بينات من الآيات [ 1] يعيش الانسان في وجدانه خوفا عميقا من شيء مجهول ، و القرآن يبين أنه الساعة ، فالموت الذي يعقبه مصير مجهول بالنسبة إليه أمر رهيب جدا ، و الآيات تؤكد بأن خوف الانسان الحقيقي ليس من الموت ، و إنما من البعث بعد الموت ، و إنما يخشى الموت لأنه بوابةالحساب .
[ اقتربت الساعة و انشق القمر ]
(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 175 .
قال ابن عباس : " إجتمع المشركون إلى رسول الله (ص) فقالوا : إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين ، فقال رسول الله (ص) : إن فعلت تؤمنون ؟ قالوا نعم ، و كانت ليلة بدر فسأل رسول الله (ص) ربه أن يعطيه ما قالوا ، فانشق القمر على عهد رسول الله (ص) فرقتين ، و رسول الله (ً) ينادي : يا فلان يا فلان إشهدوا " (1) حتى قال بععضهم : " إنني كنت أرى حراء بين فلقتي القمر " .
و انشقاقه الذي حدث في عصر الرسول أو الذي يحدث فيما بعد ، من الظواهر الكونية الدالة على قرب الساعة ، و لكن القرآن يقدم الحديث عن الساعة على ظاهرة انشقاق القمر ، لأنه محور الكلام و الغاية منه . و كم هي رهيبة ساعة القيامة ، و كيف لا تكون كذلك و فيها تسير الجبال الشاهقة فتصير سرابا ، و تنتشر الكواكب كخرزات العقد المنفرط ، و تزلزل الأرض زلزالا عنيفا ! إن زلزلة الساعة شيء عظيم ! إنها مهولة جدا ! و تترك أثرا جذريا لا نعرف نحن مداه ، ولا يقتصر ذلك الأثر على تاريخ البشرية و حدها ، كلا .. بل هو تغيير كوني حاسم ، لأنه اليوم الذي ينتهي فيه دور الانسان على وجه الأرض ، و قد خلق الله ما في الأرض لأجله ، إذا فذهابه منها يقتضي تغيرا حاسما فيها . و ربنا لم يقل ( قربت ) بل قال " اقتربت " و هذه الزيادة التي لحقت بالفعل سببها دخوله في باب الافتعال الدال على بدل المزيد من القوة و الجهد ، كما يدل قولنا اكتسب على استعمال القوة في الحصول على الرزق ، فالساعة تمر بمخاض عسير ، لأن حدوثها يقترن بتغييرات هائلة .
[ 2] و انشقاق القمر ليس الآية الوحيدة التي تهدينا إلى الساعة و البعث ، فهناك من الآيات الأخرى الكثير مما يكفي سلطانا مبينا ، و حجة بالغة لنا على واقعية الساعة ، و لكن المشكلة في نفس الانسان حينما يضل ، و يتبع هواه . إنه يرى الآيات و يعقلها ، و لكنهيعرض عن دلالاتها ، و يصر على باطله ، و لكي يتخلص
(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 174 .
من وخز الضمير و نداء العقل يبحث لضلاله عن تبرير ، و للآيات عن تأويل ، مهما كانا سخيفين و متناقضين مع أبده المسلمات الوجدانية و العقلية ، كل ذلك تهربا من مسؤولية الاعتراف بالحق .
[ و إن يروا اية يعرضوا و يقولوا سحر مستمر ]
لقد اعتذر المشركون عن الايمان بالرسالة بأنهم لا يؤمنون بشيء غيبي لا آية محسوسة عليه ، فألحوا على الرسول (ص) بنظرتهم الشيئية أن يريهم من الآيات المادية ما يصدق نبوته و رسالته ، فسأل ربه ذلك ليقيم الحجة عليهم و أعطاه ، إلا أنهم أعرضوا عن الايمان ، قال علي بن إبراهيم ( رض ) : " فإن قريشا سألت رسول الله (ص) أن يريهم آية ، فدعا الله فانشق القمر نصفين حتى نظروا إليه ثم التأم ، فقالوا : هذا سحر مستمر " (1) أي دائم ، و السحر لا يدوم ، إنما هو لحظات يخدع فيها الساحر أعين الناس ثم ينتهي ، و المشركون يدركون هذه الحقيقة ، و لكنهم قبلوا أن يضيفوا إلى السحر نوعا جديدا لا عهد لهم ولا للتاريخ به ، و لم يقبلوا أن يكون القرآن رسالة من الله ، لأنه يجعل من الايمان به و تطبيقه مسؤولية واجبة عليهم ، فهو حينئذ رسالة الله الى أنفسهم أيضا ، و الحال أنهميسعون بكل ما اوتوا من حيلة و مكر إلى التهرب من المسؤولية ، و يحتمل أن تنطوي كلمة المستمر على معنى القوي أيضا ، و السحر لا قوة له لأنه خيال لا واقع ، و سواء هذا أو ذاك فإن القرآن يثبت أفكارهم و أقوالهم و مواقفهم المتناقضة في ذاتها لبيان بطلانها وظلالةأصحابها .
و قد سبق أن قلنا بان في قولهم بأن الرسالة و آياتها سحر اعترافا بتأثيره البالغ عليهم ، و بالعجز عن الاتيان بمثله ، و بسلطانه على أفئدة الناس كما السحر ،(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 175 .
فيؤخذون بهذا الاعتراف ، و ينبذ تفسيرهم لذلك بأنه يشبه السحر ، إذ مستحيل أن يستمر السحر الذي حقيقته التأثير الموقت في خيال الانسان .
[ 3] و الآية التالية تؤكد على أن التبرير الباطل يساوي عند الله الكذب المحض ، بل هو أشد ، لأن أهداف التكذيب هي ذاتها أهداف التبرير ، و أهمها اتباع الأهواء و الشهوات ، إذا فتبرير الانسان لا يغير من واقعه شيئا ، ولا من جزائه عند ربه ، لأنه تعالى لا ينظر إلى المظاهر ولا يحاسب عليها ، إنما ينظر إلى الحقائق الواقعية ، و يجعلها ميزانا للجزاء ، إنه " يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " (1) .
[ و كذبوا واتبعوا اهواءهم ]
و اتباع الهوى هو سبب التكذيب ، كما أنه الهدف منه ، و هذه الآية دليل صريح على بطلان عذرهم ، و رفض الله له كمبرر مشروع لاعراضهم عن الحق ، حيث اعتبرهم و المكذبين سواء .
] وكل امر مستقر ]
إن سنن الحياة الدنيا و الآخرة و مقاييسهما حقائق قائمة و ثابتة لا تتغير ( مستقرة ) ، فلا يمكن تغييرها بهوى النفس أو بتمنيات البشر ، و تشير هذه الآية إلى ما بينته الآيات الأخرى كقوله سبحانه : " لكل أجل كتاب " (2) ، " العاقبة للمتقين" (3) ، و " ولا يفلح الساحر حيث أتى " (4) ، " إن الباطل كان زهوقا " (5) ، كما أن حكمة الامام علي (ع) : " الأمور مرهونة بأوقاتها " مستوحاة(1) غافر / 19 .
(2) الرعد / 38 .
(3) الاعراف / 128 .
(4) طه / 69 .
(5) الاسراء / 81 .
من هذه الآية الكريمة ، و هذا التفسير يجمع بين آراء المفسرين القائلة بأن الأمر المستقر هو العواقب ، أي أن عاقبة الأمور مستقرة على قيم ثابتة ، كما ترسي السفينة بالتالي عند الشاطىء ، أو ما قالوا : بأن عاقبة الخير الحسنى و الشر السوئى ، و قال بعضهم : انهاالقيامة حيث تستقر عندها سفينة الدنيا ، لأنها تبرز كأمر واقعي محسوس ، و يتميز الحق من الباطل .
بلى . إن كل أمر واقعي حق سوف يستقر مكانه ، و يتكرس أكثر فأكثر رغم الظروف و العوامل المضادة ، و استقراره أعظم دلالة من ملايين الكلمات ، فلو اجتمع الإنس و الجن على إنكار وجود الجبال ، و جاؤوا بملايين الأدلة ، هل يتغير الواقع ؟ كلا .. ذلك أن المحور الحقيقي هو الواقعيات الخارجية الحقة ، و لست الأهواء و التمنيات و الظنون ، و لعل معنى " حكمة بالغة " التي تأتي لاحقا هو هذا الأمر ، إذ أن الحكمة هي وضع الشيء موضعه ، و لا يقدر على ذلك إلا من عرف السنن الالهية النافذة في الخلق ، و النظام العادلالحاكم في كل شيء ، و إنما كانت رسالات الله حكمة بالغة لأنها تهدي الانسان إلى المستقرات من الحقائق الواقعية ، و من ثم إلى منهج الحياة الأقوم و القائم على أساسها .
[ 4] و إذا كانت القيم هي المستقرة ( لا الأهواء ) فإن أعذار أولئك الكفار تذهب باطلا . أوليس قد توافرت الشواهد على صدق الرسالة ، فلم كفروا بها ؟ أو ليس قد تواترت الأنباء على أن من كفر بها هلك ، و كفى بذلك زاجرا ؟
[ و لقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر ]
ومن تلك الأنباء آية انشقاق القمر ، و المزدجر هو التخويف و الترهيب ، و ربنا لم يكتف بإرسال الآيات ، و بيان القوانين للانسان ، بل و أقام عليه الحجة البالغة حينما حذره من مخالفتها ، " لئلا يقول أحد لولا أرسلت إلينا رسولا منذرا ،وأقمت لنا علما هاديا ، فنتبع آياتك من قبل أن نذل و نخزى " (1) .
[ 5] و ليس في آيات الله تعالى نقص ابدا ، بل فيها الحجة القاطعة ، إذ جعلها الله من الوضوح و الكمال درجة لا عذر لأحد في الاعراض عنها و عن دلالاتها ، فهي كما يصفها تعالى :
[ حكمة بالغة ]
و البلوغ هنا بمعنى التمام و الكمال ، و منه بلغ الرجل إذا اكتمل نفسيا و عقليا و عضويا ، و بلغت الثمرة إذا نضجت و حان قطافها ، و هناك معنى آخر تنطوي عليه الكلمة وهو الوصول ، و الحكمة الالهية كاملة عمقا و شمولا ، لا يعتريها نقص في المحتوى ولا الاسلوب، ثم أن الله أوصلها إلى الناس عبر أنبيائه المبلغين ، فلا عذر لهم بأنه لم يرسل رسولا ، و هذه الآية تشبه قوله تعالى : " فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين " (2) .
إذن فالحياة ليست فوضى ، بل و لها قوانينها و سننها المستقرة الثابتة ، و الانسان يحتاج الى الحكمة البالغة المنطلقة من تلك الواقعيات الحق ، لكي يعيش فيها كما ينبغي ، و هذه نجدها مبثوثة في كتاب الله ، الحكمة البالغة العظمى ، و النعمة الكبرى ، و الهديةالالهية إلى الانسان ، وقد بلغها رسوله (ص) ، فلماذا إذن هذا الضلال الذي تعيشه البشرية ؟ و الجواب : لأنها لم تؤمن به ، و لم تطبق آياته . إنها وضعت بينها و بين تلك الحكمة حجب الاعراض و التبرير و التكذيب و الهوى .
[ فما تغن النذر ]
(1) مفاتيح الجنان / دعاء الندبة .
(2) الانعام / 41 .
كان يفترض أن تزجرهم عن الضلال و الباطل فإذا بها تزيدهم طغيانا و كفرا ، و كان ينبغي أن تبكيهم فإذا بهم يضحكون و يهزأون ، و جاءت لتذكرهم فإذا بهم يتوغلون في الغفلة ، و القرآن يبين هذه الحقيقة في أواخر سورة النجم ، و يستنكر على المكذبين واقعهم : " أفمن هذا الحديث تعجبون * و تضحكون ولا تبكون * وأنتم سامدون " ؟! (1) .
[ 6] وإذا وصل الانسان إلى حد الاعراض عن الحكمة البالغة أو كله الله الى نفسه ، فلا ترتجى له هداية بعد ذلك ، و صرف عنه أولياءه ، ليزداد إثما على إثم ، و يتسافل دركا بعد درك ، فيلقي جزاءه المريع الذي يقصر عنه خيال البشر .
و يأمر ربنا مكررا أصحاب الرسالة بترك المعرضين عنها ، و نتساءل : لماذا ؟ إنما لحكمة بالغة تتمثل في أن الاستمرار في إنذارهم و محاولة هدايتهم سوف يتسبب في ضياع وقت كثير منهم لابد أن يوفروه لما هو أنفع ، فعليهم إذن أن يبلغوا الرسالة الى الحد الذي تقومفيه الحجة على الآخرين ، و يسقط عنهم الواجب ، فإذا تبين لهم عدم نفعه و جب أن يتوجهوا إلى هداية غيرهم ، و إلى تطبيق الرسالة على أنفسهم ، و تكوين الكيان الرسالي المتكامل ، أما متى يتولى الرسالي عن دعوة الآخرين ؟ فإن تحديد ذلك يكون على ضوء البصائر الالهية، و القيادة الرسالية تعرف ذلك .
و هناك حكمة أخرى لواجب الاعراض عمن يجد آيات الله هي أنهم هم المحتاجون إلى الرسالة ، و الرسالة غنية عنهم ، فلا داعي للالحاح الزائد عليهم ، أو تغيير بعض القيم و تطويعها وفق أهوائهم ليقبلوها ، كما فعل بعض علماء النصارى حيث أدخلوا في دين الله ما ليس فيه مجاراة للسلطان أو للعوام من الناس حتى يستهويهم الدين ، و كذلك فعل بعض الجهلة من الدعاة عند المسلمين حيث أضافوا(1) النجم / 59 - 61 .
إلى الدين ما يستهومي الطغاة أو رعاع الناس ابتغاء كسبهم ، و الله غني عنهم و عمن يدعونه بهذه السبل إلى دينه .
ولا ريب أن المؤمن حريص على هداية الناس ، و يريد الخير لهم ، فمن الصعب عليه أن يتركهم حصبا لجهنم ، فهذا سيد الشهداء الامام الحسين (ع) تبتل لحيته بالدموع ، و حينما يراه رجل من الأعداء يخاطبه : يا ابن فاطمة ! أتبكي خوف القتل ؟ ! فيقول : " لا ولكنلأنني أعلم أنكم تدخلون النار بقتلي " ، من أجل كل ذلك توالى الأمر بترك المعرضين في القرآن .
[ فتول عنهم ]
إتركهم و شأنهم ، و انتظر ، و تقدير هذا الفعل أقرب إلى السياق من قول بعض المفسرين بأنه : واذكر يوم القيامة حيث يدع الداع إلى شيء مكروه ، ذلك لأن انتظار يوم البعث لفض الخلافات مسألة معروفة في آيات القرآن الكريم .
و قد لا يقتصر الأمر بالتولي على الدنيا و حدها بل يشمل الآخرة ، حيث يأمر الرب نبيه بالاعراض عنهم و تركهم وهو صاحب الشفاعة الكبرى يوم القيامة ، و حيث يلتمس الناس بأجمعهم حتى الرسل و الأنبياء الشفاعة منه (ص) لأنها الصراط الأقرب إلى الجنة . جاء في الحديث عن سماعة بن مهران قال : قال أبو الحسن (ع) : " إذا كانت لك حاجة إلى الله فقل : " اللهم إني أسئلك بحق محمد و علي فإن لها عندك شأنا من الشأن " فإنه إذا كان يوم القيامة لم يبق ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن ممتحن إلا وهو يحتاج إليهما فيذلك اليوم " (1) و عن الامام الصادق (ع) : " ما من احد من الأولين و الآخرين إلا وهو يحتاج الى(1) بحار الانوار / ج 8 / ص 59 .
شفاعة محمد ( صلى الله عليه و آله ) يوم القيامة " (1) و كم تكون حاجة هؤلاء إلى الرسول في ذلك اليوم عظيمة ! و لكن الله يامره بالتولي عنهم جزاء لتوليهم و إعراضهم في الدنيا .
[ يوم يدع الداع الى شيء نكر ]
و عدم ذكر الداعي هنا ( هل هو الله ، أم إسرافيل ، أم جبرئيل ، أم الروح ؟ ) يدل على أن المهم الدعوة و ما تنطوي عليه ، و ليس شخص الداعي ، لذلك أبهم ، وفي ذلك من الترهيب الشيء العظيم ، ثم أنه تعالى زاد الآمر رهبة حينما جعل المدعو إليه مجهولا ، فقال " شيء " و الشيء نكرة ، و الانسان مجبول على الخوف من المجهول ، و أخيرا جاءت صفة الشيء تفيض رهبة و زجرا و تخويفا بتأكيدها على أن الشيء منكر ، و أصله أن يرد على الانسان مالا يتصوره و يستسيغه ، و قيل للذنوب و الخطايات منكرات لأنها يمجها عقل البشر ووجدانه ولا يستسيغانها .
[ 7 - 8 ] و إذا كان الانسان في دار الامتحان قادرا على الاعراض عن دعوة الله و عدم إجابة داعية ، فليس لأنه يغلب الله بمعصية أو يعجزه هربا من عقابه ، كلا .. " ومن لم يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض و ليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين " (2) ، أما في يوم القيامة فإنه تسلب حريته ، و يخلص الملك و الحكم لله الواحد القهار ، فلا مجال لأحد أن يتمرد على أمره أو يرفض دعوته ، " يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له و خشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا " (3) ، هنالك يبدل تكبر المعرضينو المكذبين ذلة و هوانا .
(1) المصدر / ص 38 .
(2) المصدر / ص 32 .
(3) طه / 108 .
[ خشعا أبصارهم ]
خشوع صغار و ندامة يعكس عمق المذلة في نفوسهم .
[ يخرجون من الاجداث كأنهم جراد منتشر ]
و الأجداث هي القبور ، و حيث تبعث البشرية بجميع أجيالها التي تعاقبت على الأرض يصير العدد عظيما ، بحيث يركب بعضهم على بعض ، " فأحسنهم حالا من وجد لقدميه موضعا ، و لنفسه متسعا " (1) كما يقول الامام علي (ع) ، و القرآن يشبه الناس في حشرهم بالجراد حينما ينتشر ، أي يتكاثر بأعداد هائلة في مثل حالات البلاء ، فهو حينئذ كثير متراكم ، و القرآن هنا يقدم الحديث عن حالتهم " خشعا أبصارهم " على خروجهم من القبور ، لأن بيانها هو هدف السياق من ذكر القيامة ، و هو يمضي يحدثنا عن حال الذين أعرضواو كذبوا و اتبعوا أهواءهم بدل أن يتبعوا الدعاة إلى الله عز وجل .
[ مهطعين الى الداع ]
قال صاحب المجمع : الهطع المشي السريع بالالجاء و الاكراه و الاذلال ، و قال الزمخشري : بمد الأعناق ، أو ناظرين إليه ( الى الداع ) لا يصرفون أبصارهم عنه الى غيره ، و قال الراغب : هطع بصره أي صوبه ، و بعير مهطع إذا صوب عنقه ، و الذي يبدو أن الله قطع الكلمة عن الاضافة ، فلم يقل مهطعين رؤوسهم مثلا ، و ذلك ليتسع معناها إلى مضمون أشمل هو تجميع كل جوارح البدن و جوانح القلب في اتجاه الداعي ، و هذا يدل على عمق طاعتهم لداعي الله .
(1) نهج البلاغة / خ 102 .
[ يقول الكفارون هذا يوم عسر ]
لأنه يوم الدين و الحق ، و قد اعرضوا عن الدين ، و اتبعوا الأهواء و الظنون ، أما المؤمنون الذين آمنوا بالآيات الربانية ، و صدقوا بالحسنى ، و اتبعوا داعي الله في الدنيا ، فذلك يوم سعادتهم ، و أي سعادة أسمى من لقاء العبد بربه ، و بلوغه الوعد الذي طالماتاقت إليه نفسه ؟! " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها و هم فيما اشتهت أنفسهم خالدون * لا يحزنهم الفزع الآكبر و تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون " (1) ، " و هم من فزع يومئذ آمنون " (2) .
قال الامام علي (ع) يحدث الناس عن أحداث المحشر : " إذا كان يوم القيامة بعث [ بعثهم ] الله تبارك و تعالى من حفرهم عزلا بهما جردا مردا في صعيد واحد ، يسوقهم النور ، و تجمعهم الظلمة ، حتى يقفوا على عقبة المحشر ، فيركب بعضهم بعضا ، و يزدحمون دونها، فيمنعون من المضي فتشتد أنفاسهم ، و يكثر عرقهم ، و تضيق بهم أمورهم ، و يشتد ضجيجهم ، و ترفع أصواتهم " ، قال : " وهو أول هول من أهوال يوم القيامة " قال : " فيشرف الجبار تبارك و تعالى عليهم من فوق عرشه في ظلال من الملائكة ، فيأمر ملكا من الملائكة فينادي فيهم : يا معشر الخلائق ! أنصتوا و اسمعوا منادي الجبار " قال : " فيسمع آخرهم كما يسمع أولهم " قال : " فتنكسر أصواتهم عند ذلك ، و تخشع أبصارهم ، و تضطرب فرائصهم ، و تفزع قلوبهم ، و يرفعون رؤوسهم الى ناحية الصوت، مهطعين إلى الداع " ، قال : " فعند ذلك يقول الكافر هذا يوم عسر " (3) .
(1) الانبياء / 101 - 102 .
(2) النمل / 89 .
(3) نور الثقلين / ج 5 / ص 175 .
[ 9 - 12] ثم ان التكذيب بالرسالة أمر طبيعي واجهه كل الانبياء السابقين .
[ كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا ]
التكذيب الأول بالآيات و الرسالة ، و التكذيب الثاني بنبوته (ع) ، و لم يقفوا عند حد التكذيب و حسب بل سعوا إلى النيل من سمعته .
[ و قالوا مجنون ]
لاصراره على الحق ، و استبساله في الدعوة ، بالرغم من تكذيبهم ، فهو في نظرهم يطلب المستحيل اللامعقول ، وحيث وجدوا فيه الشجاعة التي تحدى بها ثقافاتهم و عاداتهم و لم يريدوا الاعتراف له بهذه الايجابية ، حوروها إلى الجنون حتى يصنعوا بينه و بين الناس حجابا يمنعهم من التأثر به ، و هذه من طبيعة الطغاة ، فهم اليوم يسمون الاصالة تطرفا ، و الجهاد في سبيل الله إرهابا ، و على المؤمنين أن لا يهزمهم الاعلام المضاد فهم امتداد لخط الأنبياء ، وهم على حق ، و عليهم أن يتحملوا ما تحمل الرسل من أذى في سبيله ، فهذا شيخ الأنبياء نوح (ع) يزجره قومه قصد ثنيه عن رسالته والاساءة إليه .
[ و ازدجر ]
و هذه الكلمة هي تلخيص لمجمل ما تعرض له نوح - عليه السلام - من البلاء و الايذاء ، و هي ليست معطوفة على " مجنون " مما يجعلها داخلة في جملة القول ، بل معطوفة على " فكذبوا " كما يبدو ، فهم كذبوه نفسيا ، و سعوا في تشويه سمعته بألسنتهم وما أمكنهم من وسائل الاعلام ، و آذوه فعلا ، و إنما استفتح السياق بذكر نوح بين الأنبياء لأنه أشدهم ابتلاء بسبب الاعراض عنه فقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم فيعرضون عنه .
[ فدعا ربه اني مغلوب فانتصر ]
و هذه الآية تدل على المعنى المتقدم لكلمة " ازدجر " ، إذ لولا دعاؤه لتأثر بزجرهم نفسيا ، أو صار ضحية له ، كما تدل على أن نوحا - عليه السلام - وصل إلى حد اليأس من قومه ، قال الرازي : إن الرسول لا يدعو هذا الدعاء مادام فيه نفس احتمال ، و مادام الايمان منهم محتملا ، و استجاب ربنا دعاء نبيه ، ففتح السماء ماء منهمرا ، و فجر الأرض عيونا ، فنصره و أهلك الكافرين .
و بنظرة شاملة و دقيقة الى القصة التي يعرضها القرآن في ثلاثة فصول ، يحدثنا في الأول عن معاناة نوح مع قومه ، و في الثاني عن دعائه الذي يلخص موقفه منها ، و في الثالث عن عذاب الله لقومه الكافرين ، نكتشف حقيقة هامة هي أن دعاء المؤمنين بالنصر لا يستجاب إلا إذا تحركوا في سبيل الله ، و الى تحقيق النصر بأقصى ما يمكنهم معنويا و ماديا ، إن الله كان قادرا على نصر نوح من أول لحظة كذبوه فيها ، و لكنه تركه يدعوهم جيلا بعد جيل ( 950 عاما ) حملت في أحشائها ألوان الأذى و الابتلاء ، فكان يعده ثم يؤخر عنه النصر مرة بعد أخرى إتماما للحجة على الناس .
و في سورة نوح استشهاد مفصل بدعاء نوح (ع) يكشف عن عمق المعاناة التي واجهها ، و يسلط الضوء على كثير من الأفكار المتقدمة ، و لكنه هنا يختصر الحديث اعتمادا على تفصيله في مواضع أخرى ، و يقول :
[ ففتحنا ابواب السماء بماء منهمر * و فجرنا الارض عيونا ]قال الامام الصادق (ع) : " لما أراد الله عز وجل هلاك قوم نوح ( و ذكر حديثا طويلا ، ثم قال : ) فصاحت امرأته لما فار التنور ، فجاء نوح الى التنور فوضع عليها طينا و ختمه حتى أدخل جميع الحيوان في السفينة ، ثم جاء الى التنور ففضالخاتم ، و رفع الطين ، و انكسفت الشمس ، وجاء من السماء ماء منهمر صبا بلا قطر ، و تفجرت الأرض عيونا " (1) و التاريخ يؤكد أن الأرض قد غطاها الماء في يوم من الأيام ، و يستدل الباحثون على ذلك بأثار الحيوانات البحرية ، كالأصداف و هياكل السمك الموجودةفي كل مكان حتى على الجبال ، إلا أن التحليل التاريخي يختلف عن القرآن بأنه يبقى تحليلا ماديا بحتا ، و بغض النظر عن عدم مطابقته للواقع في اعتقادنا فإنه يبقي القضية علما مجردا عن الموعظة و العبرة ، فأصحاب النظريات في هذا المجال يفسرون الطوفان - مثلا -بأنه نتج صدفة ، حيث مرت بالأرض عواصف باردة تسببت في تكون جبال جليدية ضخمة ، ثم حدث انفجار في الشمس أخذت الثلوج على أثرها بالذوبان ، فتكونت السيول التي أغرقت اليابسة ، و القرآن يقول : كلا .. إنه لم يكن صدفة ، بل بتقدير إلهي حكيم نقرأ لمساته على هذه الظاهرة الكونية الخارقة للعادة ، حيث سبق إخبار نوح به ، و حيث لم يغرق فيه ولا مؤمن واحد ، و لم ينج منه ولا كافر واحد ، فهل هذا مجرد صدفة ؟!
[ فالتقى الماء ]
المنهمر من السماء ، و المنفجر من الأرض .
[ على أمر قد قدر ]
و نجد إشارة إلى هذا الأمر الالهي في قوله تعالى : " حتى إذا جاء أمرنا و فار التنور " (2) ، و كان الأمر حكيما في جميع دقائقه ، فهو مقدر من حيث الزمن بدء و نهاية ، و من حيث العوامل و طريقة تنفيذه ، فلو تقدم مثلا عن زمنه المحدود لربما كان يغرق نوح (ع) و من معه لعدم الاستعداد ، ولو تأخر أمر الله بإنهائه ربما لم تكن(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 178 .
(2) هود / 40 .
الارض بعدها صالحة للحياة عليها .
[ 13 - 16] [ و حملناه على ذات الواح و دسر ]
وهي السفينة التي تتكون من الجذوع المقطعة شرائحا ، ولا يقال لوح إلا للصفائح ، أما الدسر فهو ما يشد الألواح إلى بعضها ، سواء كان ذلك المسمار أو الحبل أو غيرها ، و إذا يتعرض القرآن إلى المواد الأولية التي تتألف منها سفينة نوح فلكي يؤكد بأن الأمر لميكن صدفة ، بل هو مقدر تقديرا حكيما من قبل الله ، وإلا كيف ينجو راكب سفينة هذه طبيعتها من الغرق بطوفان هائل أمواجه كالجبال ؟!!
و يؤكد القرآن على هذه الحقيقة مرة أخرى ، حينما يبين بأن سير الفلك في غضب الطوفان و بالتالي نجاة ركابها كان برعاية مباشرة من الله ، وفي ظل رحمته .
[ تجري باعيننا جزاء لمن كان كفر ]
و عين الله لطفه و رحمته و رعايته لنبيه (ع) إذ نجاه ومن معه جزاء معاناته و ايمانهم ، فقد لبث في قومه مدة طويلة يدعوهم الى الله بالحاح رغم كفرهم به وأذا هم له ، و لم تكن نجاته صدفة ، ولا لعنصره ، ولا لركوبه في السفينة و حسب ، بل لعمله و سعيه ، إذا أكد ربنا انه كان جزاء لنوح الذي كان قد كفر من لدن أولئك الكافرين ، و هذا رأي في التفسير ، و هناك آراء أخرى لا أراها تنسجم مع ظاهر السياق .
وفي الوقت الذي دمر الله أولئك ونجى هؤلاء ، أبقى قصصهم - و ربما السفينة أيضا - علامة تهدينا إلى الحق ، و لكن لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
[ و لقد تركناها اية فهل من مدكر ]
إنها واقع مر لفريق ، و نعمة لفريق آخر في وقتها ، و لكن دورها لا ينتهي عند هذا الحد ، بل تبقى موعظة للاحقين ، لذلك يسجلها الله في كتابه لكي لا تنساها البشرية و يفوتها نفعها ، و أن يتذكر الانسان بغيره خير من أن تدور رحى التجارب عليه فيصير عبرة للآخرين ، و كما في الخبر : " السعيد من اتعظ بتجارب غيره " ، من هنا ينبغي أن ندرك مدى أهمية القرآن للبشرية ، و دوره في حفظ تاريخها و تجاربها التي تطاولت عليها السنون ، و كانت لولاه تبيد و تنسى أو تنتزع منها عبرتها و لبابها ، و تضحى قشرة بالية لاتكسب الناس حكمة ، ولا تهديهم سبيلا ، كما نجد في التواريخ التي تمجد قصص الغابرين لا تحكي سوى ظواهرها ، أما ما ينفع الأجيال المتلاحقة فإنه ينسى . حقا : إنها سمة مميزة لمنهج الرسالة في بيان قصص الأولين ، حيث تحولها إلى حقائق معاشة بيننا ، و ذلك بالتركيزعلى بيان عبرها الدائمة و الخطوط المشتركة بيننا و بينهم .
و هكذا أشار ربنا سبحانه في آيات أخرى إلى جانب من ذلك بعد بيان قصة نوح فقال : " قيل يا نوح اهبط بسلام منا و بركات عليك وعلى أمم ممن معك و أمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم * تلك من أنباء الغيب نوحيها اليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذافاصبر ان العاقبة للمتقين " (1) . اترى كيف وصل الحدث الموغل في التاريخ بالحدث الراهن المتمثل في الصراع المستمر بين المتقين و غيرهم وأن العاقبة لهم ؟ و هذه من أبرز العبر في قصة نوح (ع) ، و لكن السفينة ذاتها آية ايضا ، ذلك أنها حافظت على النوع البشري من الانقراض ، ومن الآيات التي تجلت في القصة آية العذاب الالهي المهول الذي تشير إليه الآية الكريمة التالية بهدف إصلاح النفسية البشرية القائمة على الظنون و التمنيات ، حيث يستبعد البعض العذاب من قبل الله بناء على تصور خاطىء ، بأنه رحيم و رؤوف وقد
(1) هود / 48 - 49 .
خلق الخلق ليرحمهم لا ليعذبهم ، و يتخذ البعض من هذا التصور مبررا للذنوب التي يمارسها ، كلا .. يقول تعالى :
[ فكيف كان عذابي ونذر ]
بلى . إن الغضب الالهي عذاب للأقوام التي يحل بها ، و لكنه في ذات الوقت نذير للآحقين ، فلا يعتمدوا إذن على التمنيات ، ليتفكروا في التاريخ ، و ليذكروا آياته الواعظة المنذرة ، والاستفهام الوارد في الآية يفيد التعظيم ، و يستهدف استثارة العقل نحو الموعظةبوقعه الخاص ، ذلك أن الاستفهام بحاجة الى وقفة تفكر و تدبر .
[ 17] و تلك الآية وآية العذاب ، و ما تنطوي عليه قصة نوح مع قومه من نذر ، تلتقي مع القرآن في هدف واحد هو التذكرة ، إذن فهي الهدف الأسمى للقرآن ، و اليها تهدي كل سوره و آياته ومفرداته ، و لكن كيف يحقق القرآن هذا الهدف ؟ و كيف ينفذ الى اعماق ضمير الانسان و عقله ، و يخترق حجب الهوى و الغفلة و الجهل التي تلوث فطرته ، و تستر عقله عن الحق ؟ لابد ان يكون ميسرا بعيدا عن العسر والتعقيد للأسباب التالية :
اولا : لأنه كلام الخالق العليم القدير الى المخلوق الجاهل الضعيف ، و ليست ثمة نسبة بينهما في علم ولا منطق .
ثانيا : لأنه يحدث الانسان عن حقائق كبرى في الحياة و فوق الحياة ، بعضها يحسها و يراها و البعض الآخر يغيب عنه .
ثالثا : لأن الله أراد لهذا الكتاب الصغير في حجمه الكبير في محتواه ان يكون تبيانا لكل شيء يهم الانسان في حاضره و مستقبله ، و في دنياه و آخرته ، و يرسم له مناهج الحياة في أبعادها المختلفة ، في الشؤون الشخصية و الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و العلمية و الثقافية .. و لقد يسر ربنا القرآن إذ
جعله عربيا مبينا ، و أنزله في ارفع الأساليب البلاغية و النفسية والعقلية فإذا به الحكمة البالغة ، و القصص القرآني التي تبلغ ( 40% ) من عموم آياته تقريبا هي من أبرز معالم منهجه في تيسير التذكرة ، لذلك تجد الآية الكريمة : " ولقد يسرنا القرآن للذكرفهل من مدكر " تتكرر في هذه السورة بعد كل قصة مباشرة ، و هي قصص واقعية بتفاصيلها التي تعرض لها القرآن .
إذن لا نقص في كتاب ربنا سبحانه ، ولا غموض ، ولا يكلف الانسان أكثر من وسعه ، بل هو ميسر ، و إّذا كانت ثمة تزمت أو تعقيد عند بعض المؤمنين به فهو من عند أنفسهم ، ولأن قلوبهم قد ملئت بثقافات دخيلة ؛ بأساطير الشعوب البدائية ، بأفكار الجاهلية الوافدة ، بالاسرائيليات المتلصلصة الى كتبهم ، و بالعقد المتراكمة من جراء التخلف ، و إذا لم يتذكر البشر به فلا حجة له .
[ و لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ]
و السعيد من صدق بالقرآن و تذكر به فتجنب العذاب .
[ 18 - 20] إن الله ضرب للبشر مثلا من واقع المكذبين وعاقبتهم بقوم نوح (ع) ، و لكن الأهم بيانه مصير أولئك الذين لم ينتفعوا بتجارب السابقين من الاقوام ، تحذيرا للناس من تكذيب القرآن و عصيان الرسول .
إن الله ترك قصص قوم نوح آية للاحقين ، و كان بإمكان من بعدهم أن يتجنبوا غضب الله لو اعتبروا بها ، و لكنهم كذبوا فحل بهم العذاب .
[ كذبت عاد فكيف كان عذابي و نذر ]
و عاد هم القوم الذين أرسل اليهم النبي هود (ع) فلما كذبوه أهلكهم اللهبالريح ، و هذا نذير آخر لنا يسوقنا الى التصديق بالرسالة .
[ انا ارسلنا عليهم ريحا صرصرا ]
وهي الريح شديدة البرد ، و ذات الصوت الرهيب ، عن علي بن إبراهيم (1) ، و أصله الصرير ، و عن أبي بصير قال : قال ابو جعفر (ع) : " إذا اراد اله عز ذكره أن يعذب قوما بنوع من العذاب أوحى الى الملك الموكل بذلك النوع من الريح التي يريد أن يعذبهم بها قال : فيأمرهم الملك فتهيج كما يهيج الأسد المغضب ، قال : ولكل ريح منهم اسم " (2) والذي يجعل الريح ذات أثر أعمق أنها ارسلت في يوم رفع الله عنه الرحمة .
[ في يوم نحس مستمر ]
دائم ، بدأ في الدنيا بثمانية أيام حسوما ، و لكنه يمتد الى الآخرة حيث العذاب المقيم ، و إنما أرسل الله عليهم الريح تقتلعهم من الأرض لأنهم تكبروا على الحق ، و تحدوا هودا و ربه ، و جحدوا بالآيات ، فكانوا يتصورون أنهم باقون و أنه لا غالب لهم ، قال تعالى : " فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو اشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون * فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا و لعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون" (3) ، و يشير هذا النص القرآني الى الفكرتين المتقدمتين وبالربط مع قوله تعالى : " سخرها عليهم سبع ليال و ثمانية أيام حسوما " (4) نفهم أن " مستمر " صفة للنحس و ليس لليوم ، لأن اليوم ينقضي(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 401 .
(2) المصدر / ص 181 .
(3) فصلت / 15 - 16 .
(4) الحاقة / 7 .
و يأتي آخر غيره ، بينما بقي النحس عاملا مشتركا مستمرا .
أما ما قيل من أن النحس مختص ببعض الأيام كالأربعاء أو الثالث عشر من كل شهر فإنه بعيد لأن الاقدار ليست مرهونة بالأيام ، بل بعمل الانسان فردا و مجتمعا ، فاليوم الذي يطيع الله فيه و يعمل صالحا هو يوم خير و بركة و يمن ، سواء في الدنيا حيث الشعور بلذة فراغ الذمة و أداء الواجب ، و جلب التوفيق ، أو في الآخرة حيث يرقى به درجة من الرضى و الجنة ، و هكذا اليوم الذي تتنزل فيه رحمة الله و آلاؤه مبارك و سعيد ، كيوم أنزل المائدة على بني إسرائيل وحواري عيسى (ع) ، و ليلة أنزل القرآن على نبيه التي هي خير من ألفشهر ، و في المقابل يكون يوم المعصية يوم نحس ، يقطع عن صاحبه التوفيق ، و يجعله عرضة لسخط ربه في الدنيا و الآخرة . أترى كيف صار عقر الناقة سببا لدمار أمة برمتها ؟
قال سويد بن غفلة : دخلت عليه ( يعني الامام علي (ع) فإذا عنده فاثور ( خوان ) عليه خبز السمراء ( الحنطة ) و صفحة فيها خطيفة ( اللبن يختطف بالملاعق ) و ملبنة ( ملعقة ) فقلت : يا أمير المؤمنين يوم عيد و خطيفة ؟! فقال : " إنما هذا عيد من غفر له " (1) و عنه أيضا : " إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه ، و شكر قيامه ، و كل يوم لا تعصي الله فيه فهو يوم عيد " (2) .
و تتصل الآيات تحدثنا عن عاقبة المكذبين من قوم هود (ع) لتضع أمام أعيننا لقطات رهيبة من العذاب ، و ما فعلته الريح بهم إنها من الشدة بحيث تنتزع الانسان من الأرض ، كما تنتزع أعجاز النخل المسنة اليابسة المنخورة من جذوعها لتلقي بها أرضا من أساسها !
[ تنزع الناس ]
(1) بح / ج / ص 73 .
(2) نهج / حكمة 428 .
و كلمة " تنزع " تدل بوضوح على مدى تشبثهم بالحياة ، و اعتمادهم على أسباب القوة و البقاء الظاهرية ، بالرغم من أنهم يعيشون في داخلهم الضعف و الانهيار ، كسائر الانظمة الطاغوتية التي يشبهها الله ببيت العنكبوت مع أن ظاهرها القوة و المتانة ، وهذا الضعف ناتج من اتباعهم الباطل ، و مخالفتهم سنن الحياة ، ذلك أن أسباب القوة الحقيقية تكمن في اتباع الحق و التسليم لله ، و قد اعتمد قوم عاد على ذاتهم كما بينا ذلك في الآيتين ( 15 / 16) من سورة فصلت .
يقول تعالى : " مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا و إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون " (1) ، و هنا يشبههم بشيء آخر فيقول عز من قائل :
[ كأنهم أعجاز نخل منقعر ]
اهترأ و تجوف بمرور الزمن و تعرضه للعوامل الطبيعية المتلفة ، و تقطعت عروقه ، فهو لا يحتاج حتى يهوي الى الأرض من أصوله فيتحطم إلا لأدنى دفع ، و قد شبههم الله بالنخل الذي اجتث من قعره ( و انما اراد تعالى ان هؤلاء اجتثوا كما اجتثت النخل الذاهب في قعر الأرض فلم يبق لهم رسم ولا أثر ) (2) ، " فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية " (3) تهاوت على بعضها و متفرقة هنا وهناك .
[ 21 - 22] و مع ما تحمل هذه الآيات الكريمة من بلاغة و أسلوب أدبي رفيع ، إلا أنها ما جاءت لكي يظهر ربنا إعجازه البلاغي و الأدبي للناس و حسب ، أو لتكون ميدانا للصراع بين علماء البلاغة و اللغة أو بين المفسرين ، بل جاءت موعظة(1) العنكبوت / 41 .
(2) مفردات الراغب / ص 409 .
(3) الحاقة / 7 .
و نذير للبشرية .
[ فكيف كان عذابي و نذر ]
أترى هينا أن يحل غضب الله القوي العزيز على الانسان الضعيف الذي خلقه أساسا للرحمة ؟! لنتفكر في تضاعيف الآيات الماضية ، و نقف على آثار الماضين و قصصهم نتعظ من قبل ان نذل و نخزى ، فهذه الآيات إنما جاءت لتحملنا إلى التذكرة ، و تيسر علينا حقائق القرآن .
[ و لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ]
نحن لا نرى جهنم بأعيننا لأنها من الغيب الذي حجب عنا علمه ، و لكن لننظر إليها بقلوبنا ومن خلال بصائر القرآن الحكيم ، ليهدينا عذاب الله في الأقوام السالفة الى شديد عذابه في الآخرة ، و ليزجرنا قبل ذلك عن التكذيب بالحق .. فهل يكون ذلك منا ، أم نكون أنفسنا عبرة لمن بعدنا ؟ إن الحجة بليغة و بالغة ، و السبل مشرعة ، و الأعلام واضحة ، و الآيات ميسرة ، و بأيدينا القرار ، و به نرسم مصيرنا و مستقبلنا ، بتوفيق الله سبحانه .
|