فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


قصة أصحاب الجنة
[17 - 20] و يشبه القرآن واقع المترفين مذكرا بقصة اصحاب الجنة ، لانهم كهؤلاء افتتنوا بزينة الحياة الدنيا فاتبعوا الاهواء و خالفوا الحق و استكبروا على المحرومين ، لولا انهم بعد طائف من الله عليها اكتشفوا خطاهم و بادروا الى التوبة خشية العذاب الأكبرفي الآخرة . قال ابن عباس : ( انه كان شيخ كانت له جنة ، و كان لا يدخل بيته ثمرة منها و لا الى منزله حتى يعطي كل ذي حق حقه ، فلما قبض الشيخ و ورثه بنوه - و كان له خمسة من البنين - فحملت جنتهم في تلك(1) المنجد / مادة خرط (12) بتصرف .

(2) مجمع البيان / ج 10 عند الاية .


السنة التي هلك فيها أبوهم حملا لم يكن حملته من قبل ذلك ، فراحوا الفتية الى جنتهم بعد صلاة العصر ، فاشرفوا على ثمرة و رزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم ، فلما نظروا الى الفضل طغوا و بغوا ، و قال بعضهم لبعض : ان أبانا كان شيخا كبيرا قد ذهب عقله و خرف فهلموا نتعاهد و نتعاقد فيما بيننا ان لا نعطي أحدا من فقراء المسلمين في عامنا هذا شيئا ، حتى نستغني و تكثر اموالنا ، ثم نستأنف الصنعة فيما يستقبل من السنين المقبلة ، فرضي بذلك منهم اربعة و سخط الخامس ، و هو الذي قال تعالى : " قال أوسطهم ألم أقللكم لولا تسبحون " .

فقال لهم أوسطهم : اتقوا الله و كونوا على منهاج أبيكم تسلموا و تغنموا ، فبطشوا به فضربوه ضربا مبرحا ، فلما أيقن الأخ انهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارها لامرهم ، غير طائع ، فراحوا الى منازلهم ثم حلفوا بالله ان يصرموه إذا اصبحوا و لم يقولوا ان شاء الله ، فابتلاهم الله بذلك الذنب ، و حال بينهم و بين ذلك الرزق الذي كانوا اشرفوا عليه ) (1) .

و لعل في القصة اشارة الى أنه تعالى أجرى نفس السنة على المترفين او طالهم منه شيء من العذاب في الدنيا ، و فـــي رواية أبي الجارود عن الامام الباقر (ع) تأكيد لذلك ، قال : " ان أهل مكة ابتلوا بالجوع كما ابتلي اصحاب الجنة " (2) ، وإذا لم يكنأهل مكة باجمعهم فلا أقل مصاديق الآيات السابقة كالمغيرة و آخرين ممن نزلت في شأنهم يومذاك . قال تعالى :

[ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة ]

أي اختبرناهم بالثروة بمثل ما اختبرنا اصحاب المزرعة ومادامت السنن الإلهية في(1) تفسير القمي / ج 2 - ص 381 .

(2) المصدر / ص 382 .


الحياة واحدة فيجب إذن ان يعتبر الانسان بالآخرين سواء المعاصرين له او الذين سبقوه ، و ان يعيش في الحياة يتلمذ فانها مدرسة و أحداثها خير معلم لمن أراد و ألقى السمع و أعمل الفكر وهو شهيد ، و بهذه الهدفية يجب ان نطالع القصص و نقرأ التأريخ ، فهذه قصة أصحابالجنة يعرضها الوحي لتكون أحداثها و دروسها موعظة و عبرة للانسانية .

و القرآن في عرضه لهذه القصة الواقعية (1) لا يحدثنا عن الموقع الجغرافي للجنة هل كانت في اليمن او في الحبشة ، ولا عن مساحتها ، و نوع الثمرة التي اقسم اصحابها على صرمها ، لان هذه الأمور ليست بذات أهمية في منهج الوحي ، إنما المهم المواقف و المواعظ والاحداث المعبرة سواء فصل العرض او اختصر و أوجز .

[ إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ]

أي اول الصباح ، و خلافا لعادة الفلاحين الذين يصرمون بعد طلوع الشمس ، و ذلك لكي لا يعلم المساكين بالامر فيحضرون طلبا للمعونة ، و يظهر انهم تعاقدوا على ذلك ليلا . و الصرم اصله القطع ، يقال : تصارم القوم اذا تقاطعوا و هجر بعضهم بعضا ، و سيف صارم يعنيشديد القطع ، و الرجل الاصرم الذي قطع طرف أذنيه ، و صرم النخل اذا قطع عروقها .. ولعل في الآية اشارة الى نوع شجرة الجنة بانه مما يصرم كالنخل و العنب و ليس مما يحصد كالحنطة او يجنى كالفاكهة . و القسم هو غاية العزم و الاصرار . و لعلهم انما تحالفوا و تعاقدوا لكي لا ينفرد بعضهم باعطاء شيء للفقراء او افشاء سر مؤامرتهم حيث يبدو ان بعضهم كان مخالفا لمثل هذه العملية وهو أوسطهم .


(1) اقول واقعية لان بعض المفسرين و الذين درسوا القصص القرانية حاولوا تصويرها بانها قصص خيالية و همية وضعها الله لتكون وسيلة لافكار القرآن ، و ليس في ذلك مقدار من الصحة .


[ و لا يستثنون ]

و تنطوي هذه الآية على معنيين : أحدهما : الاستثناء بمعنى أخذ مشيئة الله و المتغيرات بعين الاعتبار ، فانه نهى سبحانه ان لا يعلق احد عزمه و قراره بمشيئته فقال : " و لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " (1) و هذه حقيقة علمية واقعية ان الانسان العاقل حينما يخطط لأمر ما يجب ان يضع في فكره الاحتمالات الممكنة التي قد يواجهها في المستقبل ، و لقد أثبتت التجارب العلمية ما نعايشه يوميا من احتمالات الخطأ و مخالفة ما نخططه عما يقع فعلا ، مما يكشف أمرين : الأول : جهلنا بكل الحقائق التي قد تقع ، و الثاني : ان هناك ارادة فوق القوانين و الانظمة الواقعية يمكن ان تخرقها و تخرب الحسابات و الخطط في أية لحظة بحيث لا يملك الانسان الا الاستسلام لها ، او يكون قد استعد للأمر سابقا و وضع الخطط المناسبة ، و تعرفنا البصائر الاسلامية بتلك الارادةانها مشيئة الله عز وجل .. يقول الامام علي - عليه السلام - : " عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم ، و حل العقود ، و نقض الهمم " (2) ، و ما اكثر البحوث الفلسفية التي تفتح هذه الآية آفاقها أمام المتدبر ، و التي خاض فيها المفسرون و الفلاسفة .

الثاني : الاستثناء بمعنى الاقتطاع و العزل من الثمر للفقراء و المساكين . و لقد أغفل أصحاب الجنة قول " إلا أن يشاء الله " كما عقدوا العزم بالايمان المغلظة ان لا يعطوا و لا فقيرا واحدا شيئا مما يصرمون ، و لكن هل أفلحوا في أمرهم ؟ كلا ..


[ فطاف عليها طائف من ربك و هم نآئمون ]


(1) الكهف / 23 - 24 .

(2) نهج البلاغة / حكمة 250 .


قبل حلول موعدهم الذي تعاقدوا على ان يهبوا فيه للصرم ( اول الصباح ) ، و ما يدريك لعلهم ناموا اول الليل طمعا في الجلوس مبكرين . بلى . ان الله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ما كان ليغفل عن تدبير خلقه و إجراء سننه في الحياة ، فقد اراد ان يجعل آية تهديهم الى الايمان به و التسليم لأوامره حيث أمر بالاستثناء ( إنشاء الله ) و بالانفاق على المساكين ، و ان يعلم الانسان بان الجزاء حقيقة واقعية وانه نتيجة عمله .

و الطواف هو المرور بالشيء و حوله ، و الطائف الذي يقوم بذلك الفعل ، و لقد قال المفسرون انه العذاب ، وقد يكون تأويله بالريح المدمرة ، او طوفان الرمل ، او الماء العاتي ، او الجراد تأكل الثمر و كأنها تصرمه ، و لعل الاخير أقرب الاحتمالات .. يقال : طافالجراد إذا ملأ الأرض كالطوفان (1) .

[ فأصبحت كالصريم ]

و كأن أحدا سبقهم إلى صرمها ، و هكذا يواجه مكر الله مكر الانسان فيدعه هباء منثورا " و مكروا و مكر الله و الله خير الماكرين " (2) ، و اذا استطاعوا ان يخفوا مكرهم عن المساكين فهل استطاعوا ان يخفوه عن عالم الغيب و الشهادة ؟ كلا .. و أرسل الله طائفة ليثبت لهم هذه الحقيقة ، و ربما جعله ليلا " و هم نائمون " لتكون القضية اعمق أثرا حيث يعلمون ان الجزاء من جنس العمل ، فكما أنهم أخفوا مكرهم عن اولئك كذلك أخفى الله مكره عنهم فما جعلهم يعاينونه .

[21 - 33] و لان من طبيعة الانسان انه سريع الانتباه من الرقاد عند انتظار أمر هام ، فانهم كانوا - فيما يبدو - ايقاظا قبيل الصبح .


(1) المنجد / مادة طاف .

(2) ال عمران / 54 .


[ فتنادوا مصبحين ]

نادى بعضهم بعضا ، و اجمعوا بالفعل على ضرورة التبكير في الذهاب الى الجنة و صرمها ، و استحث بعضهم بعضا .

[ أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين ]

أي إذا كنتم تريدون الوقت الانسب للصرم من دون استثناء فلا انسب من الغدو ، وهو السعي أول الصبح . و أصل الحرث من قلب الارض بآلة الحراثة ، و حرثكم يعنون الذي اتعبتم انفسكم حتى حرثتموه ، و في ذلك استثارة للذات ، بأنكم الذين اجهدتم انفسكم و حرثتم الارضو زرعتموها و ناضلتم منذ البداية حتى اثمرت .. فأنتم وحدكم إذن الذين يجب ان يكون لكم النتاج لا يشارككم فيه أحد من الناس .

[ فانطلقوا وهم يتخافتون ]

في سرعة متانية محفوفة بالحيطة و الحذر من الفضيحة ، لكي ينجزوا المهمة لو أمكنهم قبل استيقاظ المساكين و رواحهم الى حوائجهم . و التخافت نقيض الجهر و الاعلان فهو التسار ، و يبدو انهم يدعون بعضهم الى المزيد من الكتمان و التخفي . او كانوا في اثناء انطلاقهم الى الصرم يتناجون الحديث و التآمر . و عملوا المستحيل من أجل همهم الشاغل الذي تخافتوا به طيلة الطريق الى جنتهم ، و هو إخفاء الأمر على المعوزين حتى لا يسألوهم شيئا مما يصرمون .

[ أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين ]

و المسكين هو المعوز الذي لا يملك حتى قوت يومه ، و الآية تدل على مدى شحهماذ لا يريدون ان يتعطفوا و لا على واحد ولو كان من احوج الناس ! و أكدوا على ذلك اليوم بالذات لانه يوم الصرم و القسمة ، فلا يضرهم ان يدخل المساكين بعده اذ لا ثمر ولا قسمة ، و الآية تعكس ظاهرة كانت شائعة في ذلك المجتمع و هي ان المساكين و المعوزين يدخلون المزارع و البساتين في مواسم الجني و الحصاد و الصرم ، و لعلهم كانوا يحاولون التعرف على اليوم الذي يبادر فيه الملاك الى ذلك فيطوفون عليهم في حقولهم طمعا في المساعدة و الاعانة ، و لعل والد الاخوة الخمسة ( اصحاب الجنة ) الذي توفى و أورثهم إياها كان قد عودالمساكين على المعونة يوم الصرم من كل عام ، وقد أخذ اصحاب الجنة ذلك بعين الاعتبار في خطتهم و احتاطوا للأمر بحيث انهم من الناحية الظاهرية ما أغفلوا شيئا .

[ و غدوا على حرد قادرين ]

في ظنهم اذ احكموا خططهم و كيدهم من كل الجوانب . و اختلف في معنى الحرد فقيل : هو القصد (1) ، فالمعنى غدوا على قصدهم الذي قصدوا اي الصرم و المنع قادرين عند انفسهم ، و قيل : الغضب (2) ، و قيل : المنع ، و قيل : الجد (3) ، و يبدو لي انه المنع المقصودالجاد و المشرب بالحقد و الغضب على المساكين و النفور منهم . و انما تصوروا أنفسهم قادرين على ذلك لانهم أخذوا بكل الاسباب التي من شأنها إيصالهم الى الهدف ، و غاب عنهم - بسبب ترفهم و ضعف ايمانهم - ان قدرة الله المطلقة فوق كل شيء ، و انه وحده الذي لا يمنعهمانع . و مشوا نحو جنتهم و كلهم ثقة بأن ما أرادوه سوف يتحقق .

[ فلما رأوها قالوا إنا لضالون ]


(1) في مجمع البيان و الكشاف و تفسير البصائر عند الآية .

(2) المنجد / مادة حرد .

(3) في الدر المنثور عند الآية .


عن الحق ، و ان شيئا لا يصير إلا أن يشاء الله ، و انه يعلم حتى السر ، و ان في الانفاق في سبيل الله خيرا عظيما و بركة ، و قيل : ضالون اي اننا ضيعنا الطريق و صرنا الى غير جنتنا إذ لم يصدقوا انفسهم ان الارض التي تركوها أمس بأفضل حالة قد تحولت الى بلقعفزعموا انهم قد ضلوا الطريق الى ارضهم الى غيرها ، و لكن كيف يضيع الانسان ارضه ؟! كلا .. إنها أرضهم بعينها ، وإنهم ضالون عن الحقيقة و ليسوا ضالين عن جنتهم ، وإنهم حرمهم الله بمشيئته و حكمته .

[ بل نحن محرومون ]

و ثمة علاقة بين ضلالهم و حرمانهم و هي ان بلوغ الانسان تطلعاته و أهدافه المعنوية و المادية متصل بالمنهج الذي يتبعه في الحياة ، فحينما يخطىء اختيار المنهج أو يضل عن المنهج الصحيح فإنه بصورة طبيعية مباشرة سيحرم ليس من معطياته المعنوية بل حتى الماديةمنها ، و هــذا ما وقع فيه أصحاب الجنة ، و في الحديث قال الامام الباقر - عليه السلام - : " ان الرجل ليذنب الذنب فيدرأ عنه الرزق " (1) .

و نستوحي من الآية بصيرة أخرى و هي : انهم اهتدوا الى ان الحرمان الحقيقي ليس قلة المال و الجاه بالمسكنة ، و انما الحرمان و المسكنة قلة الايمان و المعرفة بالله بالضلال .

و هكذا أصبح الحادث المريع بمثابة صدمة قوية ايقظتهم من نومة الضلال و الحرمان ، و بداية لرحلة العروج في آفاق التوبة و الإنابة ، والتي أولها اكتشاف الانسان لخطئه في الحياة . و هكذا نهتدي الى ان من أهم الحكم التي وراء أخذ الله(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 395 نقلا عن الكافي .


للناس بالبأساء و الضراء و ألوان من العذاب في الدنيا هي تصحيح مسيرة البشر ، بإحياء ضميره و استثارة عقله من خلال ذلك ، كما قال تعالى : " فأخذناهم بالبأساء و الضراء لعلهم يتضرعون " (1) .. فما أحوجنا نحن المسلمين ان نتأمل قصة هؤلاء الاخوة الذيناعتبروا بآيات الله و راجعوا أنفسهم بحثا عن الحقيقة لما رأوا جنتهم وقد أصبحت كالصريم ، فنغير من انفسنا ليغير الله ما نحن فيه ، اذ ما اشبه تلك الجنة و قد طاف عليها طائف من الله بحضارتنا التي صرمتها عوامل الانحطاط و التخلف .

ولو انهم استمعوا الى نداء المصلحين لما ابتلوا بتلك النهاية المريعة .. و هكذا كل امة لا تفلح إلا إذا عرفت قيمة المصلحين الثائرين ، فاستمعت الى نصائحهم ، و استجابت لبلاغهم و إنذارهم . و لهذا الدور تصدى اوسط أصحاب الجنة ، فعارضهم في البداية حينما ازمعوا و اجمعوا على الخطيئة ، و ذكرهم لما أصابهم عذاب الله بالحق ، وحملهم كامل المسؤولية ، و استفاد من الصدمة التي أصابتهم في إرشادهم الى العلاج الناجح .

[ قال أوسطهم ]

و هو يذكرهم و يلومهم ، و يرشدهم في ان واحد :

[ ألم أقل لكم لولا تسبحون ]

أي أن التسبيح هو السبيل لعلاج الضلالة و الحرمان ، فهو إذن ليس كما يتصور البعض مجرد قول الواحد سبحان الله ، انما هو شريعة نظام و منهجية حياة ، تتسع لعلاج كل انحراف و مشكلة لدى الانسان ، و هدايته الى الحق و الصواب في كل(1) الانعام / 42 .


ميـــدان و جانب ، حيث انه بالتسبيح يقدس المرء ربه فلا ينسب الذنب اليه و إنما الى نفسه ، ولهذا يأتي التسبيح عند الاعتراف بالذنب ، مثل قوله سبحانه في قصة ذي النون و على لسانه : " سبحانك إني كنت من الظالمين " و الذي ذهب اليه البعض من تفسير للتسبيح هنا بانه الاستثناء ( بالعطاء للمساكين ، و قول إنشاء الله ) او التوبة بعد الذنب صحيح و لكنه من المصاديق و المفردات التي الى جانبها الكثير مثيلاتها .

و تتساءل : من هو اوسطهم ؟

قال اكثر المفسرين انه اوسطهم في السن ، و ذلك ممكن الا ان الاقرب للمعنى انه أعدلهم و أرجحهم عقلا ، ذلك ان السن في مثل هذه القضية ليس بذي اهمية حتى يذكر ، و الى ذلك ذهب ابن عباس و قد ساله سائل : يا ابن عباس كان اوسطهم في السن ؟ فقال : لا بل كان اصغر القوم سنا و كان اكبرهم عقلا ، و اوسط القوم خير القوم ، و الدليل عليه في القرآن انكم يا أمة محمد خير الأمم ، قال الله : " و كذلك جعلناكم أمة وسطا " (1) ، و انما يكتشف الانسان الطريق السوي باعتداله في العقل و البصيرة لا بمقدار عمره ، و حيث كان اخوهم هذا صاحب بصيرة نافذة فقد سبقهم الى معرفة الحق و نصحهم ، و قرأ النتائج المستقبلية قبل وقوعها ، و كذلك يكون اولوا الالباب من القادة الصالحين .

و من موقف اوسط اصحاب الجنة نهتدي الى بصيرة هامة ينبغي لطلائع التغيير الحضاري و قادته ان يدركوها و ياخذوا بها في تحركهم الى ذلك الهدف العظيم ، و هي : ان المجتمعات و الامم حينما تضل عن الحق و تتبع النظم البشرية المنحرفة تصير الى الحرمان ، و تحدث فيداخلها هزة عنيفة ( صحوة ) ذات و جهين : احدهما :


(1) تفسير القمي / ج 2 - ص 318 .


القناعة بخطأ المسيرة السابقة ، و الآخر : البحث عن المنهج الصالح ، و هذه خير فرصة لهم يطرحوا فيها الرؤى و الأفكار الرسالية و يوجهوا الناس اليها . و انها لظروف أمتنا الاسلامية التي جربت اليمين و اليسار و تعيش الان مخاض العودة الى الخيار الإلهي الاول بروح عطشة لتلقي الرسالة و الطاعة لحملتها و القادة اليها . و كذلك وقف أصحاب الجنة من أوسطهم و دعوته للعودة الى الحق :

[ قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين ]

فالقيم الإلهية اذن صحيحة لا خطأ فيها لانها تتنزل من عند الله صاحب الكمال المطلق ، انما الخطأ و الداء في الانسان الذي يظلم نفسه بالانحراف عن الحق . و كذلك ينبغي للامة الاسلامية ان تقيم واقعها و هي تبحث عمن هو المسؤول عن تخلفها ، هل الاسلام أم المسلمين ؟

و هكذا سبحوا ربهم لكي لا يلقوا بمسؤولية خطئهم على الاقدار ، لان ذلك كان يعيق انطلاقتهم نحو التغيير و الاصلاح .

[ فاقبل بعضهم على بعض يتلاومون ]

يلقي كل واحد المسؤولية على غيره ، و هذه من الطبائع البشرية ان يدعي الانسان المكاسب و يتهرب من التبعات و النكسات ، و على ذلك مضى المثل : " الهزيمة يتيمة و للانتصار ألف أب " ، و لكن اصحاب الجنة تجاوزوا هذه العقبة ايضا ، و اعترفوا جميعهم بالمسؤولية ايمانا منهم بانها الحقيقة الواقعية ، و السبيل النافع الوحيد للتغيير الجذري الشامل .

[ قالوا يا ويلنآ إنا كنا طاغين ]


أي الويل ( العذاب ) لنا و بسببنا اذ طغينا ، و الطغيان اعظم من الظلم لانه تجاوز الحد فيه ، و هكذا يجب ان يعترف الانسان ( فردا و امة ) بحجم الخطيئة الواقعي دون تصغير يدعو الى التبرير ، و لا تضخيم يبعث روح اليأس من الاصلاح ، بل اعتراف الشجعان الذي ينفخ في النفوس روح التوبة النصوح الى الله ، و رجاء المتطلعين الى الاصلاح و الخير .

[ عسى ربنا ان يبدلنا خيرا منها ]

في الدنيا و الآخرة .

[ إنا الى ربنا راغبون ]

و بالرغبة الى الله يتجاوز الانسان فتنة الدنيا و أسرها الذي يقع فيه بالرغبة الطاغية اليها .

وفي نهاية القصة يضع القرآن أمامنا أعظم المواعظ و العبر التي تهدي اليها و هي : ضرورة ان يتخذ الانسان حوادث الدنيا و أحداثها علامة و آية هادية لما في الآخرة .

[ كذلك العذاب و لعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ]قيل : يعني لو كانوا يعلمون عذاب الآخرة ، و هو صحيح ، و الاقرب منه ان صاحب البصيرة و العلم يعرف وهو في الدنيا بايمانه و بصيرته ان ما في الآخرة أعظم حينما يرى العذاب في الدنيا . و هنا يتضح الفرق بين صاحب البصيرة الذي يرى الحقائق بعقله ( كاوسط اصحابالجنة ) و بين أصحاب الجنة الذين اهتدوا لعظمة عذاب الآخرة بما وقعوا فيه من الويل الدنيوي ، او يكون ضالا فلا يهتدي رغم الآيات و المواعظ .

و لعلنا نستوحي من عموم القصة ان بعضا من المكذبين و المترفين الذين كانوا في محيط الرسول انذاك ترجى لهم التوبة و الهداية كاصحاب الجنة ، بالذات و ان الله في الآيات القادمة يدعو النبي - صلى الله عليه وآله و سلم - ان لا يتعجل كصاحب الحوت في الحكم علىقومه بل يصبر لحكم الله الذي سيظهر في المستقبل فقد يتوبون كما تاب قوم يونس - عليه السلام - و من هذه الفكرة يجب على الدعاة ان يستمدوا سعة الصدر و كظم الغيظ اذ يواجهون الرفض و العناد في طريق نشر الرسالة بين الناس .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس