم الخاطئة .

و كلمة " قلنا " تدل على انهم يحاربون الرسالات و القيادات الرسالية بالاعلام المضلل الذي يحكي ثقافتهم و مواقفهم الجاهلية ، و الانسان قادر على القول للآخرين و التعبير عما يريد بوسائل شتى ، كاللسان و الفن و ..

[10 - 11] و غاب عن الكفار انهم هم الضالون ، و ان ورائهم يوما تنتصر فيه الحقيقة و تظهر رغم انف اعدائها ، يوما يفصل فيه القول ، و يخسر هنالك المبطلون ، يوما يشهد فيه الانسان على نفسه و يعترف بذنبه .

[ و قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ]فالانسان إذن يحدد موقفه و مصيره في الدنيا ، فهو الذي يختار الحق او الباطل ، و ينتمي الى حزب الله او حزب الشيطان ، و بالتالي يسلك طريق الجنة او النار ، و هذه الحقيقة تكون في اجلى صورها يوم القيامة اذ يلاقي كل واحد مصيره الذي هو نتيجة مباشرة لاختياره و عمله في الدنيا ، و كفى بهذا البيان الالهي داعيا للناس الى التفكر في مستقبلهم الابدي .

وفي هذه الآية اشارة لطيفة تتصل بمعارف الانسان ، فهو اما يكون تابعا لعاقل فيسمع منه ، و اما ان يكون بنفسه قادرا على الاهتداء الى الحق و الاجتهاد في المعرفة فيعقل ، و اما ان يكون ضالا كهؤلاء الكفار الذين كانوا يسمعون و لا يعقلون ، بعلمهم بهذه الحقيقة في الدنيا و باعترافهم بها في الآخرة . و اشارة اخرى تهدينا الى انهم كانوا شيئيين يقيمون الامور بالمظاهر المادية ، فكانهم يعيشون في الدنيا بابصارهم فقط و بطونهم و .. اما الاسماع و العقول فانها معطلة ، و الحال ان قيمة الانسان بعقله .. ولو انهم كانوايستفيدون من عقولهم لما ضلوا ، لان العقل يوافق الحق ( 100 % ) قال الامام الصادق - عليه السلام - : " من كان عاقلا كان له دين ، و من كان له دين دخل الجنة " (1) و قال - عليه السلام - : " العقل ما عبد به الرحمن ، و اكتسب به الجنان " (2) و قال الامام علي - عليه السلام - : " هبط جبرئيل على ادم - عليه السلام - فقال : يا ادم اني امرت ان اخيرك واحدة من ثلاث فاخترها و دع اثنتين ، فقال له آدم : يا جبرئيل و ما الثلاث ؟ فقـال : العقل و الحياء و الدين ، فقال آدم - عليه السلام - : اني قدأخترت العقل ، فقال جبرئيل للحياء و للدين : انصرفا و دعاه ، فقالا : يا جبرئيل انا أمرنا ان نكون مع العقل حيث كان ، قال : فشأنكما ، و عرج " (3) و قال رسول الله(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 382 .

(2) المصدر .

(3) المصدر .


- صلى الله عليه وآله - : " انما يرتفع العباد غدا في الدرجات و ينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم " (1) و ما كان الكفار يعقلون فهم لا ينالون شيئا ، بل يتسافلون في دركات العذاب . و ان اغفال الانسان لدور العقل لهو اعظم الذنوب ، لانه الذي تتفرع عنه كل معصية و خطيئة ، و هذا ما يكتشفه اهل النار يوم القيامة .

[ فاعترفوا بذنبهم ]

و كيف لا يعترف البشر لله بذنبه و له الحجة البالغة عليه ، و كل شيء يشهد عليه حتى جوارحه ؟! و ربما نهتدي من كلمة " فأعترفوا " - باضافة ايحاءات السياق - ان الكفار يرفضون الحق و هم يعلمون في قرارة انفسهم انهم يختارون الباطل الا انهم لا يعترفون بذلك في الدنيا .

[ فسحقا لأصحاب السعير ]

اي ليكن جزاؤهم ان يسحقوا بالعذاب و بالاقدام ،و السحق : هو دق الشيء اشد الدق (2) حتى يصير جزئيات صغيرة في مثل الرمل و الطحين او انعم من ذلك ، و قيل : هو الابعاد عن رحمة الله (3) و المعنيان متحدان لان السحق في الاخرة بالمعنى الاول نتيجة لطرد الله الكافر من رحمته .

[12 - 14] و يصـل السياق الى محور السورة حيث التاكيد على خشية الله بالغيب ، فان الايات التي عرفتنا على جانب من عظمة ربنا في مطلع السورة ، و هكذا التي حدثتنا عن عذاب الكافرين و بعض احوالهم يوم القيامة ، و كذلك بقية الآيات حتى خاتمة سورة الملك و التي تنسف افكار الشرك بالله و مزاعم المشركين ..


(1) المصدر .

(2) المنجد / مادة سحق .

(3) المصدر .


انها كلها تهدف رفعنا الى مستوى خشية ربنا بالغيب .

[ ان الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة ]

لما سبقت منهم من سيئات و خطيئات .

[ و أجر كبير ]

و ذلك لان خشية الله بالغيب من الحسنات الكبيرة التي تذهب السيئات و تضاعف الصالحات . فما هو معنى الخشية بالغيب ؟

الجواب انها خوف الله بالمعرفة الايمانية ، و ليس نتيجة العوامل المادية التي يعانيها الانسان ، و يلمس اثارها في الدنيا .. فتارة يلتزم الواحد منا باحكام الله و يطبق رسالته لان الحكم بيد اوليائه الذين يجرون حدوده و احكامه ، فهو لا يقدم على السرقة و لاالزنى لان الحاكم سوف يقطع يده و يجلده او يرجمه بالحجارة ، و تارة يستجيب لله لمعرفته و ايمانه بالاخرة ، و انه تعالى يعذب العصاة بالنار ، فاذا بذلك العامل الغيبي الذي لا يراه ببصره و لكنه يعاينه ببصيرته يعكس الخوف من الله في كل كيانه .

و من المعارف التي تبعث في النفس روح الخشية من الله هي معرفة الانسان برقابته المطلقة تعالى على كل شيء و علمه به ، لا فرق بالنسبة اليه بين السر و الجهر ، لان هذه المعرفة تجعل من الغيب حاضرا في وعي البشر و سلوكه .

[ و أسروا قولكم او اجهروا به انه عليم بذات الصدور ]أي مطلع على النوايا الباطنية التي تنطوي عليها نفوس الناس ، و تصدر عنها الاقوال و الافعال في مرحلة متأخرة عن تكونها . و هذا المستوى من المعرفة اذا سمى إليه الانسان فانه ليس لا يقترف الذنب في المجتمع و لا بعيدا عن اعين الناس وحسب ، بل لا ينجس صدره بنية سوء أبدا ، لانها هي الآخرى يعلمها الله . و هذه اكبر ضمانة للالتزام بالنظام ، و قد اثبتت الاحصاءات ان ثمانين بالمائة من حوادث الاجرام التي تقع في العالم ناشئة من اعتقاد المجرم بانه قادر على الفلت من الرقابة و الجزاء ، لان الحاكم مهما بلغ فهو بشر مثله محدود القدرات اطلاعا و مجازاة ، و لكن هل يصدق ذلك بالنسبة الى الله سبحانه ؟ كلا .. و القرآن ينسف ادنى تصور بهذا الاتجاه اذ يقول متسائلا :

[ ألا يعلم من خلق و هو اللطيف ]

الذي ينفذ علمه الى أدق الاشياء و اخفاها .

[ الخبير ]

العالم علما شاملا و كاملا بخلقه ، و اذا كان الخبير من البشر يعلم بدقائق ما يصنعه من الاجهزة فكيف بالخالق المطلق العلم ؟ ! اذن فلا تحاول ايها الانسان ان تخادع نفسك ، و لا تسمع لنداء الشيطان الذي يحاول تغريرك و الايحاء لك بانك بعيد عن الانظار فتمارسالخطيئة .

وهناك رواية في معنى " الخبير " ماثورة عن الامام علي بن موسى الرضا - عليه السلام - : " و اما الخبير الذي لا يعزب عنه شيء و لا يفوته ، ليس للتجربة و للاعتبار بالاشياء ، فعنــد التجربــة و الاعتبار علمان لولاهما ما علم ، لان من كان كذلك كان جاهلا ( قليل العلم و محدود المعرفة ) ، و الله لم يزل خبيرا بما يخلق ، و الخبير من الناس المستخبر عن جهل المتعلم ، فقد جمعنا الاسم و اختلف المعنى " (1) فنقول : ان الله خبير كما نقول ان فلانا من الناس خبير ، فالتسمية واحدة ، و لكن معنى خبرةالله يختلف عن معنى خبرة الناس .


(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 383 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس