فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 19 - 20] الجهل أرضية أكثر العقائد الفاسدة ، فلأن المشركين لم يعرفوا عظمة الله وآياته طفقوا يعبدون الأصنام ، و لذلك نجد القرآن بعد تأكيد علم النبي (ص) بربه من خلال الوحي يأتي على بيان فساد عقائد المشركين بالآلهة المزيفة التي عبدوها من دون الله ، بتوجيههم إلى العلم و تبصر الحقائق دون الإسترسال مع الأهواء ، و يقول مستنكرا هذا الضلال :

[ أفرءيتم اللات و العزى * و مناة الثالثة الأخرى ]و هي من أهم و أشهر الأصنام التي عبدها المشركون في الجاهلية ، فأما " اللآت " فقيل أنه صنم لأهل الطائف جعلوا له سدنة و كهنة و حجابا ، و زعموا أنه تأنيث لله سبحانه و تعالى ، و قالوا : إن كان لأهل مكة بيتا يزورونه و يطوفون حوله كل عام فنحن لنا هذا الإله ، و كانت قبيلة ثقيف التي تسكن الطائف تقدسهو تحترمه ، و أما " العزى " فقيل أنه تأنيث عزيز ، و هو شجرة بين الطائف و مكة يقدسونها و يعبدونها ، و قيل عن " مناة " أنه بين مكة و المدينة ( و لعل التعبير مستوحى من الأمنية ) و كانت قبيلتي الأوس و الخزرج و أخرى غيرهما يزورونه و يطوفون حوله ، و ربما كانوا يحرمون عنده في طريقهم إلى مكة المكرمة .

و المشركون عبدوا هذه الأصنام و لم يروا عليها برهانا قاطعا ، إنما نطقوا عن الهوى ، و اتبعوا الظن ، أما الرسول فهو على بصيرة من أمره ، و هدى من ربه ، إنه آمن بالله من خلال وحيه الذي تنزل عليه ، الذي كان من الدلالة و الحجية أن رآه متجليا فيه ، كما رآهمتجليا في مشاهدات المعراج .

[ 21 - 22] و ربما كان المشركون يعتقدون بأن هذه الأصنام هي رموز لملائكة في السماء ، فهم يقدسونها لكي تقربهم إلى تلك الملائكة ، و هي بدورها تشفع لهم عند الله ، كما قالوا : " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " (1) ، و حيث يعتقد الجاهلونبأن الملائكة إناث فقد سموا هذه الأصنام تسمية الأنثى و نسبوها إليه عز وجل ، و القرآن يستنكر هذه النسبة التي لا تقوم على أساس من العلم و الحق .

[ ألكم الذكر و له الانثى ]

و حيث يعتقد المشركون بأن الذكر أفضل من الأنثى فكان ينبغي على ضوء عقيدتهم أن يتقربوا إلى الله بالأحسن لا الأسوأ ، و من هذا المنطلق تكون قسمتهم ظالمة حتى حسب معتقداتهم الضالة .

[ تلك إذا قسمة ضيزى ]

بعيدة عن الحق ، و هم لم يروا الملائكة و لم يشهدوا خلقهم حتى يزعموا بأنهم(1) الزمر / 3 .


كانوا إناث ! ، و هنا تتضح منهجية القرآن ، فهو يحطم العقائد المنحرفة من بناها الأساسية ، و ذلك يزيل القدسية التي يعتقدونها في أصنامهم ، ببيان أظهر الأدلة على زيفهم و انحرافهم ، مع أن الأظهر قد لا يكون هو أهم الأدلة ، و قد لا يعبر عن كل الحقيقة ، و لكنهيحطم القدسية التي أضفوها على معتقداتهم و رموزها من الأصنام و الطغاة ، و بعد أن تزول عقبة القدسية الموهومة عن طريق النفس يتحرر الفكر ، و ينطلق للبحث عن الحقيقة ، فيطرح القرآن الحقائق الأعمق للنظر فيها .

[ 23] و بعد التمهيد المتقدم الذي استهدف إزالة قدسية معتقدات المشركين ينسف القرآن أفكارهم من أساسها نسفا ، و ذلك ببيان أنها لا رصيد لها أبدا من الواقع و الحق ، و أنها لا تقوم إلا على الأوهام و الظنون .

[ إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ]فهي لا واقعية لها ، بل هي مجرد أسماء و رموز لا مسميات لها ، و لعل معنى ذلك أن قوة هذه الأصنام نابعة من ظنونكم و أوهامكم ، لا من واقع حق وراء ذلك . أو ليس ما يتصوره البشر من صور خيالية قائمة بنفسه ، و يكفي لإزالتها مجرد توقف الخيال عن تصورها ؟

تصور الآن نهرا من لجين مذاب ، و اختر له إسما مثلا ( نهلجين ) ، ثم أوقف عملية التصور ، ماذا يبقى من هذا الذي سميته ( نهلجين ) ؟ لا شيء ، كذلك حين يوقف المشرك توهمه لقدسية الأصنام لا يبقى منها شيء ، و كذلك الطغاة ( وهي الأصنام البشرية ) تزول قوتهم وهيبتهم بمجرد إحساس المستضعفين بواقع أمرهم و انتزاع وهم القدسية عنهم . أليس كذلك ؟


ثم أن هذه الأسماء لا شرعية لها ، لأن الشرعية تأتي من عند الله وحده ، و ليس هناك دليل على أن الله أمر بعبادتها أو التوسل بها إليه .

و مجرد عدم وجود دليل ( و سلطان مبين ) من عند الله يسمح للإنسان بالتسليم لقوة سياسية ( صنم حجري أم بشري ) يكفي دليلا على حرمة هذا الأمر . أوليس الله قد خلقنا ، و نحن عبيده . أفينبغي للعبد أن يطيع غير مولاه ؟!

و إنما قال تعالى : " أنتم " و أضاف إليها " و آباؤكم " لكي يؤكد مسؤوليتهم هم عن انحرافهم ، و أنه لا يجوز إلقاء مسؤولية الإنحراف على آبائهم وحدهم ، و نستوحي من هذه الآية أن منهج المشركين الخاطىء خليط من أمور ثلاثة :

الأول : وراثة الضلالة من الآباء ، بينما الشرعية الحقيقية يأخذها الإنسان من ربه لا من آبائه .

الثاني : الظنون ، وهي الإفرازات السلبية للذهن البشري حينما تعمل فيه المؤثرات الخاطئة .

الثالث : أهواء النفس ، و دورها : أولا : التمهيد للظنون ، و ثانيا : ترسيخها كما ترسيخ ذلك التقديس الخاطىء للآباء ، لأنها تلتقي معه .

[ ان يتبعون إلا الظن و ما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ]و بالتدبر في هذه الآية وما سبقها يتضح لنا أن حركة الإنسان نحو الزيغ تبدأ من أهواء النفس ، الذي يتحول إلى تمني ، و التمني إلى ظن ( خيال ) ، ثم تتحول التمنيات إلى عقيدة و فكرة ، ثم يؤطر البشر ذلك برموز و أسماء يزعمها ، فالأصنامإذن ليست رموزا للملائكة ولا للقوى الطبيعية ، إنما هي تجليات للأهواء النفسية و المصالح المادية ، فحينما يحب الإنسان الثروة يحب الثري ، و يتخيل لهذا الحب رمزا و مذهبا ، ثم حينما يعبده فهو لا يعبد الصنم ولا الثري أو الثروة ، إنما يعبد أهواءه و شهواته ،و هكذا الذي يعشق الجمال أو الجنس ، و لو قمنا بدراسة تحليلية عن الأوثان و الأصنام التي عبدها الجاهلون في شبه الجزيرة العربية ، أو تلك التي علقوها في الكعبة ، أو الأخرى التي تقدس و تعبد هنا و هناك ، لخلصنا إلى نتيجة واحدة و هي أنها ترمز إلى قوى اجتماعيةو اقتصادية و سياسية أو ثقافات و تقاليد و أساطير عند أصحابها ، و أن عبادتها ليست إلا عبادة للأوهام و الأهواء المتجذرة في نفوسهم .

و هذا الضلال ليس نتيجة انعدام الهدى أو غموضه ، فقد جاءهم الهدى من ربهم ، و على لسان أفضل خلقه و أبلغهم وهم الأنبياء ، و لكنهم تركوا العقل إلى الجهل ، و العلم إلى الظن ، و الهدى اإلى الهوى .

[ 24] ولو تساءلنا عن سبب هذا الإختيار الضال لوجدناه محاولتهم التهرب من ثقل المسؤولية بالأعذار المختلفة التي جاءت السورة لعلاجها ، و يبدو أن السياق يمهد لذلك و يقربنا شيئا فشيئا منه ، فمن أهداف الرسالات الإلهية جميعا ترسيخ المسمؤولية ، و تعرية الإنسان من حجب التبرير و الأهواء التي يحاول أن يتخلص من المسؤولية باسمها .

[ أم للإنسان ما تمنى ]

التمني هو خداع الإنسان لنفسه بشيء جميل من خلال الظنون والأوهام التي يصنعها بتخيلاته ، فالجائع يتمنى الشبع فيتخيل القرص ، و العطشان يتمنى الإرتواء فيتوهم الأنهار الرقراقة ، و الشبق يتخيل نفسه يلصق بمعشوقته ، و هذه حالة طبيعية فيالإنسان ، تعطيه التوازن في الحياة ، و كلما كانت الحقائق و التطلعات التي يصبو إليها كبيرة و هامة كلما كانت تمنياته تأخذ أشكالا و أبعادا جديدة ، إلا أن المبالغة في التمني تضر به لأنه يخرجه من التعايش الواقعي مع الحياة إلى الأوهام و الأساطير ، و من السعي الجاد نحو الهدف إلى مجرد الظن و الهوى . أترى لو جلس أحد في بيته و تمنى وصول الرزق إليه هل يتحقق ذلك له ؟ و هكذا لو مشى في الدنيا خبط عشواء ، فإن مجرد تمنياته - المنطلقة من أهوائه و الظنون و المبنية على اعتقاده بالأصنام - لن تدفع عنه المشاكل و الويلات ، و لن تنقذه من العذاب ، بلى . للإنسان سعيه و عمله خيرا أو شرا ، و هذا ما سنجد الآيات تنتهي إليه كمحصلة نهائية لعلاج فكرة التمني ، قال الإمام الصادق (ع) : " تجنبوا المنى ، فإنها تذهب بهجة ما خولتم ، و تستصغرون بها مواهب الله جل و عز عندكم ، وتعقبكم الحسرات فيما وهمتم به أنفسكم " (1) .

[ 25 - 26] و بطلان فكرة التمني ليس مختصا بالآخرة وحسب ، بل يشمل الدنيا أيضا ، ذلك أن الله الذي خلقهما رسم خريطتهما ، و أركز فيهما سبلا و سننا واقعية تجريان على أساسهما ، و ليس على أساس الأحلام و التمنيات ، يقول تعالى : " ليس بامانيكم ولا أمانيأهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا " (2) .

[ فلله الأخرة و الأولى ]

الله هو الحق ، و هو الآمر به ، و سلطانه الدائم ، و تدبيره المهيمن ، و قضاؤه النافذ ، كل أولئك ضمانة لتنفيذ الحق رغم تمنيات البشر المعاكسة له ، و ليس في(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 242 .

(2) النساء / 123 .


ظل حكومة الله مجال لظنون الإنسان و تمنياته ، و من يزعم أنه يتخلص من سنن الله و حاكميته بالاعتماد على أمانيه فهو يخطىء ، لأنه ينازع الله في سلطانه سبحانه ، و لكي يعمل أمنياته لابد ان يخرج من سلطان الله ، و يبحث له عن حياة تغني فيها الأمنيات ، و لن يحصل ذلك لأن الحياة كلها له عز وجل ، أو يبحث له عن حكومة يمكنها أن تواجه سلطانه و إرادته ، و لن يجد إلى ذلك سبيلا ، و حتى الملائكة الموكلين بالطبيعة لا تغني شفاعتهم شيئا ، لأن قوتهم من الله و ليست ذاتية ، و هم لا يشفعون إلا لمن شاء و ارتضى .

[ و كم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا ]

لو افترض أنهم بادروا للشفاعة ، فكيف بتلك الأصنام ؟! بلى . أن شفاعتهم و الأولياء تنفع بإذنه تعالى ، و لأفراد مخصوصين يرضى لهم الله الشفاعة .

[ إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء و يرضى ]

و إذنه لا يحصل بسبب ضغط قوى أخرى ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، إنما يأذن بإرادته العليا ، كما أنه لم يجعل الشفاعة بعيدة عن القوانين و السنن التي خلق الحياة وفقها ، و من هذه القوانين أن يكون الشفيع مرضيا عنده .

و هكذا يحدد القرآن الشفاعة بحدين :

(أ) حد للشافع الذي لا يكون إلا من يرتضيه الله ، فلا تجوز الشفاعة أساسا إلا للأنبياء و الأولياء و الملائكة المقربين ، أما الأصنام الحجرية و البشرية فليست أهلا للشفاعة أبدا .

جاء في الحديث عن الرسول الأعظم (ص) :


" الشفاعة للأنبياء و الأوصياء و المؤمنين و الملائكة " (1)و عنه (ص) : " ثلاثة يشفعون إلى الله عز وجل فيشفعون : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء " (2) .

(ب) حد لمن يشفعون له ، فلا يشفه من وصل إلى درجة الشفاعة إلا لبعض الناس ممن يأذن الله له بأن تشمله الشفاعة وممن رضي الله عنه . قال عز وجل : " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " (3) .

وروى عن الإمام الصادق (ع) : " إعلموا أنه ليس بغني عنكم من الله أحد من خلقه شيئا ، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ، ولا من دون ذلك ، فمن سره أن ينفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه " (4) .

و عن الرسول الأعظم (ص) : " الشفاعة لا تكون لأهل الشك و الشرك ، ولا لأهل الكفر و الجحود ، بل يكون للمؤمنين من أهل التوحيد " (5) .

و عن الإمام الصادق (ع) : " لو أن الملائكة المقربين و الأنبياء المرسلين شفعوا في ناصب ما شفعوا " (6) .

ولا تنفي الآية بقوله تعالى " لا تعني " الشفاعة كليا ، و إنما تنفي حتميتها ، كما تؤكد على ضرورة أن لا تكون علاقة الإنسان بالغير حتى العباد المكرمين(1) بحار الأنوار / ج 8 / ص 58 .

(2) المصدر / ص 34 .

(3) الأنبياء / 28 .

(4) بحار الانوار / ج 8 / ص 53 .

(5) المصدر / ص 58 .

(6) المصدر / 42 .


كالملائكة والأولياء من الناس مضادة لعلاقته بربه ، ولا بديلا عنها ، بل امتدادا لها ، و قوله " : " لمن يشاء " يهدينا إلى أن الشفاعة قضية شخصية تتوجه إلى الإنسان الفرد بذاته بعيدا عن النظر الى انتمائه ، فقد ينتمي إجتماعيا إلى فريق الضالينو لكنها تناله و قد تفوته بالرغم من انتمائه إلى فريق المؤمنين ، و الذي يحدد الشفاعة هو علم الله النافذ إلى حقيقة الإنسان .

[ 27] ثم يقول تعالى :

[ إن الذين لا يؤمنون بالأخرة ليسمون الملائكة تسمية الأثنى ]و السؤال : لماذا يسمي المشركون الملائكة إناثا ، وما هي علاقة ذلك بالكفر بالآخرة ؟

لعلنا نجد الجواب في أن الأنثى رمز العطف و الحنان ، و هم يسمون الملائكة بذلك رجاء عطفهم و شفاعتهم لهم عند الله ، و بهذا الإعتقاد يحاول المشركون تبرير ممارستهم للذنوب في الدنيا ، و اقناع أنفسهم بإمكانية التخلص من مسؤولياتها في الآخرة بالتوسل بمن يعطف عليهم و هم الإناث من خلق الله وهم الملائكة حسب زعمهم ، و هذا كفر صريح بالآخرة كدار للجزاء العادل .

[ 28] [ وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن ]

وهو الإفرازات ( التصورات و الأفكار ) الناتجة من إعمال الإنسان لخياله بعيدا عن البراهين الواقعية .

[ و إن الظن لا يغني من الحق شيئا ]

و نفي البعض بنفي الكل ، و ليس العكس ، وهو أبلغ في النفي ، فلا شيء من الحق يغنيه الظن أبدا ، و القرآن هنا يستثير قضية وجدانية هي قبح كلام الإنسانفيما لا يعلم ، و قد تحدث هؤلاء عن طبيعة الملائكة و ذلك جزء من الغيب المحجوب عن علم البشر بشهادة وجدانه . أوليس الإنسان ينقذ عقله إلى معرفة الأشياء عبر حواسه ؟ أوليس لكل علم أداته و وسيلته ، فما هي الحاسة التي نعلم بها غيب السموات و الأرض ، و ما هي الأداة التي تعرف بها طبيعة الملائكة ، و أنهم إناث لا ذكور ؟!

إنها مشكلة البشر . إنه يهوى شيئا فيتمناه ، ثم يظن أنه واقع فيسعى وراء ظنه خادعا نفسه .

[ 29] و إنما اتبع هؤلاء الظن لأنهم اختاروا الدنيا على الآخرة ، فاكتفوا بالظن بدل العلم و الحق ، و بالتمني بدل السعي ، و كل ذلك لأنهم لم يعترفوا بالمسؤولية و لم يبتغوا مرضاة الرب ، ولو آمنوا بالآخرة ، و ظنوا أنهم ماثلون أمام ربهم للحساب غدا عن كل صغيرة و كبيرة ، إذا عرفوا أن الطريق إلى الحق هو العلم و ليس الظن ، ولكنهم آمنوا بالدنيا فقط ، و الدنيا هي حياة اللآمسؤولية ، وعلى الداعية الرسالي أن لا يبخع نفسه عليهم ، بل يتركهم و شأنهم .

[ فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ]لأن مشكلة هذا النوع من البشر ليس عدم قناعته بالحق ، فهو يعلم بأنه الهدى و الصواب ، و لكنه يتولى عنه ابتغاء الدنيا ، و إنما أمر الله بالإعراض عنهم لكي لا يتأثر المؤمن بهم سلبيا ، فيغير من رسالته صوب الدنيا ، تنازلا عن بعض أهدافها ، أو من أجل إقناعهمباتباعها ، ثم أنه لا ينبغي للمؤمن أن يبدد جهوده الغالية فيما لا يرجو نفعا منه ، بل فيما يخدم الرسالة ، و يقدم المؤمنين خطوة إلى الإنتصار .

و قد قال تعالى : " عن ذكرنا " وهي للتعظيم ، و لم يقل عن ذكري ، لأنالضمير المفرد يستخدمه الله في موضع إثبات التوحيد و تأكيده ، أو في مجال الرحمة و العطف ، و الحال أن هؤلاء تكبروا عن الحق ، و تولوا معرضين عنه ، فالمقام مقام التعالي و التكبر عليهم مما يتناسب و استعمال ضمير التعظيم ( أو ما يسمى بضمير الجمع ) ، ذلك لأنإعراضهم لا ينال شيئا من عظمة الله ، كما أن إيمان المؤمنين لا يزيده سبحانه شيئا . و سمى القرآن هنا بالذكر لأنه في مقام علاج العقائد ، و هي قضايا وجدانية ، و لفظ الذكر بما يحويه من إيحاءات و إشارات لعلاقة القرآن بالفطرة البشرية أخدم للمعنى من غيره في هذا الموضع .

كما تنطوي نهاية الآية : " إلا الحياة الدنيا " على فكرتين مهمتين :

الأولى : إن المؤمن يفترق عن الكافر و المشرك في قضية أساسية هي أن الأول يريد الدنيا و الآخرة ، و يسعى لهما معا ، موفقا بين الحق الذي يجب عليه الإلتزام به ، و بين نصيبه الذي أحل الله له من الدنيا .

و الثانية : إن على المؤمن أن لا يضعف أمام أعداء الله أو يتملق إليهم لأنهم ظفروا بشيء من حطام الدنيا ، فذلك حظهم ، بل يجب عليه أن يستمسك برسالته ، و يتصلب في ولائه للحق ، و يعرض عنهم ، لأنهم لا يملكون إلا هذه الدنيا الزائلة .

[ 30] وإن عدم إرادة المعرضين عن الذكر للحياة الآخرة ليس ناشئا من حسن اختيارهم ، و إنما لجهلهم بتلك الحياة و ما فيها من الثواب ، ولو علموا يقينا ما فيها من الفوز لأرادوها و اشتملت فاقتهم إليها ، و عظمت رغبتهم فيها ، و لكنهم حصروا أنفسهم وحبسوا عقولهم في سجن الدنيا ، و هذه من معضلات الإنسان أنه يصنع لنفسه سقفا من العلم ، و يكبل عقله بأغلال الهوى و إصر الشهوات عن الإنطلاق في رحاب العلم و الحق ، و صدق الإمام علي (ع) حيث قال : " كم من عقل أسير تحتهوى أمير " (1) .

[ ذلك مبلغهم من العلم ]

و هذه الآية تؤكد بأن الإيمان بالآخرة حجر الزاوية في تفكير الإنسان المؤمن .

و لكي يتم إعراض المؤمن عن الجاهلين يحتاج إلى أمور أهمها :

1 - العلم بأنهم على باطل ، و قد بين القرآن ذلك حينما أكد بأنهم لا يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ، ثم ضرب أمثلة على ذلك كموقفهم من الملائكة ، و كفرهم بالآخرة ، و توليهم عن الذكر .

2 - اليقين بأنهم ضعفاء في المحصلة النهائية بخسرانهم الآخرة .

3 - المعرفة بأن حساب الناس ليس من مسؤوليات المؤمنين ، إنما الله يفصل بينهم ، و يعلم المهتدين و الضالين .

[ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ]إذن فغلبة الضالين على المؤمنين عند الجدال أو عدم غلبة المؤمنين عليهم لا يغير من الواقع شيء ، فأهل الباطل هم أهل الباطل و أهل الحق هم أهله ، ذلك أن كلام الناس ليس مقياسا ، إنما الحق و الباطل هما المقياس بذاتهما .

ثم أن الخلافات - حسبما نستوحي من الآية الكريمة - لا تحسم في الدنيا لأنها لم تخلق لذلك ، و كما قال الله : " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا(1) نهج البلاغة / حكمة 211


يزالون مختلفين " (1) ، و الدار الآخرة هي محل الحسم و الجزاء ، فلا ينبغي للمؤمن أن يكون جبارا على الناس يحاول إكراههم على الهدى إن أوتي السلطة عليهم ، كما لا ينبغي عند ضعفه أن يهلك نفسه إذا ما تولوا عن دعوته .

كما نستوحي من كلمة " عن سبيله " في الآية أن في الحياة سننا و قوانين ، و هي السبيل الى الحق ، و هذه يعلمها الله و يحاسب عليها ، يضل عنها جماعة فيصيرون إلى الباطل و العذاب ، و يهتدي إليها آخرون يصيرون إلى الحق و السعادة ، و السبب أن الفريقالأول ينكر هذه الحقيقة ، بينما يؤمن بها فريق المهتدين فيبحثون عنها ، فإذا وجدوها طبقوها ، و كيفوا حياتهم وفقها ، و تجاوزوا الأخطاء و الضلال .


(1) هود / 118 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس