فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[1] اختلفت اقوال المفسرين في معنى " ن " فقائل انها الحوت لقوله تعالى في هذه السورة : " و لا تكن كصاحب الحوت " و قوله : " وذا النون إذ ذهب مغاضبا " (1) ، و قائل انها اللوح المحفوظ الذي كتبت فيه الأقدار الإلهية ، و رويذلك مرفوعا الى النبي ، حيث ذكر انه لوح من نور ، و استدلوا من الآية على هذا الرأي بذكر القلم ، و قيل : هي الدوات التي منها يأخذ القلم مداده ، و في الدر المنثور و التفسير الكبير انها اشارة لاسم الرحمن باعتبـــارها من حروفه ، و قيل : هي من أسماء رسول الله - صلى الله عليه وآله - .

وقــد سئـل الامام الصادق - عليه السلام - عن " ن " ما هي ؟ فقال : " ... و أما " ن " فكان نهرا في الجنة ، أشد بياضا من الثلج ، و أحلى من العسل ، قال الله تعالى عز وجل له : كن مدادا ، فكان مدادا " (2) ، و الذي اعتقده بالاضافة الى ما سبق و ان بينا في شأن الحروف القرآنية المقطعة ان تفسير " ن " يتسع لبعض ما ذهب اليه المفسرون ، و لكن يبقى علمه عند الله و الراسخين فيه لما علمهم إياه من المعاني و التأويلات .

و اختلف في القلم ما هو ؟ فقالوا : انه القلم الذي يكتب أقدار الله في اللوح المحفوظ ، قال الامام الصادق - عليه السلام - ( يعني الله ) : " ثم أخذ شجرة(1) الانبياء / 87 .

(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 388 .


فغرسها بيده ، ثم قال : و اليد القوة و ليس بحيث تذهب اليه المشبهة ، ثم قال لها : كوني قلمـــا ، ثم قال له : اكتب ، فقال له : يا رب و ما اكتب ؟ قال : ما هو كائن الى يوم القيامة ، ففعل ذلك " (1) ، وفي حديث آخر قال لسفيان الثوري : " فنون ملك يؤدي الى القلم و هو ملك ، و القلم يؤدي الى اللوح و هو ملك ، و اللوح يؤدي الى اسرافيل ، و اسرافيل يؤدي الى ميكائيل ، و ميكائيل يؤدي الى جبرئيل ، و جبرئيل يؤدي الى الأنبياء و الرسل صلوات الله عليهم " (2) .

و يبدو لي ان معنى القلم يتسع لمصداقها المعروف عند الانسان ، باعتبار القلم وسيلة لنقل العلم و تثبيته بالكتابة ، و العلم قيمة اعتمدها الوحي ، فيكون القسم بالقلم كوسيلة للعلم كاشفا عن عظمته لانه يرفعه الى مرتبة سائر الحقائق التي اقسم الله بها في القرآن ، وإذا كان الانسان يستمد قوة لحديثه بالقسم و المقسم به فان كلام ربنا يعطي ما يحلف به قيمة و شأنا ، فنحن إذن نعرف عظمة القلم لان ربنا اقسم به .

و هكذا نستوحي من هذا القسم دور القلم في منح المؤمنين الكرامة و العزة و فتح افاق العلم ، و ان علينا ان نملك ناصية القلم إذا أردنا امتلاك ناصية الحياة ، و قد قال ربنا سبحانه : " علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم " (3) و يدل على ذلك القسم بما يسطر القلم ( وهو العلم ) .

[ ن و القلم و ما يسطرون ]

قالوا : يعني الملائكة الذين يكتبون بالقلم اقدار الله في اللوح ، اي قسما باليراع(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 388 .

(2) المصدر .

(3) العلق / 4 - 5 .


و بما يكتبه سطرا بعد سطر ، او بما يسطره من العلوم الحقة ، فان العلم هو الآخر عظيم و حري ان يقسم به ، و هكذا يأتي قسم القرآن بالقلم و العلم تمهيدا لتفنيد تهمة الكهانة و السحر و الشعر من رسالة الله . و ليعلم الناس ان العقل و الوحي صنوان ، و ان الرسالة والعلم كجناحي طائر تحلق به الانسانية عاليا ، و ان ما يتقوله ادعياء الدين بان العلم ليس منه هراء ، و ما يزعمه ادعياء العلم بانه يتنافى مع الدين ضلال بعيد .. فها هو الكتاب يشيد بالعلم و بما يكتب به .

و نستوحي من كل ذلك ان موقع القلم هو خدمة الدين و العلم لا تضليل الناس او استعبادهم ، و لا يكون ذلك إلا إذا تسلح به المؤمنون و بادروا للانتفاع به قبل الجبارين و مرتزقتهم السفلة .

[2] و يربط الوحي بين حقيقة العلم الذي يسطره القلم و حقيقة الرسالة ، و قد ظهرت هذه الصلة مرة أخرى في سورة العلق عند قوله تعالى : " إقرأ و ربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الانسان ما لم يعلم " (1) فما هي العلاقة بين الأمرين ؟

ان هذا الربط يكشف بصيرة مهمة و هي علاقة العلم بالايمان ، و بتعبير آخر علاقة العقل بالوحي ، ذلك ان العقل هو الذي يذكرنا بالوحي و يهدينا اليه ، كما ان الوحي هو الذي يستثير العقل و يستخرج كوامنه و يوجه مسيرته نحو الحق . و ان من يتعلم و يقرأ تجارب العقل البشري عبر التاريخ لا ريب يهتدي الى ان الرسالة الالهية ليست جنونا ، و لا القــــاءات الشيطان ، و لا أساطير الأولين ، و انها لا يمكن ان تتنزل إلا من رب العالمين ، لو أنصف الحق من نفسه و قصد سواء السبيل . إلا ان المكذبين يكيلون التهم الباطلة التي يرفضها كل عاقل ليبرروا رفضهم للحقيقة ، و تهربهم من المسؤولية التي تفرضها . ثم هل اكتفوا بذلك ؟ كلا .. لقد حاولوا(1) العلق / 3 - 5 .


التأثير على الرسول ليداهنهم في بعض قيم الرسالة بما يحفظ مصالحهم و يحولها الى طائفة من الطقوس الخفيفة الفارغة عن قيم الحق و التقوى و العدل و الاجتهاد ، فقالوا له ما قاله الطغاة لكل مصلح و داعية حق عبر التاريخ . قالوا : إنك لمجنون . لماذا ؟ لان القيم التي تؤمن بها و تسعى لنشرها تتنافى و قيم النخبة المستكبرة التي تتحكم بمصائر الناس ، ثم جندوا لنشر هذه الدعايات امكانياتهم المادية و المعنوية ، و هكذا استهدفوا هزيمة المصلحين نفسيا لعلهم يتنازلون عن بعض قيمهم .

و امام الهجمة التي يشنها اولئك المضللون ضد الرسول و الرسالة يقف الوحي مسددا للرسول - صلى الله عليه وآله - و لكل الرساليين عبر التاريخ و مدافعا عن قيم الحق حيث يؤكد القرآن أن ما يزعمونه ما هو إلا كذب و افتراء ، و ذلك بالتذكرة بالبصائر التالية :


اولا : ان الرسالة التي يحملها الرسول و يدعو اليها نعمة إلهية لا يدانيها جنون ، لانها حيث يدرسها الانسان و يتدبر معانيها يجدها قمة العقل ، بل هي متقدمة بخطوات كثيرة على مسيرة العقل البشري لانها من عند رب العقول .

[ ما أنت بنعمة ربك بمجنون ]

لان المجنون هو الذي سلب الله عقله ، بينما قد أنعم الله على رسوله بالوحي الـــذي يكمل العقل ، و كيف يكون من يحمل للبشرية نور الحكمة و العلم و البصيرة مجنونا ؟!

ان الرسالة التي تنظم حياة الانسان الشخصية و الاجتماعية ، و الاقتصادية ، و السياسية و .. و .. ، و تنطوي على أسرار الوجود ، و تكشف للبشرية السنن الالهية ، و الأقدار التي تسير الخليقة ، وما أمر الخالق به من خير وما نهى عنه من ضر وسوءو شر ! بل و تتجاوز هذه الحياة الى المستقبل الابدي البعيد لتحدثنا عن العالم الآخر و ما فيه من حساب و جزاء ، و تبين تفاصيل دقيقة متناسبة و عقل الانسان و أحاسيسه ، فهل يمكن ان تكون هذه الرسالة طيشا و من يحملها الى الناس مجنونا ؟!! و هل يتسنى لغير المجنونو المكابر ان يتجاهل حقيقة الرسالة التي هي نعمة و نور و يزعم بانها جنون و نقمة و ظلام ؟! و لعلنا نستشف من قوله سبحانه " أنت " بأن الذي لا يكتشف الفرق بينهما لهو المجنون حقا و ليس أنت يا رسول الله .

و عند التأمل في قول الله : " بنعمة ربك " نهتدي الى فكرتين : الاولى : ان عظمة النبي - صلى الله عليه واله - ليست بذاته فهو بشر كسائر الناس ، و انما عظمته برسالة ربه ( نعمة الله عليه ) ، و قد قدم ربنا السبب ( نعمته ) ربما لبيان انه ليس هناكسبب آخر غير الرسالة استمد منه النبي عظمته و بلوغه كمال العقل ، و الثانية : ان اضافة النعمة الى الله سبحانه ينفي نفيا شديدا مزاعم الكفار بانه قد تلقى الوحي من الجن " فقد جاؤوا ظلما و زورا " (1) .

[3] ثانيا : ان النتائج و المعطيات العظيمة التي وصل اليها الرسول في الدنيا و التي ستكون له في الآخرة اظهرت بجلاء ان الرسالة وحي ، و ان النبي اعظم الخليقة ، و ان جهلهم هو الذي جعلهم لا يفرقون بين العظمة و الجنون ، و لا بين رسالة الغيب و أساطير الأولين . كيف ذلك ؟

ان الكفار و المشركين كانوا يعدون الرسول - صلى الله عليه وآله - مجنونا لانه ينشد التغيير الحضاري الجذري و الشامل ليس لمجتمع شبه الجزيرة العربية فقط بل للبشرية كلها ، فيوحد المجتمع المتمزق بالتناحر ، و المختلف بالاديان ، و يرقى به(1) الفرقان / 4 .


الى قمة التقدم الحضاري السامقة ، و ينتصر على أعدائه الأقوياء و الكثيرين وهو اليتيم العائل .. و ما الى ذلك من الاهداف العظيمة . كانوا يعدونه مجنونا لانه يطلب المستحيل الذي لا يخطر ببال بشر و لا خياله ، ولكن القرآن جاء و نسف هذه المزاعم مؤكدا بأن النبييبلـــغ ما يريد بإذن الله ، كما قال في سورة الضحى : " و لسوف يعطيك ربك فترضى " (1) و كما قول في هذه السورة :

[ و ان لك لأجرا غير ممنون ]

اي غير مقطوع ، فهو أجر متواصل يزداد مع الزمن ، و ما توسع الامة التي بناها - صلى الله عليه وآله وسلم - إلا جزء من ذلك الأجر و دليلا عليه ، فكيف وفي الآخرة ما هو أعظم اذ يعطى من قبل الله الوسيلة و الشفاعة و أعلى درجات الجنة و الثواب ؟ ان بلوغ الرسول- صلى الله عليه وآله - أهدافه التي تراءت لهم بانها مستحيلة أوضح دليل على عقلانيته و سلامة رسالته التي حققت اهدافه باتباعها ، لان وصول الانسان الى أهدافه يحتاج الى معرفة بسنن الحياة و قوانينها .

و كلمة أخيرة نقولها في الآية هي : ان تأكيد الله للنبي و كل رسالي يتبعه بأن له أجرا غير ممنون يصنع في الانسان المؤمن روح التعالي على إغراءات الدنيا التي يقدمها الأعداء و التي قد يثني الافتتان بها الرساليين عن أهدافهم الربانية فيداهنون فيها .

[4] ثالثا : و آية آخرى لعظمة الرسول - صلى الله عليه وآله - اخلاقه العظيمة التي فاق بها عظماء البشرية و هم النبيون و الصديقون مما يكشف مدى كمال عقله و عظيم حلمه و واسع علمه و نفاذ بصيرته .


(1) الضحى / 5 .


[ و انك لعلى خلق عظيم ]

و كفى بعظمة اخلاقه ان يصفه رب العالمين بالعظمة ، و كيف لا يكون كذلك وقد أدبه الله حتى قال - صلى الله عليه وآله - : " لقد أدبني الله فاحسن تأديبي " و قال الامام الصادق - عليه السلام - : " ان الله عز وجل أدب نبيه فاحسن أدبه ، فلما أكمل له الأدب قال : " و انك لعلى خلق عظيم " (1) .

ومن تأكيد الله ان الرسول " على " خلق عظيم يتبين انه - صلى الله عليه وآله - ما كان يتكلف الاخلاق ، و لا كانت عرضية تأتي و تزول ، بل هي سجايا و ملكات اختلطت بكيانه فلا تفارقه و لا يفارقها ، و ذلك من أفضل ما يصير اليه بشر في الاخلاق . وإنمابلغ النبي تلك العظمة و المكانة الرفيعة لانه جسد الدين في حياته ، قال الامام الباقر - عليه السلام - في قول الله : " الآية " : " هو الاسلام " (2) ، و قال : " على دين عظيم " (3) ، إذن فالطريق الى العظمة موجود في القرآن ، ومن أرادها فانها ثمرة تطبيقه .

و حيث ندرس حياة حبيب الله - صلى الله عليه وآله - فاننا نهتدي الى ان من أعظم أخلاقه وما يمكن لانسان ان يبلغه هو سعة الصدر ، التي كانت آلته للرئاسة بعد الاسلام ، و وسيلته التي استوعب بها الناس في الدين ، و ملك قلوبهم .. و فيهم العدو الحاقد ، و الجلفالصلف ، و الكافر الجاهل ، و المشرك الضال و .. و .. ، و إنها لأهم ما يحتاجه المصلحون من الاخلاق ، و لذلك مدحه رب العالمين بها و ثبت ذكرها بالذات في كتابه من دون سائر الاخلاق فقال : " ولو كنت فظا غليظ(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 389 .

(2) المصدر / ص 391 .

(3) المصدر / ص 392 .


القلب لا نفضوا من حولك " (1) ، و روى البرقي عن احد الائمة - عليه السلام - : " ان الله تبارك و تعالى أدب نبيه فأحسن تأديبه ، فقال : " خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين " فلما كان ذلك أنزل الله " إنك لعلى خلق عظيم "(2) ، و هذه بعض اخلاقه - صلى الله عليه وآله - : " كان رسول الله حييا لا يسأل شيئا إلا أعطاه " (3) ، و كان يقول لاصحابه : " لا يبلغني أحد منكم عن اصحابي شيئا ، فاني أحب ان أخرج اليكم و أنا سليم الصدر " (4) ، و " كان أجود الناسكفا ، و أكرمهم عشرة ، من خالطه فعرفه احبه " (5) ، " وكانت له إذا شرب الماء ثلاثون سنة ، و ليس من خلق حسن إلا وكان الاسوة فيه - صلى الله عليه وآله - " (6) " بحيث اعترف له بذلك العدو و الصديق ، و المسلم و غيره " (7) .

[5] رابعا : و يبقى المستقبل دليلا فصلا يكشف عن الحقيقة للجميع ، و هنالك يتبين العاقل و المجنون ، فهل هو أبو لهب و أعداء الرسالة الذين خلدوا باللعنة ، أم الرسول - صلى الله عليه وآله - و أتباعه الصادقون ؟

[ فستبصر و يبصرون ]

باعتبار كل المقاييس المادية و المعنوية عندما يأتي المستقبل بالحقيقة .


(1) آل عمران / 159 .

(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 389 نقلا عن بصائر الدرجات .

(3) موسوعة بحار الانوار / ج 16 - ص 130 .

(4) المصدر .

(5) المصدر .

(6) راجع المصدر من / ص 194 الى ص 294 .

(7) راجع كتاب المئة الاوائل للدكتور مايكل هارت .


[6] [ باييكم المفتون ]

اي المجنون (1) ، لان افتتان الانسان بأي شيء دليل اتباعه لغير العقل ، فان العاقل لا ينهزم في الابتلاءات و عند الفتن ، انما يتجاوزها و ينتصر عليها ، و هو المضلل المصدود عن الحق (2) . فالمعنى انكم ستبصرون في المستقبل بمن هو مجنون و من هو عاقــل ، اوتكون الباء بمعنى في فيكون المفهوم انكم سوف ترون في أيكم سكن الشيطان ( المفتون عن الحق ) فاعماه عن رؤيته ، و فتنه مثله عنه . و بالتالي سيظهر الطرف المحق الذي يتلقى الهدى من ربه وهو الرسول ، و ان الرسالة ليست من القاءات الشيطان كما يزعم الجاهليون ، بلمواقفهم المعادية لها و للنبي و بهتانهم العظيم . و يبدو لي ان الباء هنا ضرورية و ليس كما قال بعض المفسرين انها زائدة ، و ذلك لان الجنون حقيقة معنوية لا يمكن ان يبصرها الانسان بذاتها ، و انما يبصرها من خلال الدلالات و العلائم الموحية بوجوده ، فهو يبصر بالواسطة ، و لعله لذلك جاءت الباء في الكلمة " بأيكم " كما جاءت في قوله تعالى : " و شجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن و صبغ للآكلين " (3) لان الشجرة لا تثمر دهنا و انما تثمر ثمرة فيها الدهن .

و نستوحي من الآية ان المنهج السليم لتقييم الأمور معرفة عواقبها ، لان الانسان في بادئ الأمر و مع المتغيرات قد يدخله الريب و التردد في استصدار حكمه الأخير على الأمور ، و لكنها حينما تستقر في مستقبل الزمن يرى بوضوح تام الموقف الواقعي الحق منها .


(1) المنجد مادة فتن .

(2) المصدر .

(3) المؤمنون / 20 .


إذا الاحباطات الآنية التي يواجهها المؤمنون في مسيرتهم و انطلاقا من هذه البصيرة لا ينبغي ان تبعث فيهم اليأس او التشكيك في صحة خطهم و سلامة قيادتهم ، فان المستقبل مهما طال الزمان و رغم الظواهر السلبية في صالحهم وفي صالح رسالتهم ، لأنهم يتبعون الحق .


[7] ومع ان هذه من القواعد الاساسية التي يجب على الرساليين اعتمادها في تحركهم ، إلا أنهم يستمدون مناعتهم بالحق ، و ايمانهم بسلامة الخط من الايمان بالله ، فليس المهم عندهم ان يكونوا في نظر الآخرين أصحاب حق ، او ان يكشف لهم واقع الدنيا عن هذه القضية، انما الأهم أن يكونوا عند الله من المهتدين ، ذلك أنهم لا ينفعهم ثناء أحد إذا كانوا عند الله من الضالين ، كما لا يضرهم شيء لو كانوا عنده من أهل الهداية . و ان الرساليين اذا ما تمسكوا بهذه الأصل فلن يتأثروا بالضغط او الاعلام المضاد ، و لن ينال أحد منقناعتهم قيد شعرة .

[ ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ]و السؤال : كيف يكتشف الانسان واقع انتمائه هل هو الى فريق الضالين أم الى فريق المهتدين ؟ و بتعبير آخر : كيف يصل المؤمنون الى القناعة التامة و الراسخة بأنهم أهل الحق ؟

و الجـــواب علــى ذلك : ان لله في هذه الحياة سبيلا واحدا هو الصراط المستقيم ( الحق ) الذي يتجسد في رسالة الله و في القيادة الرسالية و خطها السليم ، فمن اتبع رسالته و دينه ، و سلم لقيادة الحق ( الرسل و ائمة الهدى الذين يمثلون امتدادا حقيقيا لهم عبر التاريخ ) و انتمى لخطهم ، فهو من المهتدين ، وإلا فهو من الضالين .

و نهتدي من الآية الكريمة الى ان هناك علمين هما : علم الانسان عبر عقله ، العقل الذي يتجلى في المستقبل ، و علم الله الذي يكشفه الوحي ، و ان الانسان قد يعجز عن تمييز الاشياء بعقله ، بينما علم الله يجليه له تماما .

[8 - 13] و يمضي بنا السياق الى محور أساسي في السورة عندما يبين الموقف السليم الذي يجب على القيادة الرسالية اتخاذه من قوى الضغط ، التي تحاول التأثير على القائد و تجيير قراراته و مواقفه في صالحها ، بتطويعه لخدمة اغراضها من حيث يدري او لا يدري ، و عادة ما تكون تلك القوى من المترفين أصحاب المال و القدرة الاجتماعية أو السياسية أو هما معا في المجتمع .

و يتوجه الوحي بالنهي الى القائد بالذات ، لان قوى المترفين المستكبرة تسعى لافساد المجتمع و نظامه السياسي ، من خلال إفساد جهازه الديني و السيطرة عليه ، لان السيطرة عليه تجعلهم اسرع نفاذا في المجتمع ، كما توفر لفسادهم غطاء شرعيا . و هم يتسللون الى الجهاز الديني و يؤثرون عليه بسلاح المال ، حيث يجعلونه يعتمد على أموالهم التي يقدمونها خمسا و زكاة و تبرعا او هدية و رشوة . و ان هذه الحقيقة تظهر بـــوضــوح حينما ندرس مسيرة الجهاز الديني عبر التأريخ وفي كل المذاهب و الأديان تقريبا ، فالقوى المترفة هي التي حولت الاحبار الى جماعة يكنزون الذهب و الفضة و أداة طيعة في أيدي أصحاب المال و السلطة . كما ان التحليل المتأني لكثير من الصراعات التي كانت تدور بين القيادات الدينية و المترفين يؤكد بان سببها يكمن في رفض القيادات الدينية لهم و لسيطرتهم على الناس ، فهذا السامري و من حوله بعض اصحاب المال في مجتمع بني اسرائيل يبغون على موسى - عليه السلام - لانه وقف ضد مطامعهم و محاولاتهم الخبيثة في تطويع الدين لصالح شهواتهم و أهوائهم .

و موقف القرآن يبدو موقفا عنيفا و واضحا في تحذير الرسول - صلى الله عليه وآله - من المترفين ، لان خطرهم عظيم و عادة ما يكون متسللا ، بعيدا عن التحديات و الضغوط المباشرة الحادة ، فقد يظهر احدهم لدى القوة الدينية بمظهر التقوى و التاييد فاذا به يصارعالاخرين على الصف الاول من الجماعة ، و يبذل الاموال التي تخدم الجهاز الديني و مشاريعه في المجتمع و لكن ليس لوجه الله و تقربا منه ، و لا عن قناعة بالقادة الدينيين أبدا ، بل لحاجة في نفسه هي ان يستغلهم لمصالحه و اهوائه ، اقتصادية او سياسية او اجتماعية ،باعطائهم الخط السياسي و الاجتماعي الذي يناسبه من جهة ، و باستخراج الفتاوي التي تخدم اغراضه من جهة ثانية .

و تقسم الآيات قوى الضغط المترفة الى فريقين :

الفريق الاول : المكذبون الذين لا يؤمنون بالرسالة ولا بالرسول ، كالطواغيت الذين يجاهرون بالتكذيب ، و كالقوى المستكبرة التي في عصرنا هذا ، فهم أشبه ما يكونون بالكفار ، ولا ريب ان لهؤلاء اطماعهم تجاه الامة الاسلامية ، و بالتالي فهم يسعون للتأثير علىقيادة المجتمع الاسلامي الدينية و تطويعها .

انهم - كما الفريق الثاني - لا يسعون في البدء للقضاء على الجهاز الديني انما يحاولون الابقاء عليه ممسوخا و مفرغا من محتواه الرسالي ، لكي يركبونه مطية الى مصالحهم .

[ فلا تطع المكذبين ]

و يفضح القرآن خبثهم المتمثل في خطة المسخ و الافراغ التي يتبعونها ، مبينا أنهم يسعون لتغيير بعض القيم و مواقف القيادة لصالحهم بمقايضة الدين الحق بأموالهم ، وكان قضية الحق كالتجارة تقبل البيع و الشراء . فيجب ان تكون القيادة الدينية ( لكي تفشل المترفين في مرامهم ) على مستوى رفيع من تقوى الله فلا تخدعها زخارف الدنيا عن الحق ، و ايضا في مستوى عال من الوعي السياسي و الحنكة الإدارية و الفطنة الاجتماعية ، و مستوى من الوعي يكشف مكرهم مهما كان خفيا و محكما ، و لذلك جاءت النصوص الدينية مؤكدة على هذين الأمرين .

[ ودوا لو تدهن فيدهنون ]

يبدو ان اصل معنى المداهنة جاء من وضع الدهن على الشيء لكي يلين جانبه و يكون مطواعا ، و المعنى انهم يطمعون لو انك يا رسول الله تطيعهم في التنازل عن بعض القيم الإلهية و المواقف فيبادرون هم بالتنازل عن بعض مواقفهم منك و من الرسالة ، كما فعل من قبل بعض أحبار اليهود و النصارى .

و ما اكثر ما تتعرض القيادات الرسالية لهذه اللون من الضغط الماكر ، فما احوجها لتقوى الله . و لا ريب ان أعظم مداهنة يسعى المترفون لايقاع القيادات الدينية فيها هـــي فصل الدين عن السياسة لكي يتسنى لهم التلاعب بمقدرات الشعوب بصورة أفضل ، و لكي تبقى سلطتهم في مامن من ثورة المجتمع ، باعتبار ان ربط الدين بالسياسة يبعثه نحو الثورة للتحرر و التغيير .

و يتأثر الانسان بالمداهنة عبر احد عاملين : الاول : الافتتان بحطام الدنيا الذي يقدمه المترفون ، و الثاني : تغيير قناعة القائد بالقيمة التي يداهن فيها فيتنازل عنها بحثا عما هو أفضل منها ، و لذلك فان المستكبرين يوظفون جانبا كبيرا من إمكاناتهم الاعلامية لتحقيق هذا الهدف ، بمحاربة قناعات الرساليين ليس في المجتمع و حسب بل في داخل أنفسهم ايضا ، فمثلا تراهم يوحون عبر اعلامهم المضلل بان المجاهدين الذين يسعون للاصلاح الشامل ارهابيون ، و يضربون على هذا الوتر طويلا لعلهم يجدون تجاوبا عند بعض المجاهدين فيغيروا من خططهم بما

لا يتنافى و مصالح المستكبرين ! كما كانوا أيام رسول الله - صلى الله عليه وآله - حيث كانوا يسمونه مجنونا لانه اراد تغيير الواقع و الانسان تغييرا جذريا ، طمعا في هزيمته نفسيا ثم تنازله عن ذلك الهدف العظيم .

و من الجدير ذكره هنا ان من أسباب تحريف الديانة المسيحية و اليهودية في التاريخ ان القيادة الدينية تأثرت بعاملين : احدهما الخوف من المترفين الجبارين ، و الآخر الرغبة في استقطاب المزيد من الجماهير في ظل حماية الدولة ، مما دعاهم الى المداهنة بحذف بعضالقيم و الاحكام التي في الانجيل و التوراة ، و ادخال بعض الافكار و الاحكام التي تتوافق مع اهواء الناس ، و نسوا ان ما بقي لم يعد دين الله ، بل دين الجبارين ، و انهم بذلك اصبحوا خدما في بلاط السلاطين و ليسوا منقذين لعباد الله المحرومين !

الفريق الثاني : المنافقون في المجتمع المسلم ، الذين يتمسكون بقشور الدين ، كالصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء و المنكر ، و الصوم الذي لا يورث تقوى و لا يعطي صاحبه احساس بألم الفقراء ، و الانفاق المحفوف بالرياء و حب السمعة ، و هكذا الممارسات التي فرغتمن محتوياتها الاصلاحية ، و هؤلاء لا ريب يكذبون بكثير من الحقائق الإلهية كالجهاد ، و حرمة الاستغلال ، و يودون لو تداهنهم القيادة الرسالية ، و لكنهم لا يجهرون بذلك . و ما يبدو من الآيات التي تبين صفاتهم ان أهم هدف يسعون لتحقيقه من تزلفهم للجهاز الدينيفي الامة ان يجعلوه مقمعا في أيديهم يضربون به الاخرين ، كالمحرومين المستضعفين و المصلحين المغيرين افرادا و جماعات ، و السبب انهم لا يريدون الا مصلحتهم ، كما انهم اول من يعارض الاصلاح و التغيير ، ذلك ان وجود الانظمة الفاسدة و المنحرفة عن الحق عامل اساسيفي استغلالهم للطبقة المحرومة و وصولهم الى مآربهم المادية . فما هي صفات هذا الفريق ؟


1 - المبالغة في الحلف الى حد الاحتراف ، من أجل إعطاء كلامهم قيمة شرعية و من ثم التأثير به على موقف القيادة و رأيها ، بالذات و ان للايمان اعتبار عظيم عند المؤمنين ، و لا يعني ذلك ان المترفين من هذا الفريق يقتصرون على مجرد الحلف ، فهم يكذبون و ينمقون الكلام بشتى الوسائل ، و ما الحلف الا واحدا منها ، و على القائد ان يحذرهم .

[ و لا تطع كل حلاف مهين ]

و يبدو ان كلمة " مهين " من الهوان و الضعة حيث ان الحلاف انما يلجأ الى ذلك كونه حقيرا في نفسه و عند الناس ، و انطلاقا من ذلك يحس على الدوام و يظن ان كلامه لن يعطى اعتبارا و قيمة عند الآخرين ، الأمر الذي يلجؤه الى المبالغة في الايمان ليصطنع قيمة لكلامه بها لعله يكون مقبولا .

و عادة ما يحاول الوضعاء الذين تمكنت من أنفسهم عقدة الحقارة ان يوصلوا أنفسهم بمراكز القوى في المجتمع دينية و سياسية و اقتصادية و اجتماعية ليغطوا على ضعتهم و يجبروا نقصهم ، و انك لو فتشت في أجهزة القمع و التجسس الطاغوتية فلن تجد إلا أمثال هؤلاء .


2 - الهمز و المشي بالنميمة في المجتمع ، و بالخصوص عند القيادة ، و ذلك لأهداف ثلاثة :

الاول : لكي يبقوا هم في المجتمع الشخصية الافضل ، فتجدهم يسقطون شخصيات و يضعفونها بتقليل قدرهم عند القيادة و تلصيق التهم ضدهم ، و لقد ثبت في علم النفس ان اصحاب عقدة الهوان و الحقارة تنمو فيهم روح الانتقام من المجتمع ، و يسعون لكي يكون مجتمعا ساقطامثلهم فلا يحسبون شاذين .

الثاني : فصل القيادة عن المجتمع حتى تظل أذنا صاغية لهم وحدهم فتكون قراراتهــا و مواقفها لصالحهم فقط ، بل لا يريدون احدا سواهم يتصل بمركز القوة في الامة ، لتكون لهم اليد الطولى فيها . و لانهم عادة ما يكونون من الطبقة المستكبرة المترفة فانه يهمهم ان يوجدوا فاصلة بين الامة و بين القيادة لكي يبقى الناس فريسة لسياساتهم الاستغلالية و المنحرفة دون علم من القيادة يدعوها للتدخل ضدهم .

الثالث : ضرب القوى الاصلاحية و المنافسة ، فانى ظهرت بوادر الاصلاح تصدوا لها ، و سودوا الصفحات بالتقارير المضللة التي لا تحوي سوى الطعن و الكذب على الآخرين ، و ملأوا بيت القيادة و أذنها بالشائعات المغرضة و بالتهمة و البهتان ، و كل ذلك ليصير القائدمقمعا في يدهم يضربون به يمينا و شمالا هذا العالم و ذلك الثائر و تلك الحركة الرسالية .

[ هماز ]

قيل : الهماز هو المغتاب ، و في المنجد : الطعان العياب النخاس (1) و قال صاحب البرهان : لكن في الصحاح همزه اي دفعه ، و قوس همز اي شديدة الدفع للسهم ، و في النهاية : كل شيء دفعته فقد همزته ، و في سورة المؤمنين : " اعوذ بك من همــزات الشياطيـن " اي وساوسهم و نخساتهم و غمزاتهم (2) و اضــاف مجمع البيان قائلا : و الأصل فيه الدفع بشدة اعتماد ، و منه الهمزة حرف من الحروف المعجمة فهي نبرة تخرج من الصدر بشدة اعتماد (3) ، و يبدو لي ان الهماز هو الذي يثير الناس و يستحثهم و يحركهم ضد الآخرين بالكلام او الفعل ، و آلة الهمز حديدة


(1) المنجد مادة همزة .

(2) تفسير البرهان / ج 4 - ص 340 .

(3) مجمع البيان / ج 10 - ص 331 .


في مؤخر خف الرائض ، او عصا في راسها حديدة تنخس بها الدابة (1) فتستثار لتحث المشي . و ما اكثر ما جر المترفون بهمزهم القيادات عبر التاريخ الى مواقف و آراء راح ضحيتها الابرياء و الصالحون . و لعل من وسائل همزهم النميمة التي يبالغون فيها وفي المشي بها بينالناس كما تمشي جراثيم الاوبئة بالمرض .

[ مشاء بنميم ]

فأنى ما حل و ارتحل حمل معه داء التفرقة ، و النميمة هي نقل كلام الناس على بعضهم عند بعض مما يميت الالفة و يحيي الفتنة ، و هي بذلك تعد من أعظم الذنوب و اخطرها لانه يهدد وحدة الامة و صفاء اجوائها ، و الى هذه الحقيقة وردت الاحاديث الاسلامية : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله - : " يا علي كفر بالله العظيم من هذه الامة عشـــرة ( منهم : ) العياب و الساعي في الفتنة " (2) ، و قال - صلى الله عليه وآله - : " ألا أخبركم بشراركم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال " المشاؤون بالنميمة ،المفرقون بيـــن الأحبـة ، الباغون للبراء العيب " (3) ، و قال الامام الصادق - عليه السلام - : " ثلاثة لا يدخلون الجنة : السفاك للدم ، و شارب الخمر ، و مشاء بنميمة " (4) .

3 - منع الخير عن الغير و الاعتداء عليهم و ممارسة الإثم ، و هذه كلها من الصفات اللصيقة بالمنافقين إذ أنهم يريدون الخير لانفسهم فقط ، لذلك يقفون أمام أي محاولة من قبل القيادة للاصلاح ، و يمنعونها بالتعويق و التثبيط عمليا و بالرأي ، فليس من صالحهم ان يعم الرفاه الاقتصادي كل أفراد المجتمع ، و ان تزال(1) المنجد مادة همز .

(2) كتاب الموعظ للشيخ الصدوق / ص 11 .

(3) نور الثقلين / ج 5 - ص 393 .

(4) الخصال / ص 180 .


الطبقية ، لان قوتهم الاجتماعية و الاقتصادية قائمة على معادلة الاستكبار و الاستضعاف ، و الغنى و الفقر ، و بعبارة : على دماء الآخرين و حرمانهم .

[ مناع للخير ]

و تتسع الكلمة الى مصاديق كثيرة منها ان هؤلاء حينما يتحلقون حول القيادة يعلمون على حصر اعتمادها فيهم ، و سد الابواب أمام أية كفاءة سياسية أو إدارية أو إقتصادية ناشئة . و أعظم خير يمنعونه ائمة الهدى ان يأخذوا مواقعهم الشرعية في المجتمع .. وقد أشارالقمي في تفسيره الى ما ذكرنا مؤولا فقال : ( الخير أمير المؤمنين ) (1) .

و لا يكتفي المنافقون بمنع الخير عن الآخرين ، بل يتمادون في غيهم الى حد الاعتداء على حدودهم و حقوقهم ، ماديا بضربهم إذا كانوا منافسين أو معارضين ، و باستغلالهــم إذا كانوا من المحرومين ، و معنويا بالتهم المغرضة و تشويه سمعتهم و .. و ..

[ معتد أثيم ]

و لأثيم تفسيران : الاول : بالنظر للكلمة كشيء مستقل فيكون المعنى انهم في حدود علاقتهم مع الغير يتصفون بمنع الخير و الاعتداء ، و في حدود أنفسهم يتصفون بمخالفة احكام الله ( الإثم ) كشربهم الخمر و ظنهم السوء و الحقد و الحسد ، و بصورة مبالغة كما و نوعا، لان أثيم صيغة مبالغة من الإثم .

و الثاني : بالنظر الى الكلمة متصلة بما قبلها " معتد " و في ذلك معان منها : ان اعتداءهم لا يقوم على الحق ، فهناك تجاوز على الآخرين بالحق كالذي أمر الله به في(1) تفسير القمي / ج 2 عند الآية .


قوله : " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " (1) ، و هناك تجاوز بالباطل و الإثم ، و منها : ان اعتداءهم ليس عرضا بل هو من طبيعتهم و متجذر في نفوسهم التي جبلت عليه ، فما هو إلا مظهر يعكس ما انطوت عليه انفسهم من الإثم العريض ، ومنها : انهم حين يعتدون يوغلون في الاعتداء بالمبالغة في آثامه .

و إنه لثابت علميا و عمليا ان المعتدي لا يعتدي في الواقع الخارجي و يتجاوز الحدود حتى يكون قد تجاوز الحدود في داخل نفسه ، و اسقط اعتبار الحق و الاخرين قبل ذلك في نفسه و تفكيره . فلإعتداء هؤلاء فلسفة تتأسس عليها حياتهم حيث انهم لا يعترفون بوجـود حقيجب الالتزام به و احترامه و بوجود حدود و قوانين تفصل بين الناس .

4 - وكما تتداعى صفات الخير في الصالحين تتداعى صفات الشر في المفسدين ، فهم يبداون من الحلف و لكنهم لا ينتهون عند الاعتداء و الإثم بل يتسافلون بعد ذلك الى صفات سيئة أخرى .

[ عتل بعد ذلك زنيم ]

فما العتل و ما الزنيم ؟

الف : العتل ، قالوا : انه شخص عظيم الجثة ، قبيح المنظر ، ناقص الخلقة .

ولعــل ما ذهب اليه المفسرون كان بسببين : أحدهما : بالنظر الى تأويل الآية في ( الوليد بن المغيرة ) و اتخاذه مقياسا لصفاته المعنوية و المادية السيئة ، و الآخر :


(1) البقرة / 194 .


استلهامهم هذا المعنى من الحديث المأثور عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - لما سئل عن العتل الزنيم : " هو الشديد الخلق ، الشحيح ، الأكول الشروب ، الواجد ( شديد الحب ) للطعام و الشراب ، الظلوم للناس ، الرحيب الجوف " بيد ان هذه الصفات - حسبمايبدو - ليست مقصودة بذاتها ، بل هي في حقيقتها كنايات عن صفات معنوية او مقارنات معها تتصل باخلاق الانسان ، و الشاهد على ذلك ما جاء في اللغة من جذر هذه الكلمة حيث نقرأ في اللغة : عتله : جذبه و جره ، يقال عتله الى السجن اي دفعه بعنف (1) ، و قال الله يـأمر خزنة النار بعذاب الأثيم : " خذوه فاعتلوه الى سواء الجحيم " (2) اي القوه بـدفع و عنــف ، و العتل الجافي الغليظ (3) ، و في بعض الروايات قال رسول الله (ص) : " رحب الجوف ، سيء الخلق ، أكول ، شروب ، غشوم ، ظلوم (4) ، و عن ابن مسكان عن محمد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد الله الصادق - عليه السلام - : ما معنى قول الله عز وجل : " الاية " ؟ قال : " العتل العظيم الكفر " (5) ، و الذي يبدو لي ان الكلمة تتسع الى الكثير من صفات الشر و الباطل ، و لا يكون الانسان عتلا حتى يعظم انحرافه كما قال الامام الصادق (ع) ، و تتداعى فيه الصفات السيئة تسافلا نحو الحضيض ، و ذلك ما يشير اليه السياق القرآني حيث جعل ( العتل ) من آخر الصفات ، و قال مبينا انها تأتي بعد اجتماع كثير من الصفات السيئة في الانسان " بعد ذلك " فهي غاية الشر، و مجمع الاخلاق الدنيئة .

باء : الزنيم .. هو اللصيق و المزنم اللاحق بقوم ليس منهم ولا هم يحتاجون اليه(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 394 عن المجمع .

(2) الدخان / 47 .

(3) المنجد مادة عتل .

(4) مجمع البيان / ج 10 عند الآية .

(5) نور الثقلين / ج 5 - ص 394 نقلا عن عيون الأخبار .


فكأنه فيهم زنمة (1) ، و سمي الدعي زنيما لانه شاذ عن المجتمع و لا ينسجم معه فكانه من غير جنسه ، و لعل هذه الكلمة تتسع للعملاء الدخلاء على المجتمع الاسلامي ، و المتصلين باعدائه العاملين لمصالحهم ، و ما اقرب المنافقين من حقيقة الكلمة . اوليسوا في الامةوليسوا منها و لا معها ؟

و كلمة أخيرة نقولها في الآيات : ان نهي الله عن الطاعة للذين مر ذكرهم هو نهي عن اتخاذهم بطانة للقيادة و اعضاء في جهازها الديني و السياسي لما في ذلك من اخطار عظيمة على واقع الامة و مستقبلها ، و على مسيرة القيادة الفكرية و الايمانية و السياسية ، و مكانتها الجماهيرية في المجتمع .

[14] و يبين السياق جذور الصفات السيئة عند المنافقين و هما اثنان :

الاول : الافتتان بالدنيا . و قد ذكر الاموال و الاولاد من زينة الدنيا لانهما غاية ما فيها ، و المال لا يقصد به الدينار و الدرهم بل هو كل ما يملكه الانسان من حطامها و المال رمزه ، كما ان الاولاد لا ينحصرون في الابناء من الصلب و حسب بل هم كل اتباع المترفيـن ، و الاولاد أقرب المصاديق في التبعية و الطاعة ، و هذا ما أكده الله في قوله : " المال و البنون زينة الحياة الدنيا " (2) ، و افتتان الانسان بهما يعني حبه للدنيا و " رأس كل خطيئة حب الدنيا " (3) ، كما قال الامام الصادق (ع) ،او كما قال رسول اللـه (ص) : " حب الدنيا أصل كل معصية و أول كل ذنب " (4) .


(1) المنجد / مادة زنم .

(2) الكهف / 46 .

(3) موسوعة بحار الانوار / ج 73 - ص 7 .

(4) تنبيه الخواطر / ص 362 .


[ ان كان ذا مال و بنين ]

يعني ان أصل صفات المنافقين و المترفين الذين نهى الرسول عن طاعتهم و التي ذكرها القرآن في الآيات السابقة ( الحلف و المهانة و الهمز و النميمة و منع الخير و الاعتداء و الإثم و العتالة و الزنامة ) كلها بالافتتان بالدنيا ( المال و البنين ) . اذن فطريقتكامل اخـــلاق الخيـــر في شخصية الانسان ، و بالتالي التسامي الى قمة الفضيلة السامقـة ( اعني التوحيد ) لا يكون الا بتجاوز فتنة الدنيا باموالها و بنينها . و ليس تجاوز الفتنة بنبذ المال و الاتباع ، لانها حينما يحسن البشر التصرف فيهما يكونان خير معين لهعلى الرقي في سلم الكمال الاخلاقي و الايماني ، ففي الحديث الشريف عن النبي (ص) : " نعم العون على تقوى الله الغنى " (1) ، و عن الامام الصادق (ع) : " نعم العون الدنيا على الآخرة " (2) ، اوليس العوز سبب التبعية ، و الحاجة تؤدي الى الذل ؟

و نهتدي الى فكرة أخرى هامة حينما نربط هذه الآية بنهي القيادة عن طاعة المترفين ، و هي : ان القائد قد ينخدع هو الآخر بما عندهم من حطام الدنيا ( اموالا و اتباعا ) فيطيعهم او يداهنهم طمعا فيهما او خشية منهما ، و يجب عليه ان يتجاوز هذه العقبة بالتوكلعلى ربه و الرغبة فيما عنده .

[15] الثاني : نبذ رسالة الله وراء ظهورهم . و ما هي رسالة الله ؟ انها الحق و الفضيلة ، و حيث رفضوها و اتبعوا اهوائهم و شهواتهم فقد اختاروا الباطل على الحق ، و الرذيلة على الفضيلة .

[ إذا تتلى عليه ءاياتنا قال أساطير الأولين ]


(1) فروع الكافي / ج 5 - ص 71 .

(2) المصدر / ص 72 .


أي انها قيم رجعية لا تنسجم مع الواقع المعاصر فهي أساطير تشبه ما يسطره الأولون بخيالاتهم من القصص البعيدة عن واقع الحياة و حقائقها ، و هذه من طبيعة الانسان حينما يتكبر و يعاند لا يبحث عن صحة الفكرة ، ولا كونها حقا أم باطلا ، و انما يبحث قبل ذلك وبعده عن التبرير بغض النظر عن سلامته .. فالمهم ان يقدم عذرا مبررا ، و لكن هل درس المترفون رسالة الله دراسة موضوعية عقلانية اوصلتهم الى هذا الحكم ، ام انهم وجدوها لا تتفق مع اهوائهم ، و وجــدوا الرسول لا يداهنهم ولا يطيعهم فقالوا ذلك ؟ بلى . انهم ربطوا الرسالة بمصدر بشري ( الاولين ) و لم يربطوها بالله حتى يهربوا من مسؤولية الحق ، و لكن هل يصير الحق باطلا بمجرد ان يقول احد انه اسطورة او باطل ؟ كلا .. و هكذا لا تغير اباطيل المترفين من حقيقة الرسالة شيئا أبدا ، و دليل ذلك أنهم لن يفلتوا من الجزاء .

[16] بل سيتأكد لهم يوم الجزاء ان الرسالة حقائق واقعية عندما يجازيهم الله و يعذبهم ، و هذا ما يوضح لنا العلاقة بين قول المترفين ان الرسالة أساطير الاولين و بين قول الله مباشرة :

[ سنسمه على الخرطوم ]

و الوسم : العلامة التي يعرف بها الشيء ، و يقال للكي وسما لان العرب كانت تحمي حديدة تكوي بها الدواب لتكون فيها علامة مميزة ، و الميسم هو آلة الوسم ، وان المترفين ليكوون يوم القيامة بمياسم خزنة النار ، التي تترك عليهم علامة يعرفهم بها الخلائق فيفتضحون و يعيبونهم على افعالهم و ذنوبهم الدنيئة . و قد نستوحي من هذه الآية ان الانسان و حتى المترف لا يعترف و هو يمارس الذنب كالهمز و النميمة و منع الخير انه على الباطل ، بل يخفي لحقيقة بشتى الوسائل و المبررات عن الآخرين ، و لذلك كان من جزائه في الآخرة الفضيحة بالوسم على الخرطوم ، فما هو الخرطوم ؟

في المنجد : خراطيم القوم ساداتهم و أبرزهم ، يسمى بذلك الأنف ، و يستعمل خصوصا للفيل (1) ، و قيل للأنف خرطوما لان الوجه أبرز ما في الانسان ، و الأنف أبرز ما في الوجه ، و ربما وصف القرآن أنوف المترفين بالخراطيم ( أنوف الافيال الطويلة ) لانهم عادة مايشمخون بها على الناس استطالة و تكبرا ، حتى لتكاد تطول لو أمكنها . و قد تمحورت كنايات العرب عن التكبر حول الأنف ، و يقولون : شمخ بأنفه ، و أرغم الله انفه ، و آتي برغم أنفه (2) ، وحيث يعذبهم الله بالوسم على أنوفهم فذلك اهانة لهم باعتبارها مقياس العزةو التكبر ، يقال : أعز الله أنوفهم إذا رفع القوم شأنا . ولعل الكلمة تتسع الى اللسان الذي يحلفون به ، و يهمزون به ، و ينمون ، و يمنعون الخير ، و يحاربون به الرسول و الرسالة ، و ما الى ذلك من سائر المعاصي التي يلعب اللسان فيها دورا رئيسيا ، و انما يطيل الله أنوفهم أو ألسنتهم في الآخرة لتستوعب بمساحتها قدرا أكبر من العذاب .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس