بينات من الآيات [ 23] قصة ثمود ( قوم صالح (ع) ) من النذر التي تكشف لنا عن عاقبة التكذيب بالحق ، و لكن ربنا لا يقول أنهم كذبوا بالحق ، بل قال كذبوا بآياته و نذره ، و ذلك ليكشف لنا عمق الضلال و الانحراف في نفوسهم ، فالانسان يكذب بالحق تارة ثم يزعم أنه لا يجد آية تدله عليه ، و تارة يكذب به بالرغم من الآيات الهادية إليه . قوم صالح دعاهم نبيهم الى الله ، و حذرهم من التكذيب ، و أظهر لهم أكثر من آية منذرة بينه ، و لكنهم اصروا على باطلهم ، و كذبوا بكل شيء .
[ كذبت ثمود بالنذر ]
قال بعض المفسرين أنها نذر العذاب المباشرة حيث اصفرت وجوههم في اليوم الأول ، و احمرت في الثاني ، و اسودت في الثالث .. و الذي يظهر من سياق القرآن أن النذر هو كل ما يحذر الانسان و يخوفه من غضب الله و عذابه ، و قد كذبت ثمود بالرسول ، و رسالته ، و بآياتهالعذاب ، و بالناقة ، و كلها من نذر الله .
[ 24] و حيث يحتاج الانسان إلى تبرير مواقفه و تصرفاته مهما كانت ، فقد لجأوا بعد رفض الحق الى الافكار و الضلالات الجاهلية ، التي تناقض أبسط المعاييرالمنطقية عند البشر , إنهم حاولوا تقييم الرسالة و قيادة الرسول (ص) من خلال مصلحتهم و واقعهم المادي المنحرف ، فما داما لا يلتقيان معهما فليسا بحق . هم أرادوا الرسالة رسالة هوى و تبرير فجاءت بالحق و المسؤولية ، و أرادوا الرسول مثلهم في قيادته و مظهرهفوجدوه قدوة الخير و الصلاح .
[ فقالوا ]
و يبدو أن القائلين هم الملأ المستكبرون الذين كانت قيادة صالح (ع) مناقضة لمصالحهم ، لذلك سعوا جهدهم الى محاربته ، و يدل على ذلك قوله تعالى : " قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه " (1)، و أرادوا بذلك تشكيكهم في شرعية قيادته ، و هنا أرادوا نفس الغاية ، و حيث لم يجدوا سبيلا لمواجهة الرسالة نفسها سعوا الى النيل من شخصية الرسول ، فقالوا : إنه ليس مرسلا من قبل الله لأن الله لا يرسل بشرا ، و بالتالي فاتباعه ليس واجبا ، و هذه الفكرة تشبهالى حد بعيد قول البعض عن الرسول (ص) انه عبقري وحسب ليثبتوا عدم لزوم طاعته ، و قد أضاف قوم صالح الى ذلك أنه مثلنا ومن محيطنا ولا شيء يميزه عنا يدعونا الى اتباعه ، ثم انه واحد لا مال له ولا أعوان ، فهو مجرد عن عوامل القوة التي تبعثنا الى طاعته و الخضوعله ، وقد يكون معنى " واحدا " أنه جاء بنظام سياسي يدعو الى قيادة موحدة ، و نبذ النظم القبلية و العشائرية القائمة على أساس تعدد القيادات ، و التي تفسح المجال لكل مترف و مستكبر لممارسة شهوة الرئاسة ، و هذا لا يتفق مع أهوائهم ، كما قال كفار قريش : " أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب " (2) .
[ ابشرا منا واحدا نتبعه ]
(1) الاعراف / 75 .
(2) ص 5 .
و اعتبروا اتباعه مع هذه الصفات ضربا من التيه ، بل الجنون ، واعترافا صريحا منهم بخطأ سيرتهم الماضية ، إضافة الى كونه يجردهم من الرئاسة ، و لذلك رفضوا قياداته و اتباعه .
[ انا اذا لفى ضلال وسعر ]
السعر هو الجنون الشامل المستمر ، و الحق أن هذه كلها مقاييس باطلة لا تصلح لتشخيص القيادة الحقيقية في المجتمع ، إنما الكفاءة الادارية و العملية و السياسية ، و مدى الالتزام بالحق ( التقوى ) ، و التصدي الفعلي للقيادة ، ثم إذن الله و إعطاؤه الشرعية هي المقاييس الصادقة للرئاسة .
[ 25] بل . إنهم اعتبروا الوجاهة الاجتماعية ، و كثرة المال و الأتباع ، هي المقاييس ، ولو تجرد صاحبها عن الكفاءة و التقوى ، و هذه متوفرة لديهم ، و هذا منطق المترفين و المستكبرين على مر التاريخ و مع كل الأنبياء و المرسلين ، " و قالوا " لرسولنا الأعظم " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " (1) .
و هكذا قال مترفو بني إسرائيل من قبل ، قال الله عز وجل : " ألم تر الى الملأ من بني اسرائيل من بعد موسى اذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال الا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد اخرجنا من ديارنا و أبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا الا قليلا منهم و الله عليم بالظالمين * و قال لهم نبيهم ان الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا انى يكون له الملك علينا و نحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال " (2) .
و هذه بالضبط هي كانت مقاييس قوم صالح ، لذلك استنكروا أن يصطفيه الله(1) الزخرف 31
(2) البقرة / 246 - 247 .
من بينهم وهو لا يضاهيهم مالا ولا اتباعا ، بل اتهموه بأرذل أنواع الكذب .
[ ءالقى الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب اشر ]
قال البعض : الأشر الذي يتجاوز الحد في الكذب ، و يبدو أنه الطمع في الرئاسة بلا استحقاق لها ، و لعل معنى كلام سيد الشهداء الامام الحسين (ع) : " إني لم أخرج ( اشرا ) ولا بطرا ولا ظالما ولا مفسدا " أنني حيث نهضت و طالبت بالامامة فهي من حقي ،و لست أدعي ما هو للغير ، و ظاهر كلمة " من بيننا " في هذه الآية يؤيد هذه الفكرة ، لأن المعنى بها يكون : أنه طلب يصلح و يحق لنا دونه ، و ربما دلت هذه التهمة الباطلة على أن خشية أولئك الكافرين من تحويل الرئاسة عنهم كانت وراء تكذيبهم برسالة صالح، حيث أنهم اتهموه بأنه طالب رئاسة بالباطل قياسا على أنفسهم الذين تسلطوا على الناس بغير حق .
[ 26] و أمام هذا المنطق المتوغل في الكبر على الحق ، و الاستهزاء بولي الله و رسوله صالح (ع) ، و الاعراض عن الآيات و النذر ، ومن ثم مبارزة الحق تعالى ، يتوعدهم ربنا بالعذاب .
[ سيعلمون غدا ]
في المستقبل الدنيوي و الأخروي إذا نزل بساحتهم العذاب .
[ من الكذاب الاشر ]
و حينئذ سيكتشفون مدى ضلالتهم و هوانهم على الله ، كما يوقنون عين اليقين صدق النذر ، و لكن دون جدوى ، لأن العلم و الايمان ينفعان ما بقيت فرصة للتغير و العمل ، و الآية تهدينا الى ان حبل الكذب قصير ينقطع بصاحبه سريعا ، و عاقبتهالخسران ، لأنه يخالف سنن الله في الحياة .
[ 27 - 29] و منذ أوحى الله الى نبيه بذلك الوعيد كان عالما بعاقبتهم ، قادرا على إبادتهم ، و لكنه - وقد كتب على نفسه الرحمة - لا يأخذهم بالعذاب قبل النذر ، لأن حكمته اقتضت أن يجعل لنفسه الحجة البالغة ، لئلا يقول الناس : " لولا أرسلت الينا رسولافنتبع آياتك و نكون من المؤمنين " (1) ، لذلك شاء و قضى أن يظهر لهم آيات العذاب اولا .
[ انا مرسلوا الناقة فتنة لهم ]
نبتليهم و نمتحنهم بها ، و حينما يتعرض المجتمع للفتنة فإن مسؤولية القيادة الرسالية و كذلك المؤمنين أن يكونوا شهداء لله عليه ، بالدعوة الى الحق ، و بيان البصائر و المواقف المطلوبة اثنائها ، و التصدي لقيادته ، و أن يستعدوا لهذه المسؤولية الحساسة ، ويتحملوا من اجلها الضغوط المختلفة ، و يستقيموا صامدين حتى يحكم الله تعالى .
[ فارتقبهم و اصطبر * و نبئهم ان الماء قسمة بينهم ]و بين الناقة التي أخرجها الله من الجبل " قال هذه ناقة لها شرب و لكم شرب يوم معلوم " (2) و كانت القسمة واضحة مقبولة لأنها تمت بحضورهم و رضاهم ، فكل صاحب يوم يحضر شربه في يومه .
[ كل شرب محتضر ]
(1) القصص / 47 .
(2) الشعراء / 155 .
و حينما يرسل الله الآيات المادية الواضحة اليى قوم أو أمة من الأمم فإن ذلك دليل على أنه يريد حسم الموقف بعذاب الاستئصال إذا كذبوا بها ، و لقد كانت الناقة آية مبصرة إلا أنها في نفس الوقت كانت صعبة على نفوسهم المنحرفة ، و من طبيعة الانسان أنه حينمايواجه أمرا صعبا يفرز حالة نفسية يضخم بسببها ذاته و يستهين بذلك الأمر ، فإذا بالقيم السامية و الدين يستحيلان الى شيء حقير عنده ، بلى . قد يكون الأمر ذاته ليس عظيما إلا أن عظمته الحقيقية تكمن في القيم التي يتصل بها ، جاء رجل الى الامام الباقر (ع) يسأله عن حكم دهن سائل وقعت فيه فأرة ميتة ، فقال له الامام : أرقه ، فقال : الفأرة أهون علي من ذلك ، فماذا كان جواب الامام ؟ قال له ( بما معناه ) : انك لم تستخف بالفأرة ، و انما استخففت بدينك ، و في الواقع الاجتماعي ايضا نجد شواهد لهذا الانحراف الخطر عند الانسان ، فإذا بك تراه لا يحترم العالم ولا يقدره لا لقلة علمه ، او ضعف شخصيته ، و انما لأن شكله لا يدعوه للاحترام ، ولا يعلم أنه بذلك يستهين بقيمه العلم لا بالعالم نفسه ، و علاج هذه الحالة بإيجاد توازن داخل الانسان بين نفسه و بين القيم ، و ذلك بتصور العاقبة التي ينتهي اليها هذا الانحراف .
ان قوم صالح احتقروا الناقة ، و ظنوا أنهم أكبر من أن يقدروها ، و يلتزموا بعهدهم مع النبي (ع) لشأنها ، و بالرغم من تحذيره لهم تآمروا ورضوا بعقرها .
[ فنادوا صاحبهم ]
قدار أو أحيمر ، بعد تخطيطهم للمؤامرات ، و كان أشقى القوم و أجراهم على الحق ، و لعل معنى المناداة ليس التنادي بالكلام فقط ، و انما أيضا بالرضا و عدم تحمل مسؤولية الدفاع عن الحق ، بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و مقاومة اهل البغي و الطغيان .
قال الامام علي (ع) :
" أيها الناس ! إنما يجمع الناس الرضى و السخط ، و إنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضى ، فقال سبحانه و تعالى : " فعقروها فأصبحوا نادمين " فما كان إلا أن خارت أرضهم بالخسفة خوار السكة المحماة في الأرض الخوارة" (1) .
و كان هذا الفرد يعكس الشخصية الحقيقية لذلك المجتمع ، إذ كان يعبر - بعمله - عن ضميرهم الفاسد ، و عزمهم الخائر ، و إرادتهم المشلولة ، و فكرهم الضال ، و غياب المؤسسات الاصلاحية بينهم ، و هكذا حينما تحكم أي مجتمع أفكار سلبية فإنها تتجسد في قيادة ضالة طاغية ، و نظام سياسي منحرف ، و عاقبة سوأى لا تخص الظالمين أنفسهم بل تطال كل أبناءه ، و ربما أقدم الشقي على عقر الناقة للوصول الى حاجة في نفسه هي الرئاسة ، و قد دخل بعمله هذا في صفقة مع المترفين و المستكبرين مباشرة ، و مع المجتمع بصورة غير مباشرة حيث رضوا عنه و لم يمنعوه .
[ فتعاطى ]
لعل معناه أنه استعد للقيام بجريمته ، و أخذ يتعاطى وسائلها ، و يهيء الأجواء لها ، و نستوحي من هذه الكلمة أن الجريمة لم تمر بسرعة ، و إنما احتاجت إلى التآمر ، و هذه طبيعة أكثر الجرائم ، أنها تسبقها إرهاصات تمهيدية تعطي الفرصة لأهل الحق بالتصدي لها ،و لقد كان مجتمع ثمود قادرا على مقاومة قدار بعد ان شاهدوا إرهاصات الجريمة عنده ، و لكنهم تركوه ، فبدأ عدهم التنازلي نحو النهاية و العذاب ، و وجد هو الفرصة سانحة لتنفيذ جريمته ، و القرآن في موضع آخر يصور طبيعة المجرم .
(1) نهج / خ 201 .
و موقف المجتمع فيقول : " إذ انبعث أشقاها " (1) ولا ينبعث الانسان إلا إذا كان نفسه متحفزا نحو ما ينبعث إليه ، ولا يجد ما يمنعه من نفسه ولا من خارجها ، و هذا حال الأشقى الذي ضرب عرقوب الناقة و قتلها .
[ فعقر ]
[ 30 - 31] و لم ينتبه هو ولا من حوله بأنه يبارز الله بعمله ، فنزل العذاب بساحتهم ، و الانسان لا يتصور أنه ينتهي إلى عاقبة كهذه لسبب يبدو تافها في نظره ، إذ قدرة الانسان على استيعاب كل ظواهر الخليقة و عواملها قدرة محدودة ، لذلك جاء القرآن ليرفع الانسان من حالة الشيئية و اللهو الى القيمة والجد .
[ فكيف كان عذابي و نذر ]
بقدر ما كانت النذر مبينة بالغة كان العذاب مهولا ورهيبا . و يبين الوحي واقع ذلك العذاب فيقول : إنه لم يكن صدفة ، بل كان مرسلا من عند الله ، بلى . قد ياتي العذاب ضمن سنن الحياة الطبيعية و الاجتماعية ، و لكن السنن لا يمكن أن تتحرك في الفراغ ، و بعيداعن تدبير الخالق و هيمنته ، و هذا البلاغ الالهي يضع حدا لمشكلة عميقة هي تفسير ظواهر الخلق تفسيرا ماديا محضا دون التوغل إلى خلفياتها المتصلة بسلوك البشر ، الأمر الذي يصرفه عن العبرة و التذكرة .
[ انا ارسلنا عليهم صيحة واحدة ]
صوتا هائلا صاعقا ، ربما يشبه انفجار القنبلة الذرية في العصر الحاضر أو أعظم فعن أبي بصير عن الامام الصادق (ع) قال : " فلما كان نصف الليل أتاهم جبرئيل فصرخ بهم صرخة ، خرقت تلك الصرخة أسماعهم ، و فلقت قلوبهم ،(1) الشمس / 12 .
و صدعت أكبادهم ، و قد كانوا في تلك الثلاثة أيام ( التي سبقت الصيحة بالنذر ) قد تحنطوا و تكفنوا و علموا أن العذاب نازل بهم ، فماتوا أجمعين في طرفة عين ، صغيرهم و كبيرهم ، فلم يبق لهم ناعقة ولا راغبة ، ولا شيء إلا أهلكه الله ، فأصبحوا في ديارهم و مضاجعهم موتى اجمعين ، ثم أرسل الله عليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقهم أجمعين " (1) لكي لا يبقى لهم أثر في الحياة ، و تحدث الله بضمير الجمع " إنا " الدال على التعظيم و التكبر لأن المقام مقام عزة الله و سلطانه .
[ فكانوا كهشيم المحتظر ]
و هو بقايا العلف و الحشائش و الاعواد اليابسة التي تتراكم في حظيرة الماشية ، و تبقى و تهشمها بأظلافها و حوافرها ، و حيث لا تجد طريقا للخروج منها تظل تدوسها بكثافة و قد ذكر معاني أخر للهشيم الا ان ماذكرنا يبدو أقرب منها .
و هو بقايا العلف و الحشائش و الاعواد اليابسة التي تتراكم في حظيرة الماشية ، و تبقى و تهشمها بأظلافها و حوافرها ، و حيث لا تجد طريقا للخروج منها تظل تدوسها بكثافة و قد ذكر معاني أخر للهشيم الا ان ما ذكرنا يبدو أقرب منها .
[ 32] هكذا كان مصيرهم و عذابهم ، و ما تصوره الآيات لنا عنه مجرد لقطات يحفظها القرآن لإنذار البشرية و تذكيرها عبر الزمن ، و نحن لا نستطيع تصور الصيحة التي عبر بها الرب يومئذ عن غضبه بعقولنا المحدودة ، ولا نستطيع أن نتخيل ثمود وقد تعرضوا لها ، بالذات لو كنا في مجتمع القرآن الأول أيام الرسول (ص) حيث لم يصنع الانسان الأسلحة التدميرية المعاصرة ، لذلك نجد القرآن يقرب لنا الصورة بتشبيه واقعي تستوعبه عقولنا ، و يفهمه حتى ذلك البدوي الذي يقطن الصحراء ، و هذا من منهج الله في تيسير كتابه المجيد .
قال الإمام الصادق (ع) يحكي قصتهم :
" هذا كان بما كذبوا صالحا ، و ما أهلك الله عز وجل قوما قط حتى يبعث إليهم قبل ذلك الرسل فيحتجوا عليهم ، فبعث الله إليهم صالحا فدعاهم فلم يجيبوه ، و عتوا(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 184 .
عليه عتوا و قالوا : لن نؤمن لك حتى تخرج لنا من هذه الصخرة الصماء ناقة عشراء ، و كانت الصخرة يعظمونها ، و يعيدونها ، و يذبحون عندها في رأس كل سنة ، و يجتمعون عندها ، فقالوا له : إن كنت كما تزعم نبيا رسولا فادع لنا إلهك حتى يخرج لنا من هذه الصخرة الصماء ناقة عشراء ، فأخرجها الله كما طلبوا منه ، ثم أوحى الله تبارك و تعالى إليه ، يا صالح قل لهم : إن الله قد جعل لهذه الناقة شرب يوم و لكم شرب يوم ، فكانت الناقة إذا كان يوم شربها شربت الماء ذلك اليوم فيحلبونها ، فلا يبقى صغير ولا كبير إلا شرب من لبنهايومهم ذلك ، فإذا كان الليل و أصبحوا غدوا إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم و لم تشرب الناقة ذلك اليوم ، فمكثوا بذلك ما شاء الله ، ثم إنهم عتوا على الله ، و مشى بعضهم إلى بعض ، و قالوا : إعقروا هذه الناقة و استريحوا منها ، لا نرضى أن يكون لنا شرب يوم ولها شرب يوم ، ثم قالوا : من ذا الذي يلي قتلها ، و نجعل له جعلا ما أحب ؟ ، فجاءهم رجل أحمر أشقر أزرق ولد زنا لا يعرف له أب ، يقال له قدار ، شقي من الأشقياء ، مشؤوم عليهم ، فجعلوا له جعلا ، فلما توجهت الناقة إلى الماء الذي كانت ترده تركها حتى شربت الماءو أقبلت راجعة ، فقعد لها في طريقه فضربها بالسيف ضربة فلم يعمل شيئا ، فضربها ضربة أخرى فقتلها ، فخرت إلى الأرض على حينها ، و هربت فصيلها ، حتى صعد إلى الجبل فرغا ثلاث مرات الى السماء ، و أقبل قوم صالح فلم يبق أحد إلا شركه في ضربته ، و اقتسموا لحمها فيما بينهم فلم يبق صغير ولا كبير إلا أكل منها ، فلما رأى ذلك صالح أقبل إليهم فقال : يا قوم دعاكم إلى ما صنعتم أعصيتم ربكم ؟ فأوحى الله تبارك و تعالى إلى صالح (ع) : إن قومك قد طغوا و بغوا و قتلوا ناقة بعثها الله إليهم حجة عليهم ، ولم يكن عليهم منها ضرر، و كان له أعظم المنفعة ، فقل لهم : إني مرسل إليكم عذابي إلى ثلاثة أيام ، فإن هم تابوا و رجعوا قبلت توبتهم وصددت عنهم ، و إن هم لم يتوبوا ولم يرجعوا بعثت إليهم عذابي في اليوم الثالث ، فأتاهم صالح ( صلى الله عليه ) فقال لهم : يا قوم إنيرسول ربكم إليكم ، وهو يقول لكم : إن أنتم تبتم و رجعتم واستغفرتم غفرت لكم و تبت عليكم ، فلما قال لهم ذلك كانوا أعتا ما كانوا و أخبث ، وقالوا : " يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين " قال : يا قوم إنكم تصبحون غدا و وجوهكم مصفرة ، واليوم الثاني و وجوهكم محمرة ، و اليوم الثالث و وجوهكم مسودة ، فلما كان أول يوم أصبحوا و وجوههم مصفرة ، فمشى بعضهم الى بعض وقالوا : قد جاءكم ما قال لكم صالح ، فقال العتاة منهم : لا نسمع قول صالح ، ولا نقبل قوله وإن كان عظيما ، فلما كان اليوم الثاني أصبحتوجوههم محمرة ، فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا : يا قوم قد جاءكم ما قال لكم صالح ، فقال العتاة منهم : لو أهلكنا جميعا ما سمعنا قول صالح ، ولا تركنا آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها ، ولم يتوبوا ولم يرجعوا ، فلما كان اليوم الثالث أصبحوا و وجوههم مسودة ، فمشى بعضهم إلى بعض و قال : يا قوم أتاكم ما قال لكم صالح ، فقال العتاة منهم : لقد أتانا ما قال لنا صالح ، فلما كان نصف الليل أتاهم جبرئيل فصرخ بهم صرخة ، خرقت تلك الصرخة أسماعهم ، و فلقت قلوبهم ، و صدعت أكبادهم ، و قد كانوا في تلك الثلاثة أيام قد تحنطوا وتكفنوا و علموا أن العذاب نازل بهم ، فماتوا أجمعين في طرفة عين ، صغيرهم و كبيرهم ، فلم يبق لهم ناعقة ولا راغية ولا شيء إلا أهلكه الله ، فأصبحوا في ديارهم و مضاجعهم موتى أجمعين ، ثم أرسل الله عليهم مع الصيحة النار من السماء فإحرقهم أجمعين ، و كانت هذهقصتهم " (1)
و هي و سابقاتها وما يليها من القصص وإن تضمنت الكثير من الأفكار إلا أنها تدور حول فكرة محورية بهدف تيسيرها و تقريبنا منها .
[ و لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ]
(1) المصدر / ص 185 .
هكذا يكرر الذكر الحكيم آياته و عبره ، و لعلنا نتنبه من الجهل و الضلال و الغفلة ، و لكنه بالرغم من ذلك لا زال غريبا مهجورا في واقعنا بجميع أبعاده ، فنحن لا زلنا بعيدين عن دعوته للوحدة و العمل ، و الاستقامة على الحق ، و محاربة الجبت و الطاغوت ، والاتعاظ بالنذر السالفة .
[ 33] و مع ذلك ما يبرح يتابع إلينا سورة فسورة ، و آية فآية ، و مثلا فمثلا ، فهذه آياته و قد انتهت من عرض قصة ثمود ، تضرب لنا مثلا آخر عن عاقبة التكذيب بقصة قوم لوط ، الذين تورطوا اخلاقيا في الشذوذ الجنسي ، و صاروا يأتون الرجال شهوة من دون النساء ،فحذرهم نبيهم (ع) من هذا الانحراف عن طاعة الله و سنن الحياة ، و لكنهم لم يعتبروا بمصير الماضين ولا بنصح لوط (ع) ، بل راحوا يكذبونه ، و يريدون به الشر و الأذى ، رغم النذر الظاهرة .
[ كذبت قوم لوط بالنذر ]
قيل أنه من النذر الذين أرادوا الفاحشة بضيف لوط من الملائكة " فأشار إليهم جبرئيل بيده فرجعوا عميانا يلتمسون الجدار بأيديهم " (1) .
إلا أن القوم لم يتعظوا بهم ، بل أصروا على فسادهم ، و تمادوا في التكذيب ، و لعل بعضهم راح يؤول عماهم إلى أسباب أخرى ، فهم كما وصفهم في أول السورة : " وإن يروا آية يعرضوا و يقولوا سحر مستمر " (2) .
[ 34 - 35] بلى . إنهم كذبوا فما أهملهم الله ، بل أرسل عليهم ريحا محشوة بالحجارة الصغيرة في بادىء الأمر ، لتكون آخر النذر و علامة إلى لوط و المؤمنين معه بقرب العذاب ، و ربما كان ذلك أواخر الليل ، أما العذاب الحقيقي فقد أخره الى(1) بحار الانوار / ج 18 / ص 348 .
(2) القمر / 2 .
الصباح ريثما يخرجون .
[ انا ارسلنا عليهم حاصبا ]
و لكن بقيت العناية الالهية تحفظ المؤمنين و ترعاهم ، حيث أمر الله لوطا (ع) و المؤمنين بالخروج من القرية الظالم أهلها ليكونوا في مأمن من العذاب : " فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليسالصبح بقريب : (1) ، فارتحلوا منها ، و هذا يدل على أن العملية كانت تجري بإشراف إلهي مباشر لا صدفة ، فحتى خروجهم لم يكن بسبب الارهاصات الطبيعية للعذاب ، بل كان بأمر نزل من الله ، ولولاه لربما كانوا يبقون ، لذلك يؤكد القرآن بأن الله هو الذي أنجاهم و أنقذهم .
[ الأ آل لوط نجيناهم بسحر ]
يعني نهايات الليل و بدايات الصباح ، و لا يكتفي الوحي بذلك بل يضيف بأن النجاة كانت نعمة إلهية ، و ليست نتيجة حالة بشرية أو صدفة .
[ نعمة من عندنا ]
و لكنها مرتبطة بواقع بشري هو الشكر . إنها مرت بدورة متكاملة : إيمان + عمل و شكر صاعد من قبل الانسان + الارادة الالهية بالتوفيق = النعمة النازلة من الله للانسان ، و ربنا لا يخصص هذه الدورة بشخص لوط (ع) بل يخلص من ذكر الخاص الى العام ومن الشاهد الى السنة .
[ كذلك نجزي من شكر ]
(1) هود / 81 .
أيا كان ، و في أي مكان و زمان .
[ 36 - 37] و يعود القرآن إلى التأكيد على أن العذاب مر بدورة متكاملة : إنحراف بشري + نذر إلهية + تكذيب بشري و إصرار على الانحراف = العذاب من عند الله ( النقمة في مقابل النعمة ) ، إن لوطا شخص الانحراف الاجتماعي ، و سعى جاهدا الى التغيير و الاصلاح ، فأنذر قومه من عواقب ضلالهم و أنه يؤدي بهم الى الانتقام الشديد الذي لا قبل لهم به من عند ربهم .
[ و لقد انذرهم بطشتنا ]
و بدل أن يفكروا في النذر و يتعظوا بها صاروا يتمارون ، و التماري كما يبدو هو الشك الذي يتحول إلى تشكيك إجتماعي ، و قوم لوط لم يكتفوا بتكذيبهم ، بل صار الواحد يدخل الشك إلى الآخر لكي يمعنه من الايمان بالنذر البالغة ، و سمي الجدال مراء لأن أطرافه يشكل الواحد على الآخر بقصد رد حجته وابطالها .
[ فتماروا بالنذر ]
فكانوا يدافعون عن ضلالهم وباطلهم في مقابل الحق ، استهزاء وجمودا ، و يسعون إلى تغلب أفكارهم وباطلهم عن الحق المبين في أذهان بعضهم ، و ذلك بصرف الآيات و تأويلها إلى غير مضامينها ، و هذا منهج المكذبين عبر التاريخ ، فها هم قوم عاد يدعوهم هود إلى الايمان، فإذا بهم يصرون على باطلهم الى آخر لحظة : " فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شيء بامر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين " (1) ، و الى مثل هذا انتهى انحراف قوم لوط
(1) الاحقاف / 24 - 25 .
و تكذيبهم و مراؤهم ، فلقد أرسل الله إلى نبيه الملائكة ومن بينهم جبرئيل (ع) ، و لكنه أنزلهم في صورة جميلة لتبدأ البطشة من محاولة الاعتداء عليهم فيتأكد للقوم بأن هلاكهم كان نتيجة لذلك الانحراف الذي حذرهم من عواقبه لوط (ع) ، و يؤخذوا بالجرم المشهود .
[ و لقد راودوه عن ضيفه ]
يريدون بهم الفاحشة ، " قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد * قالوا لقد علمت مالنا في بناتك من حق و إنك لتعلم ما نريد * قال لو أن لي بكم قوة أو آوي الى ركن شديد " (1) إنه حاول إصلاحهم في بادىء الأمر بتوجيههم إلى الجنس الآخر علاجا لانحرافهم ، و رفعا للحرج مع الضيوف ، ثم هددهم باستخدام القوة " فصاح به جبرئيل فقال : يا لوط دعهم يدخلون ، فلما دخلوا أهوى جبرئيل (ع) باصبعه نحوهم فذهبت أعينهم " (2) .
[ فطمسنا اعينهم فذوقوا عذابي و نذر ]
قيل أن الطمس هو حجب البصر مع وجود العين على طبيعتها ، و قيل أنه القلع و المسح ، و الذي يبدو أنه ذهاب الرؤية مع ضمور المعالم الظاهرية للعين ، و عندما أنزل الله بهم العذاب ربما رفع قدرتهم على الاحساس إلى أقصاها تفاعلا و وعيا زيادة في العذاب ، إذ لا قيمة لعذاب لا يتذوقه صاحبه .
[ 38 - 40] كان ذلك ( طمس الأعين ) عذابا مؤقتا ، أما العذاب الأ وهي و المستمر ، الذي يتصل بالعذاب المقيم في الآخرة ، فقد ابتدرهم أول الصباح .
(1) هود / 78 - 80 .
(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 185 .
[ و لقد صبحهم بكرة عذاب مستقر ]
لقد كان عذابا مستقرا لا يجدون منه فكاكا لا في دنياهم ولا في الآخرة .
و يبدو ان كلمة " مستقر " تفسير لقوله سبحانه في فاتحة السورة : " و كل امر مستقر " ، و معناها أن عذاب أولئك القوم كان من السنن الثابتة و المستقرة في الحياة ، و نجد تفصيلا للعذاب ، و بيانا لهذه الفكرة ، في موضع آخر من القرآن ، إذ يقول تعالى : " فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها و أمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود * مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد " (1) ، لأن العذاب لم يكن خارقا لسنن الحياة ، ولا عرضا طرأ عليها ، بل هو جزء منها و مظهر لها ، و هي مستقرة لا تحويللها ولا تبديل إلى يوم القيامة ، و قد أذاقهم الله هذا العذاب كما أذاقهم عذاب الطمس .
[ فذوقوا عذابي و نذر * و لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ]هكذا يصرخ فينا القرآن يدعونا إلى مأدبة الله ، و يعيد هذه الدعوة بصيغة أخرى فيقول : " افلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " (2) . إن القرآن ذاته ميسر للذكر و التدبر ، و لكن قلوبنا هي المعقدة ، إنه يفتح لنا أبواب العلم و الايمان ، و تغلق قلوبنا عنه بالذنوب و الأفكار المتخلفة . أرأيت كيف يرفع البعض دعوة تضاد دعوة الله ، و تصد عن كتابه ؟ ! إنهم يقولون : لا يجوز لأحد أن يتدبر في القرآن ، ولا يفسره ، و يبررون ذلك بالحساسيات المفرطة المتزمتة ، وبأنه معقد لا يفهمه إلا المجتهدون و الفقهاء ، و لكن القرآن جاء ليرد هذه الفكرة و يهدينا للتي هي أقوم بنص قرآني ظاهر لايقبل التأويل ولا الاجتهاد .
(1) هود / 82 - 83 .
(2) محمد / 24 .
|