فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[1 - 3] ان الايمان بالآخرة - و كما أكدنا مرارا - حجر الأساس في الايمان بسائر القيم و المبادىء ، ولذلك لا تكاد تخلو سورة قرآنية من التأكيد عليها ، بل وإن الحديث بشأنها ترهيبا و ترغيبا أصبح السمة الأساسية للجزئين الأخيرين ( تبارك و عم ) المكيين فيالاغلب عدا سور ( الانسان ، الزلزلة و النصر ) ، وإذ يوليها الرب هذا الاهتمام فلعلمه بموقعها في بناء شخصية الانسان .

و الذي يتتبع حديث القرآن عن الآخرة يجد انه عبر عنها بعدة أسماء تختلف في ظاهرها و بعض مضامينها ، كان يكون كل اسم يعبر عن جانب او مرحلة زمنية منها ، إلا ان هدفها واحد لا يتجزأ ، وهو زرع الايمان بالآخرة و تعميقه في النفوس لتتبصر من خلالها بسائر الحقائق . و هنا تطالعنا أولى الآيات باسم من أسماء القيامة و عبر بلاغة فائقة ، تهتز لها القلوب ، و تقشعر منها جلود المؤمنين .

[ الحآقة ]

و للمفسرين أقوال كثيرة في معنى هذه الكلمة ، و لماذا سميت القيامة بها ؟ و أبرزها التفسيرات التالية أولا : اللازمة الواجبة الوقوع ، قال تعالى : " و لكن حق القول مني لأملان جهنم " (1) أي وقع فاوجبته ، و قال : أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنتتنقذ من في النار " (2) أي وجب و لزم ، ثانيا : المحيطة ، جاء في المنجد : حاق بهم العذاب : نزل و أحاط ، و الحيق : ما يشتمل على الانسان و يلزمه من مكروه فعله ، قال تعالى " و لا يحيق المكر السيء إلا بأهله " (3) أي لا يقع و يحيط إلا بهم ، وقال : " ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم و حاق بهم ما كانوا به يستهزؤون " (4) يعني وقع و أحاط .

و الذي يبدو لي من معنى الكلمة بالاضافة الى ما تقدم : انها الحق الذي يقع فيكشف عن الحقائق و يظهرها ، كما قال الله : " و يريد الله ان يحق الحق بكلماته " (5) يعني يثبته و يظهره و يجعل الغلبة له على الباطل . ونحن إذا عرفنا بأن أكثر الناس محجوبون بألوان الأغطية عن معاينة الحق فسنهتدي بسهولة الى معنى " الحاقة " إذ هي التي تكشف عن الانسان غطاءه ، و تجعل بصره حديدا يرى الحقائق ، حقيقة ما جاءت به الأنبياء و الكتب الإلهية ، و حقيقة نفسه و أعماله ، هل هو من أصحاب الحق " اليمين " أم من أصحاب الباطل " الشمال " ؟ و حقيقة(1) السجدة / 13 .

(2) الزمر / 19 .

(3) فاطر / 43 .

(4) هود / 8 .

(5) الانفال / 7 .


مصيره .. و القيامة ليست تجعل الحق حقا فهي المحقة ، لان الحق و الباطل شيئان واقعيان لا تصنعهما الاحداث ، انما دورها الكشف عنه ، و سوق النفوس الى التسليم له ، حيث تنسف بأحداثها المريعة كل الحجب عن قلبه وعينه ليرى الحق ، كما قلنا في معنى يوم التغابن ، فإنه ليس بيوم يتغابن فيه الناس ، وإنما يكشف عنه ، و يؤكد ربنا عظمة القيامة وهذه الصفة منها إذ يقول :

[ ما الحآقة ]

انها أمر عظيم ماديا ، حيث الوقائع الكونية المهولة ، و معنويا بآثارها في النفوس - كل النفوس - و كيف لا ترهب الانسان الضعيف تلك الأحداث الفظيعة التي أشفقت منها السماوات و الارض ، و كيف لا يخشى و هو يلاقي ربه ، و يرى عمله ، و يمضي الى مصيره الأبدي ؟!


ان الحاقة ليست كلمــة تقال ، فهذه الحروف عنوان لأمر عظيم ، تتزلزل به الارض ، و تمور السماء ، و تسجر البحار ، و تتلاشى الجبال ، و " تذهل كل مرضعة عما أرضعت و تضع كل ذات حمل حملها و ترى الناس سكارى وما هم بسكارى و لكن عذاب الله شديد " . وتساؤل القرآن بـ " ما " يأتي في سياق التعظيم و التذكير و التحذير و الإلفات ، و لا يقف عند ذلك بل يضيف :

[ وما أدراك ما الحآقة ]

و هذه الآية تفيد التعظيم ، كما تبين ان أحدا لا يدرك حقيقة القيامة ، وقد يعلم بعض المجملات عنها : بأنها حق ، وأن من أحداثها زلزلة الارض ، و حشر الناس ، و دك الجبال ، و لكنه لا يعلم ميقاتها ، كما لا يملك أدوات يتمكن بها وعي أحداثها العظيمة .



[4 - 8] إذن فكيف نؤمن بالحاقة ؟

إننا لسنا مطالبين بمعرفة دقائق القيامة و تفصيلات و قائعها ، فإذا عجزنا عن ذلك كفرنا بها . كلا .. انما يكفي لكي يأخذ الايمان بهـــا دوره في حياتنا ان نسلم بأصل وجودها ، و كونها حقا لازما مفروضا من قبل الله عز وجل .. و ان نظرة معتبرة الى التاريخ تهدينا الى ذلك ، حيث ان كل ما حل بالاقوام الاولين صورة مصغرة عن سنة الجزاء التي تتجلى بكامل حجمها و معناها يوم القيامة ، و الدراسة الموضوعية لحضاراتهم و بالذات عند منعطف النهاية و الدمار تكشف بوضوح ان حركة التاريخ ليست عفوية تدور في الفراغ ، بل هي محكومة بقوانين و سنن ومن أبرزها - على صعيد الأمم - سنة الجزاء و يضرب القرآن أمثلة على ذلك رابطا بين دمار الاقوام بالعذاب و تكذيبهم بالحق .

[ كذبت ثمود و عاد بالقارعة ]

و ثمود قوم صالح (ع) بينما عاد قوم هود (ع) ، و القارعة التي تقرع الناس ، و أساس القرع في اللغة هو الضرب ، يقال : قرعت الباب اذا دقت و ضربها ضارب ، و قرعته بالعصا : اي ضربته ، و سواء كانت القارعة هي الواقعة التي قرعت حياتهم في الدنيا ، أو الآخرة التي سوف تقرع الدنيا عند الساعة ، فأصلها واحد وهو الجزاء ، و حيث ندرس حياة عاد و ثمود نجد انهما كذبوا ليس بالجزاء و حسب ، بل كذبوا بالرسل و الرسالات و سائر آيات الله ، و لكنهم في الحقيقة انما انطلقوا الى كل ذلك التكذيب العريض و الشامل من خلال التكذيب بالجزاء و بالذات الآخرة ، الأمر الذي دعاهم بالاضافة الى التكذيب بالحقائق الأخرى الى الطغيان في الانحراف ، و ممارسة الذنوب ، و هذه نتيجة طبيعية للتكذيب بالجزاء ان يتحلل البشر من قيود المسؤولية و حدودها .

و لكن هل بقيت ثمود و عاد على التكذيب بلا رادع ؟ كلا ..

[ فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ]

وفي الطاغية قولان قريبان من المعنى :

الاول : انها الصيحة التي أرسلها الله عليهم ، فجعلتهم غثاء خامدين ، و سوى بها بيوتهم ، و سميت بالطاغية مبالغة في وصف عظمتها ، و اشارة الى أنها جاءت خارج السياق المعتاد للظواهر ، و زائدة عن حد القوانين الطبيعية فإنا نقول : طغى الماء : إذا تجاوز الحد، و فاض به النهر .

الثاني : و لعلها اسم لحالة الطغيان ، قال تعالى : " كذبت ثمود بطغواها * إذ انبعث أشقاها * فقال لهم رسول الله ناقة الله و سقياها * فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها " (1) ، و الذي يبدو ان الكلمة تعبر عن المعنيين في ان واحد ، و نهتدي منها ان الجزاء الإلهي حكيم للغاية ، فهو من جنس العمل و بحجمه .

[ وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ]

أي ريح باردة و ذات صوت ، جاء في المنجد : الصرصر من الرياح : الشديدة الهبوب او البرد ، و صرصر الرجل : صاح شديدا ، و سمي الصرصور بذلك لانه يصيح صياحا رقيقا في الليل (2) .

وأما العاتية ففيها أقوال : أحدها أنها التي خرجت عن أمر الملائكة الموكلين(1) الشمس / 11 - 15 .

(2) المنجد مادة صر .


بالريح ( الخزنة ) بان أوحى الله لها مباشرة ان تهلكهم بلا واسطة ، و الآخر : أنها التي لا قبل لاحد بمواجهتها و مقاومتها ، فهي تعتو على كل أحـد و كل وسيلة ، قال الزمخشري : شديدة العصف و العتو ، أو عتت على عاد فما قدروا على ردها بحيلة ، من استتار ببناء ،او التجاء بجبل ، او اختفاء في حفرة (1) . و المعنى الاصيل : أنها التي بلغت من الشدة ما تجاوزت به القوانين و المقاييس الطبيعية ، و بكيفية لا يمكن للبشر تصورها ، لان أصل العتو هو الخروج عن الحد ، قال تعالى : " و كأين من قرية عتت عن أمر ربها و رسله " (2) ، و قال : " فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة " (3) ، وإنما جعل الله الريح عاتية على عاد لكي يعكس عتوهم عن أمره عز وجل ، فإنه لو أراد أحد تصوره في عالم التكوين فسيجده تماما كالريح الصرصر حينما تتجاوز الحد المتعارف ، بل هي أعظم من ذلك لان رياح الشهوات العاتية في الحقيقة هي التي دمرتهم ، ولم تكن الريح الظاهرة إلا تجسيدا و عاقبة لها .

[ سخرها عليهم سبع ليال و ثمانية أيام حسوما ]

فهي لم تأتهم صدفة بسبب نحس أو تغير كوني خارج عن الحساب و السنن ، إنما جاءت الريح بإرادة إلهية سخرتها ، و كذلك ينظر المؤمنون الى الاحداث و يحللونها ، أما غيرهم فإنهم لا تفيدهم عبرة ، لانهم يفسرونها بالصدفة او بتغيرات مبتورة تعكس جهلهم أو تجاهلهم ،ولا يفكرون بعقولهم التي لو استثاروها لهدتهم الى يد التدبير التي تهيمن على الخليقة !

قال الفخر الرازي : وذلك لان من الناس من قال : ان تلك الرياح انما اشتدت لان اتصالا فلكيا نجوميا اقتضى ذلك ، فقوله : " سخرها " فيه اشارة الى(1) الكشاف / ج 4 - ص 599 .

(2) الطلاق / 8 .

(3) الذاريات / 44 .


نفي ذلك المذهب ، و بيان ان ذلك انما حصل بتقدير الله و قدرته ، فانه لولا هذه الدقيقة لما حصل التخويف و التحذير عن العقاب (1) ، و الكلمة نفسها تنفي الوهم بأن العاتية هي التي خرجت عن التقدير و التدبير ، كـذلك تجاوز الخطر عن النبي هود و الذين آمنوا معه (
حيث كانت تمر عليهم كالنسيم ) دليل على أنها كانت مسخرة مدبرة .

و نتساءل : لماذا لم يجعل الله الريح لحظة واحدة وهو قادر على إهلاكهم بها ؟ ربما صيرها الله سبع ليال و ثمانية أيام ( قالوا : من صباح الاربعاء الى مساء مثله من قابل ) (2) لانه أبلغ أثرا في نفوس المعذبين حيث المدة أطول ، كما انه أفضل موعظة في قلوب المؤمنين و المعاصرين لهم ، و أشد تحذيرا للاحقين ، و لعل في ذلك إشارة عبر التاريخ الى مدى تحصنهم و أسباب البقاء التي كانت في حضارتهم ، قال الطبرسي في مجمع البيان : الحسوم : المتوالية ، مأخوذة من حسم الداء بمتابعة الكي عليه ، فكأنه تتابع الشر عليهم حتى استأصلهم ، و قيل : هو من القطع ، فكأنها حسمتهم حسوما ، أي اذهبتهم و افنتهم ، و قطعت دابرهم (3) ، و سمي السيف حاسما لانه يحسم الأمر و يقطعه ( و يقطع المضروب به ) (4) .

[ فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ]

أي في تلك الأيام و الليالي ، أو في قراهم ، و حيث وقعوا صرعى فهم أشبه ما يكون بجذوع النخل المنتشرة على الارض و الخالية بالنخر من داخلها فهي لا تنفع(1) التفسير الكبير / ج 30 - ص 104 .

(2) كذلك في النصوص .

(3) مجمع البيان / ج 10 - ص 344 .

(4) التحقيق في كلمات القرآن / مادة حسم .


لبناء و لا لغيره (1) و المنظر صورة للحديث الشريف : " من أبدى صفحته للحق هلك " (2) ، و الآخر " من صارع الحق صرع " (3) ، و إنها لعاقبة كل من يكذب بالحق و يتنكب عن طريقه .

و اللطيف في تعبير القرآن مخاطبته المباشرة " فترى " للرسول ( ص ) و من خلاله كل تال للآيات ، وذلك ان الله لا يريد من نقل القصص مجرد المعرفة او التسلية ، بل يريد من سامعها الاتعاظ و الاعتبار ، و الذي يتم بتخيل القصص و مشاهدها و الحضور في احداثها و خلفياتها ، و بعبارة أخرى : ان يكون نفسه شاهدا عليها ، ولا شك ان القلب و العقل أعظم شهادة و حضورا ، و الانسان قادر على الحضور بهما ، و رؤية حتى الماضي و المستقبل ، فالخطاب هنا موجه للاذن الواعية ، ثم يؤكد ربنا بالتساؤل : ان قوم عاد أهلكوا جميعا ، فلم يبق منهم أحد .

[ فهل ترى لهم من باقية ]

قيل : لم يبق لهم أثر من نفس و غيرها ، و قيل : بل المعنى لا ترى من نفس باقية فقط (4) و هكذا حصروا الهلاك في النفوس لقوله تعالى عن قوم عاد : " فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم " (5) ، وهذا هو الأقرب .

إذن فتكذيبهم بالقارعة لم يغير من الحقائق الواقعية شيئا ، بل قرعتهم في الدنيا قبل الآخرة ، و نحن الذين نقف على أخبار الاقدمين يجب ان نتخذها حاقة تكشف لنا عن سنة الجزاء ، و من ثم حقيقة الساعة و القيامة و البعث ( الآخرة ) .


(1) مربيان مفصل في معنى " اعجاز نخل خاوية " في الاية 20 من سورة سورة القمر فراجع .

(2) موسوعة بحار الانوار / ج 70 - ص 107 عن الامام علي (ع) .

(3) المصدر / ج 77 - ص 420 .

(4) الدر المنثور و الكشاف و الرازي .

(5) الاحقاف / 25 .


[9 - 10] و يضع السياق صورا أخرى تكشف عن ذات الحقائق : هيمنة الله على الحياة ، و سنة الجزاء ، و الآخرة .. وإنما يكثر القرآن الأمثال لكي لا تبقى عندنا ذرة شك او شبهة ان تلك الحوادث كانت صدفة ، و بالتالي لكي يتعمق في نفوسنا الايمان بالله و الجزاء .


[ و جاء فرعون و من قبله و المؤتفكات بالخاطئة ]

أي بالقيم و الاعمال البعيدة عن الحق و الصواب ، كالظلم و العلو و الشرك و ادعاء الربوبية ، وقد اختلف في الذين قبل فرعون الى قولين : أحدهما : أنهم الأمم و القرون التي سبقته و أهلكها الله ، و الآخر - و هو صحيح ايضا - : ان فرعون كان حلقة من نظام سياسيكان يحكم مصر ، و الذين قبله يعني الحلقات الأخرى منه ، قال الامام الباقر (ع) في قوله : " و جاء فرعون " : " يعني الثالث و من قبله الأولين " (1) ، و الى ذلك تشير الاثار و الدراسات العلمية للتاريخ السياسي لمصر (2) ، و ربما الأولى الجمع بين الرأيين ، و القول بأن " من قبله " تشمل كل من كان قبل فرعون من ملوك مصر و غيرهم .

و اما " المؤتفكات " فهي قرى لوط التي جعل الله عاليها سافلها جزاء شذوذهم الجنسي ، و مشيتهم المقلوبة في الحياة ، حيث كانوا يـأتون الرجال شهوة من دون النساء ، و انما خص الله قوم لوط بالذكر مع شمول " من قبله " لهم لانهم من اظهر شواهد الانحراف ، و لعل أعظم الخطيئات التي جاءت بها تلك الاقوام هي اتباع المناهج و القيادات المنحرفة ، و من ثم التكذيب برسالات الله و رسله .


(1) البرهان / ج 4 - ص 375 .

(2) راجع كتاب ( مدخل فــي علم السياسة ) لمؤلفه بطرس غالي وزير داخلية مصر الاسبق ، و مدرس العلوم السياسية في جامعة القاهرة .


[ فعصوا رسول ربهم ]

كنتيجــة مباشــرة لذلـك . و ماذا يعني عصيان الرسول ؟ انه الانحراف عن الحق و السنــن الطبيعية في الحياة ، و محاربة الله .. و هل ينتهي ذلك إلا الى الانحطاط و الهلاك ؟!

[ فأخذهم أخذة رابية ]

و أصل الرابية : الزيادة ، و يسمى ما ارتفع من الارض رابية لانه في حقيقته زيادة فيها بالارتفاع ، وأما الأخذة الرابية فهي : اما التي زادت على غيرها من عذاب الله و أخذه ، او التي نمت و تعاظمت بسبب تراكم الخطيئات ، و هذا قريب ، و فيه دلالة على انه تعالى أملى لهم و أمهلهم ليزدادوا إثما ، فيزيدوا بأنفسهم غضب الله عليهم في الدنيا و الآخرة .

[11] و يذكرنا القرآن بأعظم ما شهده تاريخ البشرية من الجزاء الإلهي ، و هو ذلك الطوفان الذي تفجرت به ينابيع الارض ، و انفتحت ابواب السماء بماء منهمر ، فابتلع اليابسة كلها في عصر نوح (ع) ، و لكنه في نفس الوقت يوجهنا الى لطف الله بالبشرية كلها حيث حفظوجودها بحملها في السفينة ، هذه الآية التي يهدينا التفكير فيها و بصورة مسلمة الى ان سنة الجزاء ليست صدفة ، انما هي تحت هيمنة الله الحكيم في تدبيره .

[ إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية ]

أي السفينة التي تجري على الماء ، و طغيان الماء : زيادته عن المعتاد و عن حاجة الناس و النبات اليه ، و يقال للبحر : طغى : إذا تجاوز على اليابسة ، وفي الدر المنثور عن ابن عباس ، و سعيد بن جبير ، قال : طغى على خزانه فنزل ، و لم ينزل من السماء ماء إلابمكيال أو ميزان إلا زمن نوح (ع) فإنه طغى على خزانه ، فنزل من غير كيل ولا وزن (1) ، و أخرج بن جرير عن الامام علي (ع) قال : " لم تنزل قطرة من ماء إلا بمكيال على يدي ملك ، إلا يوم نوح فإنه أذن للماء دون الخزان فطغى على الخزان فخرج " (2) ، ولايعني ذلك انه لا مكيال ولا وزن معلوم له عند الله ، كلا .. وإنما المعنى أن الله لا ينزل الامطار إلا عبر حسابات دقيقة ، تتناسب مع حاجات الخلق ، أما في الطوفان فقد أمر السماء و الارض أن تتفجر ماء ما تستطيعان .

و لم يقــل الله : ( حملناهــم ) يعنــي الذيـــن ركبوا السفينــة مع نوح ، بل قال : " حملناكم " موجها الخطاب للبشرية جمعاء ، لانها يوم الطوفان كانت منحصرة فيهم ، و ليس الناس بعدها إلا نسل اولئك ، فنحن معنيون بالحمل ايضا ، إذ لولا السفينةلما كنا الان موجودين .

[12] و بعد العرض الموجز لقصة الطوفان في آية واحدة يوجهنا القرآن الى العبرة الهامة منها ، و التي يقتضي الاشارة اليها ، و هي : ان بقاء السفينة و نجاة ركابها في ذلك الطوفان المروع اية الهية عظيمة ، تذكرنا بكثير من الحقائق الايمانية ، إذا كانت ثمة أذنواعية تستوعب ما تذكر به .

[ لنجعلها لكم تذكرة ]

و ان مرورا سريعا بآية ( الجارية ) يذكرنا بهيمنة الله على الوجود ، و سنة الجزاء ، و لطف ربنا ، و دور الايمان به ، و اتباع رسله و رسالاته في نجاة الانسان ، و فضل الأنبياء على البشرية .. و هكذا الكثير من الحقائق التي من شأنها زراعة تقوى الله

(1) الدر المنثور / ج 6 - ص 260 .

(2) المصدر / ص 259 .


و تعميقهــا في النفس ، و ما أحوج البشرية ان تدرس هذه الآية لتتذكر بها لتتجنب الاخطاء ، و تبني الحياة السعيدة ، إلا أننا لا نعيرها اهتماما ولا جزء من تفكيرنا ، بل نمر عليها مرور الغافلين اللاأباليين ، وكأنها مجرد قصة خيالية او قصة تروى للتسلية .

بلى . ان الآيات و الحقائق كما الماء و الكائنات الأخرى تحتاج الى وعاء يستوعبها ، و لكن من جنس آخر . انه القلب المزكى بالايمان و العرفان هو وحده و عاؤها ، و ان في قصة الاعدام الجماعي للبشرية بالطوفان لدرسا يجب ان يبقى نصب أعين الناجين ، يعمق فيهم الخشية من ربهم ، و يحيي ضمائرهم ، و يستثير عقولهم باتجاه الحق أبد الدهر .

[ و تعيها أذن واعية ]

أي تعي التذكرة . ومن وصل هذه النهاية بالشطر السابق للآية نهتدي الى أن المسيرة الطبيعية للبشرية هي مسيرة التقدم ، حيث تتراكم خبراتها و تجاربها عبر الزمن ، مما يزيد وعيها و معارفها و ايمانها ، هذا إذا كانت من الناحية المعنوية سليمة و ذات أذن واعية ،أما إذا لم تصل بنفسها الى مستوى القدرة على عقل الحقائق و استيعابها فإنها لن تتقدم الى الامام ، بل ستهوي في ذات المزالق التي دفع فيها السابقون ، و ستواجه ذات المصير . بلى . ان تلك القصص نداءات موجهة الينا لا يسمعها الصم ، وقال تعالى " أذن "لأن السمع هو نافذة المعرفة الانسانية على التاريخ ، و وصفها بـ " واعية " لكي يهدينا بأن منهج القرآن في بيان الحق و التذكير به منهج كامل لا نقص فيه ، فإذا لم يستوعبه الانسان أو لم يقبله فان الاشكال فيه ، لان أذنه غير واعية ، و ليس في رسالة الله ، ولا شك ان المقصود هو ما وراء الأذن و ليست الأذن بذاتها ، لانها ليست وعاء للعلم بل وسيلة موصلة الى وعائه وهو القلب ، و من أهم شروط استيعاب الحق :

ا - جعله هدفا و محورا ، مقدما على كل اعتبار آخر ، فمتى وجده سلم له .

ب - الطهارة من الحجب التي تمنع اتصال القلب به كالغفلة و الجحود ، ومن أبرزها الافكار و المواقف المسبقة ، وذلك ان القلب لا يمكن ان يستوعب الحق و الباطل معا ، فهو إما يكون وعاءا للحق وإما يكون وعاءا للباطل ، و لابد ان يطرد الباطل من القلب حتى يستوعب الحق .

د - ان تكون قدرة الاستيعاب كبيرة ، و ذلك ان بعض الحقائق عظيمة لا يستوعبها كل قلب ، بل تختلف درجات المعرفة بالحقائق باختلاف القدرات العلمية و الايمانية عند الانسان .. و جاء في الحديث الشريف عن الامام علي (ع) : " اعلموا ان الله سبحانه لم يمدح من القلوب إلا أوعاها للحكمة ، ومن الناس إلا أسرعهم الى الحق " (2) ، و قال (ع) : " ان هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها " (2) .

و لقد اجتمعت هذه الشروط و غيرها في شخص امير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فاستوعب رسالة الله ، و أصبح أعرف الناس بعد النبي بها ، و لذلك أجمع الرواة و المفسرون على تأويلها فيه (ع) كأعظم مصداق للأذن الواعية .. قال الامام علي (ع) يخاطب اصحابه و خاصته: " إلا وإني مخصوص في القرآن باسماء احذروا ان تغلبوا عليها فتضلوا في دينكم - الى ان قال - : وأنا الأذن الواعية " (3) ، و قال النبي (ص) يخاطب عليا (ع) : " دعوت الله - عز وجل -(1) غرر الحكم .

(2) نهج حكمة / 147 .

(3) نور الثقلين / ج 5 - ص 402 نقلا عن معاني الأخبار .

ان يجعلها أذنك يا علي " (1) و في تفسير القرطبي روى مكحول : ان النبي (ص) قال عند نزول هذه الآية : " سألت ربي ان يجعلها أذن علي " قال مكحول : فكان علي ( رض ) يقول : " ما سمعت من رسول الله (ص) شيئا قط فنسيته إلا و حفظته " (2) أيما كنت أنساه وما كنت إلا أحفظه . وعن الحسن نحو ذكره الثعلبي ، قال : لما نزلت " الآية " قال النبي (ص) : " سألت ربي ان يجعلها اذنك يا علي " قال علي : " فما نسيت شيئا بعد وما كان لي ان أنسى " (3) ، و انما طلب النبي ذلك من الله لانه يعلم بأن عليا هو الامتداد الحقيقي له و لخطه ، فلابد ان يستوعب رسالته .. و تتسع الآية لمصاديق أخرى و بدرجات متفاوتة ، إذ أن كل أذن واعية هي مصداق لها .

ان التاريخ معلم للبشرية ، و يجب ان تتلمذ في مدرسته ، لان ذلك هو السبيل للتقدم و السعادة في الدارين ، فهي لو درست تاريخها و تفكرت في حوادثه و منعطفاته فسوف تهتدي الى الحق في كل صعيد و جانب من الحياة .. تهتدي الى ربها لان التاريخ كله آيات موصلة الىالايمان به ، و تهتدي الى الكثير من السنن و القوانين و الحقائق الحضارية التي من شأنها لو وعتها ان تتجنب الأخطاء و الأخطار ، و تجد طريقها الى المجد و الفلاح .

[13 - 14] ثم ينعطف السياق للحديث عن الآخرة لأنها الحاقة العظمى ، و أجلى صورة لسنة الجزاء في الوجود .. وإن الأذن الواعية ليتذكر صاحبها بحوادث التاريخ ، و ما لقيته الاقوام في الدنيا عن الجزاء الإلهي فيعي بذلك حقيقة الآخرة ،(1) المصدر .

(2) القرطبي / ج 18 - ص 264 .

(3) المصدر ذكر ذلك و ذكره الكشاف ، الرازي ، فتح القدير ، الدر المنثور ، شواهد التنزيل للحسكاني ، أسباب النزول للنيسابوري / عند تفسير الآية فراجع .


و انها حقا لأذن واعية تلك التي تعاين الغيب من خلال الشهود ، و تتسع آفاقها لرؤية المستقبل عبر الحاضر ، فلا تفاجئ بالواقعة ، ، إنما تأتي مستعدة لتجاوز عقبتها بزاد التقوى و ذخيرة العمل الصالح . بلى . ان الواعين يعيشون في الدنيا ولكن ارواحهم في الآخرة ، بل إن حضورها في قلوبهم أعظم من حضور الدنيا ، فتراهم لا يغفلون عنها لحظة واحدة ، و حيث ينقل لهم القرآن مشاهد منها فكأنها قائمة بين أعينهم و قلوبهم ، كما وصفهم صاحب الأذن الواعية الامام علي (ع) بقوله : فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا اليها طمعا ، و تطلعتنفوسهم اليها شوقا ، و ظنوا أنها نصب أعينهم ، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا اليها مسامع قلوبهم ، و ظنوا ان زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم ، فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون لجباههم و أكفهم و ركبهم ، و أطراف أقدامهم ، يطلبون الى الله تعالى في فكاك رقابهم " (1) ، و كل ذلك ينعكس على سلوكهم في الحياة .

ولقد جاءت الآية (12) مؤكدة على دور الآذان الواعية بين الحديث عن تاريخ الاقوام السالفة ( الآيات / 4 / 11 ) ، و الحديث عن الآخرة ( الآيات 13 / 18 ) في هذا الدرس و امتدادها حتى الآية (37) في الدرس اللاحق ، لأنها وحدها القادرة على استيعاب مواعظ التاريخ و آياته ، و الايمـــان بحديث الوحــي عن الآخرة و وعيه ، فحقائق الغيب - سواء غيب التاريخ أو غيب الآخرة - حقائق كبيرة ، بحاجة الى أذن مرهفة تنفذ بسمعها من الآيات الى ما تهدي اليه ، و قلب واسع كبير يحتمل أن يكون وعاء لها .

[ فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة ]

و يبدو انها النفخة الثانية لانها التي يقوم فيها الناس للحساب و الجزاء ، قال(1) نهج البلاغة / ج 193 - ص 304 .


تعالى : " و نفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الارض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " (1) ، وما يؤكد أنها الثانية ان السياق هو سياق الحديث عن الجزاء ، مما يستلزم الكلام عن النفخة الثانية التي يكون الجزاء بعدها ، و نقرأ هنا بعض الاخبار عن أئمة الهدى في شأن النفـخ في الصور ، قال الامام علـي (ع) : " و ينفخ في الصور فتزهق كل مهجة ، و تبكم كل لهجة ، و تذل الشم الشوامخ ، و الصم الرواسخ ، فيصير صلدها سرابا رقراقا ، و معهدها قاعا سملقا ( مستويا ) فـلا شفيـع يشفـع ،و لا حميم ينفع ، و لا معذرة تدفع " (2) ، وفي صلاته على حملة العرش قال الامام زين العابدين : " و اسرافيل صاحب الصور الشاخص الذي ينتظر منك الإذن ، و حلول الأمر ، فينبه بالنفخة صرعى رهائن القبور " (3) ، وعن وهب بن منبه عن الامام الصادق (ع) قال : " خلق الله الصور من لؤلؤة في صفاء الزجاجة ، ثـم قـال للعرش : خــذ الصور ، فتعلق به ، ثم قال : كن ، فكان اسرافيل ، فأمره ان يأخذ الصور فأخذه ، و به ثقب بعدد كل روح مخلوقة ، و نفس منفوسة ، لا تخرج روحان من ثقب واحد ، وفي وسط الصور كوة ( فتحة ) كاستدارة السماء و الارض ، و اسرافيل واضع فمه على ذلك الكوة ، ثم قال له الرب تعالى : قد وكلتك بالصور فأنت للنفخة و للصيحة ، فدخل اسرافيل في مقدم العرش ، فأدخل رجله اليمنى تحت العرش ، و قدم اليسرى ، و لم يطرف منذ خلقه الله ينظر متى يؤمر به " (
4) وفي رواية : " مخافة ان يؤمر بالصيحة قبل ان يرتد اليه طرفه ، كأن عيناه كوكبان دريان " (5) .


(1) سورة الزمر / 68 .

(2) نهج البلاغة / ج 195 - ص 310 .

(3) موسوعة بحار الانوار / ج 59 - ص 217 .

(4) المصدر / ص 261 .

(5) المصدر / 362 .


وهو لا يحتاج حتى يهلك الأحياء بالنفخة الأولى و يبعثهم قياما بالثانية الى أكثر من مجرد نفخة واحدة ، لما أعطاه الله من القدرة العظيمة . قال العلامة الطباطبائي : وفي توصيف النفخة بالواحدة إشارة الى مضي الأمر ، و نفوذ القدرة ، فلا وهن فيه حتى يحتاج الى تكرار النفخة (1) .

ويا لها من نفخة صاعقة مخيفة ، لا تذهب بالانفس و حسب بل تزلزل الكائنات و كأنها ترليونات الترليونات من القنابل النووية التي تنفجر في دفعة واحدة ، فتدمر الكون و نظامه ، بحيث تخرج الارض عن مدارها ، و تستأصل الجبال الراسية من فوقها ، ثم يدكها الله ببعضها .

[ وحملت الارض و الجبال فدكتا دكة واحدة ]

و أصل الدك هو الهدم ، يقال : دك الجدار إذا هدمه و سواه مع الارض ، ولا ندري هل يضرب الله اجزاء الارض و الجبال ببعضها بتركيز الجاذبية تركيزا هائلا بين أجزائهما ، أو برفعها تماما مما يسبب تلاشيها ، أم يضرب الجبال بالارض و العكس ، أم يرطمهما معا بكوكبآخر ؟ المهم انهما يتداكان .. وفي الآية إشارة الى حقيقة علمية جيولوجية : إذ لم يقل الله : " و حملت الارض " فقط ، باعتبار ان الجبال جزء منها ، و ذلك لأنها في الواقع كيانات شبه مستقلة ، جعلها الله فيها ، فنصبها و أرساها أوتادا للارض (2) ، فهيكما الشجرة لها هيكلها و جذورها الضاربة في التخوم .. كما نهتدي الى ان الارض تكون مستوية بالدك يوم القيامة ، و لذلك خص القرآن الجبال بالذكر لأنها الزوائد المرتفعة على سطحها .

و يتزامن بعث الناس للحساب مع تلك الأحداث الكونية الرهيبة لكي تتجلى(1) الميزان / ج 19 - ص 397 .

(2) راجع الآيات : الغاشية / 19 ، النازعات / 32 ، النبأ / 7 .


لهم قدرة الله ، و تتساقط عندهم كل الحجب و التبريرات هنالك ، بل في الدنيا ايضا لمن يؤمن بالآخرة و يعي آياتها .

[15 - 17] و بعد ان يصور لنا القرآن مشهدا من القيامة يؤكد بأنها أعظم الوقائع التي تمر بالانسان ، لانها تدمر الكائنات ، و تسوق الانسان الى مصيره الأبدي .

[ فيومئذ وقعت الواقعة ]

و التعـــريف بالألف و اللام يعظمهــا فـــي ذهــن السامع ، و يؤكد بأن للانسان معها عهدا أودعه الله في فطرته ، فهي ليست نكرة للبشــر الســوي .. و ان فـي تسميتهــا ( القيامة ) بالواقعة يأتي للتأكيد باللفظ على كونها حقيقة لابد من حصولها ، فكون الشيءالواقعي في الغيب ، و يفصل الانسان عنه الزمن المستقبل لا ينفي أصل وجوده ، وهذه مسلمة فطرية و عقلية ، و كأن الآية تقول : بأن تكذيبكم أيها البشر بالآخرة لن يغير شيئا فيها ، ولا في ما يتصل بها من الاحداث ، فهل يمنع تكذيبنا - مثلا - من تأثير نفخة اسرافيل في الارض و الجبال ؟ كلا ..

و يوصلنا كتاب الله بالغيب ، إذ يضع أمامنا مشهدا آخر من مشاهد الواقعة و هو انشقاق السماء المحبوكة و المتينة الخلق الى حد تكون فيه واهية كالخرقة البالية التي تصير رمادا أو هباء .

[ و انشقت السماء ]

المحبوكة التي لا فروج فيها ولا ضعف .

[ فهي يومئذ واهية ]


اي شديـدة الضعف و قليلة التماسك ، ليس في هيكلها وحسب بل في جزئيات كيانها ، مما يجعلها تتبدل شيئا آخر كالمهل أو الدهان كما قال الله : " يوم تبدل الارض غير الارض و السماوات و برزوا لله الواحد القهار " (1) ، و هكذا لا تبقى السماء سقفا محفوظا يمنع عن الارض النيازك و الأخطار .

و مشهدا آخر عظيم هو منظر الملائكة على الأرجاء و الملائكة الثمانية العظام الذين يحملون عرش الله فوقهم .

[ و الملك على أرجائها ]

اي اطرافها و نواحيها ، قالوا : بان الضمير عائد الى السماء التي تشقق و تصير قطعا و أجزاءا على كل واحدة منها ملائكة كثيرون .

[ و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ]

من أعظم ملائكة الله ، و ربما أعظمهم على الاطلاق ، و لفوقهم تفسيران : أحدهما : فوقهم بالمسافة ، و الآخر : فوقهم بالمرتبة ، فالثمانية يحملون العرش من أركانه و معهم من الملائكة من يحملونه من اطرافه الأخرى ، او ان الثمانية لهم الرئاسة على بقية الملائكة فهم فوقهم مرتبة ، و بهذا نجمع بين الروايات القائلة : بانهم ثمانية ، و القائلة : بأنهم أكثر من ذلك .

قال الامام علي بن الحسين (ع) في صفة خلق العرش : " له ثمانية اركان ، على كل ركن منها من الملائكة مالا يحصي عددهم الا الله - عز وجل - يسبحون الليل و النهار لا يفترون " (2) ، و قال الامام الصادق (ع) : " ان حملة العرش(1) ابراهيم / 48 .

(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 404 .


اربعة : أحدهم على صورة ابن ادم يسترزق الله لبني ادم ، و الثاني : على صورة الديك يسترزق الله للطير ، و الثالث : على صورة الأسد يسترزق الله للسباع ، و الرابع : على صورة الثور يسترزق الله للبهائم ، و نكس الثور رأسه منذ عبد بنو اسرائيل العجل ، فإذا كان يوم القيامة صاروا ثمانية " (1) .

و لقد خاض بعض المفسرين في مواضيع لا داعي لها ، و اختلفوا مع بعضهم في عدد الملائكة و اشكالهم ، و هي بحوث لم نكلف بها ، بينما توجه أئمة الهدى - عليهم السلام - للرد على الافكار المادية التي حاول أصحابها إثبات معتقداتهم التجسيدية و التشبيهية من خلالالفهم الخاطىء لهذه الآية الكريمة ، حيث شبهوا عرض الله بعروش السلاطين التي يتربعون عليها . تعالى الله عما يصفون علوا كبيرا .

قال سلمان المحمدي : سأل بعض النصارى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) قال له : أخبرني عن ربك أيحمل ؟ فقال (ع) : " ربنا جل جلاله يحمل ولا يحمل " ، قال النصراني : و كيف ذلك و نحن نجد في الانجيـل : " و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " ؟ فقال علي (ع) : " ان الملائكة تحمل العرش ، و ليس العرش كما تظن كهيئة السرير ، و لكنه شيء محدود مخلوق مدبر ، و ربك - عز وجل - مالكه ، لا انه عليه ككون الشيء على الشيء ، و أمر الملائكة بحمله يحملون العرش بما أقدرهم عليه " قال : النصراني صدقت رحمك الله (2) .

و قال الامام الرضا (ع) : " و المحمول ما سوى الله ، و لم يسمع أحد آمن بالله و عظمته قط قال في دعائه : يا محمول " فقال له أبو قره : فانه قال : " و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " ؟ و قال : " الذين يحملون العرش " ؟! فقال أبو


(1) المصدر .

(2) المصدر نقلا عن كتاب التوحيد .


الحسن (ع) : " العــرش ليس هو الله ، و العرش اسم علم و قدرة ، و عرش فيه كل شيء ، ثم أضاف : الحمل الى غيره ، خلق من خلقه لأنه استعبد خلقه بحمل عرشه و هم حملة العلم " (1) .

و العرش هو رمز الهيمنة و السلطان و العلم ، و الموضع الذي يتجلى فيه علم الله و قدره و قضاؤه و أمره للملائكة ، الذين هم بدورهم يمضون ما يؤمرون به ، و لعل أهم حكمة لخلق العرش انه تعالى قد أوكل الى الملائكة إنفاذ مقاديره و تدبيره للخلق ، و هو الذي لايحده مكان ما كان لهم ان يتصلوا به ، و كيف يتصل المخلوق المحدود بالخالق لولا خلق الأسماء و الأشياء كالبيت الذي يكون مركز عبادته ، و العرش الذي يكون مركز إدارته للكائنات و هيمنته .

و قد أولت بعض النصوص الحملة فـي خير خلــق الله قال الامام الصــادق (ع) : " حملة العرش ثمانية اربعة منا و اربعة ممن شاء الله " (2) ، وفي حديث آخر : " حملة العرش ثمانية : اربعة من الاولين و اربعة من الآخرين، فأما الاربعة من الأولين :
فنوح و ابراهيم و موسى و عيسى ، و اما الاخرون : فمحمد و علي والحسن و الحسين - عليهم السلام - و معنى " يحملون " يعني العلم " (3) .

وإذا كان الظاهر ان الملائكة هم الذين يحملون العرش فان الباطن هو اولئك الذين خلقت الملائكة لأجلهم وهم الصفوة من عباد الله . أليس قد خلق الأشياء لأجل الانسان ، و أي انسان أعظم من الانبياء و الاوصياء ؟

[18] و أعظم مشهد في القيامة هو عرض الناس للحساب و الجزاء ، لأنه أشد(1) المصدر / ص 405 .

(2) المصدر / ص 406

(3) المصدر .


رهبة ، حيث يلقى الانسان حسابه و مصيره الأبدي ، ولأنه الهدف الأساسي من وراء كل احداثها و مشاهدها المرعبة .

[ يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ]

وإذا كانت لا تخفى عند الحساب و الجزاء و لا حتى واحدة من الاعمال التي أخفاها الانسان و قام بها في السر ، فكيف بالظاهر منها ؟ فالحساب إذن دقيق ، لأنه يتأسس على علم الله المحيط بكل شيء ، و بالحساب يوم القيامة يتجلى عدل الله و لطفه و غضبه و علمه ، قال رسول الله (ص) : " لا تزول قدما عبد يوم القيامة من بين يدي الله حتى يسأله عن أربع خصال : عمرك فيما أفنيته ؟ و جسدك فيما أبليته ؟ و مالك من أين اكتسبته وأين وضعته ؟ وعن حبنا أهل البيت " (1) ، و يعرض اعمال العباد ليظهر الحق جليا ، كما تتأكد القارعة و الواقعة بوقوعها ، و لذلك سميت القيامة بالحاقة .

و كلمة أخيرة :

اننا نلاحظ في القرآن أنه لا يكاد يتحدث عن التاريخ و مصير الاقوام السالفة إلا و يوصل ذلك بالحديث عن الآخرة ، فما هو السر في ذلك وما هي العلاقة بينهما ؟

1 - لان الاسلام لا يريد للانسان ان يعيش لحظته الراهنة فقط ، إنما يعيش الحاضر على ضوء الماضي و المستقبل معا ، فيتحرك من حيث انتهى الآخرون ، و يتعظ بتجاربهم لبناء حياة سعيدة في الحاضر ، وفي نفس الوقت يخطط و يعمل لكي يربح المستقبل .

2 - ولأن الآخرة كما التاريخ غيب لا سبيل للانسان الى معرفته إلا بالآيات(1) موسوعة بحار الانوار / ج 7 - ص 259 .


و الآثار الدالة عليه ، و الذي يكفر بالآخرة لأنه لا يعاينها بذاتها كالذي يكفر بالتاريخ لأنه لم يعاصر أحداثه ، مع ان الأدلة قائمة تهدي اليه .

3 - و يتشابه التاريخ مع الآخرة في كون الاثنين عرصة تكشف عن سنة الجزاء الحاكمة في الحياة ، و هيمنة الله عليها ، و تمايز المؤمنين عن سواهم ، و هكذا الكثير من الحقائق ، بل ان التاريخ هو الآية المادية العظمى التي تهدي الى الايمان بالآخرة و الجزاء .



فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس