فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 7 ] بعد ان عرفنا ربنا نفسه من خلال صفاته كالقدرة على كل شيء ، و العلم بكل شيء ، و انه الاول و الاخر و الظاهر و الباطن ، و انه الخالق الذي له الملك الواسع و بيده التدبير ، يدعونا الى الايمان به تعالى ، معتبرا ذلك اساس للايمان . اوليس الايمان الحقهو الذي يقوم على المعرفة ؟

[ آمنوا بالله و رسوله و انفقوا ]

يسال البعض : هل الخطاب موجه الى المؤمنين فهو تحصيل حاصل لانهم مؤمنون ، ام هو موجه لغير المؤمنين فهو غير جائز لان الامر يلزم المؤمن فقط ؟ !

و الجواب : اولا : ان الايمان درجات فيصح ان يكون الخطاب للمؤمنين يدعوهم الى درجة ارفع من الايمان ، و الانفاق المأمور به في الآية هو احد درجات الايمان ، فليس كل المؤمنين منفقين .


و ثانيا : ان الامر بالايمان و الانفاق قائم و ملزم حتى لغير المؤمن ، فان كان مسلما لما يدخل الايمان قلبه فدعوته لذلك جائزة ، و لو افترضناه كافرا فهي قائمة و ملزمة ايضا ، فهذا رسول الله ( ص ) يدعو الكافرين و المشركين الى التوحيد بما اشتهر عنه : " قولوا لا اله الا الله تفلحوا " ، فلا يعني ذلك ان امره ( ص ) قبيح ، و لا ان دعوته غير ملزمة ، فالأمر حينما يكون عقليا يلزم كل ذي عقل ، و حينما يكون شرعيا يلزم كل من بلغته الحجة ولو لم يذعن ، و الدليل الى ذلك توعد الله المخالفين لاوامره بالعذاب ،و الامر بالايمان - و من ثم الانفاق - يتسم بالعقلانية ، كما هو مقتضى الشريعة .

و اذا كانت المعرفة مرتكز الايمان فان الايمان مرتكز الانفاق ، اذ لا قيمة لانفاق بغير ايمان ، و لغير وجه الله ، قال تعالى : " ان الذين كفروا لن تغني عنهم اموالهم و لا اولادهم من الله شيئا و اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون * مثل ما ينفقون في هذهالحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر اصابت حرث قوم ظلموا انفسهم فاهلكته و ما ظلمهم الله و لكن كانوا انفسهم يظلمون " (1) ، و الايمان ليس يوجه الانفاق الى اهدافه الصحيحة ، و يجعله ضمن منطلقاته و دوافعه المطلوبة و حسب ، بل هو الذي يعطي الانسان الارادة والقدرة على تجاوز حرص النفس و شحها و سائر الضغوط و الحوافز المعاكسة ، فالمؤمن يعطي في سبيل الله لاعتقاده بان ذلك يؤدي الى النماء ، و الى الجنة ، و الى رضوان الله و هو الاهم ، فلا يعتبر انفاقه خسارة ، بل هو ربح في الواقع و المستقبل ، ثم هب انه لم يحصلعلى نماء في الدنيا فانه سوف يجد اجرا كريما في الاخرة .

و من الحوافز الموضوعية الى الانفاق بالاضافة الى الايمان هو المعرفة الراسخة باننا لا ننفق من عند انفسنا ، انما ننفق من ملك الله الذي استخلفنا فيه ، فلماذا الشح(1) آل عمران / 16 - 17 .


ما دام الآمر بالانفاق هو المالك ؟ لذلك يؤكد القرآن قائلا :

[ مما جعلكم مستخلفين فيه ]

و قد قيل في " مستخلفين " معنيان احدهما : ان الانسان يأتي خلفا لسلف في الملك ، فيكون المعنى : انفقوا من قبل ان يستخلف الله احدا غيركم باماتتكم ، او نقل مالكم اليه ، و الثاني : انكم لستم المالك الحقيقي بل الله ، و انما اذن لكم بالتصرف فيه ،و خولكم صلاحية العمل فيه ، كما لو كنتم خلفاءه فيه ، و كلا المعنيين سواء في التحريض على الانفاق ، و لكن الاول اظهر لقوله تعالى : " و انفقوا مما رزقناكم من قبل ان يأتي احدكم الموت فيقول رب لولا اخرتني الى اجل قريب فأصدق و أكن من الصالحين " (
1) .

[ فالذين آمنوا منكم و انفقوا لهم اجر كبير ]

اما الذي يؤمن و لا ينفق فان كان امتنع عن الانفاق الواجب فله العذاب ، و ان كان مستحبا فان أجره لن يكون كأجر المنفقين .

[ 8 ] و لماذا يرفض الانسان الايمان بربه و هو الذي خلقه و يرزقه و يرعاه ؟ !

[ و مالكم لا تؤمنون بالله و الرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم ]و هذه الدعوة ليست بدعة و لا باطلا ، انما تتفق مع الحق المودع في فطرة كل خلق منذ عهده مع ربه . قال تعالى : " و اذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و اشهدهم على انفسهم الست بربكم قالوا بلى شهدنا ان تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين * او تقولوا انما اشرك اباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم(1) المنافقون / 10 .


افتهلكنا بما فعل المبطلون * و كذلك نفصل الآيات و لعلهم يرجعون " (1) .

[ و قد اخذ ميثاقكم ان كنتم مؤمنين ]

اي ان كنتم اعطيتهم الميقاق الاول بالطاعة لله و للرسول فانفقوا .

قال البعض : ان ميثاق عالم الذر لا يصلح للتحريض ، لاننا لا نتذكر ذلك الميثاق فكيف يكون حجة علينا ؟ قال عطاء و مجاهد و الكلبي و المقاتلان : يريد حين اخرجهم من ظهر آدم ، و قال : " ألست بربكم قالوا بلى " ، و رد عليهم الفخر الرازي : و هذا ضعيف، و ذلك لانه تعالى انما ذكر اخذ الميثاق ليكون ذلك سببا في انه لم يبق لهم عذر في ترك الايمان بعد ذلك ، و اخذ الميثاق وقت اخراجهم من ظهر آدم غير معلوم للقوم الا بقول الرسول ( و مضى يرد على رايهم حتى قال : ) فعلمنا ان تفسير الاية بهذا المعنى غير جائز (
2) ، و الحال ان الله لم يأخذ الميثاق و يشهد بني آدم على انفسهم الا لكي يستأديه في يوم من الايام عبر رسله و اوليائه و حججه ، و هو مودع في قلوبهم بصورة معرفة و ايمان فطري ، و الشاهد المتقدم من سورة الاعراف ظاهر و ظهير لهذا المعنى .

و يحتمل ان يكون معنى الايمان هو الجانب العملي منه المتمثل في الانفاق ، فيكون المعنى : ان كنتم مؤمنين حقا استجيبوا لدعوة الرسول بالانفاق .

و قال البعض : ان معنى الاية : امنوا ان كنتم ممن تكفيه هذه الشواهد .

[ 9 ] و مرة اخرى نتساءل : لماذا يرفض الانسان الايمان ، انه ليس خسارة ، بل هو ربح عظيم ، لانه يخرجه من الظلمات الى النور ، من ظلمات الظلم الى نور(1) الاعراف / 172 - 174 .

(2) التفسير الكبير عند تفسير الآية .


العدالة ، و من ظلمات العقائد السخيفة التي تحجب العقل عن الحقائق الى نور الحنفية السمحاء التي تثيره الى معرفتها ، و من ظلمات العقد النفسية التي تسلبه لذة الحياة الى نور الوعي ، و كل ذلك يتم برسالة الله الى الانسان .

[ هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات الى النور ]القرأن يرسم لنا خريطة شاملة متكاملة و صحيحة لجوانب الحياة ، و يحرر العقل و النفس من الافكار الضالة و العقد . أنه يزكي النفس من الحسد و الحقد و سوء الظن و الشك ، و هذه كلها ظلمات ، و في المقابل يزرع فيها الوئام و المحبة و حسن الظن و الالفة ، كما انمن اهم الظلمات التي تستهدف الرسالات الالهية اخراج الناس منها هي الانظمة الفاسدة التي تتسلط على رقاب الناس ، و تمنع الامة من التقدم ، و على الناس ان يعلموا بان الايمان الاصيل ، و الانفاق الذي تدعوهم اليه القيادات و الحركات الرسالية يهدف تحريرهم من تلكالظلمات الى نور دولة الحق و العدل ، و هذا لا شك يكلفهم شيئا من التضحيات ، و لكن ليعلموا انه في صالحهم و لخيرهم في الدنيا و الاخرة . الان الايمان و الانفاق يستهدفان بناء مجتمع متحضر نفسيا و اجتماعيا و سياسيا و اقتصاديا و ثقافيا .. كل ذلك من رافة اللهو رحمته بعباده .

[ و ان الله بكم لرؤف رحيم ]

بلى . ان الايمان يحملنا بعض المسؤولية ، و نحتاج حتى نلتزم به ان نخالف اهواءنا ، و لكنه ليس مغرما كما يتصوره البعض ، فقد يطالبنا بالانفاق و لكن ليس ليستنفع به الله سبحانه و تعالى ، انما ليعود النفع علينا نحن البشر ، و ذلك لانه يزكي نفوسنا و يربينا ،و يبني مجتمعا متكاملا قويا ، و ينمي اقتصادنا ، اضافة الى كونه يسبب رضى الله و ثوابه في الآخرة ، و قد قال تعالى : " خذ من اموالهم صدقة تطهرهمو تزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم و الله سميع عليم " (1) ، و قال : " يمحق الله الربا و يربي الصدقات " (2) ، و قال : " قل ان ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده و يقدر له و ما انفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين " (3) .


و لنا ان نلمس حقيقة الرسالة ، و رافة الله و رحمته عن قرب ، لو رجعنا الى الوراء قليلا في الزمن لنقارن بين واقعين في تجمع واحد كان يعيش على شبه الجزيرة العربية ، واقعه قبل الاسلام ، و واقعه بعده ، لقد كان قبله مجتمعا ضعيفا متمزقا عرضة للطامعين و عرضةللتناحر و الحروب ، فأصبح قويا متحدا و رمزا للتحضر ، و قال تعالى مشيرا الى هذه النعمة العظيمة : " و اذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم فاصبحتم بنعمته اخوانا و كنتم على شفا حفرة من النار فانقذكم منها كذلك يبين لكم اياته لعلكم تهتدون " (4) ، و قالت فاطمة الزهراء ( ع ) تعكس محتوى هذه الآية و شبيهاتها : " ابتعثه اتماما لامره ، و عزيمة على امضاء حكمه ، و انفاذا لمقادير رحمته ، فراى الامم فرقا في اديانها ، عكفا على نيرانها ، عابدة لاوثانها ، منكرة لله مع عرفانها ، فأنارالله بأبي محمد ( ص ) ظلمها ، و كشف عن القولب بهمها ، و جلى عن الابصار غممها ، و قام في الناس بالهداية فانقذهم من الغواية ، و بصرهم من العماية ، و هداهم الى الدين القويم ، و دعاهم الى الطريق المستقيم .. الى ان تقول : و كنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ، و نهزة الطامع ، و قبسة العجلان ، و موطىء الاقدام ، تشربون الطرق ، و تقتاتون القد ، اذلة خاسئين ، تخافون ان يتخطفكم الناس من حولكم ، فانقذكم الله تبارك و تعالى بمحمد ( ص ) بعد اللتيا و التي " (5) .


(1) التوبة / 103 .

(2) البقرة / 276 .

(3) سبا / 39 .

(4) ال عمران / 103 .

(5) الاحتجاج / ج 1 / ص 99 - 100 .


[ 10 ] فلماذا لا يتبع البشر الآيات و يطبقونها اذا كانت تخرجهم من الظلمات الى النور ؟ هل الظلمة خير من النور ؟ ! أم العذاب خير من رأفة الله و رحمته ؟ !

[ و مالكم الا تنفقوا في سبيل الله و الله ميراث السماوات و الارض ]كل نعمة هي امانة بيد الانسان ، روحه و جسده و ماله و كل شيء ، و يأتي يوم تسترد هذه الامانة منه لتعود الى مالكها و هو الله ، ليسأل كل واحد عن موقفه منها ، " ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم " (1) ، " وقفوهم انهم مسؤولن " (2) . و لماذا يمسك مال الله و امانته دون امره ، افلا يستحق بعدها الجزاء ؟ " و ماذا عليهم لو امنوا بالله و اليوم الاخر و انفقوا مما رزقهم الله " (3) ؟ !

و كما يختلف الانفاق في سبيل الله عن الانفاق لاغراض اخرى ، بان الاول مقبول مجزي عليه ، و الاخر مردود و ربما معاقب بسببه ، فان الاول يتفاضل على بعضه ايضا ، نظرا لمستوى ايمان صاحبه ، و للظروف و المعطيات المحيطة به ، فالذي ينفق قبل الفتح و الانتصار لاشك انه اعظم درجة و فضلا ، و ذلك لاسباب اهمها :

1 - سبقه الى الحق و العمل الصالح ، و لعل الكثير من اللاحقين انما اهتدوا بسببه ، فهو يصدق عليه حديث الرسول ( ص ) : " من سن سنة حسنة فله اجرها ، و اجر من عمل بها الى يوم القيامة ، لا ينقصهم من اجرهم شيئا " ، كما انه مصداق لقوله تعالى : " و السابقون السابقون اولئك المقربون " (4) .

2 - دوره في اقامة حكومة الله في المجتمع ، و هو لا شك فضل كبير ، و الكثير من(1) التكاثر / 8 .

(2) الصافات / 24 .

(3) النساء / 39 .

(4) الواقعة / 10 - 11 .


الانفاق و القتال الذي يلي الفتح انما بفضل الانتصار الذي ارتفع بسببه الحرج ، و صلحت الظروف المضادة ، و الكثير من الناس مستعدون للانفاق في ظل المجتمع المسلم اكثر من استعدادهم للانفاق في ظل الحركة بالذات اذا كانوا يستضعفونها ، و لعله لو لم ينبر لدعم الرسالة اولئك السابقون ما كانت تقوم قائمة .

3 - لان الانفاق و القتال قبل الفتح اكثر صعوبة و تحديا بالنسبة للانسان ، فقد يجر عليه الكثير من الويلات و المشاكل ، اذا عرفه اعداء الرسالة كالانظمة الفاسدة ، و يكفيه فضيلة انه يقاوم به في ظروف اكثر معاكسة و تحديا ، حيث الناس كلهم متقاعســون ، و الــنبي ( ص ) يشيــر الى هذه الحقيقة اذ يقول : " خير الاعمال احمزها " . اما بعد الانتصار و الفتح فقد يكون الانفاق سبيلا الى المجد الاجتماعي .

ان الانفاق قبل الفتح يدل على عمق الايمان ، لان على المنفق يومئذ ان يجتاز ثلاث عقبات : عقبة حب المال ، و عقبة الضغوط السياسية ، و عقبة التحديات الاجتماعية .. كذلك يكون اقدامه على القتال و انفاقه نابعا حينها من روح ايمانية خالصة ، و ليس من اختلاط الدوافع و الدواعي .

[ لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح و قاتل اولئك اعظم درجة من الذين انفقوا من بعد و قاتلوا ]و لكن لا ينبغي ان يكون هذا التفاضل سببا للتعالي عند فئة ، و لا لليأس و الاحساس بالضعة عند الاخرى ، كما لا يعني ان اللاحقين لا حظ و لا فضل لهم ، كلا ..

[ و كلا وعد الله الحسنى ]

يعني الجنة و الرضا و الجزاء ، و يؤكد القرآن في نهاية الآية ان التفاضل ليسلمجرد الانتماء الى صفوف المجاهدين الرساليين قبل الفتح ، و لا لعوامل ذاتية تنحصر في ذلك الجيل ، كلا .. انما التفاضل بالاعمال الصالحة التي يحيط بها علم الله .

[ و الله بما تعملون خبير ]

اذ لا يكفي ان يقتات الجيل السابق بأمجاده الغابرة ، و يتوقف عن العمل اعتمادا على ذلك التفضيل ، و لعل في هذه الخاتمة اشارة لطيفة الى موقف الاسلام من صراع الاجيال ، ففي الوقت الذي يعترف فيه بوجود الاجيال بل بتمايزها ، لا يدعوها للصراع ، بل يدفعها باتجاه الالتحام و التعاون و التسابق البناء في ميدان السعي و العمل .

[ 11 ] و يجادل البعض : ما دام لله ملك السماوات و الارض ، و هو على كل شيء قدير ، فلماذا يامرنا بالانفاق ؟ و يقول ربنا عن مثل هؤلاء : " و اذا قيل لهم انفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين امنوا انطعم من لو يشاء الله اطعمه ان انتم الا في ضلال مبين " (1) ، كل ذلك تبريرا لتخلفهم عن الحق ، و سعيا للتملص من المسؤولية ، و لكن المؤمنين يدركون غنى الله ، و انه انما فرض الانفاق ليبتلي عباده و يستاديهم ميثاقه بالطاعة له . قال امير المؤمنين ( ع ) : " اسهروا عيونكم ، و اضمروا بطونكم ، واستعملوا اقدامكم ، و انفقوا اموالكم ، و خذوا من اجسادكم فجودوا بها على انفسكم ، و لا تبخلوا بها عنها ، فقد قال تعالى : " ان تنصروا الله ينصركم و يثبت اقدامكم " ، و قال تعالى : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له و له اجر كريم " ، فلم يستنصركم من ذل ، و لم يستقرضكم من قبل ، استنصركم و له جنود السماوات و الارض ، و استقرضكم و له خزائن السماوات و الارض ، و هو الغني الحميد ، و انما اراد ان يبلوكم ايكم احسن عملا ، فبادروا(1) يس / 47 .


بأعمالكم تكونوا من جيران الله في داره " (1) .

نعم . انه تعالى لا يحتاج الينا ، و لا لأحد من خلقه ، و ان ما نملك من شيء فهو من فضله و رزقه ، و دعوته لنا الى الانفاق في صالحنا ، فبالانفاق في سبيله نعالج مشاكلنا الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية ، و نزكي انفسنا ، و في الآخرة اجر و ثواب عظيمان ،فلنستمع لندائه ، و لنستجب دعوته :

[ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ]

انه لا يريدنا ان ننفق كل اموالنا في سبيله ، انما يريد بعضها فالقرض هو الاقتطاع ، و لعل في الكلمة اشارة الى الصعوبة التي يواجهها الانسان عند الانفاق و التي تشبه القرض . اوليس يريد مخالفة هواه ، و حبه للمال ؟ اذن فليتحمل ، و ليعلم انه في صالحه دنيا واخرة .

و ربنا لا يريد اي انفاق ، انما الانفاق الحسن ، و لا يكون كذلك الا اذا اشتمل على المواصفات التالية :

1 - ان يكون من المال الحلال .. قال أبو بصير عن ابي عبد الله ( ع ) في قوله عز وجل : " انفقوا من طيبات ما كسبتم " فقال : " كان القوم قد كسبوا مكاسب سوء في الجاهلية ، فلما أسلموا ارادوا ان يخرجوها من اموالهم فيتصدقوا بها ، فأبى الله عزوجل ان يخرجوا الا من اطيب ما كسبوا " (2) و في قوله تعالى : " و لا تيمموا الخبيث منه تنفقون " قال : " كان الناس حين اسلموا عندهم مكاسب من الربا ، و من اموال خبيثة ، فكان الرجل يتعمدها من بين ماله فتصدق بها ، فنهاهم الله(1) نهج / خ 183 / ص 267 .

(2) وسائل / ج 6 ص 325 .


عن ذلك ، و ان الصدقة لا تصلح الا من كسب طيب " (1) و قال رسول الله ( ص ) : " ان الله تعالى طيب لا يقبل الا الطيب " (2) ، و لعل تأكيد الاحاديث و الآيات على هذا الشــرط لان البعض يحاول تبرير مكاسبه الحرام ، و الالتفاف على الشرع بمختلف الحيل ، كانفاق بعضها في بناء المساجد و الحسينيات ، و المساهمة في المشاريع الخيرية ، و لكن ليعلم هؤلاء ان ذلك لايخلعهم عن المسؤولية امام الله ، و لا يعود عليهم بالنفع .

2 - ان يكون مخلصا لوجه الله ، قال تعالى : " انما يتقبل الله من المتقين " (3) ، و هذه سيرة اوليائه ( ع ) : " و يطعمون الطعام على حبه مسكينا و يتيما و اسيرا * انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء و لا شكورا * انا نخاف من ربنا يوماعبوسا قمطريرا " (4) ، اما اذا انفق الانسان تزلفا الى الطاغوت ، او طمعا في منصب و قضاء حاجة لدى القيادة الرسالية ، او رئاء الناس ولهثا وراء الشهرة و السمعة ، فهذا ليس قرضا حسنا ، انما هو سيء يستوجب العقاب ، لانه قد يكون طريقا الى الفساد و الافسادفي المجتمع ، و على القيادة الرسالية ان تتنبه لهذه النوعية من اصحاب الاموال ، الذين يتظاهرون بدعم الحركة و الدولة الاسلامية ، و لكنهم في الواقع لا يريدون من وراء ذلك الا بلوغ مصالحهم ، و التغطية على اخطائهم و تلاعبهم بالاقتصاد و المجتمع ، و لا ريب انالكلام الحسن خير من هذا النوع من الانفاق ، و قد قال الله تعالى : " الذين ينفقون اموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما انفقوا منا و لا اذى لهم اجرهم عند ربهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون * قول معروف و مغفرة خير من صدقة يتبعها اذى و الله غني حليم *يا ايها الذين آمنوا لا تبطلوا


(1) تفسير العياشي / ج 1 / ص 149 .

(2) مجمع البيان / ج 9 عند الآية .

(3) المائدة / 27 .

(4) الانسان / 8 - 10 .


صدقاتكم بالمن و الاذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس و لا يؤمن بالله و اليوم الاخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا و الله لا يهدي القوم الكافرين " (1) .

3 - ان يصيب الانفاق موارده المشروعة ، فيكون الانسان اقرض الله بالفعل ، بلى . ليس مطلوبا منه ان يفتش عن عقائد الناس و يحقق معهم ، و لكن ينبغي له ان يعلم اين يضع ماله ، و في الخبر المشهور : " لا تجوز قدما عبد على الصراط حتى يسأل عن خمس ( منها : )و عن ماله من اين اكتسبه و فيما انفقه " و قال الله عز و جل : " ان تبدوا الصدقات فنعما هي و ان تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " (2) و قال الامام الصادق (ع ) : " لو ان الناس أخذوا ما أمرهم الله به فانفقوه فيما نهاهم عنه ما قبله منهم ، و لو اخذوا ما نهاهم عنه فانفقوه فيما امرهم الله به ما قبله منهم ، حتى ياخذوه من حق ، و ينفقوه في حق " (3) .

بالطبع الثواب يكون على النية ، و الانسان مطالب ان يعمل بالظاهر ، و لكنه اذا اخلص نيته و أصاب هدفه فهو اجزل ثوابا من الذي يخلص و لا يصيب ، بالذات اذا كان ذلك يسبب الاهمال ، فان الانفاق اذا أخطأ موارده قد يؤدي الى حالات سلبية معاكسة اجتماعيا و سياسياو اقتصاديا .

و من اهم الموارد الامام المعصوم و من يخلفه في قيادة المجتمع المسلم او التجمع الرسالي الذي يجاهد من اجل اقامة حكم الله ، و تحرير البلاد و العباد من ربقة الظلم و الفساد و التبعية ، قال الامام الصادق ( عليه السلام ) : " ان الله لم يسأل خلقه ما


(1) البقرة / 262 - 264 .

(2) البقرة / 271 .

(3) وسائل / ج 6 / ص 326 .


في ايديهم قرضا من حاجة به الى ذلك ، و ما كان لله من حق فانما هو لوليه " (1) و في روضة الكافي عن ابي الحسن الماضي ( ع ) في قوله تعالى : من ذا الذي يقرض الله ( الآية ) قال : " صلة الامام في دولة الفساق " (2) .

و تعلم الامة انها كلما دعمت الحركات الرسالية و القيادات الصالحة كلما تقدمت نحو النصر ، و ساهمت في استقلال طلائعها المجاهدة ، فهناك الكثير من المشاريع في طريق الجهاد و النصر تنتظر العون الذي يصيرها واقعا على الارض ، و زوجة الرسول الاكرم خديجة بنت خويلد ( عليهما السلام ) أسوة حسنة لنا . فلقد وهبت مالها للاسلام ابتغاء مرضاة الله ، و جهادا في سبيله ، و اذا كانت هذه المسؤولية تقع على الامة فردا فردا ، فانها لا ريب تتركز عند الذين انعم الله عليهم بالثروة ، و هم مطالبون امام الله و الامة و التاريخ انيتحملوا مسؤوليتهم و يؤدوا واجبهم في الصراع الحاسم بين الباطل ( ممثلا بالانظمة الجاهلية ) و بين الحق ( ممثلا بالقيادات و الحركات الرسالية الصادقة ) ، و ليطمئن كل منفق ان انتصار الحق لن يكون في صالح الامة حسب ، بل في صالحه هو شخصيا ايضا ، و ان المال الذي ينفق منه لن ينقص ، بل سيبارك الله له فيه .

[ فيضاعفه ]

في الدنيا . و يضرب القرآن مثلا لهذه المضاعفة اذ يقول : " مثل الذين ينفقون اموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة و الله يضاعف لمن يشاء و الله واسع عليم " (3) ، و قال الامام علي ( ع ) : " الصدقة تنمي(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 239 .

(2) المصدر / نقلا عن الروضة .

(3) البقرة / 361 .


المال عند الله " (1) ، و لا يقف الجزاء عند هذا الحد ، انما تعم البركة جوانب حياته ، و تمتد الى من حوله ، و الى الاجيال من بعده ، قال الامام الصادق ( ع ) : " ما احسن عبد الصدقة في الدنيا الا احسن الله الخلافة على ولده من بعده " (2) ، و كذلك يشمل الجزاء الاخرة ، فيكون هناك اكثر و افضل .

[ و له اجر كريم ]

في مقابل شكر الانسان لربه ، و تصرفه الحسن في نعمه يشكره الله . و نحن نعلم كم تكون العطية كثيرة اذا امتدت بها يد الكريم من الناس ، و لكننا لا نستوعب سعتها و نوعيتها اذا كانت من عند رب العالمين الذي وسعت رحمته كل شيء !

و يجدر بنا في خاتمة تفسير الآية ان ننقل هنا نص كلام العلامة الطبرسي في بيان شروط القرض الحسن :

" قال اهل التحقيق : القرض الحسن ان يجمع عشرة اوصاف : ان يكون من الحلال ، لان النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : " ان الله تعالى طيب لا يقبل الا الطيب " ، و ان يكون من اكرم ما يملكه دون ان يقصد الرديء بالانفاق ، لقوله : " و لا تيمموا الخبيث منه تنفقون " ، و ان يتصدق و هو يحب المال و يرجو الحياة ، لقوله ( ص ) لما سئل عن الصدقة : " افضل الصدقة ان تعطيه و انت صحيح ، شحيح ، تأمل العــيش ، و تخشى الفقر ، و لا تمهل حتى اذا بلغت النفس التراقي قلت : لفلان كذا ، و لفلان كذا" ، و ان يضعه في الاخل الاحوج الاولى باخذه ، و لذلك خص الله اقواما بأخذ الصدقات و هم أهل السهمان ، و ان يكتمه ما امكن ، لقوله : " و ان تخفوها و تؤتوها الفقراء فهو خير لكم " ، و ان لا يتبعه المن و الاذى ،(1) بح / ج 77 / ص 268 .

(2) المصدر / ج 96 / ص 268 .


لقوله : " لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الاذى " ، و ان يقصد به وجه الله و لا يرائي بذلك لان الرياء مذموم ، و ان يستحقر ما يعطي و ان كثر لان متاع الدنيا قليل ، و ان يكون من احب ماله اليه ، لقوله : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون "، فهذه الاوصاف العشرة اذا استكملتها الصدقة كان ذلك قرضا حسنا " (1) .

[ 12 ] و جزاء الله و اجره لا ينحصر في الدنيا ، ففي الاخرة يكون الجزاء الاعظم و الاعم .

[ يوم ترى المؤمنين و المؤمنات يسعى نورهم بين ايديهم ]لانهم بعثوا اعمالهم الصالحة قبل ان يرحلوا الى تلك الدار .

[ و بايمانهم ]

التي ما برحت حتى الرمق الاخير تنفق في سبيل الله حيث تتحول صحيفة اعمالهم التي يحملونها بايمانهم الى نور و بشرى بالجنة ، و النور هو تجل واقعي للاعمال الصالحة ، و الهدى الذي اتبعوه من آيات الرسالة التي تنزلت على الانبياء ، و الامامــة الصالحــة الــتي اخــتاروها و سلموا لها و اتبعوا بصائرها ، قال الامام الباقر ( ع ) : و هو يفسر الاية : " ائمة المؤمنين يوم القيامة تسعى بين يدي المؤمنين و بايمانهم حتى ينزلوهم منازل اهل الجنة " (2) ، و لا غرابة في ذلك و ربنا يصف نبيه بانه نور و سراج منير ويقول : " يا ايها النبي انا ارسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا * و داعيا الى الله باذنه و سراجا منيرا * " (3) . و هذا النور موجود في الدنيا ، و لكن الانسان لا يراه بعينه ، انما يراه البصير بقلبه ، و في الاخرة يكشف الله عنه . و نهتدي من التدبر فيالمقطع


(1) مجمع البيان / ج 9 / ص 235 .

(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 240 .

(3) الاحزاب / 45 - 46 .


" يسعى نورهم بين ايديهم و بأيمانهم " انه ينبغي للمؤمن ان لا يكتفي بالنور الذي ينير له الطريق من الخارج ، بل لا بد ان يكون بيده نور و عنده بصيرة الاستفادة من ذلك في الوقت المناسب .

و من دقائق التعبير هنا قوله تعالى " و المؤمنات " دون ان يكتفي بذكر المؤمنين التي هي لغة القرآن الشاملة للجنسين ، و ذلك لكي لا تتصور النساء ان الانفاق و الجهاد في سبيل الله من وظائف الرجل وحده ، كلا .. فهن مكلفات بقدرهن ايضا ، و من الخطأ ان تعتمد المراة على ما يقدمه وليها او اقرباؤها ، فلكل عمله و سعيه ، و نوره و جزاؤه يوم القيامة .

و حيث يتقدمون نحو الجنة و يعبرون الصراط تأتيهم البشارة من الله تحملها الملائكة . و اي بشرى تلك ؟ ‍ انها عظيمة حقا .

[ بشراكم اليوم جنات ]

كثيرة و مختلفة ، باختلاف الاعمال و قدرها .

[ و تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ]

و هذه من افضل نعم الجنة ، نعيم دائم و حياة ابدية .

[ ذلك هو الفوز العظيم ]

حيث الخلاص من جهنم ، و الوصول الى اعظم تمنيات الانسان الا و هي الخلود ، و كل انسان يشعر في نفسه كم ينغص الخوف من الموت و النهاية عيشة و سعادته ، و قد ضمن الله الخلود للمؤمنين .


و يبدو ان " بشراكم " مبتدا و خبره " جنات " ، كما لو قلنا : أملك السلطة .

[ 13 ] اما المنافقون الذين لم يتبعوا الآيات البينات ، و لم يسلموا للقيادة الرسالية و الامامة الصالحة ، و لم يعملوا الصالحات كالجهاد و الانفاق ، او اعملوا ذلك لغير الله ، فهم يظلون في الظلمات و العذاب ، ذلك ان هذه العوامل هي التي تخرج الانسان من الظلمات " ليخرجم من الظلمات الى النور " و حيث لم يتمسكوا بها لم يخرجوا منها ، هكذا يقول لهم المؤمنون .

[ يوم يقول المنافقون و المنافقات للذين امنوا انظرونا ]اي انتظرونا حتى نستضيء بنوركم .

[ نقتبس من نوركم ]

و هذا لا يمكن ، لان الانسان هو الذي يرسم مصيره بنفسه ، و " كل امرء بما كسب رهين " (1) ، فان علم الصالحات جنى النور و الثواب ، و ان عمل السيئات جنى الظلمة و العذاب ، ثم ان الآخرة ليست محلا ليستزيد فيها احد عملا ، انما الدنيا هي دار العمل ،و هناك حساب و لا عمل ، لذلك يأتيهم النداء ان عودوا الى الدنيا .

[ قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ]

و هذه الآية لا تخص يوم القيامة ، انما تنفعنا في الدنيا ايضا ، و ذلك بأن نعلم بانها الفرصة الوحيدة التي يمكن فيها التغيير و الرجوع عن الخطأ بالتوبة و العمل الصالح ، و ربنا ينقل لنا هذه الصورة من القيامة لنتصور واقع الحسرة فنسعى(1) الطور / 21 .


لاجتنابها و نحن في الدنيا ، و لان الاخرة دار الفصل فان الله لا يدع للمنافقين فرصة للاختلاط بالمؤمنين ، بلى . ربما استطاعوا في الدنيا ان يخفوا نواياهم و شخصياتهم الحقيقية ، فتعايشوا وسط المجتمع المؤمن متطفلين ، ينتفعون بظاهر الايمان من مكتسبات الامة ،و يغتنمون الفرص لينزوا على مصالحهم و يحققوا اهدافهم ، اما في الاخرة فلا يجدون طريقا الى النفاق .

[ فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمه ]

من جهة المؤمنين .

[ و ظاهره من قبله العذاب ]

اي ذات الباب فيه عذاب لكي لا يدنوا منه المنافقون ، و ربما جعل الله في السور بابا لكي يلج منه التائبون ، و المشفوع لهم باذن الله ، و من تطهر بالنار من النفاق ، فهناك من المنافقين من هو في اسفل درك و هؤلاء يخلدون في العذاب ، و هناك من عندهم نسب محدودة من النفاق يعذبون بسببها ثم يدخلون الجنة ، و قد قال الله تعالى : " و يعذب المنافقين ان شاء او يتوب عليهم ان الله كان غفورا رحيما " (1) ، و انما يؤكد الله هذه الحقيقة لتتبين لنا رحمته ، و لكي لا يياس احد من التوبة بعد التورط في الخطأ ، و لوكان ذلك في مستوى النفاق .

[ 14 ] و بعد ان يضرب السور بين الفريقين في الآخرة ينادي المنافقون المؤمنين ، و النداء يختلف عن القول بان القول يعني المخاطبة عن قرب ، اما النداء فهو المخاطبة عن بعد ، او من وراء حجاب و بصوت مرتفع يقصد به المنادي اسماع الطرف الاخر كلامه .


(1) الاحزاب / 24 .


[ ينادونهم ]

نداء استغاثة و حسرة .

[ الم نكن معكم ]

و هناك يجيبهم المؤمنون بما هو قول فصل : اولا : ببيان حقيقة الانتماء ، بانه ليس مجــرد التشــدق اللفظي ، انما يتحقق الانتماء بالعمل المتجانس ، و الخط المشترك ، و هذا ما لم يتحقق في واقع المنافقين ، لانهم اوقعوا انفسهم في الفتنة حين اجتنبها المؤمنون، و تربصوا حين اقدموا ، و شككوا حين تيقنوا ، و اغتروا بالاماني حين سعوا ، و استجابوا لنداء الشيطان حين استعاذوا منه ، و امسكوا بخلا و امروا الناس به حين انفقوا . و ثانيا : ببيان مراحل التسافل و الهلاك عند الانسان ، و هذه اوضح آية في القرآن من حيث ترتيبها بالتتالي ، و هي :

المرحلة الاولى : الافتتان ، و الفتن لغويا هو وضع المعدن كالذهب في النار ، و سمي الابتلاء فتنة لان الانسان اثناءه يكتوي بنيران الحوادث و المتغيرات ، و يواجه التحديات و الضغوط الصعبة و الحاسمة بعض الاحيان ، و السؤال : كيف يفتن الانسان نفسه ؟

و نجيب : حينما يريد الانسان ان يكون مخلصا لربه ، بعيدا عن الضلالة و الانحــراف ، يجــب ان يتجنب مضلات الفتن و مظانها ، فلا يدخل فيها و لا يتفاعل معها ، انما يكون كما نصح امير المؤمنين ( ع ) : " كن في الفتنة كابن اللبون ، لا ظهر فيركب ، و لا ضرع فيحلب " (1) ، فلا يسافر في البلاد التي تصرعه فيها الفتن ، او يقع فيها بيد الظالم ، و لا يقرأ او يتصفح الكتب و المجلات التي تضله ،(1) نهج / حكمة 1 .


و لا يدخل في الصراعات السياسية و الاجتماعية التي تضر بدينه ، و قال الامام علي ( ع ) : " لا تقتحموا ما استقبلتم من فور الفتنة ، و اميطوا عن سننها ، و خلوا قصد السبيل لها " (1) ، و هذا هو حال المؤمن . انه يحتاط لدينه ، و يمشي في الارض كما يمشيالمقاتل في حقل الالغام ، اما المنافق و الكافر الذي يبحث عن المغانم الدنيوية فانه يقتحم الفتن ، و يخوض فيها خوضا ، لهثا وراء الدنيا ، كما تبين الاية (20) .

[ قالوا بلى ولكنكم فتنتم انفسكم ]

اي ادخلتموها في الفتنة بارادتكم ، بهدف اللهو اللعب و الزينة و التفاخر و التكاثر في حطامها و ملذاتها ، و هناك فرق بين من يتعرض للفتنة عن غير ارادة ثم يتبع منهج الاسلام في التعامل معها او يدخل نفسه ليقاومها ، و بين من يدخل نفسه في الفتن بارادته لا ليتحداها ، انما ليكون غرضا لها ، و لتكون الدنيا و الهوى غرضه من دخولها . و لعل الاغترار بالدنيا اظهر مصاديق فتن النفس ، و في الكلمة ضلال لمعنى اضللتم ، تشابها مع قول الله لنبيه : " و احذرهم ان يفتنوك عن بعض ما انزل الله اليك " (2) اي يضلوك .


المرحلة الثانية : التربص .

[ و تربصتم ]

بتسويف الالتزام بالحق ، و انتظار التغيير في المستقبل ، ذلك ان الانسان مهما توغل في الانحراف و دخل في الفتن ، فان الله يبين له الحق ليقيم عليه الحجة ولو في(1) غرر الحكم .

(2) المائدة / 49 .


لحظات ، اما بيقظة الضمير او بموعظة داعية ، او من خلال اصطدامه بمشكلة تنبههه الى خطئه ، و لكنه في الغالب لا يلزم نفسه الحق مباشرة ، انما يسوف التوبة ، و يستمر في الفتنة حتى تفوته الفرصة ، و الامام علي ( ع ) يحذر من هذه الحالة اذ يقول : " فاتقى عبدربه ، نصح نفسه ، و قدم توبته ، و غلب شهوته ، فان اجله مستور عنه ، و امله خادع له ، و الشيطان موكل به ، و يزين له المعصية ليركبها ، و يمنيه التوبة ليسوفها ، اذا هجمت عليه منيته اغفل ما يكون عنها ، فيالها حسرة على كل ذي غفلة ان يكون عمره عليه حجة ، وان تؤديه ايامه الى الشقوة " (1) .

المرحلة الثالثة : الارتياب و الشك .

[ و ارتبتم ]

ان الله يبصر الانسان بالحق ، و يبين له الخطأ الذي هو عليه ، فان اقدم على التغيير اهتدى ، و الا فان التربص يحول يقينه الى شك ، و الامام علي ( ع ) يقول : " لا تجعلوا علمكم جهلا ، و لا يقينكم شكا ، اذا علمتم فاعملوا ، و اذا ايقنتم فاقدموا "(2) ، و الانسان حينما يقدم عمليا على الالتزام بالحق تتعمق قناعته به ، قال تعالى : " و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " (3) ، و في غيره هذه الصورة يبدا يشكك نفسه ليتخلص من وخز الضمير و ملامة النفس اللوامة ، فاذا نصحه اخوانه بالاوبة الى هذهالصورة اخذته العزة بالاثم ، و انكر الحق ، و قال كما قال الكافرون للذين امنوا : " لو كان خيرا ما سبقونا اليه " (4) ، و هذه الصفة تنفي انتماءهم للمؤمنين لقوله تعالى بالحصر : " انما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله ثم لم يرتابوا(1) نهج / خ 64 / ص 95 .

(2) نهج / حكمة 274 .

(3) العنكبوت / 69 .


و جاهدوا بأموالهم و انفسهم في سبيل الله اولئك هم الصادقون " (1) ، و ادعاء المنافقين انهم من المؤمنين و معهم مجرد محاولة لالصاق انفسهم بهم و التخلص من العذاب ، و الا فهم لم يؤمنوا بالله و لا برسوله و لم يستجيبوا لدعوته المتمثلة في الايات البيناتالمنزلة على رسوله ( ص ) فبقوا في الظلمات .

المرحلة الرابعة : الاغترار بالاماني ، ذلك ان الحق واضح مبين تتلاحق امام الانسان اياته ، و له ثقل عظيم على الواقع و منافع لا تحصى ، و ينسجم مع فطرة الانسان و سنن الله في الخليقة ، و الانحراف عن مثل ذلك يتطلب جهدا ، و لا يكون الا بوسائل ، و من وسائلهالغرور بالاماني التي تتلاحق في وعي المنحرفين كشلال اسود لا يكاد المبتلى به يقدر على مراجعة قراراته و التدبر في عواقب اموره .

ان الشك و التردد اما يحسمه الانسان باتجاه الحق من خلال التوبة و العمل ، و الا فانه سيبقى على الباطل حتى يوافيه الاجل ، و تضيع منه فرصة التغيير ، بسبب الاماني التي ينفخ فيها الشيطان ، كالتشبث بالقشور و بعض الاعمال الجانبية التي يسعى البشر لتبرير اخطائه الفادحة بها ، و من الاماني ايضا النظرة الخاطئة لغفران الله ، و الاعتماد على شفاعة الاولياء ، و لذلك حذر ائمة الهدى شيعتهم من المنى ، قال الامام علي ( ع ) : " و سابقوا الى مغفرة من ربكم من قبل ان يضرب بالسور ، باطنة الرحمة و ظاهره العذاب ، فتنادون فلا يسمع نداؤكم ، و تضجون فلا يحفل بضجيجكم " (2) ، و قال الامام الصادق ( ع ) : " تجنبوا المنى فانها تذهب بهجة ماخولتم ، و تسصغرون بها مواهب الله جل و عز عندكم ، و تعقبكم الحسرات فيما و همتم به انفسكم " (3) ، و انما ينال ما عند الله بالعمل و السعي ، قال تعالى : " و ان


(1) الحجرات / 15 .

(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 241 .

(3) المصدر / ص 242 .


ليس للانسان الا ما سعى " (1) ، و التمني يوقف مسيرة الانسان باتجاه التغيير و العمل ، لانه يستبدل السعي بالاحلام و الوهم ، و ربنا يستنكر على المنافقين و الكافرين تمنياتهم اذ يقول : " ان يتبعون الا الظن و ما تهوى الانفس و لقد جاءهم من ربهم الهدى * ام للانسان ما تمنى " (2) ؟ ‍ ‍‍! !

[ و غرتكم الاماني ]

اي خدعتكم ، و الاماني هي الاحلام و الظنون التي يصنعها الانسان بخياله المنبعث من شهواته ، و الذي يدخل في هذا النفق قد لا يتخلص منه ، بل يبقى في غروره حتى الموت ، و هذا ما صار اليه المنافقون .

[ حتى جاء امر الله ]

اي نصرة المؤمنين ، او اجله الذي لا تأخير فيه ، و حينها لا تنفع التوبة ، فاذا جاءت المنية بطلت الامنية ، و قبل ان يختم ربنا الاية يشير الى دور الشيطان في خدع الانسان الذي يتمثل في تزيين المعاصي ، و تأكيد الامنيات في النفس ، و ليس له سلطان على احد ،و في الدعاء بعد ان يشكو الامام عدوه الاول الى الله و هو النفس يقول : " الهــي اشكو اليك عدوا يضلني ، و شيطانا يغويني ، قد ملأ بالوسواس صدري ، و احاطت هواجسه بقلبي ، ( يعاضد لي الهوى ) ، و يزين لي حب الدنيا ، و يحلو بيني و بين الطاعة و الزلفى " (3) . ان دوره الاساسي هو المعاضدة و الاعانة على الانحراف ، و تأكيد النصوص الاسلامية على هذه الحقيقة ( و ذكره في هذه الآية في صيغة الاستدراك ) كل ذلك ياتي لكي لا يعتبر البشر وساوس الشيطان تبريرا(1) النجم / 39 .

(2) النجم / 23 - 24 .

(3) الصحيفة السجادية / مناجاة الشاكين .


للانحراف و الضلالة ، و انه مجبور عليها .

[ و غركم بالله الغرور ]

يعني الشيطان انسيا كان او جنيا . " و الغرور " صيغة مبالغة ، تدل على ان ذلك عمله و ديدنه ، و لا ريب ان الاعلام المضلل الذي ينشر ثقافة الفساد كتابة صورا و صوتا ، و كذلك الانظمة الفاسدة التي تركز حب الدنيا و اتباع الهوى في المجتمع ، هما من ابرز مصاديق هذه الآية الكريمة ، كما اصدقاء السوء من مصاديقها .

[ 15 ] و كم تكون حسرة الانسان اذا صار في الدنيا غرضا للفتن ، و فريسة للاماني و همزات الشيطان ، و عاش بينهما متربصا مرتابا حتى يجيء اجله ، و تضيع الفرصة قبل ان يخلص نفسه من النار ، ليصير الى بئس المصير ! انه يبخل بالمال في الدنيا ، و لكنه يتمنى لو ان له ملء الارض ذهبا و فضة يفتدي به نفسه يوم القيامة ، " ولو ان للذين ظلموا ما في الارض جميعا و مثله معه لا فتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة و بدا لهم من الله مال يكونوا يحتسبون * و بدا لهم سيئات ما كسبوا و حاق بهم ما كانوا به يستهزؤون " (
1) نعم . هناك تتبدد ظنونهم و امانيهم التي لا تغني من الحق شيئا . و هب انهم كان لهم ما في الارض و مثلهم و ارادوا فدو انفسهم فانه لا يقبل منهم ، و يأتيهم النداء بان الدنيا هي دار العمل و لم تعملوا .

[ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية و لا من الذين كفروا مأواكم النار ]في مقابل الجنة التي يفوز بها المؤمنون و المؤمنات . و مفارقة اخرى ان ولي المؤمنين هو الله و الانبياء و الاولياء و الصالحين الذين يتقدمون بهم الى الجنة نورا يسعى بين(1) الزمر / 47 - 48 .


ايديهم ، اما المنافقون فلا يجدون وليا و لا نصيرا و لا مأوى الا النار ، و حيث يبحثون عن اوليائهم الذين اتبعوهم في الدنيا من الظلمة و الشياطين فيأتيهم الجواب :

[ هي مولاكم ]

انهم رفضوا دعوة الله " آمنوا بالله و رسوله " ، اذ نافقوا بدل الايمان ، و اتبعوا القيادات الضالة بدل الطاعة للرسول ، و حيث يقال ان النار هي مولاكم يعلمون عين اليقين بأنهم اذا تولوا الظالمين انما تولوا النار .

[ و بئس المصير ]

و هذا المقطع يقابل قوله تعالى عن المؤمنين : " ذلك هو الفوز العظيم " ، و اي مصير اسوأ من ظلمات القيامة ، و عذاب النار ، و سخط الرب ؟ ! و هذا الاخير اشد عذابا من كل شيء ان الانسان يصير غرضا لغضب الله ، و بعيدا عنه ، و في الدعاء : " فهبني ياالهي و سيدي و مولاي صبرت على عذابك فكيف اصبر على فراقك ، و هبني صبرت على حر نارك ، فكيف اصبر عن النظر الى كرامتك .. و لأبكين عليك بكاء الفاقدين ، و لانادينك اين كنت يا ولي المؤمنين " (1) .

و ما دامت الفدية لا تؤخذ ذلك اليوم فلنقدمها الان ، و نكون من المتقين الذين صيح بهم فانتبهوا و علموا ان الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا ، و " صبروا اياما قصيرة ، اعقبتهم راحة طويلة ، تجارة مربحة يسرها لهم ربهم ، ارادتهم الدنيا فلم يريدوها ، واسرتهم ففدوا انفسهم منها " (2) بينما اراد المنافقون الدنيا ، و بقوا في اسرها حتى الاخير .


(1) دعاء كميل للامام امير المؤمنين علي ( ع ) .

(2) نهج / خ 193 / ص 304 .


ان المتقين و المؤمنين استجابوا لله و للرسول اذ قال : " يا ايها الذين امنوا هل ادلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم * تؤمنون بالله و رسوله و تجاهدون في سبيله باموالكم و انفسكم ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم و يدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار و مساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم " (1) و المتدبر يكتشف العلاقة الوثيقة في العبارات و المعنى بين هذه الآيات و آيات هذا الدرس من سورة الحديد .


(1) الصف / 10 - 12 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس