بينات من الآيات [ 1] [ الرحمن ]
هكذا .تأتي هذه الكلمة و حدها آية قرآنية ، و لعلها أقصر آية بعد الحروف المقطعة ، و لكنها من حيث المعنى تشكل محورا في السورة بتمامها ، يتصل بآية آية فيها ، و يعكس ظله على كلماتها ، و حينما تنطلق من هذه السورة المباركة إلى العالم الواسع تجد هذا الاسمالالهي منبسطا على كل مفردة فيه ، لأنه تعالى كتب الحياة بلغة الرحمة و اللطف ، و لك ان تتصور كم ينبغي أن يكون الانسان ضالا و مجردا عن أي إحساس حتى يكون جاهلا بربه و برحمته ، بل جاحدا بآلآئه ، حتى يتساءل بصلافة : " وما الرحمن " ؟ ! (1) إنه لا شك أقل قدرا و وعيا من البهيمة ، لأنها تعي رحمة ربها ، و تؤمن به بقدر شعورها ، بينما الانسان و قد أعطاه الله العقل و لكنه لا ينتفع به ! و صدق عز وجل حين قال عنهم : " أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا " (2).
[ 2] إذا تعال معا نستمع الوحي وهو يعرفنا جانبا من رحمة الله ، و يهدينا إلى تجليات إسم الرحمن في الخلق وفي أنفسنا قبل ذلك .
[ علم القرآن ]
(1) الفرقان / 10 .
(2) الفرقان / 44 .
إن للرحمة الالهية درجات ، و لكن أعظمها بالنسبة للانسان الهدى المتمثل في القرآن ، فالخلق بحد ذاته رحمة و هي تسبق تعليم القرآن ، إلا أن ذكره ياتي متأخرا ، ذلك أن الهدى هو الهدف من الخلق ، و لو لم يهد الله عباده إليه تكون الحكمة من وجودهم و إيجادهمقد انعدمت . أو لم يقل ربنا سبحانه : " وما خلقت الجن و الانس إلا ليعبدون " ؟ .
و القرآن يهدي البشر إلى معرفة ربه ، و لأنه لا يمكنه ذلك إذا كانت بينه و بين الله حجب الغفلة و الجهل و الذنوب ، فان القرآن يزكيه حتى يتجاوز تلك الحجب ، وحتى شرائع الدين تهدف في النهاية تمهيد السبيل إلى معرفة الرب . كيف ؟ لأنه لا يقدر الانسان على معرفة الرب مادام يعيش في مجتمع فاسد منحرف عن سنن الحق لا يني يعتصره حتى يكون متوافقا معه ، فكيف يتخلص من ضغوطه ، و يتحدى فساده ؟ هذا ما تضمنه تعاليم الدين ، و كيف يبني مجتمعا فاضلا بديلا عنه ؟ هذا ما تفصله أحكامه القيمة ، و بالتالي كيف يتجنب عوامل الخطيئة حتى يعرف الله ؟ هذا ما يتكفل به القرآن بهداه و بيناته ، ببصائره و مفصلاته ، بأحكامه و شرائعه ؟ إنه يحقق بكل ذلك الحكمة من خلق الانسان ألا وهي معرفة الله ، التي هي بدورها تجل لرحمانيته تعالى ؟ أليست معرفته عين الكمال ، و محض النعمة ، و وسيلة الزلفى، و سبب تسخير الخليقة ؟؟
و السؤال : كيف علم الله القرآن للانسان ؟
أولا : بأن علمه رسوله (ص) وهو علمه للبشرية تبليغا و بيانا .
ثانيا : بأن القرآن تعبير صريح عن الحقائق التي أودعها الله في فطرة كل بشر ، مما يجعل إيداعها بمثابة تعليم القرآن نفسه ، مما يجعل دوره بالنسبة للحقائق دور المذكر بما ينطوي عليه و جدان الانسان .
و يبدو أن حذف : مفعول التعليم الثاني فلم يفصح عمن علم القرآن كان لحكمة بالغة هي : إن جعل القرآن علما بحيث ينتفع به كل من شاء هو المناسب لرحمانية الله ، كما قال ربنا سبحانه : " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر " .
[ 3 - 4] و حينما نوجه نظرنا صوب الانسان نفسه نراه بكله مظهرا لرحمة الله . إنه لم يكن شيئا ، فأوجده الله من غير استحقاق منه ، و من دون أي جبر أو اضطرار ، إلا رحمة منه عز وجل .
[ خلق الإنسان ]
و كفى بخلق الانسان دليلا على رحمته . ألا تراه عالما كبيرا بذاته ، تماوجت في كيانه بلايين النعم التي لو فقد واحدة منها انتقصت الرحمة ؟
بيد أن أعظم ما في الانسان قلبه ( مخه و عقله ) ، ذلك أن الله خلق الانسان في أحسن تقويم ، و فضله على كثير من خلقه ، ثم أكمل خلقه بالعقل ، و أكمل العقل بالقرآن ، و أكمل كل ذلك بنعمة البيان ، الذي يقوم بدور تواصل المعلومات و تناقل الخبرات من إنسان لآخر، و من أمة لأخرى ، و من جيل إلى جيل ، ولولا هذه الميزة لما كانت حضارة ، و كان البشر و سائر الأحياء سواءا ، فحياة الهرة قبل مليون سنة هي حياتها الآن ، لأن كل فرد من هذا الجنس يعيش في حدود غرائزه أو تجاربه الذاتية ، بينما تنمو حضارة البشر بتواصل التجارب و المعلومات و تراكمها ، و هذا كله مرتكز على البيان ، وما كان قادرا عليه لولا فضل الله و رحمته إذ تلطف عليه به .
[ علمه البيان ]
و هذه النعمة هي الأخرى مظهر لاسم الرحمن ، و آية هادية إليه ، و ما يجب على الانسان هو الاعتراف بهذه الآلاء ، و أداء شكرها ، و لكنك تراه بدل ذلك يمارسالخطيئة بتلك النعم ، فاذا به يسخر البيان من أجل الباطل .
[ 5 - 6] و من الحديث عن آثار رحمة الله في كيان الانسان تنقلنا الآيات إلى آفاق العالم لعلنا نرى فيها تجليات اسم الرحمن ، هكذا يوصل القرآن الحديث عن الانسان و الكون لكي يخرجنا من قوقعة الذات الى الآفاق الواسعة ، لكي يؤكد لنا بان الكائنات جميعا خاضعةلله ، حيث يؤدي كل شيء دوره و هدفه من الخلق بالتزامه بالنظام الذي رسمه الله له . أنظر الى الشمس تجدها تتحرك بدقة متناهية جدا ، و بتناسق رائع مع حركة القمر ، " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون " (1) . إذن فأي خروج من قبل الانسان عن حدود الله هو شذوذ و شقاق و ضلال وتيه .
[ الشمس و القمر بحسبان ]
لقد خلق الله الخلق متناسقا يكمل بعضه بعضا ، فلولا الانسان ما خلق الله الشمس و القمر و النجوم ، و الشجر ، و السماء و الأرض وما فيهما ، ولولا هذه الأشياء ما كان للانسان أن يجد سبيلا للحياة .. و الشمس و القمر لهما آثار مباشرة في حياة الانسان ، بل في الحياة على كوكبنا كله ، فالشمس توفر لنا الضوء ، و لها صلة ماسة بالنباتات على الأرض ، و هكذا يؤثر القمر في بحار الأرض و محيطاتها ، و فوائد اخرى لها لايزال العلم الحديث يحث الخطى لاكتشافها ، و لكن تبقى أعظم فائدة لهما و لكل شيء أنهما آيتان تهديانا إلى الله ، و نلمس هذا الهدى بصورة أجلى و أفضل بالاطلاع على دقة النظام الذي يتحكم فيهما .
فلو أن الشمس اقتربت إلى الارض او ابتعدت عنها أكثر ، أو تبدل نظامها في الغروب و الشروق ، أو تصاعدت حرارتها أو انخفضت ، لأصبحت الحياة صعبة أو(1) يس / 40
مستحيلة .. و كذلك القمر فاذا رأيناه يحمل ملايين الأطنان من مياه البحر فانه لاشك يؤثر في مخ الانسان الذي يشكل الماء حوالي 70% منه .
[ و النجم و الشجر يسجدان ]
قال بعض المفسرين : إن النجم هو النباتات الصغيرة ، و الشجر هي النباتات الكبيرة ذات الساق ، و ذلك ليوجدوا ارتباطا بين الإثنين ، و الذي يبدو من ظاهر الآية أنها لا تحتاج إلى هكذا تأويل ، فالنجم هو الذي في السماء ، و الشجر هو الشجر الذي نعرفه ، و ربما الهدف من ذكرهما معا بيان العلاقة بين أبعد الأشِياء عنا و أقربها إلينا في الطبيعة ، فهي وإن كانت في نظرنا جوامد إلا أنها تملك قدرا من الوعي و الإحساس يدعوها لعبادة ربها " وإن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم " (1) .
و حيث يدل السجود على غاية الخضوع و العبودية ، فإن سجود النجوم و الشجر يتجلى في خضوعها لسنن الله المرتبطة بها ، فإنك لا تجد نجمة تنحرف عن مسارها ، و لا شجرة تنبت غير ثمرها .
ولا ريب أنهما مظهر لرحمة الله بالإنسان ، فللنجوم علاقة و ثيقة بتنظيم هيكلية الجاذبية في هذا الفضاء الرحب ، ثم انها تؤثر بأشعتها على الأرض وعلى الكائنات فيها ، حتى قيل بأن كل مادة في جسم الإنسان تستمد قدرا من وجودها و كيانها - بلطف الله - من الأشعةالمبثوثة في الفضاء ، و العلاقة بين النجوم و الشجر ليست علاقة علمية و حسب ، بل ان الزراع و الفلاحين يستدلون بها على ميعاد زراعة الأنواع المختلفة من النبات ، و أوقات اللقاح و التشذيب و ما إلى ذلك . إّذن فلا ينبغي أن(1) الاسراء / 44 .
نتصور بان تلك النجوم التي تفصلنا عنها ملايين السنين الضوئية لا علاقة لها بنا ، كلا .. وهذا يفسر الحديث القدسي : " خلقت الأشياء لأجلك و خلقتك لأجلي " الذي يشير إلى العلاقة بين كل شيء و بين الإنسان ، و قد قدم ربنا الإشارة الى خلق الإنسانعلى الحديث عن الكون لأنه الهدف .
[ 7 - 9] ثم أن السورة المباركة تذكرنا بتجل آخر لإسم الرحمن في نعمة السلام و الأمن ، سواء كان أمن وجود الإنسان أو أمن حقوقه ، فالسماء رفعت كي تحافظ بطبقاتها على وجوده ، فهي تمنع عنا النيازك و الشهب الساقطة ، كما يمتص الغلاف الجوي الأشعة الضارة أن تصل إلينا ، و يخفف من الأشعة الأخرى التي من شأنها لو وصلت إلينا بصورة مركزة الإضرار بنا أيضا ، و هكذا .. و كما ضمن الله حياتنا بالسماء ضمن برحمته الحقوق للإنسان عندما وضع الميزان .
[ و السماء رفعها و وضع الميزان ]
الحياة كلها من النبتة الصغيرة حتى الشجرة الكبيرة ، و من الذرة المتناهية في الصغر حتى المجرة المتناهية في السعة و الضخامة ، و فيما بينها الإنسان و الشمس و القمر ، كل ذلك يتجلى فيه التدبير اللطيف و النظام الدقيق ، حتى قالوا أن الحياة كتبت بلغة رياضية، و لذلك فإنها تنعكس في ضمير الإنسان وفي رسالات الله بصورة موازين و قيم . أليس الفكر مرآة صافية ؟ أو لا تعكس هذه المرآة ذلك النظم الدقيق ، و التدبير الحسن ؟ بلى . و كذلك الوحي يذكرنا بالعقل ، و يفصح عن تلك الموازين الحق التي انبثت في الخليقة .
فالإنسان يعرف الخير من الشر ، و الحسن من القبيح ، بل و يزن أيضا أي الشرين أهون و أي الحسنيين أفضل ، كما أنه يتمتع بحس جمالي . ألا تراه كيف يميز بين لوحة و أخرى ، ووجه و آخر ، كما أنه بحواسه يفرق بين الأحجام ، و الألوان ،و المسافات ، و الأصوات . هل فكرت كيف يميز الإنسان بأذنه بين الأصوات المختلفة ، يقيس - مثلا - صوتين متقاربين لأخوين ، بل صوت الإنسان الواحد في حالتين أو مرحلتين ، حينما يستيقظ من نومه ، و حينما يكون مريضا .. ولو أنك قارنت بين أكثر المسجلات تطورا و بينالأذن ، أو بين المصورات المتقدمة و بين العين ، لوجدت حواس الإنسان تتميز بدقة الموازين ، و هذه الموازين عكسها الإنسان في صور محسوسة ، فصنع للثقل ما يسمى بالميزان ، و للمسافات المتر و الذراع وما إلى ذلك ، و للزمن الساعة ، و للحرارة و الرطوبة مقياسا آخر، كما وضع قوانين و أنظمة تجسد موازين العدل و الأخلاق و القيم و الأعراف . إذن ربنا هو الذي خلق الموازين في الطبيعة ، إذ خلق كل شيء بحسبان و قدر ، ضمن زمن ، و حجم ، ولون ، و شدة ، و ضعف ، و عدد من الموازين الأخرى ، و عكس ذلك في ضمير الإنسان و حواسه و عقله .
و هناك علاقة بين رفع السماء و وضع الميزان في الآية الكريمة ، فالسماء رفعت بالميزان و من أجل الميزان ( القوانين و الأنظمة الخاصة بها ) ، ولولاها لكانت تقع على الأرض ، و هكذا كل شيء في الحياة ، فحياة الإنسان تستحيل عذابا لو لم يلتزم بالميزان ، لذلكيؤكد ربنا مباشرة بعد هذه الآية و بآية أخرى على ضرورة احترامه و إقامته .
إن الله وضع الميزان في الطبيعة ، و لكن رحمته لا تتجلى فيها فقط بل على يد الإنسان أيضا ، فهو بحكم حريته قد ينغص صفو الأمن على نفسه و يفسد السلام ، كما أنه يستطيع أن يساهم في جلب السلام و السعادة إليها لتتجلى رحمانية الله على يديه ، و ذلك إذا لم يطغفي الميزان و أقامه بحق ، فلم يسرف في الأكل و الشرب ، ولم يبذر في الصرف ، و لم يستهلك أكثر مما ينتج ، و لم ينم أكثر من حاجته ، بل أقام الوزن في جوانب حياته الشخصية و الإجتماعية .
[ ألا تطغوا في الميزان ]
و الطغيان هو إخسار الميزان بصورة فظيعة ظاهرة ، و ربنا ينهانا عن ذلك ، و يلحق بالنهي دعوة إلى إقامة الوزن باحترامه و الإلتزام الدقيق به ، و بأفضل صور العدل و هو القسط .
[ و أقيموا الوزن بالقسط ]
وهو أقرب الى التقوى حتى من العدل ، ذلك أن القسط ليس مجرد العدل ، بل العدل باضافة الإحتياط الذي يضمن حصوله بالفعل ، فمثلا إذا كنت صاحب محل تزن للناس تعادل ما تبيع بالوزن المطلوب ثم تضيف إليه شيئا ، وإذا كنت تشتري تنقص ما تشتريه عن الوزن المتفق بينكو بين البائع ، و ذلك للتأكيد من فراغ الذمة في الحالتين . هذا هو القسط ، و كم تكون البشرية سعيدة لو عملت بهذه القاعدة .
و الإقامة هي الإلتزام بالشيء و أداؤه على أحسن وجه ، و إقامة الوزن تكون في أفضل صورها عند العمل بالقسط .
و ربنا لا ينهى عن إخسار الميزان بصورة ظاهرة و فظيعة ، بل و ينهى حتى عن مخالفته بصورة بسيطة ، أو خفية باستغلال غفلة الناس و ثقتهم ، أو بالإحتيال على القانون ، فيقول :
[ ولا تخسروا في الميزان ]
و العمل بالقسط يضمن من جانب تحقق العدالة ، و من جانب آخر يجنب الإنسان مخالفة الحق و النظام ، و السؤال : كيف يخسر الإنسان الميزان ؟
من المفاهيم الحضارية بل من الإنجازات الهامة في عالمنا اليوم وحدة الموازين ،( الكيلو غرام ، الكيلو متر مثلا ، و كذلك المقاييس و الوزان الأخرى ) و هذه يتفق عليها الناس ، و يعتمدونها في معاملاتهم ، و لعل هذا من أبرز معاني إقامة الميزان و احترامه و عدم التلاعب به ن بان يعتبر البعض الكيلو 900 غراما ، و البعض الآخر 100 غراما ، فذلك يفقد البشرية إنجازا حضاريا ، و يفسح المجال للمزيد من الظلم و التلاعب بالحقوق ، بل إن إقامة الوزن ( الهدف ) لا يتحقق إلا بالميزان ، و إخساره تضييع لهذا الهدف .
و كلمة " الميزان " واسعة تشتمل على كثير من المضامين ، فالعقل ميزان ، و القرآن ميزان ، و العهد ميزان ، وما تتفق عليه التنظيمات في اجتماعها إلى بعضها ميزان ، ولا يصح لأحد أن يخرج عليه مهما كان مخالفا لمصالحه الشخصية ، و لكن أظهر معاني الميزان هو القيادة الرسالية ، بأقوالها و أفعالها و آرائها باعتبار قربها من القيم فهما وتطبيقا ، قال الإمام الرضا (ع) : " و الميزان أمير المؤمنين ( صلوات الله عليه ) نصبه لخلقه ، قال الراوي : قلت : الا تطغوا في الميزان ؟ قال : لا تعصوا الإمام ، قلت : و أقيموا الوزن بالقسط ؟ قال : و أقيموا الإمام بالعدل ، قلت : ولا تخسروا الميزان ؟ قال : لا تبخسوا الإمام حقه ولا تظلموه " (1) و القرآن يضرب لنا مثلا لإخسار الميزان في الحقل الإجتماعي و الإٌقتصادي فيقول متوعدا : " و يل للمطففين * الذين إذا اكتالوا علىالناس يستوفون * و إذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون " (2) و التطفيف كما يظهر من الآية يناقض بالضبط إقامة الوزن بالقسط .
[ 10] و الأرض هي الأخرى تجل لرحمة الله الشاملة ، حيث خلقها و وفر فيها عوامل الحياة التي من شأنها أن تجعل عيش الإنسان عليها ممكنا بل طيبا ، كالجاذبية و الأكسجين و الماء و مختلف أنواع الأكل ، و كذلك وفر فيها الضوء و الحرارة(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 188 .
(2) المطففين / 1 - 3 .
بقدر حاجة البشر .
[ و الأرض و ضعها للأنام ]
و القرآن يشير إلى معنى الوضع هنا في آية أخرى إذ يقول : " الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سيلا لعلكم تهتدون " (1) ولولا رحمة الله و تمهيده الأرض لنا لاستحال عيشنا على هذا الكوكب كما هو مستحيل على الأجرام الأخرى كالشمس و الزهرة و غيرهما ، وفي الآية فكرتان حضارية و شرعية نستفيدهما من كلمة " وضعها " :
الأولى : أن الله سخر الأرض عمليا للإنسان ، و أعطاه الوسائل و القدرات العلمية و المادية يسميها القرآن " سبلا " للانتفاع بها و الهيمنة عليها من قمم الجبال الشاهقة إلى قعر المحيطات ، فعليه أن يسعى لتسخيرها في مصلحته ، و أي بقعة لم يسخرها الإنسان من الأرض ، أو أي فرصة أو طاقة فإنما ظلم نفسه ، و ألحق بها خسارة و غراما ، و التبصر بهذه الحقيقة يزيل عن البشر الإنطواء و التردد و الخشية من التقدم ، و هكذا تحرض هذه الحقيقة الإنسان نحو المزيد من التقدم ، و تفتح له آفاقا واسعة .
الثانية : ثم أن الآية تهدينا شرعا إلى أن الإباحة هي الأصل في النعم حتى يدل الدليل على الحرمة ، كما قال الله عز وجل : قل من حرم زينة اله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة " (2) .
و لعل النصوص الشرعية لا تدل فقط على إباحة كل شيء للإنسان ( إلا ما اقيمت الحجة على حرمته ) ، بل و ايضا على ضرورة الإنتفاع بما في الأرض ، مما(1) الزخرف / 10 .
(2) الأعراف / 32 .
يدل على أن تحريم الطيبات و الجمود و الإنغلاق نوع من السفه بل من الظلم للنفس .
قال تعالى : " هو أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها " (1) و قال الإمام علي (ع) : " إتقوا الله في عبادة و بلاده ، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع و البهائم " (2) وفي احتجاجه على عاصم بن زياد حين لبس العباء ، و ترك الملاء ( أي تصوف فتخلىعن الدنيا و اعتزل الناس ) و شكاه أخوه الربيع بن زياد إلى أمير المؤمنين (ع) أنه قد غم أهله ، و احزن ولده بذلك ، فقال أمير المؤمنين (ع) : " علي بعاصم بن زياد " ، فجيء به فلما رآه عبس في وجهه فقال له : " أما استحيت من أهلك ؟ أما رحمت ولدك ؟ " ثم دعاه إلى عمارة الأرض و الإنتفاع بالطيبات فيها قائلا : " أترى الله أحل لك الطيبات و هو يكره أخذك منها ؟! أنت أهون على الله من ذلك . اوليس الله يقول : " والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة و النخل ذات الأكمام " ؟! إلى أن قال : " فبالله لابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال ، و قد قال عز وجل : " و أما بنعمة ربك فحدث " فقال عاصم : يا أمير المؤمنين فعلى ما اقتصرت في مطعمك على الجشوبة ، وفي ملبسك على الخشونة ؟! فقال : " ويحك ! إن الله عز وجل فرض على أئمة العدل ان يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره " (3) .
إذن لست النعم والإمكانات في الأرض مباحة للإنسان فقط ، بل ينبغي له أن يسعى لتسخيرها و الإنتفاع بها أيضا .
[ 11 - 12] ثم أن القرآن يذكرنا ببعض النعم التي مهد الله بها العيش على الأرض ، و التي هي مظهر لإسم الرحمن أيضا ، و يبدأها بالفاكهة وهي ذات فائدة(1) هود / 11 .
(2) ههج / ح 167 .
(3) نور الثقلين / ج 5 / ص 189 - و تتمته ص 191 .
و نفع للجسم بما تحتوية من فيتامينات و مواد اخرى .
[ فيها فاكهة ]
و يبدو أن تقديم ذكرها على النخل النعمة الوسط ، و على الحب المأكول الرئيسي للإنسان ، لأنها كمال نعمة الخلق و كمال نعم المائدة ، و هذا يتناسب مع سياق هذه السورة التي جاءت لبيان تجليات رحمة الله أن تشير إلى النعمة ابتداء من أكمل النعم ، ولا شك أن رحمةالله أكثر تجليا في المائدة ذات الفاكهة من الأخرى التي لا فاكهة فيها .
[ و النخل ذات الأكمام ]
و هي كذلك مظهر لرحمة الله ، و لعلنا نقترب أكثر إلى مهم هذه الحقيقة إذا رجعنا إلى الوراء في التاريخ بذاكرتنا ، و تعرفنا على أهمية النخل و دورها بالنسبة للإإنسان آنذاك ، إنه يستفيد منها حتى النخاع ، من النواة التي يقدمها مع العلف للحيوان ، إلى جذعهاو خوصها و كل شيء فيها ، فبكربها يوقد النار للطبخ و التدفئة ، و بسعفها وجذوعها يبني بيته ، ومن ثمرها ياكل طيلة السنة .
و لكن القرآن يلفت انتباهنا إلى أكمام النخل ، لأن ما تحتويه من الثمر هو أهم النعم بالنسبة للإنسان . إنه يستطيع العيش من دون بيت السعف ، و من دون التدفئة بالنار أيضا ، و لكنه لا يعيش من دون الأكل ، والأكمام هي التي تحفظ الثمر من الآفات و السموم ، بلو تقوم بدور أساسي جدا في تكوينه ، لأنها تشبه الرحم الذي يتكون فيها الجنين ، و القرآن في آية منه يوجهنا إلى هذا الدور عندما يلحق ذكر الأكمام التي تحمل بالثمر ثم تلده بانشقاقها بذكر المرأة حينما تحمل و تلد ، قال تعالى : " وما تخرج من ثمرات من أكمامها و ما تحمل من أنثى ولا تضع
إلا بعلمه " (1) ، ولولاها لانعدم الثمر ، و انقرض النخل بمرور الزمن حين تتوقف دورته الحياتية . إذا فهي أظهر لرحمة الله من كل شيء في النخل .
و كما النخل كذلك مختلف الحبوب كالحنطة و الأرز و ا لشعير حيث يتجلى فيها إسم الرحمن ، فهي ذاتها ينتفع بها الإنسان غذاء يحتوي على ما يحتاجه ، كما يستفيد من حطامها كالأعواد و القشرة و الورق بعد الحصاد و قبله في أغراض عديدة كالبناء ، كما يقدمها علفا للحيوان ، و هو عصف الحب .
[ و الحب ذو العصف ]
قال الراغب : ( العصف و العصيفة الذي يعصف من الزرع ، و يقال لحطام النبت المتكسر عصف ، قال : ( و الحب ذو العصف ، كعصف مأكلول ، ريح عاصف " ) .
[ و الريحان ]
الرائحة الطيبة الزكية ، و سمي به نوع من الورد ، و يقال لكل نبات طيب الرائحة (3) ، فتلك نعمة تلبي الحاجات المادية للإنسان ، و هذه تلبي حاجة معنوية بشمها ، و إضافة طيبها إلى الأكل و الشراب ليضفي عليهما نكهة خاصة .
[ 13] هكذا تحيط نعم الله و آياته بنا ، و أخرى كثيرة يتعرض السياق لذكرها فيما بعد ، و لكنه قبل ذلك يستوقفنا بآية محورية في السورة ليطرح علينا من خلالها أهم سؤال يجب طرحه على أنفسنا و نحن نرى آلاء الله .
(1) فصلت / 47 .
(2) مفردات الراغب الاصفهاني / مادة : ( عصف ) .
(3) المنجد .
[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]
إنها من الكثرة و الوضوح بما لا يجد أحد سبيلا لأنكارها ، لنقف ساعة تفكر . كم هي نعم الله علينا ؟ كل ذرة في كياننا وفي المحيط من حولنا هي نعمة من الله ، و كل لحظة نمارس فيها الحياة هي الأخرى نعمة . ولو أننا صيرنا أغصان الشجر أقلاما و الورق كتبا ، و البحار مدادا ، فإننا لا نزال عاجزين عن إحصائها ، و ربنا إذ يكرر هذه الآية الكريمة بعد كل مقطع يشتمل على ذكر لشيء من آلائه ، فإنما ليؤكد لنا بان ما ذكر هو شيء بسيط من النعم الكثيرة ، كما في قوله عز وجل : " الله الذي خلق السموات و الارض و أنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم و سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره و سخر لكم الأنهار * و سخر لكم الشمس و القمر دائبين و سخر لكم الليل و النهار * و آتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار " (1) .
بلى . إن نعم الله جاءت لكي تلبي حاجات الإنسان المادية و المعنوية ، و لكن هدفها الأعظم أن يهتدي بها إلى المزيد من المعرفة بربه ، و ربنا في سورة النحل يقول وقد تعرض لذكر جانب من نعمه في (15) آية : " و ألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم و أنهارا و سبلا لعلكم تهتدون * و علامات و بالنجم هم يهتدون * أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون * و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم " .
إذا فالأهم من الأهتداء بالسبل في الأرض و بالنجوم إلى معرفة الطرق و الوصول إلى الأهداف المحدودة ، و الأهم من معرفة عدد النعم ، أن يهتدي الإنسان بذلك كله إلى ربه عز وجل . و كمن يكون البشر ظلوما و جهولا إذا أشرك بربه أو كفر به وهو(1) ابراهيم / 32 - 34 .
في هذه البحبوحة من النعم ؟!! ولك أن تدرك مدى ضلال أولئك الذين انكروا على الله أظهر أسمائه إذ " قالوا وما الرحمن " ؟!! و أنا و أنت قد لا نقول ذلك ، ولا نكذب بآلاء الله بألسنتنا ، و لكننا كثيرا ما نكذب بها بأعمالنا و سلوكنا ، و بغفلتنا عن الشكر .
الخليقة كلها تجليات لرحمة الله ، فهي وجهه " و لله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم " (2) ، و لكن الإنسان حينما يضل ليس فقط لا يهتدي بالآثار إلى معرفة رحمة ربه و شكره ، بل و يتخذ النعم مطية للمزيد من التكذيب ، فإذا أصبح غنيا و وجب عليه الشكر تراه يبطر معيشته ، و يزداد ترفا و فسادا في الأرض ، أو حين يمن عليه بالملك تراه يستعلي على الناس و يطغى و يستبد ، و لعلنا نجد إشارة إلى ذلك عند قوله " فبأي آلاء " إذا اعتبرنا الباء سببية .
إن الحياة و هي وجه الله بكل مفرداتها السلبية و الإيجابية تدعونا إلى الايمان بالله ، و التصديق بآياته ، و التسليم بالطاعة لأوامره ، فما هو تبريرنا و نحن نكذب بآلائه ؟! لماذا ندخل في سجن ذواتنا أكثر فأكثر عند كل نعمة ، بدل أن ننطلق منها إلى آفاق الإيمان بربنا و ربها عز وجل ؟"! إننا عوض ذلك يجب أن نقول كلما تذكرنا النعمة ، و كلما انتفعنا بها ، بل و كلما قرأنا آية تذكرنا بآلاء ربنا ، و من بينها و أهمها الآية الكريمة " فبأي آلاء ربكما تكذبان " ، يجب أن نقول : لا بشيء من آلائك ربنا نكذب ، و ذلك زيادة في الهدى و الشكر و الفضل من الله ، ولا ريب ان هدف الإمام الصادق (ع) من هذه العبارة ليس مجرد الكلام ، فالأهم من تصديق اللسان بالنعمة هو تصديق القلب و الجوارح ، فالذي يصدق بآلاء الله هو الذي يؤدي واجب الشكر له عز وجل ، " ولا يعرف النعمة إلا الشاكر ، ولا يشكر النعمة إلا
(1) النحل / 16 - 18 .
العارف " كما قال الإمام العسكري (ع) . و الشاكر كما يقول الإمام الهادي (ع) : " أسعد بالشكر منه بالنعمة التي أوجبت الشكر ، لأن النعم متاع ، و الشكر نعم و عقبى " (1) ، " و شكر المؤمن يظهر في عمله ، و شكر المنافق لا يتجاوز لسانه "(2) و جاء في الصحيفة السجادية : " الحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة ، و أسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة ، لتصرفوا في مننه فلم يحمدوه ، و توسعوا في رزقه فلم يشكروه ، و لو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانية إلى حد البهيمة ، فكانوا كما وصف في محكم كتابه : " إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا " (3) .
و الذي يلاحظ سورة الرحمن يجد آياتها تنصب في منهج محدد ، فمقاطعها ترتكز على إسم الرحمن الذي جاءت السورة لتعرفنا به من خلال تجلياته في جوانب الحياة المختلفة ، و من هذا المنطلق يذكرنا كل مقطع فيها ببعض آلاء الله ثم يضع أمامنا التساؤل الذي تكرر ( 31) مرة ، و هكذا تتوالى المقاطع بنفس الصيغة حتى الأخير . إذن فالسورة تستهدف تعريفنا بربنا ، كخطوة أولى تنقلنا بها إلى الهدف الأسمى من المعرفة إلا وهو العبادة بتمام المعنى . أترى هذه النعم كلها جاءت لهدف و دور محدد هو مصلحة الإنسان ، فما هو هدف الإنسان نفسه ، وما هو الدور الذي يقوم به لتحقيق ذلك الهدف ؟ إنه معرفة الله من خلال آياته و نعمه ، و القيام بها كما يريدها عز وجل خلال عبادته .
[ 14 - 16] و هنا يوجه القرآن أنظارنا وعقولنا إلى تجل آخر لرحمة الله متمثلا في خلقه الإنس و الجن .
(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 187 .
(2) بح / ج 78 / ص 378 .
(3) الدعاء الاول .
[ خلق الإنسان من صلصال كالفخار ]
قيل أن الصلصال هو المنتن من الطين ، من قولهم صل اللحم (1) إذا تعفن و تغير ، و قال علي أبن إبراهيم : هو " الماء المتصلل بالطين " (2) . إذن خلق الله الإنسان من هذه المادة الوضيعة في نظرنا " ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين " (3) ،و لكنه بقدرته صيره خلقا محكما ، فيه الأذن التي تلتقط بمثلثاتها أدق الأصوات و تميز بينها ، و الكبد التي تقوم باكثر من ( 700) عملية ، و المخ الذي هو أكثر الأشياء إعجازا في الإنسان ، و النخاع الذي هو امتداد لخلايا المخ ، و الذي لو حاولنا استبدال سانتيمتر مربع منه لاحتجنا إلى جهاز كمبيوتر ضخم بحجم الغرفة الكبيرة ، يستطيع أن يستوعب حسابات الدنيا كلها !
إننا لا نستيطع أن نتصور العدم المحض حيث خلقنا الله ولم نك شيئا ، و لكننا قد نستيطع تصور المسافة الهائلة بين صلصال من طين و بين إنسان سوي لنعرف جانبا من عظمة الخلق . هذا في الجانب المادي ، أما إذا تجاوزناه إلى عالم الروح حيث نفخ الله في آدم من روحهفهنالك التجلي الأعظم ، و سبحان الله أحسن الخالقين .
[ و خلق الجان من مارج من نار ]
أي النار المختلطة فهي إذا قويت التهبت ، و دخل بعضها في بعض ، كما يتداخل ماء البحر في بعضه ، و أساس الخلق نعمة ينبغي على الجن شكرها ، فكيف و قد من الله عليه من القوة ما يستطيع بها نقل عرش عظيم كعرش بلقيس من اليمن حتى فلسطين قبل أن يقوم سليمان (ع) منمقامه ! وإذا نظر كل منهما إلى أصله
(1) مفردات الراغب .
(2) نور الثقلين / ج 2 / ص 7 .
(3) السجدة / 8 .
و إلى نعم الله المسبغة عليه ، علم أنه ما نال من الشرف إلا بفضل الله تعالى ، فكيف يكذبان بآلائه ؟! (1) .
[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]
ومن آلاء الله عليهما أن خلقهما من مادة تتناسب مع تطلعات ودور كل منهما في الحياة ، فخلق الإنسان من صلصال نتن ضعيف ، و لكنه قومه و قواه بالعقل و العلم ، بحيث يستطيع أن يسخر حتى الجن ، و خلق الجن من النار ، و جعل تفوقه في بعض جوانب القدرة و القوة المادية ، و لكن هذا الإختلاف في الخلقة لا يعني تمايزا لعنصر على عنصر ، لأن القيمة للعمل الصالح ، سواء صدر من الصلصال أو من مارج النار ، ولا يعني أن أحدهما رب و الآخر مربوب حتى يعبده و يشرك به ، بل هما مخلوقان و ربهما واحد وهو الله .
[ 17 - 18] و جانب آخر من الرحمة الإلهية يطالعنا كل يوم في حركة الشمس و الأرض .
[ رب المشرقين و رب المغربين ]
الآية الكريمة تلفت انتباهنا إلى حركة الأرض حول الشمس و التي تكتمل في كل عام مرة ، و تتسبب في تغير الفصول الأربعة و خلالها تتبدل يوميا منازل الشمس بالنسبة الى الأرض شروقا و غروبا ، فهي تشرق في أول يوم من أول منزلة لتبلغ الأقصى في اليوم الأخير ، و فيالمقابل تجد ذات الحركة و بذات النسبة غروبا ، و في الاحتجاج للطبرسي رحمه الله ، قال أمير المؤمنين (ع) : " و أما قوله تعالى : ( الآية ) فان مشرق الشتاء على حده ، و مشرق الصيف على حده . أما تعرف ذلك من غروب الشمس و بعدها " ؟ و يفصل في بيان حركة الشمس قائلا : " و أما قوله : " رب
(1) التفسير الكبير للفخر الرازي ( بتصرف ) .
المشارق و المغارب " فان لها ثلاثة و ستين برجا تطلع كل يوم من برج ، و تغيب في آخر ، فلا تعود اليه إلا من قابل في ذلك اليوم " (1) ولا شك ان الفصول الأربعة نعمة إلهية تدخل رقما أساسيا في تكامل الحياة و نموها . ولولاها لكانت تنتفي الكثير من صفاتالتنوع و التكامل عند الانسان و في الطبيعة و الاحياء ومن حوله ، و قد قال بعض العلماء ان اكثر الحضارات نشأت في البلاد ذات الفصول القاسية ، فمن أجل مواجهة الحر الشديد دأب الانسان على اكتشاف وسائل التكيف في لباسه و منزله و الوسائل التي يستخدمها ، و بذلكالروح تحدي قسوة البرد ، و لا شك أيضا ان تنوع الفصول يكمل الوجود النفسي و الروحي و الجسمي للانسان و يخدم مصلحته ، و يفسح المجال أكثر فأكثر لتفجير طاقاته و استغلال الطبيعة و تسخيرها .
و تذكرنا الآية ايضا بحركة الأرض حول نفسها مرة و احدة في كل يوم ، وما ينتج من تعاقب الليل و النهار ، الذي يكمل هو الآخر مسيرة الانسان و يخدم مصالحه و تطلعاته في الحياة ، فسباته بالليل و نشاطه و سعيه بالنهار ، و قوله تعالى : " المشرقين و المغربين " لا يحتاج إلى تفصيل و بيان ، لانه و قد تقدم بنا العلم أصبح الكل يعي هذه الحقيقة و هي انقسام الأرض الى شطرين ، فاذا كان النصف الأول يستقبل الشمس بالشروق فانها لاريب تودع الآخرين غروبا ، و العكس صحيح ، اذا فهناك مشرقان و مغربان يتعاقبان على الكرة الأرضية .
و كلتا الحركتين نعمة تعكس لنا اسم الرحمن ، و لكنك ترانا و نحن نعيش بكل ذرة في وجودنا محاطين بآلاء الله نكذب بها . أفلا يحق لربنا اذا أن يكرر معاتبتنا و تذكيرنا ؟!!
[ فبأي الآء ربكما تكذبان ]
(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 190 .
الانسان حينما يكون عارفا برحمانية ربه ، و انه تعالى سخر الوجود لمصلحته ، فانه يعيش متقائلا و نشيطا لانه سيكون مطمئنا الى سعيه ، انطلاقا من احساسه بأنه خلق ليرحم لا ليعذب ، و من جانب آخر انه سوف يتعايش مع الحياة من حوله تعايشا ايجابيا . يعتمد السعيمن أجل الاستفادة القصوى مما خلق من أجله . و هذا لا يتحقق إلا اذا صدق بانه فعلا من نعم ربه و آلائه عليه ، اما اذا كذب بذلك شل سعيه ، و خارت ارادته ، و قنطت نفسه من امكانية تسخير الحياة ، و كم عاش الانسان على هذا الكوكب دون أن يسعى للتعرف على حركة الشمس ، و الاستفادة من ذلك في حياته ، و تحقيق أهدافه الشخصية و الحضارية ، لأنه لا يؤمن بعلاقته بها ، أو كان يعتقد بسبب بعدها انها لايمكن تسخيرها بل لم تخلق من أجله ؟! و الآن جاء العلم الحديث ليؤكد بانها نعمة إلهية عظيمة ، و انما خلقت لصالح الانسان ، و انطلاقا من ذلك عكس حركتها على حساباته الزمنية ، ولا يزال العلماء يقومون بمختلف الدراسات التي من شانها تسخير الشمس الى أقصى حد ممكن في خدمة الأهداف و التطلعات الحضارية للبشر .
|