فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 20] لو اطلعت ضحى من فوق ربوة على مروج خضراء ، تحيط بها أشحار مثمرة ، و على اليمين منها ابتسم لك حقل من ورود متنوعة ، لابد أن جمال المنظر يشغلك عن تذكر الحقيقة التالية : أنه لولا ضياء الشمس الذي ينعكس على الطبيعة إذا ما ظهرت هذه الألوان الجذابة عليها . أليس كذلك ؟

وإذا تذكرت هذه الحقيقة عرفت آنئذ أن كل ورقة زاهية من هذه الورود و كل نبتة خضراء رائعة في تلك المروج علامة واضحة على وجود ضياء الشمس .

أصحاب البصائر يتذكرون هذه الحقيقة ، و ينفذون بعقولهم إلى غيب الواقعالمشهود فيما يتصل بخالق الطبيعة ، و يعرفون أن كل شيء في الخليقة آية ظاهرة لخالقها العظيم ، كما أن انعكاسات النور شاهدة على وجود مصدره ( الشمس ) ، و تعالى الله عن الامثال .

ومن هنا كانت آيات الله في الأرض تتجلى للمؤمنين بصورة أبهى و أسنى ، أما غيرهم فإن جمال المظهر يشغلهم عن ينبوع النور و الجمال و البهاء ، لأن نظرتهم قاصرة ، و همتهم محدودة ، فلا تتجاوز الحقائق الجزئية و الذاتية .

[ و في الأرض ءآيات للموقنين ]

المنهج القرآني الذي يكشف حجب العناد و الريب و الغفلة عن بصائر الناس ، و يجعلهم يتفكرون في غيب السماوات و الأرض ، ولا ينظرون فقط إلى ظاهر الحياة الدنيا ، بل يجعلون كل ظاهرة جسرا إلى غيبها ، وكل حدث نافذة إلى رحاب الحقيقة الأكبر منه .

بلى . هذا المنهج القرآني المعجز يصل الإنسان بالخليقة عبر جسر الإيمان ، حتى ليصبح كل شيء من حوله ناطقا يناجيه بسر الكائنات ، و يتناجى هو معه بلغة العارفين .

إن حقائق الخلق ، من حجر و شجر و أحياء .. من سحب تلبد السماء ، و غيث يسقي الأرض ، و عواصف و رعد و برق .. من أمواج البحر ، و شعاع الشمس ، و نور القمر ، إنها جميعا في وعي المؤمنين تجليات لأسماء الله ، و منافذ إلى غيب قدرته و حكمته .. رحمته و عزته .. جماله و جلاله .. فلا ينظرون إلى شيء إلا عبر هذه الرؤية ، مما يجعله مسبحا بحمد ربه ، ناطقا بآياته ، داعيا إليه ، يبث في روعهم حكمة الحياة ، و يعكس جمالها و جلالها ، و يهديهم إلى سرها العظيم .


فهم إذا نظروا إلى الأرض و حجم هذه الكرة الوحيدة التي تحتضن الحياة فيما نعرف من الكرات يتساءلون : ما الذي قدر حجمها ، و طبيعة حركتها حول نفسها و حول الشمس ، و المسافة المحددة التي تفصلها عنها .. حتى لو أنها اقتربت أو ابتعدت تباطأت أو تعجلت لما أمكن نشوء الحياة فيها أبدا ؟

و سمك الأرض بهذا القدر المحدد بدقة ما الذي نظمه حتى لو كانت أسمك عشرة بوصات لما وجدت مادة الأوكسجين الضرورية للحياة .. و لو كانت الحبار أعمق عدة بوصات من عمقها الحالي لابتلعت كل مافي الجو من هذه المادة الضرورية ؟

و كذلك الغلاف الواقي المحيط بأرضنا لو كان أدق قليلا مما هو عليه لكانت الأرض معرضة لملايين الشهب المتوجهة إليها من الفضاء الخارجي و لاستحالت الحياة عليها .. و الغازات المتنوعة التي نحتاج إلى كل واحد منها بذات النسبة الموجودة في الجو ، و التي تكونت عبر السنين المتطاولة من مصادر عديدة . أليست شاهدة على حكمة المدبر سبحانه ؟ (1)[ 21] وإذا عدت إلى نفسك التي هي خلاصة مباركة لكل ذلك العالم الكبير الواسع ، فإنك تجد آفاقا من العلم لا تحد ، و شواهد لا تحصى على حسن التدبير لخالقها الرحمن ، و لكننا بحاجة إلى بصيرة نافذة لكي لا تحجبنا حاجات الجسم العاجلة المحدودة عن الغور في أعماقها الزاخرة بالمعرفة و الحب و الأحاسيس الزاكية .

[ و في أنفسكم أفلا تبصرون ]


(1) راجع تفسير نمونة ( بالفارسية ) ج 22 / ص 331 - 332 .


كيف لا نبصر ما في أقرب الأشِياء إلينا ، و هل يستحق الاكرام من يغفل عن آيات الله في ضميره و وجدانه .. في عواطفه الخيرة .. في إرادته الماضية .. في عقله الوقاد .. في تركيبة عينه و إذنه .. في أعصاب دماغه .. في حلقه و ما أطبقت عليه شفتاه من لسانه ذيالوظائف المتعددة ، إلى أضراسه و أسنانه ، إلى حلقه و بلعومه ؟

دعنا نتفكر قليلا في هذه الشبكة المعقدة من الأعصاب ، و هذه المنظومة الواسعة من الأوردة و الشرايين التي تقدر بعشرات الألوف من الكيلومترات .. والى هذا الحشد الهائل من الخلايا التي تقدر بشعرة ملايين مليار ، و كل خلية عالم عظيم تعكس آيات الصنع الالهي .
أو تدري ان الخلية الواحدة هي في الواقع مدينة صناعية ضخمة بحيث لو استطاع الانسان فرضا تقليدها لكان عليه ان يبني مصانع في ساحة ألف هكتار يزرعها بمختلف الاجهزة المعقدة و المتطورة ؟ (1) ، و لكن أين تلك البصيرة التي تنفذ الى أعماق وجود الانسان لعلها تهتديالى بعض آيات الله العظيمة .. و تؤمن بالبعث من بعد الموت من خلال الايمان بقدرة الله و حكمته ؟

[ 22] و بعد ذكر الأرض و آياتها ، و الإنسان وما فيه من تجليات القدرة ، يذكرنا السياق بالسماء و آياتها ، و كيف يرزقنا الله منها ، فهذا الغيث ألا ترى كيف يتنزل من السماء برزق مبارك ، و هذه الأشعة التي تبث الينا من الشمس و النجوم وما فيها من فوائد عظيمة نعرف بعضها و نجهل الكثير ؟ كلها آيات التدبير الدقيق . أفلا نتذكر ؟

[ وفي السماء رزقكم وما توعدون ]

وفي السماء تلك الإمكانات المستقبلية التي يهدينا الرب إليها ففيها من البركات أضعاف ما ننتفع به حاليا كما فيها من النقمات ما ينبغي اتقاؤها بالعمل(1) راجع المصدر / ص 333 .


الصالح ، و يبدو أن الآيات التالية تأويل لهذه الكلمة ، حيث أن ربنا سبحانه قد وعد - و وعده الصدق - ابراهيم بأن يرزقه ذرية كما أوعد قوم لوط بالعذاب فجاءته الملائكة بها جميعا .

و قال البعض : معنى " وما توعدون " الجنة جعلها الله في السماء . و لعل هذا صحيح في بعض رياض الجنة أما الجنة جميعا فعرضها كعرض السماوات و الله العالم .

وفي الاية تفسير آخر : هو ان الله قد قدر عنده في السماء ( الجهة الاعلى ) كل أرزاق العباد فلماذا الحرص و التكالب ؟

بلى . السعي واجب ولكن الفرق كبير بين السعي و راء الرزق بل و حتى الكد و الكدح من أجله و بين التهالك عليه ( الذوبان في بوتقته ) حتى لا يكون لدى المرء هم سواه ، فتمسخ شخصيته ، و تختصر انسانيته في آلة اقتصادية ، كلا .. ان للانسان تطلعات سامية و انما الرزق وسيلة البلوغ اليها فقط . لذلك جاء في الحديث الماثور عن النبي صلى الله عليه و آله أنه قال : " الرزق لا يجره حرص حريص ولا يصرفه كره كاره " (1) .

بل اننا نجد ان الرزق يرتبط بجوانب عديدة من حياة الانسان منها السعي و الكدح . فمن ألغى سائر جوانب حياته و اختصر نفسه في البحث عن الطعام لم يوفق فيه كيف ؟

أليست الأمة الجاهلية المفككة التي لا تهتم بالسياسة ولا تعي التطورات الكبرى في العالم ولا تتكامل عواطفها أدبيا وفنيا هذه أمة متخلفة ، و هل نصيب الأمة(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 126 .


المتخلفة غير الفقر و المسكنة حتى لو واصل أبناؤها الليل و النهار في طلب الرزق ؟

و كما في الأمة كذلك في الفرد فمن تدانت عزيمته و همته ، و ضاق أفق علمه و وعيه ، و ساءت أخلاقه و آدابه ، لم ينفعه اجتهاده في طلب الرزق ، بينما الآخر الذي تسامت همته ، و ازداد علمه و وعيه ، و حسنت أخلاقه و آدابه اكتفى بقليل من الجهد المركز ، و حصل علىالكثير من المكاسب أليس كذلك ؟ من هنا جاء في الحديث الماثور عن الامام الصادق عليه السلام :

" و الذي بعث جدي بالحق نبيا إن الله تبارك و تعالى يرزق العبد على قدر المروة ، و ان المعونة تنزل على قدر شدة البلاء " (1) ، و قال عليه السلام : " كف الأذى و قلة الصخب يزيدان في الرزق " (2) ، و روي عن الرسول صلى الله عليه و آله انه قال : " التوحيد نصف الدين ، و استنزل الرزق بالصدقة " (3) و اخطر ما في التهالك على طلب الدنيا انه يشغلك عن ذكر الله ، و التسامي الى قربه ، و النظر الى آيات قدرته في نفسك و الخليقة ، و الاجتهاد في طلب الآخرة التي هي دار مقرك .

و كلمة أخيرة :

لان ما وعدنا الله من رحمته في السماء فقد أمرنا بالتوجه اليها عند الدعاء . جاء في حديث مأثور عن أمير المؤمنين عليه السلام انه قال :

" اذا فرغ أحدكم من صلاته فليرفع يديه الى السماء ، و لينصب في الدعاء " . فقال ابن سبا : يا أمير المؤمنين أليس الله في كل مكان ؟ قال : " بلى " . قال : فلم يرفع يديه الى السماء ؟ فقال : " أو ما تقرأ : " وفي السماء رزقكم وما


(1) المصدر ص 125 .

(2) المصدر ص 126 .

(3) المصدر .


توعدون " فمن أين تطلب الرزق إلا من موضع الرزق ، و موضع الرزق وما وعد الله عز وجل السماء " (1) .

[ 23] أقرب الأشياء اليك نفسك ، و تتجلى النفس لذاتها حين تفكر ، و أعظم لحظات التفكر هي عندما تنطق ، و اذا قال بعضهم : أنا أفكر فاذا أنا موجود . و قال آخر : الانسان حيوان ناطق فلأن التفكر حالة يقظة النفس لذاتها ، أما النطق فهو ذروة هذه اليقظة . و قديشك العقل في معطيات الحواس لان بعض أحاسيس الاذن طنين الدم من داخل البدن ، و البصر قد يزيغ واليد قد تصاب بالبرد دون سبب خارجي . أما النطق فلا يشك العقل فيه لانه من أعظم آيات الله في البدن ، و من أصعب الفعاليات عند البشر ، حيث يشترك فيه الجسم و الروح معا . انه قمة الوعي عند الإنسان ، لا يشك فيه أحد حتى المثاليون و السوفسطائيون يزعمون بأنهم على يقين من أنهم ينطقون ، و على ثقة بما يقولون .

من هنا يحلف القرآن يمينا برب السماء ان وعد الله حق ، و أن البعث و النشور حق ، كما أن نطق الانسان حق عند نفسه .

[ فورب السماء و الأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ]و حين يكون القسم برب السماء و الأرض يكون أقرب الى وعينا - نحن البشر - لأننا نعرف شيئا من ضخامة السماء و الأرض ، فلابد أن نهتدي بذلك إلى بعض جوانب قدرة الرب و تدبيره اذا عرفنا انه - سبحانه - هو رب السماء و الأرض .

ثم يكون التأكيد بالغا حيث يضاف الى القسم ان ولام التأكيد ، و يشتد التأكيد بأن يضرب له مثل الحق بحالة النطق .


(1) المصدر / ص 124 .


و قال البعض : ان النطق هو سمة أساية في حضارة الإنسان ، فمن دونه كيف كانت التجارب تنتقل من شخص لآخر ، و من جيل لجيل ناشىء .

و قالوا : ان القسم هو على ضمان الرزق و على استجابة الدعاء اللذين ذكرا في الآية السابقة ، و يبدو لي أنه على كل الحقائق التي تواصلت في الآيات السابقة و أبرزها حقيقة الجزاء في الدنيا و الآخرة .

[ 24] و هذا مثل ظاهر لما في السماء من رزق و من وعد مستوحى من قصة إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) حينما جاءته الملائكة يبشرونه باستجابة دعائه في نفسه ( بغلام ) و في قوم لوط ( بإهلاك الكافرين ] .

إن استجابة الدعاء في الذرية التي نزلت بها الملائكة كانت أعظم نعمة ينزلها الله على بشر ، فلقد و هب الله له غلاما زكيا يرفع اسمه ، و يصبح امتدادا لرسالته كما أن الوعد بإهلاك قوم لوط كان أعظم ما ينتظره الرسول بعد أن يكمل رسالته .

[ هل أتاك حديث ضيف إبراهيم ]

ان الضيافة كانت جانبا هاما من ثقافة العرب ، و كانت للضيف مكانة خاصة عندهم ، و لعله لذلك يتخذه القرآن وسيلة لبيان الحقائق التاريخية ، و يقول عن ضيوف إبراهيم :

[ المكرمين ]

لقد أكرمهم إبراهيم بضيافته و خدمته لهم .

[ 25] [ إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلاما ]


حينما دخلوا عليه قالوا : سلاما ، فرد سلامهم قائلا : سلام ، و كأنهم استأذنوه فأذن لهم . و لكنه لم يعرفهم ، فقال لهم : انا لا نعرفكم أو أسره في نفسه .

[ قوم منكرون ]

حيث نظر اليهم فعرف بأنهم ليسوا من أهل بلده ، و لعل صورهم لم تكن مطابقة مع صور البشر ، انما كانوا يشبهون البشر فقط .

[ 26] بعد ذلك جلسوا ، فتسلل نبي الله الكريم الى أهله :

[ فراغ إلى أهله ]

أي ذهب بخفية . و هذه من الآداب التي تتعلق بإكرام الضيف ، اذا ليس من اللائق أن يقول المضيف لضيفه : أتأكل كذا ، او ماذا تشرب ؟

[ فجاء بعجل سمين ]

جلب لهم عجلا قد شوي على النار ، و لعله فعل ذلك بالرغم من قلة عدد الضيوف ( 3 أو 4 أو على الأكثر 9 ] لمزيد من الاكرام ، أو لانهم كانوا ضخاما ، أو لكي يطعم بفاضل طعامهم سائر المساكين ، و هذا كان ولا يزال من سنن الكرماء .

[ 27] [ فقربه إليهم ]

و دعاهم الى الطعام ، فلم ير أيديهم تصل الى العجل .

[ قال ألا تأكلون ]

[ فأوجس منهم خيفة ]


و لعل السبب في إحساسه بالخوف منهم انه كان من عادة من يضمر شرا ألا يأكل من بيت عدوه حتى لا يتصف بالغدر .

و هكذا قالوا : من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك .

[ قالوا لا تخف ]

وما لبثوا أن بشروه بتحقق أمنيته التي كادت تخيب لكبر سنه . و قد جاءت البشارة بعد الخوف ليكون أبلغ أثرا و أحلى .

[ و بشروه بغلام عليم ]

و يبدو أن الغلام ليس مجرد الذكر من الأولاد - حسب بعض علماء اللغة - بل " يلحظ في المادة معنى أخص من النشاط لما هو أصل الحياة ، فيقال : غلم كفرح : هاج شهوة ، و الغلمة : شهوة الضراب ، و من هذا يطلق الغلام على الفتى الذكر الطار الشارب ، لاكتمال حيويته " (1) .

و إذا صح هذا التفسير فقد بشرته الملائكة بولد ذكر ، يرعاه الرب حتى يبلغ أشده ، و لعل وصفه بـ " عليم " يدل على ذلك ، إذ من المعروف أن الغلام لم يولد عليما ، بل نمى حتى أضحى كذلك عندما أصبح غلاما .

يا لها من بشارة كبرى لمن بلغ من العمر عتيا ، و حسب التوراة ، و بعض المفسرين : كان قد جاوز سنه المائة ، أما زوجته سارة فقد بلغت التسعين .

انه قد قضى عمرا ممتدا ، يدعو إلى ربه و لم يؤمن به إلا قليل ، و الآن حيث يكاد يودع الحياة لا يفكر إلا فيمن يحمل مشعل الدعوة ، و يحقق آمال داعية التوحيد(1) معجم ألفاظ القرآن الكريم الصادر عن المجمع العلمي / ج 2 / ص 272 .


الكبير الذي كاد يكون وحيدا في عالم كان يغوص في دنس الشرك ، و ظلام الجاهلية .

يا لها من بشارة عظيمة : ان يستجيب الرب لعبده رأفة به ، و تخليدا لذكره في الآخرين ، فيرزقه ولدا يرعاه حتى يصبح غلاما و يعلمه حتى يضحى عليما .

[ 29] و سمعت زوجته ( سارة ) بهذه البشارة ، ربما لقربها من الضيوف حيث كانت تخدمهم ، أو لأنها جاءت اليهم فأخبرت بها .

[ فأقبلت امرأته في صرة ]

تصيح صياحا يشبه صوت الريح لما أصابها من فرحة مزيجة بالعجب !!

[ فصكت وجهها ]

أي ضربته - على عادة النساء العجائز عند مواجهتهن لمواقف لا يحتملنه - و عبرت عن عمق تعجبها من هذه البشارة العظيمة ..

[ و قالت عجوز عقيم ]

فهل ألد و أنا عجوز يائس ؟! بل كيف ألد و أنا امرأة عقيمة ، و لم أنجب في شبابي ؟!

[ 30] [ قالوا كذلك قال ربك ]

نعم هكذا قال الله القدير ، فالرزق ، و لأنه أراد إثبات هذه الحقيقة أنه وهب عجوزا عقيما غلاما عليما .

[ إنه هو الحكيم العليم ]


ولم يذكر القرآن شيئا عن رد فعل إبراهيم ( عليه السلام ) لماذا ؟ ربما لأن انجاب رجل كبير في مثل سنه ممكن عقلا بعكس امرأة عقيم في مثل عمرها ، و الدليل على ذلك أن ابراهيم (ع) تزوج بهاجر فأنجبت له اسماعيل (ع) .

و المعروف أن الولد كان ( اسحاق ) و تدل على ذلك الآية المباركة : " فبشرناه بإسحاق " .

و هذه الحادثة توحي ببصائر ثلاثة :

أولا : إن الله قادر على تغيير ما نعرفه من السنن بقضائه النافذ ، و حكمه الذي يرد .

ثانيا : إنه يستجيب دعاء من دعاه بفضله و بوسائل غير معروفة لدينا ، و علينا ألا نقنط من رحمته في أشد حالات الأزمة ، و ألا نحرص على الدنيا خشية المستقبل فهو الرزاق ذو القوة المتين .

و الى هذا تشير الرواية المأثورة عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : " قال : خرجت حتى انتهيت إلى هذا الحائط ، فاتكيت عليه ، فاذا رجل عليه ثوبان أبيضان ، ينظر في وجهي ، ثم قال لي : يا علي بن الحسين ! مالي أراك كئيبا حزينا ؟! أعلى الدنيا حزنك فرزق الله حاضر للبر و الفاجر ، فقلت : ما على هذا أحزن ، و إنه لكما تقول ، قال : يا علي بن الحسين ! هل رأيت أحدا سأل الله عز وجل فلم يعطه ؟! قلت : لا ، قال : نظرت فاذا ليس قدامي أحد " (1) .

ثالثا : إن كل ذلك دليل يهدينا الى البعث بعد الموت . أليست العقبة الرئيسية عند الكفار به هي جهلهم بقدرة الله على إحياء الموتى ، او خرق الأنظمة السائدة على(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 126 .


الخليقة ، فهذه القصص تزيل عنهم هذه العقبة ، مما يمهد الطريق أمامهم للإيمان بالآخرة .

[ 31] بشارة إبراهيم (ع) بالغلام العليم جانب من وعد الله ، أما الآخر فهو عذاب الإستئصال الذي صب على قوم لوط .

و حين عرف إبراهيم الملائكة سألهم عن الأمر العظيم الذي نزلوا من أجله ، اذ حسب نص مأثور عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : " كانوا أربعة أملاك : جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و كروبيل عليهم السلام " (1) . و مثل هؤلاء لا ينزلون إلا لخطب جلل .


[ قال فما خطبكم أيها المرسلون ]

لابد انكم تقومون بعمل عظيم في الأرض فما هو ؟

[ 32 - 33] [ قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين * لنرسل عليهم حجارة من طين ]و نتساءل أولا : ما هو هذا الطين ؟ .. هل هو ذلك الطوب الذي بنيت به مدينتهم باعتبار ان المدينة قد ارتفعت ثم هبطت مرة أخرى ساعة تدميرهم ؟ أم هو حمم بركان تفجر عليهم فشبهت بالطين ؟ أم أصل الحجارة التي أهلكوا بها كانت من الطين ؟ .. لا ندري بالضبط ، و لكن الظاهر من الآية أنه ذات " السجيل " التي جاءت في آية أخرى ، و التي قالوا : انها معربة فارسية و أصلها ( سنك كل ] أي حجارة من الطين ، و الأقرب انها قطعات من طين متصلب و متحجر .


(1) المصدر / 127 .


ثانيا : ماذا كانت جريمتهم التي استحقوا بها ذلك العذاب الشديد ؟ يبدو انهم كانوا قد تدرجوا في عدة مراحل ، حتى بلغوا الدرك الأسفل ، و الذي مثل في الشذوذ الجنسي ، اما غيره فقد جاء في الحديث : " انهم لم يكونوا يتنظفون من الغائط ولا يتطهرون من الجنابة ، بخلاء ، أشحاء على الطعام " (1) .

[ 34] و ان هذا الهبوط المستمر كان بسبب إسرافهم المقيت .

[ مسومة عند ربك للمسرفين ]

يبدو من هذه الآية ان الاسراف ينتهي بالإنسان الى الجريمة ، فهو يسرف حتى يستوعب حقه ، فيبادر على الإعتداء على حقوق الآخرين ، و في الحديث عن الامام علي عليه السلام : " ما رأيت نعمة موفورة إلا و الى جانبها حق مضيع " لان من ياكل أكثر من حقه ياكل - و بشكل طبيعي - حقوق الناس ، و الحجارة التي أصابتهم كانت مسومة ، قد عرفت باسمهم ، و لعل كل حجارة كانت بإسم واحد منهم ، فلم تكن تطيش هنا و هناك ، لأنها كانت مسجلة بإسمه و حسب جريمته .

[ 35] و كما كانت مسومة باسم المجرمين كانت بعيدة عن المؤمنين الذين أخرجوا من تلك البلاد .

[ فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين ]

و لكن من كان فيها من المؤمنين ؟

[ 36] [ فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ]

[ 37] و بعد أن خرجوا من تلك القرى ، أرسل الله الحجارة المسومة ، فأهلكتهم .


(1) المصدر / ص 129 .


أين كانت قرى قوم لوط ؟ يقال انها واقعة اليوم في الأردن ، على مقربة من البحر الميت ، و انها كانت تسمى بـ : ( سدوم ) ، و أنها هي المؤتفكات أي القرى المنقلبة .

و يقال ان ابراهيم ( عليه السلام ) الذي بعث لوطا الى تلك القرى ليدعوهم الى ربهم كان يسكن في مدينة ( حبرون ) قريبا من ( سدوم ) و قد شاهد آثار العذاب حين نزل عليها .

و يزعم البعض : ان بعض الآثار قد ظهرت في قاع البحر الميت ، مما يدل على أنه يغطي قرى قوم لوط ، ولا ريب ان تلك المناطق تشهد بذلك العذاب الرهيب ، الذي نزل بأولئك المجرمين ، بيد أن هذه الآثار كثيرة في أرضنا ، و ان عبرها كافية للإنسان ليرتدع عن غيه ، بيدأن أكثر الناس في غفلة منها ، و إنما يتعظ بها الخائفون من عذاب الله .

[ و تركنا فيها ءاية ]

علامة بينة بما وقع فيها ، قيل : أنها آثارهم في القرية الخربة ، و قال البعض : إنها الحجارة المسومة ، و يظهر من حديث مأثور عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن جبرئيل ( عليه السلام ) أن الآية بيت لوط حيث قال وهو يروى كيف دمر بأمر الله تلك القرى :

" و إني نوديت من تلقاء العرش لما طلع الفجر : يا جبرئيل ! حق القول من الله ، تحتم عذاب قوم لوط فاهبط إلى قرية قوم لوط وما حوت فاقلبها من تحت سبع أرضين ، ثم اعرج بها إلى السماء فأوقفها حتى يأتيك أمر الجبار في قلبها ، ودع منها آية بينة من منزل لوط عبرة للسيارة " (1) .


(1) المصدر / ص 128 .


حقا : إنها آية بينة أن تدمر كل تلك القرى شر تدمير و يبقى بينهما بيت واحد عبد الله فيه سالما . أولا يهدينا ذلك إلى الدمار لم يكن بسبب زلزال طبيعي ، بل عذابا مقدرا لجرائم ارتكبوها ؟

[ للذين يخافون العذاب الأليم ]

أما الغافلون فهم لن ينتفعوا من مثل هذه الآية .

و هذه القصة تذكرنا بسنة الجزاء ، و أن الله لم يخلقنا عبثا ، و أنه سوف يحاسبنا ليجازينا ٍإن خيرا فخير و إن شرا فشر .

[ 38] و مثل آخر يهدينا إلى حقيقة المسؤولية و الجزاء أيضا نقرأه في قصة فرعون التي بقيت هي الأخرى آية بينة للناس .

[ و في موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين ]

لقد أرسل الله موسى إلى طاغوت عصره فرعون ، وزوده بسلطان مبين يتمثل في كلمة الحق و العصا و اليد البيضاء .

[ 39] و لكن ماذا كان جواب فرعون ؟

[ فتولى بركنه ]

كذب بموسى و سلطانه بكل وجوده وقواه سواء قوة جسده أو قوة جيشه .

[ و قال ساحر او مجنون ]

لقد احتار كيف يفسر حقيقة الرسالة إذا أنكرها ، فإذا كان صاحبه ساحرايبحث عن مال و مقام فلماذ يتحدى سلطانه ؟ لماذا لا يخضع له كما فعل سائر السحرة ؟ وإذا كان مجنونا فما هذه الحجة البالغة لديه و السلطان المبين ؟ ما هذه المعاجز التي تتوالى على يديه ؟

و هذا الترديد شائع عند كل الذين يكفرون بالحق ، و يعاندون أمام الحجج البالغة ، ذلك أن الحق يفرض نفسه على الساحة حتى لا يكاد أحد يقدر على التهرب منه .

[ 40] أنظر إلى عاقبة أمرهم ، لقد أخذهم الله بقوته فلم يقدروا على الفرار من جزائه العادل بمثل ما تهربوا من الحق الذي دعاهم إليه ، ثم ألقاهم في البحر كما ينبذ شيء يسير لا وزن له ولا قيمة .

[ فأخذناه و جنوده فنبذناهم في اليم ]

ولا يلام غيره . أفلم ينذره الله ، و أتم الحجة عليه فلم تنفعه شيئا ؟

[ و هو مليم ]

تلاحقه لعنة الله و الملائكة و الناس إلى يوم القيامة .

[ 41] و إذا تكررت صورة أخذ الطغاة و المجرمين فإن السنة واحدة ، و تلك السنة تصبح عبرة لمن شاء أن يعتبر ، ففي أرض الأحقاف الواقعة - حسب المفسرين - بين حضرموت و عمان كانت قبائل عاد تطغى و تفسد و تبطش بالناس كما الجبارون ، وجاءهم النذير فلم يستجيبوا له، فأرسل الله عليهم الريح لا لكي تلقح ثمارهم أو تحمل الغيث إلى أرضهم العطشى ، بل لكي تبيد ما أتت عليه من زرع و ضرع و إنسان و أثاث و بناء حتى لا تخلف وراءها شيئا فهي عقيم .


[ وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ]

و قالوا في معنى العقيم : أنه الذي لا ينتج غيثا ولا لقاحا . و لعل العقيم هو الذي لا يذر شيئا بعده فتكون الآية التالية تفسيرا له .

[ 42] و يبدو أن الإعصار كان نارا و سما ، و هكذا لم يدع شيئا قائما على حاله بل أباد الأرض وما عليها و جعلها رميما .

[ ما تذر من شيء أنت عليه إلا جعلته كالرميم ]

قالوا : من الرمة العظم البالي ، و الرمة الحبل البالي ، و الرم ما يقع على الأرض من التبن ، و قال : البعض الرميم الرماد ، و قال آخر : إنه الذي ديس من يابس النبات . إنه التراب المدقوق ، و قال ابن عباس : كالشيء الهالك البالي .

و يبدو لي أن الكلمة توحي بانعدام الشيء ، فإذا كان البناء يتهدم ، و إذا كان العظم أصبح مهشما ، و الحبل باليا ، و التراب رمادا لا حياة فيه .. و إذا صح هذا التفسير فإن تلك الأرض لا تصلح لإعادة الحياة فيها أبدا ، و هذا عاقبة طغيانهم و تحديهم لرسالات ربهم .

[ 43] و من جنوب الجزيرة العربية إلى شمالها حيث سكنت قبائل ثمود في منطقة ( حجر ) نقرأ ذات القصة ، و نجد ذات العبرة ، و تتجلى حقيقة المسؤولية و الجزاء .

لقد كفروا بالرسالات ، و تمردوا على رسولهم ، و عقروا الناقة ، فأمهلوا ثلاثة أيام ، فلم يقدروا على الفرار ، ولا نصرهم ما أشركوا به ، ولا نفعتهم الحيلة ، بل دمروا بالصاعقة شر تدمير .. و هكذا كانت في ثمود آية بينة .


[ و في ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين ]

قالوا : أنها الأيام الثلاثة التي أمهلوا فيها . و لعل المراد الفرصة التي سنحت لهم في الحياة الدنيا ، و الحرية المحدودة التي منحوا ليبتلي الله إرادتهم ، و لكنهم خالفوا رسوله بعقرهم الناقة التي كانت آية مبصرة لهم .

[ 44] [ فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ][ 45] و بالرغم من أن الصاعقة نزلت بهم بعد أن أنذروا بها ، و علموا بوقوعها ، و نظروا إليها بالعين المجردة ، فإنهم لم يقدروا على مقاومتها أو الفرار منها .

[ فما استطاعوا من قيام و ما كانوا منتصرين ]

فلا قدروا على مقاومتها بأنفسهم ، ولا كان يقدر أحد على نصرهم .

[ 46] العذاب الذي توالى على المجرمين في الدنيا نذير لنا بأن عذاب الله واقع ، و أن الجزاء حق لا ريب فيه ، و أنه لا أحد يستطيع أن يهرب من مصيره الذي يرسمه بعمله .

[ و قوم نوح من قبل ]

كذبوا بآيات الله فأخذهم بالطوفان و لم تبق منهم إلا العبرة .

[ إنهم كانوا قوما فاسقين ]

تجاوزوا حدود الله ، و فسقوا على أمره ، فاختطفهم العذاب و فقا لسنة الله التي لن تجد لها تبديلا .





فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس