فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 19 - 21] و من حركة الشروق و الغروب في آفاق السماء ، ياخذنا القرآن الى مياه البحار التي تلتقي مختلفة مع بعضها دون أن تبغي او تطغى .


(1) فصلت / 37 .

(2) ابراهيم / 7 .


[ مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان ]

وفي الآية إشارة الى عدة ظواهر طبيعية ، الاولى إلتقاء مياه البحار المالحة بالمياه الاخرى العذبة ، كمياه الشط و الانهار ، فانها وان كانت تلتقي مع بعضها و لكنها تبقى على طبيعتها لا تتغير لفترة من الوقت . و صورة أخرى من حكمة الرب انه جعل الأنهار في كلالعالم مرتفعة عن البحار ، قال تعالى : " وهو الذي مرج البحرين هذا عذاب فرات و هذا ملح أجاج و جعل بينهما برزخا و حجرا محجورا " (1) و الظاهرة الثانية هي التقاء البحار حتى المالحة مع بعضها . إن ثلاثة أرباع كوكبنا يتكون من ماء البحار و المحيطات ،و هي متصلة مع بعضها ، و الأرض في حركة دائمة حول نفسها و حول الشمس إلا ان منسوب المياه فيها كلها يبقى ثابتا ، و لم نجد يوما انها انسكبت في بحر واحد ليطغى ماؤه مثلا .

و حينما نبحث في الطبيعة من حولنا نجد شواهد اخرى لهذه الآية الكريمة ، فان شطري البيضة ( الصفار و البياض ) مهما رججتها لا يمتزجان ، و كذلك بحار النور و الظلمة في حركة الليل و النهار فانهما يتحركان حركة ذاتية و بينهما نقطة التقاء دائمة و لكنهما لا يختلطان " يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل " (2) و حينما نعود من رحلة التفكر في الآفاق الى شوط آخر من التفكر في أنفسنا نجد مظهرا لهذه الحقيقة في حياة الانسان ، حيث يلتقي ماء الرجل بماء المرأة و يكونان النطفة التي تنمو حتى تصير خلقا سويا ذكرا أو أنثى ، و تظل خصائص المرأة و خصائص الرجل هي هي لا تتغير ، بل أن المياء العذبة التي نستخرجها من باطن الأرض لشربنا تلتقي أحواضها مع مياه البحر التي تتشبع بها الأرض حتى الأعماق و لكن " هذا عذب فرات سائغ شرابه و هذا ملح أجاج " (3) وفي الواقع


(1) الفرقان / 53 .

(2) فاطر / 13 .

(3) المصدر .


الاجتماعي يلتفي المؤمنون بالكافرين و تبقى بينهما الفواصل .

اما البرزخ الذي يقف حائلا بين البحرين فقد يكون جسما ماديا كاليابسة تفصل بين بحر و آخر ، و لو طغت البحار عليها لانعدمت حياة الانسان فوقها ، أو الغشاء الذي يمنع صفار البيض من الاختلاط ببياضها لو كانا يختلطان لما صلحت البيضة ان تكون فرخا و لانقرضت الطيور بانواعها . وقد يكون البرزخ هو السنن و القوانين الطبيعية كالجاذبية و الكثافة و الخصائص المختلفة للخليطين ، و قد يكون القيم و الثقافة التي يؤمن بها كلا التجمعين الكافر و المؤمن ، و كلها لا شك من صنع الله ، و مظهر لهيمنته على الحياة ، و رحمته بالانسان اذ جعل التنوع و الحدود قائمين في ذات الوقت ، أليس ذلك يدل على حسن النظم ، و دقة التدبير ، و متانة الصنع ، و عزة الخالق و حكمته ؟

و حينما ندقق النظر و نركز الفكر في هاتين الآيتين نجدهما بكل كلمة و ردت فيهما تعبير عن رحمة الله و إشارة اليها ، اترى لو طغت البحار على اليابسة أو على بعضها و انعدمت الفوارق هل ذلك في صلاح الانسان ؟ كلا .. ثم ان القرآن يقول " مرج " و هو الحركة الذاتية في كلا البحرين بفعل التموجات كما يقول " يلتقيان " إشارة الى الحركة الثنائية ، و هما معا رحمة إلهية ظاهرة ، فلو جعل الله البحار راكدة لأسن ماؤها و تعفن و بالتالي استحال عيش الاسماك و الكثير من الاحياء الاخرى فيها ، و ما كان الانسان يستخرج منها حلية و لا لحما طريا . ثم انه جعل البحار متصلة تلتقي ببعضها ليسهل على الاحياء البحرية الانتقال مهاجرة عبرها ، و يسهل السفر الى أكثر نقاط العالم . ولو لم تكن الانهار - و بالذات الكبيرة منها - تلتقي بالبحار لتصب فيها فائض مياهها لكانت تطغى و تهلك الحرث و النسل .

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]


[ 22] و يذكرنا السياق بنعمة الزينة التي أودعها الله في البحار ، و هي من الحاجات الكمالية لا الأساسية عند الانسان ، إنسجاما مع سياق السورة الذي يهدف بيان تجليات رحمة الله ( إسم الرحمن ) في الحياة ، لأن الزينة أقصى النعمة و أرفعها .

[ يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان ]

إن الله لم يودع في البحار حاجاتنا الضرورية و حسب ، بل الكمالية أيضا ، " وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا ، و تسخرجوا منه حلية تلبسونها ، و ترى الفلك مواخر فيه و لتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون " (1) و القرآن بهذه الآية من سورة الرحمن يفند المزاعم القديمة بأن الأنهار لا تربي اللؤلؤ و المرجان ، و قد جاء العلم الحديث فأثبت خلاف ذلك ، و هكذا يبقى كتاب الله سابقا للحضارة .

و لعل الآية تشير الى إباحة استخراج الزينة و التحلي بها أو لم يقل ربنا سبحانه : " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق ، قل هي للذين آمنوا .." كما قال : " خذوا زينتكم عند كل مسجد " .

[ 23 - 25] تلك كانت مظهر من آلاء الله التي تتجلى للانسان كلما ركب البحر ، و كلما غاص في أعماقه ، و هكذا كلما دار البصر في آفاق الخليقة و نظر الى الشمس و القمر و النجوم و الارض و البحار و الانهار ، ثم غار في أعماق النفس وما فيها من أبعاد و آماد ، كلما وجد آلاء ربه تنهمر عليه من كل حدب و صوب أولا تكفيه دليلا الى ربه ، و هاديا الى معرفته ، و باعثا له الى شكره ؟ لكنك ترى اكثر الناس يكذبون بالنعم و يقصرون في الشكر بل يشكرون ابدا ، وحتى أولئك الذين يقضون سحابة اعمارهم في خوض لجج العلم او متابعة قوانين الطبيعة عبر البحوث


(1) الكهف / 107 .


الميدانية ، و الاكتشافات الجديدة ، لا ينطلقون من اكتشافاتهم الى خلفياتها ، حيث الايمان برب العزة و الرحمة ، بل تراهم ينظرون الى الحياة نظرة سطحية فلا يزدادون إلا ضلالا و تكذيبا بالحق ، انهم يقفون عند ذلك الحد و يظنون انها التي تحرك الحياة و لا يتساءلون من الذي وضع القوانين و الانظمة و السنن ؟! ومن الذي يسيرها و يهيمن عليها ؟! بلى . ان العلم الذي لا يتأسس بالايمان و المعرفة بالله ، قد يضر الانسان اكثر مما ينفعه ، لانه قد يصبح و سيلة للكفر و التكذيب بالرب و إرادته .

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]

و من آلاية السفن التي تحملنا الى الأقطار المتباعدة في أسفارنا و تجارتنا و مظان الصيد ، أترى لولاها هل استطعنا أن نركب البحر ، أو وصلت أيدينا الى كنوزه لحما و زينة ؟؟ كلا .. و لهذا كان من البديهية في هذه السورة الرحمانية أن يحدثنا القرآن عن السفينةفور حديثه عن البحر .

[ و له الجوار المنشئات في البحر كالاعلام ]

و الجري هو المشي السريع ولا يقال للسفينة سارت ، قال تعالى : " وهي تجري بهم في موج كالجبال " (1) .

و المنشآت من الانشاء و الصناعة ، و شبهها الله بالأعلام ( الجبال ) لارتفاعها كالعلم في البحر . و هذا المعنى يكون اكثر ظهورا في السفن الشراعية .

و السؤال لماذا لم يقل ربنا عند حديثه عن النعم الاخرى كالشمس و القمر ، و النجم و الشجر انها له ، بينما قال هنا " وله الجوار " ؟؟ و الجواب لأن الانسان لا يستطيع أن يدعي ملكية تلك النعم ، و لم تصل يده اليها في شيء ، و لكنه قد يظن(1) هود / 42 .


بانه مالك السفينة و خالقها ، لانه الذي خطط لصناعتها و نشر ألواحها و جمعها الى بعضها بالدسر و المسامير فهنا يحتاج الى من يذكره ان صانع السفينة بذاته مخلوق الرب ، و انه لم ينشئها إلا بحوله و قوته و بما أودع الله فيه من عقل ، و حكمة ، و أعطاه من علم و معرفة ، و هيأ له من فرص العمل .. فالسفينة لله ، و هو الذي يجريها بقدرته في البحار . و البحارة يعرفون كم هي الاخطار العظيمة التي تحيط بهم ، و هم يعتركون الامواج الهادرة في أعالي البحار .

ثم ان ربنا هو الذي علم نبيه نوحا (ع) صناعة السفن وهو بدوره علمها للبشرية ، كما علم عباده الكثير من الشؤون و الامور عبر أنبيائه و رسله كالميزان ، و قد روى الطبرسي في جوامع الجامع : " ان جبرئيل (ع) نزل بالميزان فدفعه الى نوح و قال : مر قومك يزنوا به " (1) و السفينة الى الآن أفضل وسائل للنقل التي أكتشفها البشر ، فهي إذا نعمة إلهية ، و القرآن يطرح بعد التذكرة بها هذا السؤال :

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]

أو يكفي العقل دليلا على ضرورة شكر من أسبغ علينا هذه النعم الجسيمة ؟ بلى . و لكن ربنا الرحمن يزيد بلطفه على هدى العقل التذكرة بالوحي بالرغم من أن العقل حجته علينا بالغة ، بل يبصرنا بنعمه من خلال الوحي و يستثير عقولنا و يشد أسرها في مواجهة هوى النفسو طباعها ، فلا يقول أحد وقد كذب بآلاء الله انها مجهولة لديه . و بعد هذا البيان و التأكيد لن يكون قصور الانسان عن الشكر ، و معرفته ربه ، بغفلة و قد سبق اليه منه الذكر بفضله ، ولا بجهل و قد تقدم منه إليه العلم برحمته .

[ 26 - 28] و بعد مخاطبة العقل بلغة الحقائق العلمية التي يراها البشر بعينه(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 250 .


فتنفذ الى ضميره يخاطب الوحي وجدان الانسان مباشرة ، و يهزه باعظم الحقائق و طأة في نفسه . إنها حقيقة الموت و الفناء التي يحاول دائما الفرار منها ، فيعطي ماله أو يضحي بأعز الناس اليه و اقربهم منه لعله يفتدي نفسه منه او يؤخره عنها ولو لسنة اضافية أو حتى بضعة أيام . و كما فناء الانسان كذلك فناء الأشياء من حوله دليل و حدانية الله و ربنا يذكرنا بذلك كأعظم آية تهدينا الى معرفته و توحيده .

بلى . لقد دعانا الله الى النظر في ظواهر الطبيعة ، و التفكر فيها ، و لكن من دون الانبهار بها ، لانها مجرد نعم و آيات يجب ان نؤدي شكرها و نهتدي بها الى دلالاتها . إنها محدثة فلابد لها من خالق ، و هي تفنى أو تموت فهي ليست إلها ، لان الاله لا يموت .


[ كل من عليها فان ]

اي كل ما في الارض بكله لا بعضه ، ولكن الله لا يقول ميت ، لأن الموت يجري في الاحياء فقط ، بل يقول فان ، لأن الفناء يشمل كل شيء مخلوق . وفي دعاء إدريس النبي (ع) : " يا بديع البدائع ، و معيدها بعد فنائها بقدرته " (1) .

[ و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام ]

فما هو وجه الله الذي يبقى بينما يفنى كل شيء ؟ إن الألفاظ تفقد ظواهرها التجسيدية لتبقى حقائقها عند الحديث عن ربنا القدوس سبحانه فليست يده سوى قدرته ، و عينه إلا احاطته علما و شهادته على كل شيء و هكذا وجهه ، فانه ما يتجلى به في الخليقة ، حتى يعرفه بها من اراده ، و يرى نوره من خلالها من أحبه ، أو لسنا نحن البشر نرى نظراءنا من خلال أوجههم الظاهرة ، و تعالى الله عن الأمثال ،(1) المصدر / ص 193 .


كذلك الوجه الظاهر لربنا دينه المشتمل على سننه و شرائعه و الحقائق التي تدل عليه ، كذلك قال الامام أمير المؤمنين (ع) : " و أما قوله : " كل شيء هالك إلا وجهه " ، فالمراد كل شيء هالك إلا دينه ، لأن من المحال أن يهلك الله كل شيء و يبقى الوجه، هو أجل و أعظم من ذلك ، و إنما يهلك من ليس منه ألا ترى انه قال : " كل من عليها فان * و يبقى وجه ربك " ففصل بين خلقه و وجهه " (1) .

و يتجلى الدين بدوره فيمن يمثله كالأنبياء و الأئمة الهداة الى الله و هكذا يفسر الامام الرضا عليه السلام الوجه حينما يسأله أبو الصلت قال : يابن رسول الله ! فما معنى الخبر الذي رووه أن ثواب لا إله إلا الله النظر الى وجه الله تعالى ؟! فقال : " ياأبا الصلت من وصف الله عز وجل بوجه كالوجوه فقد كفر ، و لكن وجه الله أنبياءه و حججه صلوات الله عليهم ، الذين بهم يتوجه الى الله عز وجل و الى دينه و معرفته " (2) .

و قال الصادق (ع) : " نحن وجه الله " (3) .

إذا وجه الله هو الحق المتمثل في سننه و شرائعه و دينه و أوليائه ، و يفنى كل شيء دونها ، فعلينا التمسك بها دون أن تؤثر فينا المتغيرات فّاذا كان احدنا يعمل الصالحات فليعملها لوجهه ، إذا كان يبحث عن الجزاء ، أترى لو عمل صالحا رياء أو شركا هل ينفعه شيء؟

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]

فلا يمكن مع آية الفناء أن يدعي أحد الألوهية أو تدعى له ، أو يدعي بأنه جاهل(1) المصدر / ص 192 نقلا عن الاحتجاج .

(2) المصدر .

(3) المصدر .


بربه ، و إذا كان لابد له من ذلك فليدفع أولا الموت عن نفسه ، أو يدفعه الآخرون عنه .

[ 29 - 30] ثم يذكرنا القرآن بصفة أخرى لربنا عز وجل تجعلنا أكثر طاعة له و تبتلا إليه ، و تلك هي صفة البداء التي تعني الهيمنة الشاملة و الدائمة له على الوجود ، فليس الكون شعلة أبدية كانت ولا تزال كما تدعي الماركسية الضالة . إن الطبيعة ليست هي التي تميت و تحيي ، و السنن و الأنظمة و القوانين ليست بذلك الثبات المطلق ، إنما الذي يتصرف في الخلق هو الله ، و كل شيء يستمد ثباته و استقراره منه ، فهو يغيره متى شاء و كيف أراد . ولو أننا أمعنا النظر في الحياة لوجدنا هذه الحقيقة بوضوح فإلى جانب الثوابت هناك متغيرات غير معروفة عند الانسان . الدكتور يقدم وصفته للمريض بعد الفحص ، و لكنه يعترف بانه لا يعرف كل الامراض ( 100% ) ولا يعطي ضمانة للعلاج مئة بالمئة لماذا ؟ لان هناك هامشا مجهولا في المرض و العلاج ، فالامراض تتداخل اعراضها ، كما انه قد لا يستقبل الجسم الدواء ، لذا يقول هذا مرضك حسب الظاهر ، و هذا دواؤك إن شاء الله . ومن الطب الى كل جانب و ميدان في الحياة هناك دائما فراغ في القوانين الطبيعية لا يقدر علم الانسان و قدرته أن تملأه إنما هو خاص بمشيئة الله سبحانه . من هنا لا يثق أحد كل الثقة بما أوتي من علم و قوة ، بل يظل في ريب من أن المستقبل قد يحمل إليه ما لم يحتسبه . بلى . لقد علمته تجارب لا تحصى انه ليس مليك الكائنات ، بل ولا يملك نفسه ، فكم قد خطط لمستقبله فقلبت المتغيرات خططه ، و كم قد عقد عزائم قلبه على شيء ففسخت المفاجئات عزائمه . و هكذا ينطوي ضمير كل انسان بأن يد الغيب تهيمن على الخليقة لا يده ، و يمثل هذا حجة بالغة تهدينا الى ربنا سبحانه . و صدق أمير المؤمنين (ع) حيث قال : " عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم و حل العقود ، و نقض الهمم " (1) .


(1) نهج / حكمة 250 .


الامريكيون يصنعون ما أسموه ( بالتحدي ) الكوكب الفضائي ( تشالنجر ) ، و يصرفون عليه مئات الملايين من الدولارات ، صناعة و دعاية ، و قبل إطلاقه يقومون بالحسابات الدقيقة عبر العقول الألكترونية ، و إذا به ينفجر في الفضاء و يتحول تحديا مضادا ، و نكسة لا زالت آثارها قائمة في نفوسهم و حيرة في عقولهم ، و كذلك تتجلى الارادة الالهية المطلقة في عملياتهم العسكرية ضد الاسلام في صحراء طبس .

[ يسئله من في السموات و الأرض ]

لأنه وحده الاله و القادر على قضاء حوائجهم و تحقيق طموحاتهم . و السؤال ليس مقتصرا على الانس و الجن و الملائكة ، بل يشمل كل الخلق العاقل و البهيم ، و الجامد و المتحرك ، لأنه ما من شيء إلا و يفتقر الى الله ، و ما من شيء إلا وله لغة مع الله " تسبحله السماوات السبع و الارض ومن فيهن ، و ان من شيء إلا يسبح بحمده ، و لكن لا تفقهون تسبيحهم ، إنه كان حليما غفورا " (1) و ليس من طريق للانسان لكي يبلغ طموحاته بفضل الله ، و يرفع عن نفسه كل عقبة و اذى بتوفيقه ، قبل العمل و بعده إلا الدعاء ، قال تعالى : " قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم " (2) " و قال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " (3) و قال أمير المؤمنين (ع) : " من قرع باب الله سبحانه فتح له " (4) و قال الامام الصادق (ع) : " أكثر من الدعاء ، فانه مفتاح كل رحمة ، و نجاح كل حاجة ، ولا ينال ما عند الله إلا بالدعاء ، و ليس باب يكثر قرعه إلا و يوشك ان يفتح لصاحبه " (5) . و لكن ينبغي للعبد ان يرعى آداب الدعاء و(1) الاسراء / 44 .

(2) الفرقان /77 .

(3) غافر / 60 .

(4) غرر الحكم .

(5) بح / ج 93 / ص 295 .


" كل دعاء لا يكون قبله تمجيد فهو أبتر " (1) ، و قال الرسول (ص) : " صلاتكم علي إجابة لدعائكم و زكاة لاعمالكم " (2) " ولا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلى على محمد وآل محمد " (3) و قال الصادق (ع) : " إنما هي المدحة ، ثم الاقرار بالذنب ثم المسألة " (4) و الخلق كله في وجوده و توفيقاته يحتاج الى السؤال من الله لحظة بالحظة ، و حيث لا يستطيع العبد أن يعرف ربه ولا يتصل به مباشرة لذلك جعل أسماءه ، و عرفنا عليها رحمة بنا ، فنحن نسأله باسمائه و في الدعاء : " أسألك باسمك الذي أشرقت به السماوات و الارض ، و صلح به أمر الأولين و الآخرين " .

بلى . قد يضل الانسان و يكفر بالله فلا يسأله أو يدعوه بلسانه ، و مع ذلك فانه لا يستطيع أن ينكر ربه في نفسه ، بل و يظهر فيه الاعتراف به تعالى ، والاستكانة و الحاجة ساعة الضيق و الحرج ، " و إذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين " (5) .

لقد تسربت بعض الفلسفات الجاهلية القديمة الى الأديان فزعموا ان السؤال لا ينفع شيئا ، و حكى الله عنهم ذلك في كتابه إذ قال : " و قالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم و لعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " (6) و هكذا تسربت هذه الفلسفة الموغلة في الضلال الى أذهان البعض من المسلمين تحت عناوين مختلفة ، كالجبرية و القدرية ، فاعتقدوا ان الله كتب أقدار الخلق ، و انه لا(1) المصدر / ص 321 .

(2) بح / ج 94 / ص 54 .

(3) بح / ج 93 / ص 311 .

(4) المصدر / ص 381 .

(5) لقمان / 32 .

(6) المائدة / 64 .


يقع إلا ما كتب عليهم ، و قد جف القلم و طوي الكتاب ، و انطلاقا من هذه النظرة السلبية أنكروا أثر الاستغفار و الدعاء . و كم تقف هذه الفلسفة حجابا بين العبد و ربه ، أتراه سوف ينطلق نحوه ، أو يسأله حوائجه ، أو يتوسل اليه و قد غل يديه و لسانه و قلبه بالقنوطو اليأس ؟ و لماذا يتعب نفسه بالسؤال من رب لا إرادة عنده ؟ فالأقدار هي هي لا تتغير ، و ما عسى أن يكون ينفع الدعاء إذا ؟ و بهذا نعرف الفرق الكبير بين المعارف الالهية و الفلسفات البشرية ، فبينما تزرع الفلسفات البشرية اليأٍس بين المعارف الالهية و الفلسفات البشرية ، فيما تزرع الفلسفات البشرية اليأس في نفس الانسان ، و تقل فاعلياته و تجمد طاقته بالحتميات التي تزعم انها تحيط بالقدرة البشرية كما جران السجن بالمجرم ، نجد النهج الالهي الحنيف يفتح آفاق الرجاء أمامه ، و يعطيه الثقة بربه القادر على إنجاح طلباته ، و تغيير المعادلات و الواقع الى صالحه ، و يفند الأفكار الجبرية و القدرية بفكرة الدعاء الذي ينطلق من العبد الى ربه ( السؤال ) و انه فوق الحتميات و الأقدار و فوق القضاء ، قال الامام الباقر (ع) يخاطب زرارة ( رض) : " ألا أدلك على شيء لم يستثن فيهرسول الله (ص) ؟ قلت : بلى قال : الدعاء يرد القضاء و قد أبرم إبراما " (1) و ضم أصابعه و قال الامام الكاظم (ع) : " عليكم بالدعاء فان الدعاء لله و الطلب الى الله يرد البلاء و قد قدره و قضي ولم يبق إلا إمضاءه ، فاذا دعي الله عز وجل و سئل صرف البلاء صرفه " (2) .

و لعل الآية التالية تدل على صفة البداء التي هي مفتاح بصيرة الدعاء فلولا ان الله قادر على تغيير الخليقة و دفع البلاء و رفع القضاء إذا لم يبق أثر للدعاء و من لا يعتقد بالبداء ولا يؤمن بسلطة الله المطلقة التي لا يقيدها اي شيء مما سواه ، و من نفسه سبحانه فانه لا يعتقد بإلوهية ، كيف و انه يجعله تعالى أقل قدرا و قدرة حتى من الملوك إذ تجرد عنه أهم صفاته وهي السلطة " وما قدروا الله حق قدره ان ا لله لقوي(1) اصول الكافي / ج 2 / ص 469 .

(2) بح / ج 93 / ص 295


عزيز " (1) سبحانه و تعالى عما يصفون علوا كبيرا .

[ كل يوم هو في شأن ]

قال النبي (ص) : " من شأنه أن يغفر ذنبا و يفرج كربا ، و يرفع قوما و يضع آخرين " (2) .

و قال علي بن ابراهيم ( رض ) : " يحي و يميت ، و يرزق و يزيد و ينقص " (3) فلا ثبات بعد الدعاء و استجابة الله ، أو بعد بدائه عز وجل ، حتى في ليلة القدر التي تكتب فيها أقدار الخلائق الى مثلها من قابل فان الكتاب ليس أبديا إذ اشترط ربنا لنفسه البداء فيما كتب سبحانه فيها - كما جاء في الحديث - و كما قال ربنا سبحانه " يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب " (4) .

و لعلنا نفهم من هذه اٍلآية ان الله يخلق كل يوم خلقا جديدا لا نعلمه ، و نجد إشارة الى هذه الحقيقة في قول أمير المؤمنين (ع) : " الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه ، لأنه كل يوم هو في شأن من إحداث بديع لم يكن " (5) .

و قد أشارت البحوث القضائية الى وجود أدلة على ان هناك حالة تكون لمجرات جديدة في أعماق الفضاء الرحيب . إذا فلندع اليأس و لنطلق العنان لطموحاتنا تصل الى أقصاها انطلاقا من توكلنا على رب واسع الرحمة مطلق الارادة يجيب المضطر إذا دعاه وهو منتهى الآمال ، ثم نسعى لتحقيقها نستمد منه العون و التوفيق ، و نسأله الاجابة . لا ندع سقفا ولا حدا لطموحاتنا ، فهذا نبينا الاكرم (ص) وهو أعلم الخلق(1) الحج / 74 .

(2) مجمع البيان / ج 9 / ص 10 .

(3) نور الثقلين / ج 5 / ص 193 .

(4) الرعد / 39 .

(5) نور الثقلين / ج 5 / ص 193 .


يدعو ربه " زدني علما " (1) وهو أرفع الناس درجة و أقربهم منزلة الى الله ، و لكن الوحي يأمره بان يتطلع الى المزيد من الشأن و الرفعة " ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " (2) و يأمرنا بأن نصلي عليه في كل شارق وغارب حتى يزيده الله من فضله فنقول اللهم آت محمدا أفضل ما سأل و أفضل ما سئل له و افضل ما أنت مسؤول له الى يوم القيامة لماذا ؟ لآن نعمة الله لا تنتهي . و هكذا لابد أن يكون طموح المخلوق . و إنها دعوة الى التفكير في طموح اكبر ، و العروج الى منزلة أرفع عند الله . و من وصايا الامام علي (ع) لابنه الحسن (ع) : " إعلم ان الذي بيده خزائن ملكوت الدنيا و الآخرة قد أذن لدعائك ، و تكفل لإجابتك و أمرك أن تسأله فيعطيك ، و هو رحيم كريم لم يجعل بينك و بينه من يحجبك عنه ، و لم يلجئك الى من يشفع لك اليه ، .. ثمجعل في يدك مفاتيح خزائنه بما أذن فيه من مسألته ، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب خزائنه " (3) و الذي أعطي السؤال لا يحرم الاجابة ، فالسؤال و البداء مظهران جليان لإسم الرحمن ، و نعمتان عظيمتان للخلق من الله .

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]

إنها من الظهور و الكثرة بما لا يمكن إنكارها ، و لكن الخلق يكذبون ، و من أبرز عوامل التكذيب لدى البشر الشرك بالله ، فاذا به يعبد البقر لأنها تدر عليه الحليب ، و يعبد النار لأنها تدفئه و ينتفع بها في الطهي ، بينما الله هو ربه و ربهما ، و اليه ينبغي الاعتراف بالفضل ، و صرف الشكر . و السؤال كيف يكذب الانسان بنعمتي الدعاء ، و البداء ؟ إن ذلك يكون حينما ينكر حقيقة البداء ، أو نعمة الدعاء فيحرم نفسه من معطياتهما .


(1) طه / 114 .

(2) الاسراء / 79 .

(3) نهج / كتاب 31 .


[ 31 - 32] و إذا ما كذب المخلوق بنعم الله و آياته ( آلائه ) فانه سيعرض نفسه لسخط الله و عذابه ، بالذات عندما يحين موعد الحساب .

[ سنفرغ لكم أية الثقلان ]

يعني الانس و الجن . ذهب المفسرون مذاهب شتى عند بيان معنى الفراغ ، بيد ان إيهام المعنى يتضح جليا إذا عرفنا منهج القرآن فيما يتصل بأفعال ربنا القدوس حيث تؤخذ الغايات و تترك المبادىء ، و ترمز الكلمات الى نتائج المعاني و نهايات الحقائق .. لا الى كيفيةوقوعها و طريقة تحققها ، فمثلا إذا قال ربنا سبحانه " وجاء ربك و الملك صفا صفا " فان غاية المجيء وهو الحضور و الشهادة قد تحققت اما الكيفية التي نعرفها من مجيء البشر بالانتقال من مكان لمكان ، فانها لا تتصور في الله الذي وسعت رحمته كل شيء ، وهوالشاهد على كل شيء ، كذلك إذا قال سبحانه : " رضي الله عنهم ورضوا عنه " ، فان نتيجة الرضا تتحقق ، و هي الرحمة والعطاء لا ما يحدث عندنا من مقدماته كالانفعال الايجابي في النفس ، و هكذا الغضب الالهي معناه ما ينتهي إليه الغضب من الانتقام لا مقدماته و مبادئه من جيشان الدم و توتر الاعصاب ، و مثل ذلك الحب و العطف والحنان و الكره و البغض و .. و .. فربنا السبحان متعال عن الكيف والأين والتحول و .. و .. وفي الآية لا يعني سنفرغ لكم ان ربنا كان مشغولا عنهم بحيث لو يتسع لهم وقته ، ولم تحتمل قدرته بما عنده من الشؤون كلا .. سبحانه لا يشغله شأن عن شأن ، إنما الغاية من الفراغ تمام التدبير و القدرة و الجزاء ، و منه قولنا تفرغ فلان للعمل اي انصب عليه بكامل قدرته و وعيه و ارادته ، و الآية تشير الى ان الله أعطى الثقلين حرية نسبية في الدنيا ، أما في الآخرةفالامر لله و حده " يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " (1) .


(1) غافر / 16 .


و لك أن تتصور شيئا من الرهبة التي تحملها الينا كلمة سنفرغ ، إذا علمت انه تهديد من رب العزة و القدرة المطلقة ، الى مخلوق ضعيف محدود كالانسان الذي تؤلمه البقة و تقتله الشرقة و تنتنه العرقة ، كما يصفه الامام علي بن أبي طالب عليه السلام ، و يكفي هذا الوعيد العاقل الذي يلقي سمعه شهيدا أن يتورع عن التكذيب بآيات ربه و نعمه ، لأن ذلك مما يوجب عذابه ، و إن الله يوم القيامة يوقف عباده للسؤال عن النعيم " ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم " (1) " و قفوهم إنهم مسؤولون " (2) .

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]

ومن صور التكذيب بذل النعمة في غير موقعها ، أو أخذها من الحرام ، و الاستعانة بها في مخالفة الحق ، كالعين ينظر بها الى أعراض الناس ، و الأذن يستمع بها الغيبة و النميمة والغناء و اللغو ، و الرجل يمشي بها الى المعصية ، قال رسول الله (ص) : " لا يجاوز قدما عبد حتى يسأل عن أربع عن شبابه فيما أبلاه و عمره فيما أفناه ، و عن ماله من أين جمعه و فيما أنفقه ، و عن حبنا أهل البيت " (3) .

[ 33 - 36] و يفتح الله آفاق الطموح اما الانسان بعيدا عن الأساطير البشرية ليسجل سبقا على العلم الحديث بأكثر من (13) قرنا من الزمن ، ولا غرابة فهو كتاب الله . إن الفلسفات البشرية كانت دائما تكبل عقل الانسان ، و تغل طموحاته ، و تضع إصرا على نفسه تمنعهمن الثقة بها و التوكل على ربه و ذلك عندما كرست الجهل و و ضعت مجموعة نظريات بدائية عن الانسان و العالم و اعتبرتها غاية العلم و نهاية المعرفة ، فتحولت الى سقف للفكر و سجن للعقل ، و عقبة اجتماعية كاداء امام التقدم .


(1) التكاثر / 8 .

(2) الصافات / 24 .

(3) نور الثقلين / ج 4 / ص 402 .


و كانت من أهداف رسالات الله كسر هذه الحدود الوهمية ، و بعث الانسان نحو آفاق العلم و اثارة تطلعاته الكامنة . هكذا يقول ربنا سبحانه عن رسالة النبي محمد (ص) ، " يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث و يضع عنهمإصرهم و الأغلال التي كانت عليهم " (1) .

لقد كانت السيارة في ذلك العصر أمرا مستحيلا لا يداعب مجرد خيال الناس ، فاذا بالقرآن يأخذهم بعيدا جدا ليحدثهم بما يتضمن التشجيع على الوصول الى أقطار الارض و آفاق السماء . و كم ينمي مثل هذا الحديث من الله المقتدر الثقة في الانسان بنفسه ، و يوسع من حدود طموحاته حينما يسمعه مصدقا به مؤمنا بقوله .

لقد اختلف المفسرون وهم يبحثون عن مضمون الآية ( 33) مع انها واضحة . لماذا ؟ لأن فكر الانسان يتحدد بالجو العلمي المحيط ، فبعد أن اتصل فكر المسلمين بالفكر الاغريقي و بالذات في مجال الهيئة البطليموسية التي كانت تتصور السماء من الجواهر غير القابلة للرتقو الفتق لذلك نجد بعض المفسرين طرح آراء بعيدة ، فقالوا بما انه يستحيل على الانس و الجن أن يصعد الى الآفاق فان " إن استطعتم " في الآية ظاهر في التحدي ، أي إنكم لا تستطيعون أن تنفذوا من أقطار السموات و الأرض بينما الآية ظاهرة في خلاف ذلك حيثنقرأ في نهايتها " لا تنفذون إلا بسلطان " ، فهم ينفذون ولكن بسلطان . و هكذا القرآن لم تنعكس على آياته النظريات العلمية الشائعة في عهد نزوله ، و لو كان من صنع البشر لكان يستحيل أن يبقى معتصما عن آثارها عليه أليس الانسان يكون افكاره من الجو العلمي المحيط به ؟ ألا ترى كيف ان تفاسير الناس للقرآن تأثرت بالاجواء العلمية لعصر كتابتها ، مع انها كانت تحوم حول الكتاب المتعالي عن النقص ، ولا نجد كتابا ألفه البشر عبر التاريخ إلا و كان مرآة للمستوى العلمي الذي بلغه الناس يومئذ إلا القرآن ، أو


(1) الاعراف / 157 .


لا يهدينا ذلك الى انه كتاب ربنا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؟

و هكذا القرآن لا يزال هو المقياس للحضارة ، و اذا عارض نظرية علمية ما فاننا لا ريب سنجد قوله هو الثابت ، و اما تلك النظرية فتذهب هباء .

[ يا معشر الجن و الأنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات و الأرض فانفذوا ]هكذا يستثير القرآن التطلع الكامن داخل نفس الانسان نحو العلم و المعرفة و التقدم ، فهو يحدثه عن بساط الريح الذي كان لدى سليمان (ع) ، و كيف انه سخر الحياة من حوله ( الجبال و الجن و الطير و .. ) و جعلها في خدمة الحضارة البشرية ، ليؤكد له بان الطريق سالك أمامه للوصول الى هذه القمة السامقة من التحضر . و بالطبع إنه لا يرسم خريطة عن المركبة الفضائية حينما يستثيرنا في هذه الآية عن إمكانية اختراق الفضاء ، و لم تتنزل فيه سورة تحدثنا عن لغة الطير لماذا ؟ لأنه ليس كتابا تكنلوجيا وإن كان يشير الى بعض الحقائق إشارة مباشرة ، إنما هو كتاب حياة يستثيرنا نحو العلم ، و يعطينا الثقة بأنفسنا ، و يوجه عقولنا و قدراتنا في قنواتها الاستراتيجية الصحيحة ، أما التقدم العلمي أو تحول التطلعات و الحقائق التي يبينها الى واقع فذلك من وظائف العقل البشري ، و لو فعل ذلك لكانيشكل سقفا للفكر وحدا للعقل و عقبة أمام التطور ، بينما المطلوب أن يكون منهجا للفكر و محرضا للعقل وباعثا نحو التطور .

و القرآن هنا وهو يريد ان يستثيرنا نحو تطلع حضاري كبير ، هو اختراق الآفاق و تسخير رقعة أو سع في هذا الكون الرحيب الذي خلق من أجلنا ، في خدمة الحضارة البشرية ، فانه يدخل الى ذلك بكلمة عميقة تحتمل من الافكار الحضارية الشيء الكثير إذ يخاطبنا " يامعشر " و المعشر هو من العشرة و التعاشر وهو التجمع الذي تربطببعضه و شائج محددة ، بل إن الكلمة تفيض بأوسع معاني التعاون الاجتماعي بين الافراد ، و بذلك يضع القرآن فكرة هامة أمام أبصارنا و بصائرنا ، و هي ان المنجزات الحضارية الكبيرة كالنفاذ من الآفاق لا يمكن أن تنتقل من التطلع الى الواقع العلمي و العملي ، إلا بجهد جمعي تتعاون فيه القدرات ، و تتلاقح فيه الافكار ، و تتكامل فيه المعارف ، و تتظافر فيه الارادات ، و لم يكتف بذكر الانس و حدهم ، بل قال الجن و الانس بينما القرآن قدم الانس على الجن حينما تحدث عن الخلق في الاية ( 14 ، 15 ) و هنا حدث العكس ، و ذلك لأن السياق في تلك الآيتين يتناول الأفضلية فتقدم الانسان لانه الأفضل ، بينما الحديث في هذه الآية عن الأكثرية " يا معشر " لذلك تقدم الجن و هم الأكثر ، و يبدو ان سبب ذكر الجن في هذا السياق هو :

1 - إن القرآن رسالة كونية شاملة ، و هي موجهة للجن كما هي موجهة الى الانس ، فهما قد خلقا لهدف واحد هو العبادة " و ما خلقت الجن و الانس إلا ليعبدون " (1) كما خلقت النار لمن عصى منهما ، " ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة و الناسأجمعين " (2) كذلك نزل القرآن لهما معا . و هناك إشارات و اضحة وظاهرة الى هذه الحقيقة قال تعالى : " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي الى الرشد فامنا به و لن نشرك بربنا أحدا .. و إنا منا الصالحون ومنا دون ذلككنا طرائق قددا .. وإنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا .. " (3) و نداء كوني كهذا الذي يوجه القرآن لا يليق إلا برب العزة ، و حتى الانسان مهما بلغ من التطلع العالمي لا يجد طريقا لمخاطبة الجن و لعل البشر يتقدم يوما حتىيصل الى مستوى التعاون مع الجن كما حدث للنبي سليمان حسب القرآن : " قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن(1) الذاريات / 56 .

(2) السجدة / 13 .

(3) راجع سورة الجن .


تقوم من مقامك " (1)

2 - و اراد الوحي من ذلك أن ينسف إحدى النظريات الخاطئة التي تقف عقبة في طريق خوض الانسان لعلم الفضاء و اكتشافه كنوز الأرض و مساحاتها ، و هي ان الانسان عاجز عن النفوذ من أقطار السماء و ان ما بعد البحر و الصحراء ليس إلا بحار الظلمات و عوالم غريبة مخيفة لا سبيل للبشر إليها ، و ان الجن و حدهم يستطيعون ذلك ، فجاءت هذه الآية لتعيد للانسان الثقة بنفسه ، و تؤكد له قدرة متساوية لا أقل مع قدرات الجن بالرغم من أن الجن خلق من مارج من نار فهو بطبعه - حسب نظرة البشر - ضعيف قابل للنفاذ بينما الانسان خلق من صلصال من طين فهو بطبعه - حسب رؤية البشر - ليس قابلا للنفاذ .

3 - و لعل في الآية معنى حضاريا يستهدف إثارتنا و الجن نحو التسابق الى تحقيق التطلع الحضاري الذي تطرحه الآية بالنفاذ في أقطار السماوا ت و الارض ثم ان الآية تقول إن استطعتم ولا تقول لو استطعتم لأنها للامتناع ، بينما إن للشرط ، و ربنا يعبر عن هذا الشرطبالاستطاعة أي القدرة بتمام المعنى و شموله و هذا يشبه قوله تعالى : " و لله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا " (2) و لكن الاستطاعة في النفاذ من أقطار السماء و الأرض لا تتحقق إلا بدراسة التحديات الموجودة في الطريق الى ذلك التطلع و تجاوزها و اهمها إثنان :

الأول : الأخطار المحتلة كالأجرام السماوية الحارقة و هذا ما سيأتي الحديث عنه عند الاية (35) .

الثاني : تحدي طبقات لاسماء و الارض ، وهو التحدي الأساسي و الثابت ، فاذا(1) النمل / 27 .

(2) آل عمران / 97 .


ما أراد الانسان أن يصل الى كنوز الارض عمقا فلابد أن يتحدى وهو يقطع المسافة من السطح الى المعدن الطبقات المختلفة .

و هكذا إذا أراد اختراق الآفاق باتجاه القمر أو أي هدف آخر في السماء ، فانه سوف يواجه تحديات أكبر إذ لابد أن يصل إليه بالعلم أولا من قبل و صوله المادي إليه فربما يتحطم كما حدث في التجارب الأولية للانسان في هذا الحقل ، فهناك تحدي الجاذبيات ، و الطبقاتالتي يختلف بعضها عن بعض ، حيث تنعدم الجاذبية في بعضها ، و يرتفع الضغط في أخرى ، و ينعدم الأوكسجين في أكثرها ، بل يحتوي بعضها على غازات مضرة بالانسان ، و لعل معنى النفاذ وهو لا يكون إلا من المانع يدل على هذه التحديات و قد كشف العلم الحديث ولا يزال عنجانب من تلك التحديات ، و خبراء المحطات الفضائية الآن لا يرسلون الأقمار و الخبراء إلا بعد الدراسات المفصلة لطبقات الجو ، لكي يختاروا المكان الأضعف و المناسب للنفاذ منه .

و إذا ما استطاع الانس و الجن الانتصار على تلك التحديات فانهم ينفذون من الاقطار حيث يقول ربنا سبحانه : " فانفذوا " .

و هذا الفعل لييس فقط يفيد الامكان ، بل ينطوي حسب الظاهر على الدعوة و التحريض الى النفاذ ، فهي كقوله سبحانه : " فامشوا في مناكبها و كلوا من رزقه " ، و قوله : " قل سيروا في الأرض فانظروا " ، و قوله : " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق " ، و هكذا ينبغي للانسان ان يستفيد من قدراته في تسخير أكبر مساحة من هذه الكائنات التي خلقت من أجله ، فربما وجد بالاضافة الى المعرفة شفاء لكثير من أمراضه و حلا لمشاكله و أزماته في الآفاق .

هكذا يسعى الاسلام من أجل رفع الأغلال التي تضعها الفلسفات البشرية علىالنفس و العقل عن الانسان لينطلق نحو تطلعاته و أهدافه الكبرى . ولكن الاسلام الى جانب ذلك لا يطلق الثقة هكذا بلا حد لكي لا تصبح تمنيات و أحلاما ، إنما يؤكد ان الثقة وحدها لا تصل بالانسان الى طموحاته ، ولا تحقق أهدافه ، بلى . هي الوقود الدافع له من داخله، و حتى ينطلق في الواقع العملي ، لابد أن يحصل على سلطان ، و هو العلم الذي يتحول الى برنامج ، فقدرة فعلية .

[ لا تنفذون إلا بسلطان ]

اللام هنا ليست للنهي و إلا جاء الفعل بعدها مجزوما بحذف النون ، إنما هي للنفي ، و هذا يعارض قول من قال ان ظاهر الآية هو التحدي . نعم ربنا يتحدى الجن و الانس إذا حاولوا النفاذ من دون سلطان ، لان في الطبيعة قوانين و واقعيات ، و الهيمنة عليها و تسخيرهاممكن و لكن بما هو فوق ذلك كله من السلطان .

إن الانسان البسيط الذي يعيش على ساحل البحر ، و يأكل و يسترزق من صيده نهارا ثم يعود الى بيته ليلا كل يوم ، يطبق من القوانين و السنن الحياتية الشيء القليل ، أما الذي يعيش الحياة العلمية المعقدة ، كرائد الفضاء الذي يريد الصعود الى القمر ، أو الى كوكبآخر أرفع منه ، فانه لا ريب سيواجه عشرات الآلاف من القوانين ، فهو بحاجة الى معرفتها بدقة ليتسنى له القدرة على تسخيرها لأن أعظم و سيلة لتسلط الانسان على الطبيعة هي العلم ، و قد أنعم الله علينا بذلك كما أودع الطبيعة حالة الاستجابة لنا .

ثم ان التكذيب بواحد من القوانين او الحقائق الواقعية من قبلنا كفيل بأن يقطع الطريق علينا فلا نصل الى ما نريد .

[ فبأي ءالآء ربكما تكذبان ]


إن من نعم الله علينا أن جعل نفاذنا من أقطار السماوات و الأرض ممكنا ، و جعل في ذلك خبرا كثيرا للبشرية ، و لكننا قد نكذب بهذه النعمة إذا كفرنا بهذه المقدرة رأسا كما فعل آباؤنا أو حققنا ذلك ثم سخرناه في الأمور الضارة كالتكبر في الارض ، أو إذا عصينا ربنا بدل شكره على هذه النعمة الكبرى ، و هو حينئذ سوف يعذبنا ولن نجد لنا وليا ولا نصيرا ، حيث تجبهنا نار بلا دخان شديدة اللهب عظيمة الحر .

[ يرسل عليكما شواظ من نار و نحاس فلا تنتصران ]

و لعل الآية هذه تشير هنا إضافة الى الفكرة الآنفة الى حقيقة علمية ، و هي الأخطار التي تعترض طريق الانسان في القضاء ، و تمنعه من الوصول الى النقطة التي يريد كالقمر ، و منها كما يصرح القرآن و يؤكده العلم الحديث الغازات المشتعلة . و الكتل المعدنية الملتهبة التي تسمى بالنيازك و الشهب ، و هذه هي الأخرى بالاضافة الى القوانين و الموانع الأخرى التي تمنع النفاذ ينبغي للانسان أن يتسلط عليها ، فيقاومها و ينتصر عليها أو يتجنبها . فاذا كفرنا بهذه السنة و حاولنا النفاذ بلا سلطان اعترضتنا هذه العقبة .. كذلك حين يكفر الانسان بواحدة من سنن الله في المجتمع و النفس فانه يكتوي بنار لاهبة . أجارنا الله من نقماته في الدنيا و عذابه في الآخرة .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس