فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


نات من الآيات
[ 27 - 30] ما هي صفات أصحاب اليمين ، و ما هو جزاؤهم ؟

[ و أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين ]

الميمنة من اليمن أي النصيب الحسن ، و قد جعل الله إعطاء الكتاب للإنسان بيده اليمنى يوم القيامة دليلا على العاقبة الحسنى ، و لأن كاتب الحسنات على اليمين و كاتب السيئات على الشمال فإن أصحاب اليمين هم الذين زادت حسناتهم على السيئات ، و الصحبة من التلازم و المقارنة ، فقد يكون هؤلاء ذوي الصلة المتينة بملائكة الحسنات لكثرة الصالحات عندهم ، فهم لا يبرحون يصلونهم بها بين الحين و الآخر ، فيصحبهم أولئك الملائكة عند الحساب ، يبينون حسناتهم ، و يشفعون لهم عند الله . و من كانت هذه صفته فإنه يصير إلى منزلة عظيمة من الجزاء و الرضوان عند الله .

[ في سدر مخضود ]


يعني منزوع الشوك ، مما يجعل قطف ثماره خال من الأذى و المشقة ، و المخضود : مثني الأغصان من غير كسر ( أيضا ) إشارة إلى كثرة ثمارها و ورقها اللذان يثقلان الغصن فيثنيانه ، و السدر : شجر النبق ( الكنار ) (1) ، و له فوائد جمة منها : ثمره ، و ظله ، و منظره الجميل .

جاء في الحديث عن سليم بن عامر قال : كان أصحاب النبي (ص) يقولون : إنه لينفعنا الأعراب و مسائلهم ، قال : أقبل أعرابي يوما فقال : يا رسول الله ! لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية ، وما ارى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها ؟ قال رسول الله : وما هي ؟ قال : السدر فإن له شوكا مؤذيا ؟ فقال (ص) : أوليس يقول : " في سدر مخضود " ؟ خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها تنبت ثمرا يفتق الثمر منها عن اثنين و سبعين لونا من الطعام ما فيه لون يشبه الآخر " (2) و قال سعيد بن جبير : ثمرها أعظم من التلال . (3)

و الحرف " في " يفيد الإحاطة و الدوام ، فهم محاطون بما يذكر من النعم .

[ و طلح منضود ]

أي متسق منظم مضموم بعضه إلى بعض ، و تنضدت الأسنان تراصفت (4) ، و عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : " بعضه إلى بعض " (5) و قال تعالى : " و النخل باسقات لها طلع نضيد " (6) متسق ، و اختلف في الطلح على أقوال(1) قال صاحب المنجد : الكنار النبق ( بالعامية و الفارسية ) .

(2) القرطبي / ج 17 / ص 207 .

(3) المصدر

(4) المصدر مادة نضد .

(5) نور الثقلين / ج 5 / ص 215 .

(6) ق / 10 .


أشهرها و أقربها أنه الموز ، و هو من ألذ الفواكه و أشهاها .

[ و ظل ممدود ]

أي دائم متصل واسع ، و قال تعالى : " مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم و ظلها " (1) .

وفي حديث آخر عن الرسول (ص) قال : " في ظل ممدود في مثل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس " (2) وفي الخبر : " إن في الجنة شجر يسير الراكب في ظلها مئة سنة لا يقطعها . إقرأوا إن شئتم : " و ظل ممدود " (3) و كان الظل يعني شيئا كثيرا في محيط الجزيرة العربية حيث يتعرض الناس عادة لأشعة الشمس الحارقة .

[ 31 - 33] و نعمة أخرى لأصحاب اليمين هي الماء ( قوام الحياة ) ، يشربونه و يتلذذون بمنظره الرائع ، و هو ينحدر من عل منسكبا لا ينقطع .

[ وماء مسكوب * و فاكهة كثيرة ]

تنوعا و عددا ، و هي لاتنفذ مهما بالغ المؤمنون في التفكه بها ، كما أنها ليست محدودة ثمرتها بموسم بل هي دانية قطوفها دائما ، و من جانب آخر لا يمنعهم عنها ولا يمنعها عنهم مانع ابدا ، فهي مباحة شرعا ، نافعة أبدا ، لا شوك في أشجارها يمنعهم ، ولا ارتفاعيصعب عليهم الإنتفاع بها .

[ لا مقطوعة ولا ممنوعة ]


(1) الرعد / 35 .

(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 216 .

(3) المصدر .


قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) يصف شجرة طوبى : " و أسفلها ثمار أهل الجنة و طعامهم متذلل في بيوتهم ، يكون في القضيب منها مئة لون من الفاكهة مما رأيتم في دار الدنيا و مما لم تروه ، و ما سمعتم به و ما لم تسمعوا مثلها ، و كلما يجتنى منها شيء نبتت مكانها أخرى ، لا مقطوعة ولا ممنوعة " (1) .

و قال ( صلى الله عليه و آله و سلم ) حاكيا حال أهل الجنة : " و الثمار دانية منهم و هو قوله عز وجل : " و دانية عليهم ظلالها و ذللت قطوفها تذليلا " ، من قربها منهم يتناول المؤمن من النوع الذي يشتهيه من الثمار بفيه وهو متكىء ، و إن الانواع من الفاكهة ليقلن لولي الله : يا ولي الله !! كلني قبل أن تأكل هذا قبلي " (2) .

و للمتدبر أن يلاحظ مدى أثر الوعد بهذه النعم في مجتمع يحلم بالماء و يتقاتل عليه ، و يتنقل عبر المفاوز الشاسعة بحثا عن الماء بل سعيا وراء االسراب ! كما لا يعرف الفاكهة التي لا تنبت في محيطه إلا كبراؤه ، يجلبونها في تجارتهم و بكميات قليلة محدودة ، أويزرعون شجرها طمعا في بضع وحيدات منها ! و هي مع قلتها تقطعها الأسباب ، و تمنعها الموانع المختلفة عنهم ، فكيف بهم و هم يجدون ٍأنفسهم أمام تلك النعم العظيمة الوافرة ؟ إن العاقل منهم لا ريب يسعى لنيلها حينما تطمئن بها نفسه .

و هنا فكرة لطيفة تفسر اهتمام القرآن بالتركيز على التذكير بجوانب من نعيم الآخرة ، و التفضيل فيه و التشويق إليه في كثير من المواضع ، و هي : إن ذلك يأتي لمقاومة كثير من الإنحرافات المعنوية و العملية في حياة الإنسان ، و الناتجة من(1) المصدر

(2) المصدر


الإغترار بنعم الدنيا ، و الخضوع لجاذبيتها ، فقد جاء في كلام الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : " فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات " (1) .

[ 34 - 38] [ و فرش مرفوعة ]

افترش الشيء : و طئه ، و عرضه : استباحة بالوقيعة فيه ، و حقيقته : جعله لنفسه فراشا يطؤه (2) ، فالكلمة فيها دلالتان : الأولى : الفراش الذي ينام عليه الإنسان ، و الثانية : الزوجةالتي يستبيحها و يطؤها ، و هذا من بلاغة القرآن أن يشير إلى نعمتين بكلمة .
و قد ورد في النصوص الإسلامية استخدام للكلمة في المعنى الثاني . قال العلامة الطبرسي : و يقال لامرأة الرجل هي فراشه ، و منه قول النبي ( صلى الله عليه و آله وس لم ) : " الولد للفراش ، و للعاهر الحجر " (3) ، و قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) يصف إناث الجنة : " نعم . ما يفترش منهن شيئا إلا وجدها كذلك " (4) ( يعني باكرا ) .

و مرفوعة يعني عالية المكان ، و هي أصلح في الفراش من الآخر الذي على الأرض ، كما تعني الكلمة ارتفاع الشأن حسنا و كمالا أيا كان المقصود ظاهر الفرش أو الزوجة .

[ إنا أنشأناهن إنشاء ]

و الانشاء هو الإبداع و الصناعة ، و قد خلق الله لكل مؤمن زوجات مخصوصات به ، و هذا من عناية الله و لطفه بالمؤمن ، و على هذا المعنى يكون المراد حور العين ، و قال البعض : إنهن من نساء الدنيا أنشأهن الله من جديد فتيات جميلات و أبكار ،(1) قصار الحكم المعجم المفهرس لالفاظ نهج البلاغة ص 704 .

(2) المنجد مادة فرش .

(3) مجمع البيان / ج 9 / ص 219 .

(4) نور الثقلين / ج 5 / ص 217


هكذا روي عن أم سلمة أنها سألت النبي ( صلى الله عليه و آله وسلم ) عن الآية فقال لها : " يا أم سلمة هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطا غمشا رمصا جعلهن الله بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الإستواء " (1) .

و هكذا قيل حور العين للسابقين ، بينما العرب الأتراب لأصحاب اليمين .

[ فجعلناهن أبكارا ]

و كلمة الجعل تشير إلى أن بكارتهن دائمة ، و هكذا جاء في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ) أنه قال : " كلما أتاهن أزواجهن و جدوهن أبكارا " فلما سمعت عائشة بذلك قالت : و اوجعاه ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه و آله وسلم : ليسهناك و جع " (2) و من صفة الحور عروبتها و انسجامها .

[ عربا أترابا ]

في تفسير علي بن إبراهيم : " لا يتكلمون إلا العربية " (3) و هي لغة أهل الجنة ، و العروبة من النساء الضاحكة (4) فهي تعرب و تفصح عن ثناياها حين الإبتسام ، و البشاشة عن جمال المرأة ، و قال الراغب الأصفهاني : و امرأة عروبة : معربة بحالها عن عفتها و محبة زوجها (5) .

و قيل الغنج و الدلال عن أمير المؤمنين ( ع) في رواية هذا نصها : قال عليه السلام(1) القرطبي / ج 17 / ص 210 .

(2) جوامع الجامع في الموضع .

(3) تفسير القمي / ج 2 في الموضع .

(4) المنجد / مادة عرب .

(5) مفردات الراغب مادة عرب .


يصف غرف الفردوس : " في كل غرفة سبعون خيمة ، في كل خيمة سبعون سريرا من ذهب ، قوائمها الدر و الزبرجد ( فهي مرفوعة إذا ) موصولة بقضبان الزمرد ، على كل سرير أربعون فراشا ، غلظ كل فراش أربعون ذراعا ، على كل فراش زوجة من الحور العين عربا أترابا " فقال ( أحد ) : أخبرني يا أمير المؤمنين عن عروبة ؟! قال : " هي الغنجة ، الرضية ، الشهية ، لها سبعون ألف وصيف و سبعون ألف وصيفة ، ضعف الحلي ، بيض الوجوه ، عليهن تيجان اللؤلؤ ، على رقابهن المناديل ، بأيديهن الأكوبة و الأبارييق " (1) .

و في الأتراب أقوال : فمن علي بن إبراهيم : يعني مستويات الأسنان ، و قيل أنهن متماثلات ، يقول الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) لأم سلمة : " جعلهن الله أترابا على ميلاد واحد في الإستواء " (2) .

و قيل وهو الأشهر و الأظهر و الأشمل : أنهن ينسجمن مع أزواجهن من المؤمنين في ظاهر أجسامهن و في خلقهن و سلوكهن و نفسياتهن .

وللام في " لأصحاب " وجهان : أحدهما : أنها موصولة بما قبلها مباشرة فيكون المعنى المتقدم ( متاربتهن لهم ) ، و الآخر : أنها موصولة بكل ما تقدم فهو ملك لأصحاب اليمين و من أجلهم ، و هذا أظهر .

[ 39 - 40] أما عن نسبة هذا الفريق في البشرية وفي كل جيل من أجيال المسلمين فهي ثلة ( أكثر من القليل ) لأن المنتمي إليه هم عامة المؤمنين و المسلمين .

[ ثلة من الأولين * و ثلة من الآخرين ]


(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 218 .

(2) المصدر / ص 219 .


قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( يعني الأولين ) : " من الطبقة التي كانت مع النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، ( و يعني الاخرين ) : " بعد النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) من هذه الامة " (1) ، و هذه النظرة الواقعية المتوازية تنفي موقف المغالات في الأولين من المسلمين بانهم كلهم سابقون ، و أن الهداية تتحقق باتباع أي منهم ، على التفسير المطلق للحديث : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ، فإن الجيل الأول وإن كانت الحضارة الإسلامية تأسست بجهودهم ، و سطروا الملاحم و المجد ، إلا أن بعضهم السابقون و أقل من ذلك أصحاب اليمين ، كما أن بعضهم المنافقون بصريح القرآن : " و ممن حولكم من الأعراب منافقون و من أهل المدينة " (2) ، و هي تنفي موقف اليأس من حال المسلمين اليوم ، كلا .. فقد يصبح الواحد منا من السابقين أولا أقل من أصحاب اليمين كما الجيل الأول سواءا بسواء .

ذلك لأن الأمة الإسلامية كانت ولا تزال خير أمة اخرجت للناس ، و في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال النبي ( صلى الله لعيه و آله و سلم ) : " إني لأرجو أن يكون من تبعني ربع الجنة " قال : فكبرنا . ثم قال : " إني لأرجو أن يكونوا ثلث أهل الجنة " فكبرنا ، ثم قال : " إني لأرجو أن يكونوا شطر أهل الجنة " ثم تلا ( صلى الله عليه و آله و سلم ) " الآيتين " (2) . و في الخصال للشيخ الصدوق ( رض ) قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ) : " أهل الجنة مأة و عشرون صفا ، هذه الأمة منها ثمانون صفا " (4) .

و يكفي بالثلة هنا كثرة إذا اعتبرنا الأولين هم الامم السابقة حسب بعض(1) المصدر

(2) التوبة / 101 .

(3) مجمع البيان / ج 9 الموضع .

(4) الخصال / ج 2 / ص 101 .


الروايات ، و الآخرين هي أمة الاسلام ، و قد عدلها الله بهم ، فقال : ثلة من أولئك و ثلة منها .

[ 41 - 42] و يبدأ السياق شوطا جديدا من الحديث يتمحور حول الفريق الثالث من الناس وهم أصحاب المشأمة و الذين يتسلمون كتابهم بشمالهم أو من وراء ظهورهم ، و الذكر الحكيم لا يكتفي بذكر مصيرهم البئيس و حسب - كما هو الحال بالنسبة للسابقين و أصحاب اليمين - بل يبين أهم الاسباب التي تصير بالبشر الى ذلك ، هداية لنا الى النجد الصحيح ، و انذارا من التورط فيها .

[ و أصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ]

و الشمال كناية عن الشؤم (1) ، و هذا المعنى و اضح إذا فسرنا الكلمة هنا بالآية التاسعة ، فهذا الفريق هم المعنيون بالمشأمة ، و مع أنهم يعطون كتابهم بشمالهم " و أما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه " (2) ، إلا أن القرآن لا يسميهم بأصحاب اليسار ، لانها مأخوذة من اليسر تفاؤلا كالمفازة للصحراء ، ذلك ان قوة الانسان في يمينه ، و يستخدمها بيسر و سهولة ، بينما يواجه حرجا و عسرا في إعمال شماله ، فقيل يسار رجاء اليسر . و نستوحي من ذلك ان سيرة المتقين و المؤمنين هي المسيرة الطبيعية التي تنسجم مع واقع الانسان و الحياة، و ان مسيرة أهل النار هي الشذوذ عن مسيرة الخليقة . أوليس كل شيء في العالم يسلم لله و يخضع لسننه و يسبح بحمده ؟ و كيف لا يكونون كذلك " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " ؟ (3) ، بينما نجد هؤلاء يكفرون بالله ،و يشركون به ، و ينكرون الحقائق الكبرى كالبعث ، و يخالفون سنن الله و أوامره .


(1) المنجد مادة شمل بتصرف .

(2) الحاقة / 35 .

(3) الاسراء / 44 .


و إذا كان تجلي الشمال و اليمين و المشأمة و الميمنة في يوم الدين هو إعطاء الكتاب باحدى اليدين فان تجليهما في الواقع الاجتماعي و السياسي هو القيادة الصالحة بالنسبة لليمين ، و الفاسدة بالنسبة للشمال ، و قد و ردت بهذا التأويل روايات كثيرة من بينها : قول رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) للامام علي ( عليه السلام ) : " هم شيعتك " (1) يعني أصحاب اليمين ، و قول أبي عبد الله ( عليه السلام ) : " و الكتاب الامام ، و من انكره كان من أصحاب الشمال الذين قال الله : " الآيات " (
2) ، و من هذه الاخبار و أمثالها استلهم علي بن ابراهيم (رض) تفسيره للآية : " يعني من كان من أصحاب امير المؤمنين ( عليه السلام ) (3) ، و مثل الشمال : الجبارون و المشركون و الكافرون و الطواغيت و من اريد هوانه و شقوته " (4) .

و هنا نجد السياق القرآني يختلف عما سبق ، فحين ذكر أصحاب اليمين من بعد السابقين لم يبين صفاتهم ، بينما هنا يذكر صفات أصحاب الشمال مما يثير التساؤل : لماذا ؟ و يبدو أن الاجابة تتوضح إذا عرفنا أن الانسان خلق اساسا ليكون من اصحاب الجنة . أوليس خلقنا ليرحمنا ؟ فدخول النار شذوذ عن هدف الخلقة لابد ان نبحث عن سبب له ، و هكذا يبين القرآن عوامل دخول النار التي من تجنيها تفضل الله عليه بالجنة ، و الاسلوب القرآني بديع في بيان موجبات النار حيث يجعل بيانها مسبوقا ببيان جانب من العذاب الشديد ، ثم يلحقه باشارةالى الوان اخرى منه ايضا ، و ذلك لكي يخوفنا من مصيرهم ، فما هو مصيرهم ؟ إنهم :


(1) نور الثقلين / ج5 / ص 229 نقلا عن روضة الكافي .

(2) المصدر / ص 221 .

(3) تفسير القمي / ج 2 / ص 350 .

(4) نور الثقلين / ج 5 / ص 214 .


[ في سموم وحميم ]

و السموم الريح الحارة التي تدخل مسام الجسم ، و لعله في الآخرة نوع من النيران يعذب به أصحاب المشأمة ، قال تعالى : " و الجان خلقناه من قبل من نار السموم " (1) .

و لعل اللفح بريح السموم يوم القيامة متولدة من حركة السنة النار و تداخلها في بعضها ( المرج ) ، و هو يصيب ( اصحاب الشمال ) بحره إضافة الى كونهم في جهنم مباشرة تحيطهم من كل جانب و صوب .

اما الحميم فهو السائل الفائر المغلي الى درجة ، من حم الماء اذا وضعه على النار و سخنه ، قال تعالى : " فشاربون عليه من الحميم " (2) ، و قال : " كمن هو خالد في النار و سقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم " (3) ، من شدة حرارته . و الحرف " في " يفيد الاحاطة الشاملة .

و الذي يظهر من تعبير القرآن بفي أنه يسقط الزمن من الحساب ، بالرغم من ان ظاهر الايات - الذي يلاحظه المتدبر - أنها تنصرف الى المستقبل " يوم الدين " ، وقد أراد ربنا بذلك هدايتنا الى حقيقتين :

الاولى : ان العذاب و الثواب حقائق واقعية يعيشها الانسان في الدنيا فور مبادرته الى عمل الخير و الشر ، لان ذات السيئات و الحسنات هي التي تصير نارا أو جنة في الآخرة ، بيد ان الناس محجوبون عن هذه الحقيقة الحق . قال تعالى : " كل امة(1) الحجر / 27 .

(2) الواقعة / 54 .

(3) محمد / 15 .


تدعى الى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون " (1) ، و قال : " إنما تجزون ما كنتم تعملون " (2) ، و " و قيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون " (3) .

الثانية : ان جزاء الانسان ليس بعيدا عنه من الناحية الزمنية ، فالدنيا و ان طال عمره فيها - الى المأة عام مثلا - لا تكاد تبين في ميزان الخلود الاخروي ، " و ان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون " (4) ، و لكن أكثر الناس لا يستوعبون هذه الحقيقةولا يدركونها بعمق الا في الآخرة " إذ يقول أمثلهم طريقة ان لبثتم الا يوما " (5) ، " و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون " (6) .

[ 43 - 44] فلا يظن أصحاب الشمال ان العذاب بعيد عنهم ، فهم الآن و غدا محاطون به .

[ و ظل من يحموم ]

قال صاحب المنجد : الاسود من كل شيء ( و يسمى بذلك ) الدخان (7) ، و قال علي بن إبراهيم : ظلمة شديدة الحر (8) ، و هذا النوع يقابله الظل الممدود في جنان المؤمنين ، و لعله المشار اليه في قوله تعالى : " لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل "(9) . وهو إن صح فاليحموم نار سوداء تجعلهم في ظلام حالك .


(1) الجاثية / 28 .

(2) الطور / 16 .

(3) الزمر / 24 .

(4) الحج / 47 .

(5) طه / 104 .

(6) الروم / 55 .

(7) راجع مادة حم .

(8) تفسير القمي / ج 2 ص 349 .

(9) الزمر / 16 .


[ لا بارد ]

كظلال الجنة ، و ظل الدنيا .

[ ولا كريم ]

فهم يلقون من جهة عذابا للجسم بسبب الحرارة في ذلك الظل ، و من جهة اخرى يتلقون الاهانات و الاذلال و الخزي ، و يعيشون انعدام الكرامة على خلاف المؤمنين و السابقين الذين تتابع عليهم كرامات الله و نعمه ، و لا يسمعون " إلا قيلا سلاما سلاما " .


و قيل : الكريم : العذب ، و قال بعضهم : حسن المنظر ، و قال آخرون : كل ما لا خير فيه فليس بكريم .

[ 45 - 48] و هذه الألوان من العذاب التي تحيط بأصحاب المشأمة في الآخرة ، لا شك انها تجليات لما قدموه في الدنيا ، و ما كانوا عليه من الاعمال السيئة و الافكار الضالة ، و نتيجة لمنهجهم فيها ، فما هي العوامل التي جعلتهم من هذا الزوج المشؤوم لعلنا نتعرف عليها و نتجنبها ؟

اولا : الترف . قال تعالى :

[ إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ]

قالوا : ترف النبات كثر ماؤه و نضر ، و انما سمي صاحب النعمة بالمترف لانه كثرت لديه النعمة و ظهرت عليه نضارتها ، و لعله لا يسمى كل صاحب نعمة مترفا ، انما الذي جاوز الحد في الاهتمام بنفسه ، و جعل النعم هدفه الاساسي ، و قد توالت آيات الذكر في ذم هذا الفريق ، و بيان صفاتهم الذميمة التي أبرزها كفرهم بكلرسالة جديدة .

قال الله : " وما أرسلنا في قرية من رسول إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون " (1) ، و إنهم يجعلون النعمة قبلتهم فيتبعونها أنى كانت ، و هي - بالطبع - تجرهم إلى ألوان من الظلم و الانحراف و الجريمة ، كما قال تعالى : " و اتبع الذينظلموا ما أترفوا فيه و كانوا مجرمين " (2) ، كما انهم يعتمدون اعتمادا كليا على ما اترفوا فيه فلا يسعون لعمل الصالحات ، " وقالوا نحن أكثر أموالا و أولادا وما نحن بمعذبين " (2) ، بل و يزداد المترفون ضلالا و ذنوبا ، و بالتالي قربا من الناركلما ازدادت النعم عليهم ، قال تعالى : " انما نملي لهم ليزدادوا إثما و لهم عذاب مهين " (4) ، و لا يعلم هؤلاء بان اعتمادهم على المال و القوة و سائر صنوف النعمة كان خطأ إلا في الآخرة ، حيث يغمرهم الندم ولا حيلة لهم يؤمئذ ولا هم ينصرون ، قال تعالى :

" و أما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه * يا ليتها كانت القاضية * ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانية " (5) ، وفي صفة المترفين من أهل الدنيا قال الامام علي ( عليه السلام ) : " سلكت بهم الدنيا طريق العمى ، و أخذت بأبصارهم عن منار الهدى ، فتاهوا في حيرتها ، و غرقوا في نعمتها ، و اتخذوها ربا ، فلعبت بهم و لعبوا بها ، و نسوا ما وراءها " (6) .

و السؤال : لماذا يقول ربنا " مترفين " بصيغة المبني للمجهول ، كأنما قد(1) سبأ / 34 .

(2) هود / 116 .

(3) سبأ / 35 .

(4) آل عمران / 178 .

(5) الحاقة / 25 - 29 .

(6) نهج كتاب / 31 / ص 401 .


جرهم الى الترف شخص آخر ، و اذا كان الامر كذلك فلماذا يعذبهم الله ؟ و الجواب : ان الله هو الذي ينعم على العبد ، و لكن الانسان هو الذي يختار ان يجعلها و يلة يتسابق بها الى الخير و الفضيلة و الرضوان ، أو يصيرها سببا للتسافل و العذاب ، و بتعبير آخر : انهقادر ان يبتغي بالنعم ان شاء الدار الآخرة ، و ان شاء الدنيا فيتبع هو بنفسه ما يترف فيه .

و كلمة أخيرة :

إن المفسرين اختلفوا في معنى هذه الآية ، فقال بعضهم : المراد انهم تنعموا بالحرام ، و قال الآخرون : معنى المترفين المشركين ، بيد ان كلمة المترف قد أصبحت علما لفئة معينة من الناس ذكر القرآن الكريم صفاتهم و أعمالهم ، مما أخرج الكلمة عن وضعها اللغوي الىوضع جديد فلا نحتاج فيها الى تأويل .

ثانيا : الاصرار على الحنث .

[ و كانوا يصرون على الحنث العظيم ]

الحنث : هو الميل الى الباطل ، و في اليمين : لم يف بموجبها (1) ، و هو من الذنوب الكبيرة ، لذلك فسر البعض الكلمة بانها الكبائر ، و قال آخرون منهم ابن عباس انها اليمين الغموس ، و عليه كثير من المفسرين المتقدمين و المتأخرين ، و لعل الحنث هو مخالفة الميثاق عموما ، و لكن بما أن أعظم ميثاق هو الذي قطعه الانسان علىنفسه امام الله في عالم الذر فان أبرز مصاديق الحنث العظيم هو الشرك ، قال تعالى : " إن الله لا يغفر ان يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما مبينا " (2) ، وكيف لا يكون المشرك من أصحاب المشأمة و قد قال


(1) المنجد مادة حنث .

(2) النساء / 48 .


الله : " إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة و مأواه النار وما للظالمين من أنصار " (1) ، ولا ينحصر الشرك في قول النصارى : " إن الله ثالث ثلاثة " (2) ، ولا في قولهم : " إن الله هو المسيح ابن مريم " (3) ، ولا في عبادةالاصنام والأوثان ، بل في التسليم لأي منهج او قيادة باطلة ، فقد يكون الشرك سلوكا اجتماعيا وقولا باطلا ، قال الله تعالى : " فاجتنبوا الرجس من الأوثان و اجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير اوتهوي به الريح في مكان سحيق " (4) .

و الآية تبين لنا حجم الذنب الذي يمارسه فريق المشأمة بثلاثة حدود : الأول : هو الاصرار الذي يجعل الذنب الصغير كبيرا ، فكيف وهو اوقع على ذنب كبير ؟ و الثاني : الحنث أي مخالفة ما تعهد به الشخص ، و ألزم نفسه باتباعه . ولا ريب ان مخالفته لا تنعكس على ضياع حقوق المجتمع ، بل على سحق كرامة المحنث نفسه ، حيث يسقط اعتباره و شخصيته فلا يعود احد يثق به ، بل لا يعود يثق هو بنفسه ، ذلك أن أساس الاخلاق احترام الانسان لنفسه ، و ثقته بكرامته ، فاذا فقد ذلك فلا يبقى لديه أي اساس للالتزام بالقيم ، و الثالث : الشركالذي هو أعظم الحنث ، و عموما كل حنث عظيم ، و الذي يهتك أعظم عهد و يمين في حياته هل تبقى عنده حرمة و اعتبارات لاي يمين و عهد آخر ؟!

ثالثا : الجحود بالآخرة ، الذي كان يتناسب مع الترف الذي يحصر الانسان في حدود الدنيا ، و مع الشرك الذي يبرر للنفس انحرافاتها و تبريها من المسؤولية ، و هم لا يكفرون بها و حسب بل و يسفهون فكرتها و قيمها عند الآخرين بالتشكيك(1) المائدة / 72 .

(2) المصدر / 73 .

(3) المصدر / 72 .

(4) الحج / 30 - 31 .


فيها . .

[ و كانوا يقولون أئذا متنا و كنا ترابا و عظاما أءنا لمبعوثون ]للحساب و الجزاء ، و قولهم هذا يكشف عن شكهم في قدرة الله ، و سعيهم لتشكيك الآخرين فيها ، بانه تعالى لا يقدر على بعث الخلق ، و ربنا يرد هذه الشبهة في الايات القادمة : 57 - 74 .

و ليس القول هنا مجرد الكلام ، بل يشمل مجمل مواقفهم و سلوكهم ، و كانوا يتساءلون تعميقا لشبهتهم : هل أن آباءها الأولين الذين صاروا عظاما نخرة يبعثون ؟!

[ أو ءاباؤنا الأولون ]

و ربما يستهدف تعرضهم لذكر الآباء الأولين بالذات اثارة ثقافة التخلف التي كانت تقدس الآباء في أعينهم ، إثارتها في نفوس الناس لتكون حاجزا دون الايمان بالبعث ، ذلك ان الرسالة كانت تخبرهم بأن الآباء سوف يبعثون من جديد ، و يحاكمون علنا ، و يلقون الجزاء العادل إن خيرا فخير و ان شرا فشر .. و كان من الصعب على من يقدس آباءه انى كانوا قبول فكرة محاكمتهم و مجازاتهم ، على ان بعث الاباء أبعد في ذهن السذج من بعث من هو لا يزالون أحياء . و الشيء الآخر انهم لا يرون حديثهم عن المستقبل كافيا لتدعيم فكرتهم و نظرتهمالشيئية المغرقة بواقع محسوس ، و الآباء الأولون هم تراب و عظام بالفعل ، و هذا يتناسب مع ضلالهم و إضلالهم غيرهم عن فكرة الآخرة والتي هي جانب من الغيب المستقبل .

[ 49 - 50] و يرد ربنا على هذه الشبهة ردا موضوعيا صاعقا على لسان رسوله (ص) بالوحي :


[ قل إن الاولين و الآخرين ]

و ربما كان في فعل الأمر " قل " تحقيرا لهم بانه تعالى لا يكلمهم مباشرة ، و لعل اهم ما يوحي به ظلال " قل " أن هذه الحقيقة يجب ان تقال صراحة ، و أنها من مفردات الدعوة الى الله و رسالاته ، كقوله سبحانه : " قل هو الله أحد ".

و قال بعضهم : إن كلمة " قل " تدل على أن هذه الحقيقة من القضايا العامة التي يشترك فيها العوام و الخواص (1) ، و قدم ربنا الأولين على الآخرين لأنهم استبعدوا بعثهم ، و لكي لا يتوهم أحد بأن بعث الأقدمين الذي تحللوا و تبعثروا ولم تبق منهم حتى الآثار أصعب عليه ( سبحانه ) كلا .. " فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون " (2) جميعهم ، لا فرق بين مالك و مملوك ، و ذكر و أنثى ، ولا أول و أخير ، و هذا هو القرآن يؤكد مرة أخرى بعد " إن " على البعث ، و أن الناس :

[ لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ]

عند الله ، و كونه جزء من العلم فهو واقع ، و ليس يظن او تخرص او كذب ، و بالنظر إلى آيات قرآنية فإن علم الساعة أختص به الرب ، و لعله سبحانه لم يحدد لها وقتا كما يستوحى من قوله سبحانه : " إن الساعة آتية أكاد اخفيها " ، من هنا فإن اليوم معلومالوقوع لا معلوم الوقت . و هنالك يقف الجميع أمام الله للحساب ، لا فرق بين أحد و أحد ، و " يجزي والد عن و لده ، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا " (3) ، فلماذا الاعتماد إذا على الآباء بدل الحق ؟! و لعل " ميقات " هنا إسم للمكان ، بينما " يوم " يشير الى الزمان ، كما تقول : مواقيت الحج ، و ربما تتسع الآية لمعنى آخر : أن الناس يبقون مختلطين مع بعضهم و هكذا المجرمون إلى يوم(1) راجع الرازي في تفسير الآية .

(2) الصافات / 19 .

(3) لقمان / 33 .


القيامة حيث يصبح الناس أزواجا ثلاثة ، حسب التعبير الوارد في هذه السورة ، و تتقطع الوشائج كما قال ربنا سبحانه : " و يوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون " (1) .

و توحي كلمة " إلى " في هذه الآية بالسوق ، و كأنهم يجمعون ثم يساقون إلى ذلك الميقات ، كما قال سبحانه : " مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر " (2) ، و مثل التعبير في آية الواقعة نجده في قوله سبحانه : " قل الله يحييكمثم يميتكم ثم يجمعكم الى يوم القيامة " (3) .

[ 51 - 55] و يوجه القرآن الخطاب إلى أصحاب المشأمة مثيرا الى أهم صفتين تميزهم :

[ ثم إنكم أيها الضالون المكذبون ]

فالأمر يومئذ لا ينتهي عند البعث ، فهناك ما هو أعظم مما يليه وهو الجزاء ، الذي يشكل إنكاره العامل الحاسم و الرئيس في كل انحرافات البشر . و يزعم البعض أن تكذيبه بالآخرة يخلصه من مسؤوليته ، و كأن من يصدق بشيء هو وحده يتحمل مسؤوليته ! كلا .. ان التكذيبليس فقط لا ينجي صاحبه من عاقبة أفعاله ، بل هو بذاته جريمة توجب عقابا شديدا ، و كما التكذيب الضلالة فإنها لا تبرر الجرائم إذ أنها من فعل الإنسان نفسه ، كما أن الهداية من مسؤولياته . أو ليس قد و فر الله لنا أسباب الهداية ، فمن ضل فإنما يضل على نفسه .


و لعل تقديم التكذيب على الضلالة في آخر السورة ( الآية 92 ) خلافا لما عليه هذه الآية يهدينا إلى أن ( الضلال و التكذيب ) كلاهما سبب للآخر و مسبب له ،(1) الروم / 12 - 14 .

(2) القمر / 8 .

(3) الجاثية / 26 .


فالمكذب بالحق يضل ، و الضال يكذب بالحق ، و لأن الضال ربما يهتدي بالحكمة البالغة و الموعظة الحسنة إلى الحق ، و يعود عن ضلاله ، فقد و صف ربنا المعنيين بالمكذبين ( صيغة مبالغة ) ليبين بأنهم من المتعمدين الضلال المصرين عليه . أما عاقبة تكذيبهم و ضلالهم فهي العذاب الشديد . إنهم :

[ لاكلون من شجر من زقوم ]

قالوا : إنها كريهة المنظر ، و ثمرتها سوداء مرة منتنة ، و هي تنبت في قلب جهنم ، و يمتد منها غصن إلى كل منزل و فرد فرد ، و جاء في القرآن " إنها شجرة تخرج من أصل الجحيم * طلعها كأنه رؤوس الشياطين " (1) ، و الذي يجعلهم ينجبرون على الأكل منهازجر الملائكة ، و كونهم لا يجدون سواها ، و لعلهم بسبب السموم و الحميم و ظل اليحموم قد بلغت حاجتهم إلى الأكل أقصى حدها ، و قد جاء في الحديث : " إن الله عز وجل خلق ابن آدم أجوف لابد له من الطعام و الشراب " (2) .

و لعل هذا العذاب ياتي جزاء الترف الذي اتبعوه في الدنيا ، على حساب حقوق الله و حقوق الناس ، فلم يكونوا يحسون عندما كانوا يتلذذون بألوان النعم بمن حولهم من المستضعفين و المحرومين و الفقراء ، وكانوا يجمعون المال و يكنزون الذهب و الفضة دون أن يتورعوا عن الحرام ، فنظامهم الإقتصادي قائم على أساس الإستبزاز ، و الظلم و الربا و الإحتكار و .. ، و القرآن يصرح بهذه الحقيقة حينما يحدثنا في سورة الحاقة عمن يؤتى كتابه بشماله : " إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين * فليس له اليوم ها هنا حميم * و لا طعام إلا من


(1) الصافات / 64 - 65 وللمزيد راجع تفسيرنا هناك .

(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 222 .


غسلين * لا يأكله إلا الخاطؤون " (1) و لأنهم كانوا في الدنيا متخمين على حساب ملايين الجائعين من حولهم ، دون أن يشبعوا من التهام الحرام ، يسلط الله عليهم الجوع حتى أنهم ليملأون بطونهم من الزقوم على ما فيه من العذاب ، فلقد قال رسول الله (ص) يصفه : " ولو أن قطرة من الزقوم و الضريع قطرت في شراب أهل الدنيا مات أهل الدنيا من نتنها " (2) ، و حينما يبلغ طعامها بطونهم يجدون الحاجة الملحة إلى الشراب بما لا يمكن التصبر عليها ، فلا يجدون إلا الحميم فيشربون طمعا في ري ظمئهم ، و إطفاء التهاب الزقوم و استعاره في أمعائهم .

[ فمالئون منها البطون * فشاربون عليه من الحميم ]

و لكنهم لا يشربون قليلا ويكتفون أو يتوقفون ، إنما يشربون كالرمال التي لا تروى ، أو كالإبل التي ضربت في الصحراء هائمة ( لا تدري إلى أين ) (3) .

[ فشاربون شرب الهيم ]

قالوا : الهيم الإبل العطشان التي لا تروى لداء يصيبها ، و قيل : الهيم الأرض السهلة ذات رمل ( التي لا يستقر عليها الماء ) و يقال لكل مالا يروى من الإبل و الرمل أهيم (4) .

و من هذه الآية عكس الإمام الصادق (عليه لاسلام ) حكم الكراهة في الشرب بنفس واحد . قال أبو بصير ( رض ) : سمعت أبا عبد الله ( عليه اللام ) يقول : " ثلاثة(1) الحاقة / 33 - 37 .

(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 222 نقلا عن روضة الواعظين .

(3) المنجد / مادة هيم .

(4) القرطبي / ج 17 / ص 215 .


أنفاس أفضل في الشرب من نفس واحد . و كان يكره أن يتشبه بالهيم " (1) .

[ 56] و إلى جانب هذا العذاب و السابق ذكره ( الآيات 42 - 44) ألوان كثيرة و مريعة من العذاب المؤلم المهين تصب كلها على أصحاب المشأمة في النار .

[ هذا نزلهم يوم الدين ]

قالوا : النزل القرى الذي يقدم للضيف ، و كأنهم ضيوف وقراهم هذا النوع من الطعام و الشراب ، و قال بعضهم : النزل هو أول الطعام و الشراب الذي يستقبل به الضيف .

أما المؤمنون فإنهم يفدون دار ضيافة الله " فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون " (2) ، " كانت لهم جنات الفردوس نزلا * خالدين فيها لا يبغون عنها حولا " (3) . و لك أن تقارن بين المنزلين : " أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم " (4) ؟


(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 223 .

(2) السجدة / 19 .

(3) الكهف / 107 - 108 .

(4) الصافات / 62 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس