يسلط رسله على من يشاء
هدى من الآيات هاجر النبي ( صلى الله عليه وآله ) الى يثرب ، ليتسنى له ان يبنى في جو من الاطمئنان حركته الحضارية ، و يعد المؤمنين للدور التاريخي الهام الذي ينتظرهم . و لكنه وجد مدينته محاطة بمجاميع من الاعداء لا يقلون خطرا عليه و على الرسالة من طغاة قريش ، و هم بنو النضير ، و بنو قريضة ، و بنو قينقاع من قبائل اليهود ، و قد اهمهم الدين الجديد باعتبارهم اصحاب رسالة سابقة ، و اعتبروه خطرا على مصالحهــم و كيانهم ، و ربما يدفعهم العداء مع دين الاسلام الى الدخول في الحرب ضده .
و حيث لا تغيب هذه الحتميات عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) فقد سعى لإبرام المعاهدة الامنية معهم لتحييدهم ، و ليتوجه الى بناء الامة الجديدة ، و اعدادها لدورها الحضاري .
و لكن اليهود نقضوا العهد عداوة لله و لرسوله ، و حسدا من عند انفسهم ، و كان ذلك ان اتاهم رسول الله يستلفهم دية رجلين قتلهما رجل من اصحابه ، و كان بينهم كعب بن الاشرف ، فلما دخل على كعب قال : مرحبا يا ابا القاسم و اهلا ، و قام كأنه يصنع له الطعام ،و حدث نفسه ان يقتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) و يتبع اصحابه ، فنزل جبرئيل فاخبره بذلك ، فرجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الى المدينة ( و قيل : انهم قالوا : نعم . يا ابا القاسم ! نعينك على ما احببت ، ثم خلا بعضهــم ببعض ، فقال ( كعب بن الاشرف ) : انكم لن تجدوا الرجل على مثل حالته هذه ، و رسول الله الى جانب جدار من بيوتهم قاعد ، فقالوا : من رجل يعلو على هذا البيت يلقي عليه صخرة ، و رسول الله في نفر من اصحابه فأتاه الخبر من السماء بما اراد القوم ، فقال و قال لاصحابه : " لا تبرحوا " فخرج راجعا الى المدينة ، و لما استبطأوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) قاموا في طلبه .. حتى انتهوا اليه فاخبرهم الخبر بما ارادت اليهود من الغدر و أمر رسول الله ( صلى الله عليه وأله ) محمد بن مسلمة بقتل كعب بن الاشرف ( فقتله ) واخذ رأسه " (1) .
و عــزم ( صلى الله عليه واله ) على قتالهم لما وجده فيهم من العداوة و الغدر ، بالذات و قد علم بالطابور الخامس للمنافقين الذي يتصل بهم فقال لمحمد بن مسلمة الانصاري : " اذهب الى بني النضير فاخبرهم : ان الله عز وجل قد اخبرني بما هممتم به من الغدر، فاما ان تخرجوا من بلدنا ، و اما ان تاذنوا بحرب " فقالوا : نخرج من بلادك ، فبعث اليهم عبد الله ابن ابي ( راس النفاق ) : لا تخرجوا ، و تقيموا ، و تنابذوا محمد الحرب ، فاني انصركم انا و قومي و حلفائي ، فان خرجتم خرجت معكم ، و ان قاتلتم قاتلت معكم( و كان يطمع في غلبتهم على المؤمنين لما فيه من المصلحة المادية له و لاعوانه ) فاقاموا و اصلحوا بينهم حصونهم ، و تهيأوا(1) مجمع البيان / ج 9 / ص 257 .
للقتال ، و بعثوا الى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : انا لا نخرج فأصنع ما انت صانع ، فقام رسول الله ، و كبر و كبر اصحابه و قال لامير المؤمنين ( عليه السلام ) : تقدم على بني النضير ، فاخذ امير المؤمين الراية و تقدم ، و جاء رسول الله ( صلى الله عليهوآله ) و احاط بحصنهم ( يحاصرهم اقتصاديا و معاشيا و اجتماعيا ليستسلموا ، و لكي لا يتصلوا بقريش فتدعمهم ) و غدر بهم عبد الله بن ابى ، و كان رسول الله اذا ظهر بمقدم بيوتهم حصنوا ما يليهم ، و ضربوا ما يليه ( حتى لا ينتفع به في شيء ) و كان الرجل منهم ممنكان له بيت حسن خربه ( كما تفعل الكثير من الجيوش حينما تنسحب من اي مدينة او منطقة ) و قد كان رسول الله امر بقطع نخلهم ( حتى لا يستفيدوا منها في اكل و لا تحصن ) فجزعوا من ذلك و قالوا : يا محمد ! ان الله يأمرك بالفساد ؟ ان كان لك هذه فخذه ، و ان كان لنافلا تقطعه ، فلما كان بعد ذلك قالوا : يا محمد ! نخرج من بلادك فاعطنا مالنا ، ( مما دل على ضعفهم و تنازلهم عن موقفهم السابق ) فقال : " لا و لكن تخرجون و لكم ما حملت الابل " فلم يقبلوا ذلك ، فبقوا اياما ، ثم قالوا ( و قد ضعفوا و تنازلوا اكثر ): نخرج و لنا ما حملت الابل ، فقال : " لا و لكن تخرجون و لا يحمل احد منكم شيئا ، فمن وجدنا معه شيئا في ذلك قتلناه " ( و كان هذا الموقف الحازم و المتصلب من القيادة الرسالية يؤكد في نفوسهم الضعف و قوة المسلمين ) فخرجوا على ذلك ، و دفع منهم قومالى فدك ، و وادي القرى ، و خرج قوم منهم الى الشام " (1) .
و تحققت للرسول بذلك ثلاثة اهداف : قضاؤه على عدو خطير اولا ، و قطع دابر المنافقين المعتمدين عليهم و آمالهم ، و اضعاف جهتهم ثانيا ، و كسب الهيبة بين الاعداء المتبقين كقريش ثالثا ، و في البعد الاستراتيجي طهر شبه الجزيرة من الوجود اليهودي .
(1) تفسير القمي / ج 2 / ص 359 .
|