بينات من الآيات [ 16 - 17 ] كما الشجرة ان سقاها وراعاها صاحبها نمت و اثمرت ، و ان تركها ذبلت و يبست ، كذلك الايمان اذا حافظ الانسان على عوامله تعمق و تجذر و نمى و اثمر ، و الا خبا ضوؤه وصار الى النقصان ، و ذكر الله و رسالته هما وسيلة نمو الايمان في النفس ، اذا تساقطت عنها الحجب و خشعت ، اما اذا قست و تكلست لا تنتفع بالذكر ، كما لا تنتفع الشجرة اليابسة بالماء الفرات ، و لذلك يحذر الله المؤمنين من قسوة القلب ، و يعاتبهم على عدم خشوعهم لذكره و للحق ، فيقول :
[ الم يأن للذين آمنوا ان تخشع قلوبهم لذكر الله و ما نزل من الحق ]قال ابن مسعود : ما كان بين اسلامنا و بين هذه الآية الااربع سنين ، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضا ، و قيل : ان الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاثة عشر سنة من نزول القرآن بهذه الآية ( عن ابن عباس ) ، و قيل : كانت الصحابــة بمكــة مجدبين فلما هاجروا و اصابوا الريق و النعمة فتغيروا عما كانوا عليه ، فقست قلوبهم ، و الواجب ان يزدادوا الايمان و اليقين و الاخلاص ، في طول صحبة الكتاب ( عن محمد بن سعد ) . و مع اختلاف هذه الاقوال الا انها تلتقي في نقطة واحدة هي ان الآية جاءت تعالج تحولا سلبيافي حياة الأمة ، و هذا يظهر عناية الله من خلال وحيه ببناء المجتمع المؤمن و توجيه حركته نحو الحق و الاهداف السامية ، و لكن الله لا يبدا العلاج من الظواهر ، انما يوجه الرسول و المؤمنين انفسهم الى جذور المشكلة ، الا و هي القلوب التي تغير موقفها من ذكر الله و من تطبيق الرسالة . لقد كانوا في البدء امة مؤمنة حقا ببركة ذكر الله ، و كانوا ملتزمين غاية الالتزام بالحق ، يتسابقون الى تطبيق الرسالة ، و يسلمون لما فيها تسليما ، اما الان فقد بدا الخشــوع ينحسر عن قلوبهم ، كما صاروا يتباطؤون في تطبيق رسالة ربهم، و يتخلصون عن دعوة قيادتهم الى الايمان و الانفاق ، و هذا لا ريب ان لم يبادروا الى علاجه سوف يخرجهم من دائرة المؤمنين . اوليس الله يقول : " انما المؤمنون الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم و اذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا و على ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون * اولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم و مغفرة و رزق كريم " (1) ؟ ! !
فلماذا اذا لا توجل قلوبهم ، و لا يزدادون ايمانا ، و لا ينفقون ؟ ! الاشكال ليس(1) الانفال / 2 - 4 .
في قلة ذكر الله ، و لا في قلة الآيات ، و لا في عدم وجود الواعظ ، فهذا الرسول يصيح فيهم : " آمنوا بالله و رسوله و انفقوا " و يدعوهم للايمان ، و الآيات بينة مستفيضة متواصلة ينزلها الله على عبده ليخرجهم من الظلمات الى النور ، و لكن الاشكال فيقلوبهم المريضة .
و لنا ان نعرف كم ينبغي ان يكون القلب مريضا و قاسيا حتى لا يتأثر بالقرآن اذا تدبرنا في قوله تعالى : " لو انزلنا هذا القرآن على جبل لرايته خاشعا متصدعا من خشية الله و تلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون " (1) ، فلم لا يحرض القرآن المؤمنعلى الخشوع ، و الخشوع هو الذي يجعل الانسان مستعدا للتسليم الى الحق نفسيا ، و تطبيقه عمليا في الواقع ؟
و تأكيد القرآن على ان ما نزل حق يهدينا الى ان قسوة القلب تورط الانسان في الباطل ، و هناك علاقة متينة بين ذكر الله و بين رسالته النازلة من عنده ، لان الله تعالى يتجلى في كتابه .
و في الشطر الثاني من الآية يلفتنا القرآن الى تجربة آهل الكتاب لنتعظ بتجارب الامم الاخرى . انهم كما الامة الاسلامية اوتوا كتابا من عند الله ، انقذهم من الطغاة كفرعون ، و اخرجهم من الظلمات الى نور الايمان و العلم ، و لكنهم ابتلوا بقسوة القلب فماذا كانت عاقبتهم ؟
[ و لا يكونوا كالذين اوتوا الكتاب من قبل ]
وكان ينبغي ان يطبقوا ما فيه حتى يصلوا الى اهدافهم و سعادتهم ، و لكنهم كانوا لا يريدون تحمل المسؤولية فراحوا يلتفون على آياته ، و يتخلفون عن تطبيقها ،(1) الحشر / 21 .
لانهم يريدون ايمانا بلا تكلفة و تضحية ، و مجدا بلا مشقة و سعي ، فعلموه اماني كما قال تعالى : " و منهم أميون لا يعلمون الكتاب الا اماني و ان هم الا يظنون " (1) ، و بدل ان تكون الرسالة قائدهم و امامهم يكيفون انفسهم وفقها ، اصبحوا يفرضون شهواتهم عليها ، و يحرفون الكلم عن مواضعه ، و ربما عادت بينهم كتابا مألوفا ، و جزء من التراث ، فوقفوا عند حروفه و كلماته دون العمل به .
و لانهم فعلوا ذلك ما عاد الكتاب ينفعهم فتبدل ايمانهم به الى الشك فيه ، و ارتابوا في بشائره و وعوده ، و الحق الذي اشتمل عليه ، و حيث تعاقبت الاجيال الواحد تلو الآخر و هم ينتظرون شيئا من ذلك يتحقق دون جدوى - لانهم اتخذوه اماني و لم يسعوا الى تطبيقه -انتهت في نفوسهم جذوة الايمان ، بالذات و ان كل جيل يأتي يورث سلبياته الذي بعده .
[ فطال عليهم الامد ]
لقد ابتعدوا عن الدين كل جيل بمسافة بعده عن جيل الرواد الاوائل ، الذين آمنوا بالكتاب حق الايمان ، و طبقوا ما فيه كما اراد الله ، و لانهم نبذوا الكتاب الذي به حياة القلوب ذهب خشوعهم ، و قد جاء في الاثر عن الامام الصادق ( ع ) : " لم يزل بنو اسماعيل ولاة البيت ، و يقيمون للناس حجتهم و أمر دينهم ، يتوارثونه كابر عن كابر ( عظيما عن عظيم ) حتى كان زمن عدنان ابن أدد " فطال عليهم الامد فقست قلوبهم " و فسدوا ، و احدثوا في دينهم ، و اخرج بعضهم بعضا " (2) و اذا صحت الروايات و التفاسيرالتي تقول بان الامد طال على المؤمنين من اهل الكتاب في انتظار الرسول ( ص ) الذي ينصرهم على اعداء الله ، و يخلصهم من الضلال و العذاب ، فاننا نهتدي الى احد اسباب قسوة القلب بعد طول(1) البقرة / 78 .
(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 242 .
الأمد هو اليأس من روح الله ، و الشك في وعد الله الذي لا يخلف !
و هذه المشكلة يمكن ان تتورط فيها الكثير من الحركات الاسلامية ، خصوصا تلك التي تناضل من خارج الوطن ، حيث يخشى ان تتناقص فيها تلك الحيوية و الفاعلية التي كانت لديها عند انطلاقها ، و قد يصاب بعضهم بالاسترخاء نتيجة الرضا ببعض المكاسب الاولية التي يحصلون عليها ، فاذا بالدنيا تحلو في أعينهم فيخلدون الى ارض الخفض و الدعة ، و يرفضون خشونة الجهاد و عنف المواجهة و يبدأون مسيرة التبرير ، و يرفعون شعار المعاذير و يحرفون الكلم عن مواضعه ، كما حدث لقوم موسى ( ع ) " اذا قال موسى لقومه ان الله يأمركم انتذبحوا بقرة " فراحوا يجادلونه و تباطأوا في تطبيق قراراته " فذبحوها و ما كادوا يفعلون " (1) ، و مرة اخرى حينما دعاهم الى اقتحام بيت المقدس : " قالوا يا موسى ان فيها قوما جبارين و انا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فان يخرجوا منها فانا داخلون .. قالوا يا موسى انا لن ندخلها ابدا ما داموا فيها فاذهب انت و ربك فقاتلا انا ها هنا قاعدون " (2) .
[ فقست قلوبهم ]
لماذا كان طول الامد سببا لقسوة القلب ؟
لعل في الآية اشارة الى قانون الدورات الحضارية الذي ذهب اليه كثير من فلاسفة التاريخ فقالوا : كما الانسان الفرد يمر بمراحل الصبا فالشباب و الكهولة ثم الشيخوخة و الهرم ، كذلك المجتمع الانساني يمر بذات المراحل ، فأيام شبابه تكون عندما تبعث فيه فكرة خلاقة فتفجر طاقاته ، و لكن مع مرور الزمن يغفلون الفكرة الحضارية التي امنوا بها بسلبياتهم و شهواتهم ، و يفقدون روح التحدي و التضحية ،(1) البقرة / 67 - 71 .
(2) المائدة / 21 - 24 .
و يصيرون الى ما يشبه حالة الشيخوخة ، و ربما نستوحي هذه الفكرة من قوله سبحانه : " فخلف من بعدهم خلف اضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات " .
و هكذا اشارت الآية الى هذا القانون الطبيعي لكي نتحداه ، و لا ندع طول الأمد يسبب فينا قسوة القلب .
ثم ان فلاسفة التاريخ قسموا الاجيال في كل حضارة الى ثلاثة : جيل البناة ، و جيل الرعاة ، و الجيل الذي يليهما و الذي تتوقف الحضارة عندهم عن التطور و الابداع . و لكن الفصل بين الاجيال الثلاثة ليس فصلا دائما ، اذ قد تتعايش في برهة زمنية واحدة نماذج من هذه الاجيال جميعا ، فتجد طبقة من الناس لا يزالون في حالة الزيادة و هم الذين قد تمكنت الفكرة الحضارية من انفسهم ، بينما تجد في ذات الوقت طبقة من الناس منافقين يبحثون عن مصالحهم و يحرفون الكتاب بما يتلاءم و شهواتهم ، و تجد آخرين ممن يعيش الحالة الوسطى بين الحالتين .
بلى . ان الاغلب هو تلاحق هذه الاجيال ، الا ان قدرة الانسان على تحدي الظروف المعاكســة ، و اغراءات الدعة و الرخاء تعطي الناصحين فرصة اصلاح الناس ، و مقاومة عوامل الانحراف !
فقد ينبعث في الجيل الثالث في المسلمين و ما بعده مصلح كبير يفسر القرآن بما ينسجم و تحديات عصرهم ، و يعيد اليهم نضارته و طراوته و صفاءه بعيدا عن زيف التحريفيين ، و تأويل المعذرين ، ولعله الى ذلك تشير الاحاديث التي تؤكد على ظهور مجدد للدين على رأس كلقرن من الهجرة النبوية الشريفة .
و الآيــة الكريمة التي نفسرها لا تستصدر حكما قطعيا واحدا على كل أهل الكتاب ، انما تفرق فيهم بين جيل و جيل ، فهناك المؤمنون حقا كما يؤكد القرآنذلك في مواضع منه ، مثل قوله تعالى في نهاية السورة " فآتينا الذين آمنوا منهم اجرهم " (1) و هناك المتزمتون الذين صعبوا الدين و تصوفوا ، و من بينهم من قست قلوبهم ، الذين يشكلون الاكثرية الساحقة فيهم !
[ و كثير منهم فاسقون ]
الى هناك يكون القرآن قد حذر المؤمنين من مرض القسوة الذي قد يتورطون فيه ، كما بين لهم عواقبه السيئة من خلال الاشارة الى سيرة أهل الكتاب ، اما الان فالسياق بآياته يشرع بمعالجة المشكلة الى جنب بيان اسبابها .
المؤمــنون الذين خاطبتهم الآية السابقة لم ينحرفوا انحرافا كليا كأكثر أهل الكتاب ، و انما اسلبوا الخشوع ، فقست قلوبهم قليلا ، و دب فيهم اليأس من اصلاح انفسهم فاخذ القرآن يعطيهم الثقة بربهم .
[ اعلموا ]
ربما ابتدا بالعلم لان الخشية ميراث العلم ، او لم يقل تعالى : " انما يخشى الله من عباده العلماء " (2) ؟
و السؤال : ما هي تلك الحقيقة الكفيلة بزرع الامل في نفوس المؤمنين و انقاذهم من اليأس ؟
[ ان الله يحي الارض بعد موتها ]
أرأيت كيف تنبسط على الصعيد حلة خضراء بعد ان كانت الارض هامدة(1) الحديد / 27 .
(2) فاطر / 28 .
كأنها مقبرة مهجورة ؟ انظر الى الحياة التي تدب فيها ، و تفكر في قدرة الله ، اليس الذي احياها بقادر على ان يحيي ميت القلوب ؟ فلماذا اليأس ؟
بلى . قد تحيط بالمؤمنين ألوان المشاكل ، فتمسهم البأساء و الضراء ، و نقص من الاموال و الانفس و الثمرات و يزلزلون ، و ربما استطال اليأس بسبب ذلك حتى على نفوس المخلصين " حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه متى نصر الله (1) ؟ ! ولكن ليعلموا ان انتصارهم حتمية فرضها الله كما فرض كتابه عليهم " ان الذين فرض عليك القرآن لرادك الى معاد " (2) ، نعم . قد يتأخر لحكمة يعلمها الله ( كتصفية قلوب المؤمنين من ادرانها ، و لكي يكون النصر اكبر و اشمل و انفع ) ، فلا ينبغي للمؤمن المجاهد ان يقنط و ييأسلان اليأس من العوامل الرئيسية و الخطيرة التي تجمد الطاقات ، و تكبل الانسان عن السعي ، لانه معه لا يرى فائدة من التحرك ، فلماذا يسعى نحو السراب ؟ ! و الحركة الناجحة هي التي تجنب افرادها السقوط في اشراكه ، و تبادر الى علاج حالاته و ظواهره كلما بدت ، باعطاء المزيد من الامل في الله ، و الثقة به ، و التوكل عليه .
و لهذه الآية الكريمة تأويل يتصل بحياة الارض المعنوية التي تعني اشاعة العدل و السلام في ربوع البلاد ! و معلوم ان الله لا يحييها - حسب هذا المعنى - كما يحييها بالمعنى الاول بالمطر ، بل بأيدي الصالحين من عباده ، و لكن السؤال بماذا يحيي الله الارض ؟ انه لن يبعث ملائكته الشداد الغلاظ ليقوضوا الانظمة الفاسدة ، او يطهروا الارض من دنسها و رجسها ، انما سيحييها وفق سننه التي فطر الوجود عليها ، سيحييها بأهلها من المؤمنين المجاهدين ، و القيادات الصالحة ، الذين يتصدون للجهاد في سبيل اقامة حكومة الحق و العدلعلى ربوع المعمورة ، قال الامام
(1) البقرة / 214 .
(2) القصص / 85 .
الباقــر ( ع ) : " يحيي الله تعالى بالقائم ( الارض ) بعد موتها ، يعني بموتها كفر أهلها ، و الكافر ميت " (1) . و قال الامام الحسين ( ع ) : " منا اثنى عشر مهديا اولهم امير المؤمنين علي ابن ابي طالب ، و آخرهم التاسع من ولدي ، هو القائم بالحق ، به يحيي الله الارض بعد موتها ، و يظهر به الدين الحق على الدين كله ولو كره المشركون " (2) .
و هذا الوعد الالهي لا يعني ان نحيل المسافة بيننا و بينه ساحة للتقاعس و الامنيات الزائفة ، فاقامة العدل ليست من مسؤوليات القائم ( ع ) وحده ، انما هي تكليف كل مسلم بنص القرآن : " فقاتلوا ائمة الكفر انهم لا ايمان لهم " (3) و نصوص اخرى كثيرة، و اذا كان هذا التأكيد على الامام قد كثر و تواتر في تأويل هذه الآية ، فهو من باب التأكيد على الاحياء الاعظم ، و الا فاصلاح الانسان لنفسه و مجتمعه احياء ايضا كائنا من كان ، بل ان تحقق الوعد الالهي بظهور القائد الذي بملاء الارض عدلا و قسطا بعدما ملئتظلما و جورا باجماع المسلمين وكل المذاهب و الاديان مرهون بنا بقدر ما ، لان ربنا سبحانه و تعالى يقول : " ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم " ، و لانه جاء في بعض النصوص انه عليه السلام لا يظهر الا بعد اكتمال اصحابه الذين هم بعدد اصحاب النبي يوم بدر ( 313 ) فردا و الله العالم .
وهب ان الحجة ( ع ) ظهر بيننا فانه سوف يقاتل بنا ، و لهذا يأتي أمر الله و تأكيده على ضرورة العلم بهذه الحقيقة ، لان العلم يقود الى العمل و السعي ، اما الامنيات فانها تكرس السلبية عند الانسان ، و تشل طاقاته العملية ، اذ لا تثير فيه(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 242 .
(2) المصدر / ص 234 .
(3) التوبة / 12 .
سوى الخيال و الظنون التي لا تغنى من الحق شيئا ، و لعل قوله تعالى " اعلموا " يقابل قوله " أم حسبتم " ، فهو دعوة لنبذ التمنيات و الظنون ، و التمسك بالمعرفة و العلم ، و اذا كنا نريد التأكــد من هذه الحقيقة فنعرف كيف يحيي الله الارض بعد موتها ، فما علينا الا الرجوع بنظرة موضوعية شاملة الى آياته و رسالته . من هنا يؤكد الحق تعالى بقوله :
[ قد بينا لكم الآيات ]
ان العود الى الآيات الشاهدة على تلك الحقيقة ، سواء المتجلية في التاريخ ، او في القرآن كفيل بان يعيد للمؤمنين الثقة بانفسهم ، و يصيرها علما ثابتا تستوعبه عقولهم ، مع كونها عظيمة و كبيرة يصعب على غير المؤمنين التسليم لها .
[ لعلكم تعقلون ]
حيث من اهم اهداف القرآن هو تبصير الانسان و استثارة عقله . و توجيه الله لنا الى اياته فور تأكيده على انه يحيي الارض بعد موتها ، يهدينا الى ان الآيات هي المنهج السليم الذي ينبغي للانسان الانطلاق منه في الاصلاح ، سواء اصلاح القلب الذي يموت بالقسوة ، او اصلاح الارض و المجتمع اللذان يفسدان بالجور و الظلم ، كما يهدينا الى ان عدم خشوع قلوب المؤمنين و تعرضهم شيئا فشيئا للقسوة ناجم عن ابتعادهم عن القرآن ، كما قست قلوب أهل الكتاب ، و فسقوا بنبذ الكتاب وراء ظهورهم و لا سبيل لهم لعلاج هذه المشكلة المستفحلةالا بالعودة الى آياته ، التي تخرج من الظلمات الى النــور ، و قبل ان نمضي الى تفسير الآية اللاحقة هناك ثلاث ملاحظات حول الايتين :
الاولى : ان اليأس من التغيير قد ينطلق من زاوية محدودة في تفكير الانسانالمؤمن ( فردا ، و حركة ، و امة ) و هي انه يقيس المسافة بينه و بين التغيير ، و ينظر اليها من خلال قدراته و ارادته الذاتية ، فيرى الاعداء اكثر منه عددا و عدة و خبرة ، فيستنتج انه لا يمكنه تحقيق الانتصار عليهم بأمكانيته المحدودة ، الامر الذي يزرع اليأس والهزيمة في نفسه ، و ربما يقوده الى التراجع عن المسيرة و الاستسلام للواقع عمليا ، و هذا خطأ خطير يجب علاجه بالتوكل على الله ، و الثقة بنصره ، و انه يحيي الارض بعد موتها ، و ينصر من يتحركون الى هذا الهدف بارادته المطلقة التي لا يعجزها شيء .
الثانية : ان الارض بمن عليها و بما فيها تصبح ميتة في ظل حكومات الجور ، فهي تميت قلوب الناس بالتضليل ، و لا تبقي لاحد منهم حرمة في ماله ، و عرضه و لا دمه ، " فاذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل و الله لا يجب الفساد " (1). ثم انها توجه طاقات الشعوب في دمارها ، و تشعل الحروب لاطماعها الرخيصة ، ثم تدفع الناس ضحايا و قرابين من اجلها ، و لنا ان نتصور احد معاني الموت في ظلها بنظرة خاطفة الى النظام الاستكباري الذي يحكم العالم اليوم ، و الى ترسانات الاسلحة المدمرة ، التي تكفي لتدمير الارض اكثر من ( 200 ) مرة ، و هي تزرع الان الخوف في كل العالم ، كما تمتص ثروات الناس ، و تمنعهم من الانتفاع بها في سبيل تقدمهم و رفاههم !
ثم ان مقياس الحياة و بالذات عند المؤمن ليس القيام بالوظائف المادية الضرورية كالاكل و الشرب و التنفس و الحركة و .. انما مقياسها على ضوء الاهداف و القيم الانسانية و الالهية ، و ما هي قيمة الانسان اذا جرد من حريته و كرامته ؟ ! لا ريب ان الموت اهون عليه من الحياة بدونها ، و لذلك قال الامام الحسين ( ع ) : " اني لا ارى الموت الا سعادة ، و الحياة مع الظالمين الا برما " ، و قال الامام(1) البقرة / 205 .
علي ( ع ) لاصحابه بصفين : " فالموت في حياتكم مقهورين ، و الحياة في موتكم قاهرين " (1) .
و حينما يسأل الامام الصادق ( ع ) عن معنى الحياة بعد الموت في الآية يقول : " العدل بعد الجور " (2) .
الثالثة : و الى جانب هذا التفسير السياسي الجاد للآيتين نجد هناك تطبيقات اخرى يتسع لها المعنى ، من بينها ان القلوب تموت بالضلال و الانحراف ، و لكن ليس من الصحيح ان ييأس الانسان من التغيير و قبول ربه التوبة ، فهو واسع المغفرة ، اذن فلا يقنط من رحمته، فقلبه يمكن ان تعود اليه الحياة مرة اخرى ، لو تراجع عن خطئه ، و بدا مسيرة الثورة على الذات بالتوبة و العمل بما يوافق رسالة الله و آياته ، و قد تناقل المفسرون ان الفضل بن يسار احد مصاديقهما ، حيث كان ضالا يقطع الطريق ، و قد تواعد مع جارية ، فلما اتاها من جهة الدار متسلقا سمع تاليا يتلوهما فنزل من على الجدار و هو يقول بلى قد آن ، بلى قد آن .. فتاب من ذنوبه و تحول من قاطع طريق الى مؤمن زاهد .
و كلمة اخيرة :
لننظر الى الارض القاحلة التي لا زرع و لا ضرع فيها ، كيف يجعلها الله واحة خضراء بالغيث ؟ ! لعلنا نعرف المسافة الشاسعة بين الحياة و الموت ، التي تشبه المسافة بين العدم و الوجود ، فنزداد بهذه المعرفة ثقة بربنا العظيم و توكلا عليه لان هذه الظاهرة تتجلىفيها قدرته و سائر اسمائه الحسنى ، و رحمته المطلقة الكفيلة بنصرنا و ايصالنا الى اهدافنا ، فلا داعي اذن لليأس و القنوط ، و لنتفكر في عظمة القرآن(1) نهج / ج 51 / ص 88 .
(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 243 .
الذي تغير آية واحدة منه حياة انسان امتهن الجريمة ، الى حياة حافلة بالتقوى و الكرامة ! انه حقا اهل ان ياخذ بايدينا الى العلاج و السعادة و النصر ، لو رجعنا اليه ، و تفكرنا في آياته ، و علمنا بمضامينها . سوف يحيل ذلنا عزة ، و هزيمتنا نصرا ، و قسوتنا خشوعا ، و تخلفا تقدما و حضارة ، و بكلمة سوف يحول موتنا حياة .
[ 18 ] و يعود القرآن بعد ان حذر المؤمنين من عاقبة النفاق يوم القيامة ، و من مصير اهــل الكــتاب في الدنيا ليؤكد أهمية الانفاق و معطياته ليتصل بما تقدم في الآيات ( 7 ، 10 ، 11 ) و ليكون طريقا لتطهير القلب و خشوعه كما قال ربنا : " خذ من اموالهمصدقة تطهرهم بها " (1) و لنتخذه مقياسا للايمان ، فمتى ما تصدق المؤمنون و انفقوا دل ذلك على صدقهم ، ثم فاعليتهم بعد الجمود بسبب الانصراف الى الدنيا ، و الذي ينتهي الى قسوة القلب .
و بما ان الآيتين السابقتين جاءتا لتنتشلا بعض المؤمنين من هذا الدرك الذي يتوسط المؤمنين الصادقين ، و درك المنافقين ، قبل ان يتسافلوا الى الفسوق ، حيث درك المنافقين الذين بخلوا بأموالهم ، و لم ينفقوا في سبيل الله ، قال تعالى : " و يقبضون ايديهمنسوا الله فنسيهم ان المنافقين هم الفاسقون " (2) ، حيث كان احدهم يعاهد الله " لئن آتانا من فضله لنصدقن و لنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به و تولوا و هم معرضون * فاعقبهم نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه بما اخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون " (3) ، فكان من الطبيعي اذا ان يلحق الله بتلكما الآيتين دعوة الى الانفاق في سبيله :
(1) التوبة / 103 .
(2) التوبة / 67 .
(3) المصدر / 75 - 77 .
[ ان المصدقين و المصدقات ]
و الصدقة هي ما يصدق به الانسان ربه ، فلانه الذي أمر و وعد بالثواب ينبعث الى الانفاق ، و سميت الصدقة صدقة لانها تثبت صدقة الايمان بالعمل و تثبته ، و لا تحصر في انفاق المال المستحب و الفرض ، انما تشمل كل الاعمال الصالحة ، و ان كان ظاهر السياق كما الكلمة يدلان على بذل المال ، و في الحديث : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " كل معروف صدقة الى غني او فقير " (1) و قال : " اماطتك الاذى عن الطريق ، و نهيك عن المنكر صدقة ، وردك السلام صدقة " (2) و من ذلك العام يخص الله القرض بالذكر ، و اذا كان للقرض الاجتماعي الذي يستهدف رفع حاجات الناس ميزة على سائر الانفاق ، فان الانفاق في الجهاد ارفع درجة و اسمى ، حيث يبدو ان التفريق بين الانفاق قبل الفتح و بعده في القرآن اشارة الى هذا النوع من الانفاق ، حيث انه قبل الفتح يستهدف اقامة حكم الله ، بينما يستهدف الانفاق بعده بناء المجتمع .
[ و اقرضوا الله قرضا حسنا ]
قال بعضهم : " اي و اقرضوا الله تعالى قرضا حسنا بالصدقة و النفقة في سبيل الله جل جلاله ، ( و ) عن الحسن : " اي كل ما في القرآن من القرض الحسن فهو التطوع " ، ( و ) قيل اي هو العمل الصالح من الصدقة و غيرها محتسبا صادقا ، ( و ) قيل اي انفقوا في سبيل الله تعالى لاعلاء كلمة الحق ، و تحطيم اركان الباطل ( ثم اضاف ) اقول : و الأخير هو الاظهر ، و عليه اكثر المفسرين " (3) و بضميمة الروايات المتقدمة في معنى القرض الوارد في الأية ( 11 ) التي جاءت بعد الكلام عن الانفاق(1) بح / ج 96 / ص 122 .
(2) بح / ج 75 / ص 50 .
(3) تفسير البصائر / ج 44 / ص 97 .
و القتال و الفتح يتأكد هذا المعنى .
[ يضاعف لهم ]
بركة من الله ، ذلك لان التكافل الاجتماعي يدور الثروة ، مما يؤدي الى بناء المجتمع اقتصاديا و حضاريا ، قال تعالى : " و ما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فاولئك هم المضعفون " (1) ، اضف الى ذلك حب الناس و احترامهم و دعاءهم في الدنيا ، و في الآخرة الثواب ، فقد روي عن الامام الصادق ( ع ) انه قال : " على باب الجنة مكتوب : " القرض بثمانية عشر و الصدقة بعشرة " (2) .
[ و لهم أجر كريم ]
[ 19 ] اما الباب الاوسع للدخول الى مقام الصديقين و الشهداء فهو التسليم نفسيا و عمليا لله و لرسله و القيادات الرسالية من بعدهم ، و اساسا الايمان و الانفاق يتكاملان ، و يكملان شخصية الانسان الربانية ، و لا يكفي احدهما دون الآخر ، ومن هذا المنــطلق يأتي التلازم الكثير في القرآن بينهما كما في الآية السابقة من هذه السورة ، او بصيغ تختلف كالايمان و الجهاد او العمل الصالح . و لعل التعرض لموضوع الايمان بعد التحريض على التصدق و القرض تأكيد على انهما لا ينفكان عن بعضهما .
[ والذين آمنوا بالله ]
ايمان تسليم مطلق للحق و عمل صالح مخلص بما في رسالته يستمر مع الانسان حتى الموت ، و لا يمكن لاحد ان يحقق ذلك الا بالطاعة للقيادات الرسالية انبياء(1) الروم / 39 .
(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 239 .
و رسلا و ائمة و من يمثل خطهم في الحياة قال تعالى : " يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله و اطيعوا الرسول و اولي الأمر منكم " (1) لانهم حجة الله ، و بابه الذي يؤتى منه ، و الانتماء اليهم و التسليم لقيادتهم جزء لا يتجزا من الايمان الحق ، الذي يرفعالانسان الى درجة الصديقين و الشهداء ، و هل يصدق الايمان الا تولي الأوليا و التجرد عن كل قيادة سواهم ؟ ! و هل تتم شهادة الامة الوسط الا بشهادة الرسول عليها ؟ ! ... لذلك عطف الله على الايمان به برسله قائلا :
[ و رسله ]
كلهم لان مسيرتهم واحدة متكاملة ، و ما جاؤوا به من القيم و بينوه من العظات و جسدوه من السير الصالحة ذخر للحضارة ينبغي للبشرية و بالذات المؤمنين ان ينتفعوا به ، و ان كانت الطاعة العملية تبقى للرسول فيما تناسخ من الشرائع ، و انما تتابعت الرسالات لتكميل المسيرة .
و لعل الحكمة في التأكيد على الايمان بالرسل جميعا انه حيث انتقد انفا أهل الكتاب و بين انحرافهم كان من الممكن ان تنصرف بعض الاذهان الى ان الطعن متوجه الى الرسالات ، فأزال السياق هذه الشبهة بالتأكيد على ضرورة الايمان بها جميعا . و اذا ارتفع بشر الى مستوى الايمان المتقدم بيانه صار صديقا او شهيدا و شملته اشارة القرآن :
[ اولئك هم الصديقون و الشهداء عند ربهم ]
و نقرا في آية اخرى " و من يطع الله و الرسول فاولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن اولئك رفيقا " (2) و اي تجمع(1) النساء / 59 .
(2) النساء / 69 .
انبل من هؤلاء و اقرب الى الله ؟ بالطبع اختلف المفسرون و القراء عند هذه الآية فوقف بعضهم عند كلمة " الصديقون " ، و اعتبر الواو في قوله تعالى : " و الشهداء " للاستئناف فالحق " عند ربهم لهم اجرهم و نورهم " بالشهداء واوقفه عليهم ، و الذي يظهر انه منصرف الى الاثنين ( الصديقون و الشهداء ) ، لان الشهادة في القرآن ليست منصرفة الى القتل بالسيف و انما هي تنصرف لكل من وافاه اجله مؤمنا بالله و رسلــه متحملا لمسؤوليته الرسالية و هي بمعنى الشهود و الحضور و الميزان و التأثير .
روى العياشي عن منهال القصاب قال : قلت لابي عبد الله ( عليه السلام ) ادع الله ان يرزقني الشهادة فقال : " ان المؤمن شهيد ، و قرأ هذه الآية " (1) و عن الحارث بن المغيرة قال : كنا عند ابي جعفر ( عليه السلام ) فقال : " العارف منكم هذا الامالمنتظر له ، المحتسب فيه الخير ، كمن جاهد و الله مع قائم آل محمد بسيفه ، ثم قال : بل و الله كمن جاهد مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بسيفه ، ثم قال الثالثة : بل و الله كمن استشهد مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في فسطاطه ! و فيكم اية من كتاب الله . قلت : و أية آية جعلت فداك ؟ قال : قول الله : " و الذين آمنوا بالله و رسله اولئك هم الصديقون و الشهداء عند ربهم ، قال : صرتم و الله شهداء عند ربكم " . (2) و قال الصادق ( ع ) : " نزلت هذه الآية في المهاجرين الذين أخرجهمأهل مكة من ديارهم وأموالهم " (3) .
ان تصديق الشهادة الحقيقية يتجلى في الايمان بالله ، و الطاعة للقيادة الرسالية ، لان المهم ان يكون الانسان في خدمة الدين ليكون صديقا او شهيدا ثم لا يهم اين(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 244 .
(2) المصدر .
(3) المصدر / ج 3 / ص 503 .
يكون ، فقد يكون دوره ضمن اجهزة الانظمة الفاسدة و مؤسساتها لاغراض تعلمها القيادة كما فعل مؤمن آل فرعون و فعلت زوجته آسية ، و قد يكون مشغولا بالقراءة و التأليف ، او سائحا في البلاد لمصلحة العمل ، او ما اشبه .
[ لهم أجرهم و نورهم ]
اما الاجر فيتمثل في الآخرة بالجنات ، اما في الدنيا فقد يتجلى في النظام الحياتي المتكامل بماله من معطيات حضارية كريمة . و اما النور فيتمثل في الآخرة بالضياء الذي يفقده الناس في المحشر ، اما في الدنيا فهو ذلك الهدى الذي يمشي عليه المؤمن في كل حقول الحياة .
[ و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا اولئك اصحاب الجحيم ]في الدنيا لانهم كذبوا بالرسالة التي تشتمل على النظم و المناهج لابعاد الحياة السعيدة ، بينما اختاروا الانظمة الفاسدة التي لا ينتج عنها الا الدمار و الانحطاط و العذاب ، و في الاخرة لان الطريق الذي اختاروه يهديهم الى النار .
[ 20 ] و حيث ان حب الدنيا رأس كل خطيئة ، فان الموقف الخاطىء تجاهها يسلب الانسان خشوع القلب ، و يجره الى الفسوق ، و لكن الدنيا في ذات الوقت مزرعة الانسان للآخرة و فرصته التي يحدد فيها مستقبله الابدي ، فلا بد ان يتخذ منها موقفا سليما ، و هذا ما تعالجه بقية آيات هذا الدرس التي تبصرنا بحقيقة الدنيا ، و رسالة الانسان فيها ، و موقف المؤمن منها .
|