فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 57] لان الانسان مخلوق فان خلقه هو أقرب الاشياء .

هل حدث أن بحثت عن شيء ثم اكتشفت انه كان في يدك أو جيبك و أنت ساه عنه ؟ أو تدري أين كان الخطأ ؟ إنه في المنهج . لقد بحثت عنه طويلا في درج مكتبك ، أو رفوف مكتبتك ، أوعند أهلك و أصدقائك ، لقد حسبته بعيدا عنك(1) الجمعة / 2 .


فضللت عنه ، و حين عدت الى نفسك و فتشت عنه لديها وجدته ، كذلك الحقائق الكبرى إنما ضل عنها البشر حين فتشوا عنها بعيدا ، بينما هي أقرب إليهم من حبل الوريد ، هل سمعت عن ذلك الفيلسوف الذي بحث عن الحقيقة في النظريات المعقدة فلما وقف على عجوز تغزل و سألها بمعرفت ربها أوقفت مغزلها وقالت بهذا ، و أضافت : أنا حينما تركت المغزل و قف . فكيف لا تقف السماء عن الحركة . أليس لها محركا مدبرا ؟ وكان درس العجوز أقرب الى قلبه من كل نظريات الفلسفة لماذا ؟ لانها تحدثت معه بلغة الوجدان .. بأقرب الاشياء اليه ، كذلك نحن امام حقيقة الخلق ، من الذي خلقنا واوجدنا ؟ حيث ان الانسان يجد نفسه أمام افتراضات ثلاث :

اولا : فهل الانسان هو الذي أوجد نفسه ، فيكون ذاته الذي خلق ذاته ؟ و هذا لا يقره عقل ولا علم ، فقد بدأ نطفة لا علم له ولا إرادة ، ثم نشأ حتى صار طفلا سويا لا حول ولا طول لديه ، و كفى بجهله نفسه و عقله و بدنه دليلا على أنه ليس الخالق . أم أن والديه خلقاه مع أننا نعلم يقينا بأن تقلبه في صلب أبيه ، ثم تناميه في رحم أمه قد تم بعيدا عن علمهما و إرادتهما .

و ثانيا : و يقول البعض أنه الدهر يميتنا و يحيينا ، و قد يعبر عنه البعض بالطبيعة ؛ هذه السماء و الارض والماء و الطين . أفلا يرجعون الى أنفسهم و يسألون : من الذي خلق الطبيعة ، و أركز فيها قوانينها ، و فتقها بعد رتقها ، و ألف بين أزواجها ، و نظم شؤونها . أوليس الخالق العليم المدبر الحكيم ؟

ثالثا : و يقولون أن الكون جاء صدفة و يسير بغير دليل . سبحانه الله ! ما هي الصدفة ؟ اولا تعني الصدفة ان حادثتين وقعتا في حالة واحدة، و كان لكل واحدة منهما سببا ، إلا انه كانت في وقوعهما معا نتيجة جديدة ؟ هذه هي الصدفةالتي نعرفها ، و لا نعرف الصدفة عملا بغير عامل ، أو خلقا بدون خالق ، أو حادثا بدون سبب (1) .

و يسخر بعض الباحثين من هذا الزعم و يضرب مثلا ويقول : لو فسر احد ظهور دائرة المعارف البريطانية بمجلداتها الضخمة وعلومها المتنوعة بان انفجار وقع في مطبعة ، ففاض الحبر على الاوراق صدفة ، و ارتسمت عليها صور الكلمات صدفة ، و خرجت مجلدات دائرة المعارف بما فيها من ثقافة العصر ، لو فسر احد نشوء أعظم موسوعة عصرية بهذه الصدفة كم يكون كلامه باعثا لسخرية ؟! كذلك الذي يدعي وجود خلية واحدة صدفة .

وإن شواهد العمد و التصميم السابق متوافرة في كل حركة في الكون ، فبالرغم من وجود سنن كونية تجري عبرها الكواكب و المنظومات ، فانها ليست كآلة ميكانيكية ، بل انما هي كسيارة في عراء قد استوى عليها صاحبها ، و سيرها بقدرة و خبرة بالغة (2) . ( و حتى الحركةالميكانيكية تحتاج الى محرك ) .

رابعا : ان الكون و من ضمنه الانسان لم يحدث بل كان أزليا . هل هذا صحيح ؟ كلا .. إن جميع شواهده تدل على حدوثه ( تطوره ، تناميه ، تناقصه ، حاجة بعضه الى بعضه ، تركيب أجزائه بدقة و تناسق ) إن هذه آيات الحدوث .. بل كل اكتشافات العلم تهدي الى أن للوجود عمرا محدودا ، فالحرارة المتاحة للحياة تتناقص ، و عمر النجوم محسوب (3) .

[ نحن خلقناكم فلولا تصدقون ]


(1/ 2) للمؤلف بحوث طويلة في كتابه ( الفكر الاسلامي مواجهة حضارية تقع في مئات الصفحات بهذا الشأن فراجع .

(3) المصدر / ص 167 .


كل شيء في الانسان و في الافاق يهديه الى تلك الحقيقة العظمى ، و حتى أولئك الجاحدون لا ينكرونها بقناعة إنما كفروا " و حجدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلما و علوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين " (1) . إذا فنحن نحتاج فقط الى النظر و التفكر في آيات الله بعيدا عن الحجب و الخلفيات الخاطئة ، حتى نصدق بذلك .

[ 58 - 59] و يبدد القرآن الحجب التي تحول دون رؤية هذه الحقيقة و التصديق بها ، فيقول :

[ أفرءيتم ما تمنون ]

هذه القطرات التي تتدفق منك و التي لا تعرف منها شيئا كثيرا ، هل تزعم أنك الذي تصنعه من صلبك ، أو تهيء أدوات قذفه حتى تحسب أنك الذي تخلقه ؟

و كان يستطيع القرآن ان يلقي علينا الحجة البالغة لو ساءلنا عن خلقه آدم و حواء و لكنه يدع ذلك الغيب الى شهود يراه و يعايشه كل بشر ( الامناء ) و يطرح السؤال التالي :

[ ءأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ]

من الذي أنشأ المني و هل كان بامكانك ايجاده قبل البلوغ ؟ و حين بلغت هل تكون بتدخل منك و علم و تخطيط و ارادة ؟ ثم كيف تطور الحيمن و نمى من مرحلة الى اخرى حتى يصير انسانا سويا ، إنه لا ريب ليس من صنع الانسان ، ولا بعلمه . انما يتطور ضمن القوانين و السنن الالهية ، و بارادة الهية . إذ لا تعمل القوانين إلا باذنه ذلك بأن " لله ملك السموات و الارض يخلق من يشاء يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء ذكورا * او يزوجهم ذكرانا و إناثا ويجعل من يشاء عقيما " (2) . ثم إذا(1) النمل / 14 .

(2) الشورى / 49 - 50 .


خرجنا من بطون امهاتنا الى الحياة ، فاننا لا نملك امام نمونا الا التسليم بأنه ليس بفعلنا ، انما بفعل ارادة خارجة عن اختيارنا ، هي ارادته عز وجل ، فنحن لا نستطيع ان نمنع نمو شعرة واحدة في رأسنا ، ولا ظفر واحد لانهما ينموان بعيدا عن إرادتنا .

[ 60 - 61] و من حقيقة الخلق تنطلق بنا الآيات الى الموت ، انه ايضا مفروض علينا فرضا فلا نعلم أجلنا . ولا نقدر على دفعه إذا حل بساحتنا ، و لو كنا الذين خلقنا أنفسنا فلماذا لا نخلقها بطريقة تتحدى الموت ؟ إذا فربنا هو الذي خلق الموت و الحياة ، وهو الذييحيي و يميت ، متى يشاء و أين و كيف .

[ نحن قدرنا بينكم الموت ]

فهو يجري بحكمة إلهية دقيقة ، فبالرغم من تعرض البشرية لألوان من الموت الجماعي ، بسبب الوباء ، و الحروب الطاحنة ، أو الفردي بالأسباب الطبيعية إلا أنها تزداد يوما بعد يوم و تبقى في توازن من الحفاظ على الجنس . ولو كان يجري الموت إعتباطا وبلا حكمة لربماانقرض النوع البشري منذ زمن بعيد في مثل طوفان نوح (ع) . إنما الله هو الذي يقدر الموت بين الناس ، و يقهرهم به " وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير (1) ، " فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " (2) .

= [ وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم ]

و السبق هنا بمعنى الغلبة و العجز ، فربنا القاهر فوق عباده ، و ليس سبحانه مقهورا بقوة أنى كان نوعها ، فكما سبق الأشياء بالخلق لامن شيء فهو سبحانه يعدمهم متى ما شاء كيف شاء ، لا يسبقه شيء ، ولا يعجزه او يغلبه . و تأتي كلمة(1) الانعام / 18 .

(2) النحل / 61 .


مسبوقين لتوحي إلى حقيقة تظهر قدرة الله من زاوية اخرى ، و هي انه تعالى ابتداعا ، من غير مثال يحتذي به سبقه به غيره و السؤال ماذا يعني تبديل الأمثال ؟

1 - هلاك الانسان او جيل وا ستبداله بغيره ، و البشر لا يقدرون على الوقوف امام الارادة الالهية و منع تبديلها قال تعالى : " فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون * على ان نبدل خيرا منهم ومانحن بمسبوقين * فذرهم يخوضوا و يلعبوا حتى يلاقوا يومهمالذي يوعدون " (1) .

2 - تبديل مثل الانسان بالنظر الى صفاته المادية و المعنوية ، فان مثل الانسان المحدود لا تستحيل عودته عند المقتدر القوي ، فانها ليست باعظم من خلق السموات و الارض ، و تدبير شؤونهما ، و تنظيم عمليات التغيير و التبديل التي تجري كل لحظة فيها الا ترى كيفيدبر الرحمن امر الحياة فيميت الارض ثم يحيها بالغيث ، او يعجزه اعادة الانسان بعد الممات في الحياة بمثل هذه الطريقة ؟ قال الله تعالى : " قالوا أإذا كنا عظاما و رفاتا ءإنا لمبعوثون خلقا جديدا * أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات و الارض قادر على أن يخلق مثلهم " (2) ، و قال عز من قائل : أوليس الذي خلق السموات و الارض بقادر على ان يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون * فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء و إليه ترجعون " (3) .

3 - و قد يكون المثل الآباء الذين ماتوا و تآكلت أجسامهم ، حيث ضربوهم مثلا لانكار البعث ، و زعموا بانه يستحيل نشرهم كما قال الله يصف ذلك الخصيم " و ضرب لنا مثلا و نسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم " (4) . و يشير القرآن(1) المعارج / 40 - 42 .

(2) الاسراء / 99 .

(3) يس / 81 - 83 .

(4) يس / 78 .


إشارة واضحة الى هذا المعنى اذ يقول تعالى يخاطب نبيه : إنظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا * و قالوا إذا كنا عظاما و رفاتا ءإذا لمبعوثون خلقا جديدا * قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم اول مرة فسينغضون اليك رؤوسهم و يقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا " (1) .

[ و ننشئكم في مالا تعلمون ]

فكما يبدل الله جيلا مكان جيل بنشىء الجيل الغابر في صورة جديدة لا يعلم عنها شيئا و هي نشأة الآخرة . و هكذا توحي الآية بأن عملية تبديل الاجيال دليل على وجود تدبير حكيم في نظام الخلق يهدينا بدوره الى أن ربنا سبحانه لا يذهب بالجيل الماضي الى العدم ، بلالى نشأة اخرى لانه حكيم كما لا ياتي بالجيل الجديد عبثا بل للامتحان و تكون الدنيا كقاعة امتحان يدخلها جماعة بعد جماعة والذين يخرجون مها يذهبون للحساب ، كما ان الذين يدخلون فيها يتعرضون للامتحان .

و لعل المعنى ان حقيقة الانسان لا تتغير بعد الموت ، و انما تتبدل صورته الظاهرية فقط ، حيث ينتقل الى حياة تتغير فيها المقاييس و نحن لا نعلم عنها شيئا .

[ 62] و كفى بجهل الانسان اين يصير بعد الموت دليلا على انه مدبر مخلوق و انه ليس القادر المتصرف في نفسه ، و كفى بعلمه بالخلق الأول إثباتا للبعث . و ان الذي خلقه من نطفة من مني يمنى ، قادر على بعثه للجزاء إذا وقعت الواقعة .

[ و لقد علمتم النشأة الاولى فلولا تذكرون ]

ان الانسان لا يستطيع ان ينكر قدرة الله على الاحياء في خلقه الاول ، فلماذا(1) الاسراء / 48 - 51 .


يشك فيه تعالى وفي قدرته على البعث ؟ " ألم يك نطفة من مني يمنى* ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر و الانثى * أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى " (1) ؟! بلى إنه قادر و كفى بالنشأة الاولى مذكرا لنا بهذه الحقيقة المودعة في فطرتنا وعقولنا .

و دعوته الى التذكر هنا بعد قوله : ( فلولا تصدقون الآية 57 ) ، يهدينا الى ان المسافة بين الانسان و بين التصديق بالله و باليوم الآخر قريبة جدا لا تحتاج الا الى التذكر و ذلك بالتوجه الى مقاييسه العقلية التي يمارس بها فعاليات حياته .

[ 63 - 64] و يلفتنا الذكر الحكيم الى الآية اخرى تهدينا لو تفكرنا فيها الى الخالق اللطيف عز وجل و الذي يتجلى لخلقه في كل شيء حتى لا يجهلوه في شيء ، انها آية الزراعة ، التي تعرفنا من جهة بربنا ، و نضع امامنا من جهة ثانية صورة واضحة و قريبة لواقع البعث و النشور ، حيث تضع البذرة في التراب ، فلا تلبث بعد ان نصب عليها الماء أن تصير نبتة ، ثم تستوي على سوقها تحكي الحياة بكل روعتها و عنفوانها .

[ أفرءيتم ما تحرثون ]

انه لا يحدثنا عما لا نزرعه من الاشجار و النباتات لان عدم صنعنا فيها ثابت فهي إذا من عند الله ، إنما يحدثنا عما نزرعه بايدينا و نحرث له ، و الحرث هو قلب الارض و وضع البذور فيها ، و الرؤية في الآية منصرفة الى رؤية البصيرة كما هي في الآيات ( 58 ، 68 ،71 ) ، و نحن بعد ان نرى بهذا المعنى ينبغي لنا ان نجيب على السؤال :

[ ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ]


(1) القيامة / 37 - 40 .


فنحن حينما نعمل بصرنا و بصيرتنا وتطلع على الواقع الذي تتم فيه الزراعة حيث مئات الالاف من العوامل و القوانين التي نجهل اكثرها ، و لسنا نحن الذين اوجدناها ، أو نسيرها فانه حينئذ يتأكد لنا بانه تعالى الذي يزرع ، أما دورنا في الحقيقة فليس إلا الحرث و السقي و ما أشبه و كل ذلك يكون بنعم الله و حوله و قوته .

و حين تصفو رؤية الانسان و تجلو بصيرته يلامس قدرة الله و تدبيره و يؤمن بمدى سعة القدرة و حسن التدبير ، خصوصا المزارع حيث تحيط به آيات الخليقة ، و يتعامل مع الانواء و التراب و الماء و يتعايش نمو النبات و جماله و تجليات القدرة الالهية فيه .

و ترغب النصوص الدينية المؤمنين في التعامل مع الزراعة بهذه البصيرة ، قال الامام أبو عبد الله (ع) : " إذا اردت ان تزرع زرعا فخذ قبضة من البذر و استقبل القبلة ، و قل ( الآيتان 63 - 64) ثلاث مرات ، ثم تقول : بل الله الزارع ثلاث مرات ، ثم قل : اللهم اجعله مباركا ، و ارزقنا فيه السلامة ، ثم انشر القبضة التي في يدك في القراح " (1) الارض الخالية .

و قال (ع) : " ان بني اسرائيل اتوا موسى (ع) فسألوه ان يسأل الله عز وجل ان يمطر السماء عليهم اذا ارادوا ، و يحبسها اذا ارادوا ، فسأل الله عز وجل لهم ذلك ، فقال الله عز وجل : لهم ذلك فأخبرهم موسى فحرثوا ، و لم يتركوا شيئا الا زرعوه . ثم استنزلواالمطر على ارادتهم و حبسوه على ارادتهم ، فصارت زروعهم كأنها الجبال و الآجام ( الشجر الكثير الملتف ) ، ثم حصدوا و داسوا وذروا فلم يجدوا شيئا ، فضجوا الى موسى (ع) و قالوا : انما سألناك ان تسأل الله ان يمطر السماء علينا اذا أردنا ، فاجابنا ثم صيرها عليناضررا ، فقال : يا رب ان بني اسرائيل ضجوا مما صنعت بهم ، فقال : ومم ذاك يا موسى ؟ قال سألوني ان(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 223 .


أسألك ان تمطر السماء عليهم اذا ارادوا و تحبسها اذا ارادوا فأجبتهم ثم صيرتها ضررا ، فقال : يا موسى انا كنت المقدر لبني إسرائيل فلم يرضوا بتقديري ، فأجبتهم الى ارادتهم فكان ما رأيت " (1) .

و من دقيق عبارة القرآن انه لم يقل ءأنتم تخلقونه كما هو حال الحيمن و الجنين لانه ليس من عاقل يدعي ذلك و عملية النمو من البذرة حتى الثمرة تتم خارج ارادتنا و بعيدا عن أيدينا ، ولان نفي مجرد الزراعة ينفي الخلق بالتأكيد .

[ 65 - 67] و الدليل إلى أننا لسنا الزارعين ، ان الله قادر على منع المطر ، أو ان يسلط على حرثنا و باءا فلا تقوم له قائمة ، " كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فاهلكته " (2) . ولا احد يمنع قدرته عز وجل .

[ لو شاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون ]

قالوا : تتكلمون في مجالسكم ، من جهة التعجب و التندم على ما أنفقتم في الارض لاجل الزرع ، و المراد انكم لا تقدرون امام قدرة الله بجعله النبات هشيما إلا ( على ) التكلم فقط (3) . و لعل أصل الكلمة ( فكه ) يدل على الحديث غير الضروري و غير الجاد و غير الحق ، و منه سمي المزاح تفكها باعتباره لا يهدف بيان الحقيقة ، كما سمي بالباطل . و منه أيضا سميت ( الثمرات ) بالفاكهة باعتبارها غير ضرورية . ومن هنا قيل : التفكه : التكلم فيما لا يعنيك و منه قيل للمزاح فكاهة و هذا المعنى اقرب الى الآية .

حيث ان الانسان يفقد الارادة امام المشاكل ، و يتراكم عليه الهم و الغم عند(1) المصدر .

(2) آل عمران / 117 .

(3) تقريب القرآن الى الاذهان آية الله الشيرازي .


الخسارة و ويلحقه الندم و الشعور بالهوان " فيقول ربي اهانن " (1) ، حتى ليصبح حديثه عن ذلك أكله و شربه و محوره الذي يدور حوله في كل لحظة ، لعله يروح بذلك عن نفسه بعض الشيء .

و الآراء التي ذكرها المفسرون في هذه الآية قريبة من هذا المعنى إذ قالوا : تعجبون ، و قالوا : تندمون و قال بعضهم تتلاومون نادمين على ما حل بكم (2) . و ربما كان المعنى الأخير أقرب و السياق التالي يدل عليه حيث انهم كانوا يقولون :

[ إنا لمغرمون ]

و في اللغة غرم أي خسر في التجارة ، و الغرم ما يعطى من المال على كره (3) . فالله القادر على جعل المزارع حطاما ، و فرض الغرم علينا ، بأن يرسل السماء بماء منهمر يغرق الحقول ، أو يرسل أسراب الجراد فلا تبقي زرعا ولا ضرعا ، أو يبعث ملايين الفئران تقضم الأخضر و اليابس فنجد أنفسنا مغرمين خاسرين لكننا إذا تفكرنا بمنهج سليم ، نكتشف أن الخسارة ( الغرامة ) التي فرضت علينا ليست بالصدفة ، بل هي بارادة متصرف في الحياة و يمضي في مصائرنا وأرزاقنا ما يشاء ، فيرزقنا أو يمنعنا و يحرمنا متى شاء و كيف .

[ بل نحن محرومون ]

إذن فارزاقنا يقسمها مقسم هو الخالق تعالى ، و مادام هو الزارع ، فبيده الحرمان ، فلماذا نشرك به أو نكفر ؟ و مادامت إرادته نافذة في الحياة لا يمنعها مانع فلماذا نشك في البعث و نصير في لبس من خلق جديد ؟ أولا يكفي ذلك دافعا الى(1) الفجر / 16 .

(2) القرطبي / ج 17 / ص 216 .

(3) المنجد / مادة غرم .


التصديق به و اليقين برسالته ؟

[ 68 - 70] ثم للنظر الى الماء و بالذات ذلك الذي نشر به و ترتكز عليه حياتنا و حياة كل كائن حي ، إننا لم ننزله من السحاب .

[ أفرءيتم الماء الذي تشربون * ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ]ولا ريب اننا لا نستطيع الادعاء بانزاله من قبلنا ، و اكبر دليل على ذلك اننا لا ندري متى ينزل . و اذا غطت السحب سماءنا لا نملك التصرف في انزاله و بالكيفية و المقادير الطبيعية ، و هذه الحيقية يقبلها الجميع ، و لكن أورد البعض هنا شبهة ، فقالوا إن المطرنتيجة عوامل و قوانين طبيعية ، تبدأ من تبخر مياه البحار و المحيطات و الانهار بفعل الشمس ، و تنتهي بالغيث مرورا بصعود الابخرة في طبقات الجو العليا ، و هي عملية يفعلها النظام المجرد ، ولا نحتاج معها الى افتراض وجود ارادة ( الخالق ) تجري العملية بسببها، و هذه من أعقد مشاكل الانسان مع العلم .

يقول الدكتور بخنر الألماني بما اننا لم نجد ظاهرة واحدة في هذا الكون الرحيب من أبعد نقطة أكتشفناها في الفضاء و الى اقرب جرم الينا لم نجدها شاذة عن النظام الكوني . فليس لنا الحاجة الى افتراض وجود الله .

( و لكن الحقيقة ) أن عدم وجود شذوذ في النظام ، أو شمولية النظام في الكون لا يكون دليلا على عدم وجود الخالق ، بل يكون دليلا قاطعا على وجود من خلق النظام وهو الله الخالق العظيم وإلا فمن جعل هذا النظام وقدره وأجراه و بعد هذا فهل كله خاضع للنظام ، أو هل أثبت العلم الحديث هذا النظام ، لنسمع " هايز نبرغ " العالم الفيزيائي يقول - في نظام الذرة - : إن من المستحيل علينا أن نقيسبصورة دقيقة كمية الحركة التي يقوم بها جسيم بسيط وأن نحدد في الوقت عينه موضعه في الموجة المرتبطة به بحسب الميكانيكا الموجبة التي نادى بها " لويس دوبروغلى " فكلما كان مقياس موضعه دقيقا كان هذا المقياس عاملا في تعديل كيمية الحركة ، ومن ثم في تعديل سرعة الجسيم بصورة لا يمكن التنبوء بها ، و مهما تعمقنا في تدقيق المقاييس العلمية إبتعدنا أكثر عن الواقع الموضوعي .

هذا في الذرة الذي نادى فيها بعض بمبدأ النظام في اللانظام . وأما في المجرة أكبر وحدة وجودية فإن أحدث النظريات الفلكية أثبتت أنه بالرغم من وجود نظام متناسق فيها فان فيها مجالا واسعا لما نسميه بالصدف ؟ (1) .

فالنظام إذا ليس كل شيء ، حتى نتخذه ربا - فهو بالاضافة إلى كونه دليلا الى العليم العزيز الذي قدر ، كما أن الأثر دليل على المؤثر - فإن هناك إرادة فوق النظام تمضيه أو تعطله متى ما شاءت و هي إرادة الله ، و لقد أودع الله ثغرة في كل نظام و سنة تدل عليه ،فهذا ماء المزن العذب يصيره ربنا أشد ملوحة من الملح إن شاء ، فلا نقدر على شربه ، أو يستحيل من سبب للحياة ، الى وسيلة للموت و الدمار .

[ لو نشاء جعلناه أجاجا ]

يعني أشد ما تكون الملوحة ، و ربنا قادر على جعله كذلك حال كونه غيثا أو في مخازن الأرض ، بحيث لا يؤثر قانون التبخر في فصل ماء البحر عن أملاحه ، او يجعل أساس تركيب الماء قائم بالملح فلا يمكن فصله عنه بالتحليل و التحلية كما يفعل الآن لمياه البحار ، أوأنه لا ينزله من السحاب فلا يجد الناس إلا ماء البحر الأجاج ، و لكنه بلطفه جعل درجة تبخر الماء تختلف عن الأملاح ، كما نظم دورة(1) الفكر الاسلامي مواجهة حضارية : ص 188 - 189 للمؤلف .


سقوط الغيث و جميع جوانب الحياة بالصورة التي تنسجم مع متطلبات حياتنا. و عدم جعله ماء شربنا أجاجا ليس لعجز في مشيئته ، أو لأن القانون يفرض نفسه عليه بل لرحمته بنا ، فلم يرد ذلك حيث وضع القوانين الأساسية للغيث و إذا شاء في المستقبل تغييرها فله البداء " يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب " .

و إدراكنا لهذه الحقيقة يعرفنا بخالقنا و يسوقنا إلى التصديق به و بقدرته المطلقة ، و بما يجب هو أن يصير التصديق مسؤولية و برنامجا عمليا في حياتنا ، يفرض علينا التزامات يعبر عنها القرآن بالشكر .

[ فلولا تشكرون ]

إذ لا فائدة من معرفة لا تقود إلى العمل ، و لا معنى للتصديق إذا فرغ من أهم مضامينه و أهدافه أي الشكر . و المهم هنا التذكير بان الشكر لا ينحصر في تلك الأذكار المتعارف عليها ، فهي جانب منها أو هي رمز لها أما الشكر الحقيقي فهو معرفة المنعم و تذكر نعمتهعليه ، و التصرف في النعمة حسب تعاليمه . و بالتالي التسليم الشامل له .

قال الامام الصادق ( ع) : " ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فعرف أنها من عند الله إلا غفر الله له قبل أن يحمده " (1) و قال : " شكر النعمة اجتناب المحارم ، و تمام الشكر ( أي ما يكمله ) قول الرجل الحمد لله رب العالمين " (2) وقال في تفسير الآية : لئن شكرتم لأزيدنكم : " نعم من حمد الله على نعمة ، و شكره ، و علم أن ذلك منه لا من غيره " . (3)(1) اصول الكافي / ج 2 / ص 96 .

(2) بح / ج 71 / ص 40 .

(3) المصدر / ص 53 .


و قال الامام العسكري (ع) : " لا يعرف النعمة إلا الشاكر ، ولا يشكرها إلا العارف " (1) و قال الإمام زين العابدين (ع) : " الحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة ، و أسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة ، لتصرفوا في مننه فلم يحمدوه ، و توسعوا في رزقه فلم يشكروه ، ولو كانواكذلك لخرجوا من حدود الإنسانية إلى حد البهيمة ، فكانوا كما وصف في محكم كتابه : " إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا " (2) .

و ما شكر الله من أسرف في نعمه ، او تقوى بها على معصيته ، و نستوحي من أمر الله بالشكر بعد الإنذار المبطن المتمثل في قدرة الله على تحويل الماء أجاجا ؛ أن سلوك الإنسان فيما يتصل بربه أو بنعمه سبحانه ينعكس على الطبيعة من حوله . فلربما ضرب الجفاف بلدا ،فقلت المياه و انعدمت لعدم شكرهم ربهم .

[ 71 - 72] و النار هي الاخرى نعمة هامة و أساسية تتدخل في كثير من مرافق حياتنا ، فهي مصدر للطاقة ، و وسيلة للتدفأة و الطبخ و الإضاءة ، و عامل أساسي في الصناعة إلا أن القرآن في هذا السياق لا يريد الفاتنا إلى هذه الجوانب على أهميتها ، بقدر ما يريد الحديث عن النار باعتبارها آية من آياته و نعمة عظيمة لابد من شكر الله عليها .

[ أفرءيتم النار التي تورون ]

أي توقدون و تشعلون ، و الملاحظ أن الله يوجهنا إلى أشياء متميزة ( الحيمن و الجنين ، و الموت ، و الحرث ، و الماء ، و النار ) ، و تميزها ليس فقط في كونها من أبرز و أهم الاشياء ، بالنسبة للانسان أو لانها من أعظم تجليات الله في الخليقة ، بل لأنها قد أصبحت لا تثير اهتمامنا كثيرا ولا تدعونا إلى التذكرة والاتعاظ ، إنما(1) المصدر / ج 78 / ص 378 .

(2) الصحيفة السجادية الدعاء الاول .


نتعامل عادة معها باعتبارها متوفرة قد تعودنا عليها ، فمنذ أن بدأنا ندرك الحياة تعايشنا مع الماء و النار و ما أشبه ، و لكن ألا فكرنا في مدى حاجتنا أليها ؟ و كيف أن الله وفرها لنا ؟ و ماذا لو انعدمت عنا ؟ هنالك يتحول موقفنا منها تماما .. إنها سوف تنطق بأسرار الحياة و تسبح بحمد الرب الذي وفرها و تصبح جسرا بيننا و بين معرفة الخالق العظيم .

[ ءأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون ]

قالوا إنها المرخ و العقار الذين كانت العرب توقد النار بضربهما ببعضهما و يبدو أنها كل شجرة تتقد فهل كنا نحن الخالقين لها أم الله ؟ أفلا نؤمن بقدرة ربنا الذي خزن النار في هذه الأشجار الخضر أولا نصدق بأنه قادر على إحياء الموتى ؟

مشكلة البشر في قضية البعث أنه يقيس الأمور حسب قدراته ، فحيث يجد في نفسه الضعف و العجز ينكر الآخرة ، أما إذا نظر إلى القضية من خلال إرادة الله المتجلية في الكون فلن يرى البعث إلا أمرا هينا و ربما تكشف هذه الفكرة سر التساؤل المتكرر ( ءأنتم أم نحن ) ،فلو كانت الإجابة فرضا أننا نحن ( البشر ) نخلق و نزرع و ننشيء و ننزل لأمكن الكفر بالبعث ، بينما الإجابة المعروفة لدى كل بشر أن من يفعل ذلك غيرنا ، هنالك نسعى لمعرفته ، و الإيمان به و معرفة أسمائه و بالتالي نعرف واقع البعث و النشور .

[ 73] و ربنا لم يخلق النار و ينشيء شجرتها و حسب ، و إنما جعل لخلقها أهدافا محددة .

[ نحن جعلناها تذكرة ]


للناس بربهم من حيث هي نعمة إلهية عظيمة ، كما أنها تذكرنا بنار جهنم الكبرى فهدفها الأول و الأهم هو تزكية نفس الإنسان ، ففي الخبر عن الإمام الصادق (ع) : " إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ، و قد اطفيت سبعين مرة بالماء ، ثم التهبت ، و لولا ذلك ما استطاع آدمي أن يطفيها ، و إنها ليؤتى بها يوم القيامة حتى توضع على النار فتصرخ صرخة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثى على ركبتيه فزعا من صرختها " . (1)أما الهدف الآخر للنار فهو الإنتفاع المادي بها في مختلف مرافق الحياة ، و المجالات التي يكتشف الإنسان منافعها فيها و طرق استخدامها سواءا بصورتها المباشرة ( اللهب و الشعلة ) ، أو غير مباشرة ( عموم الطاقة ) .

[ ومتاعا للمقوين ]

قالوا : المقوي الذي ينزل القي و هو الصحراء القاحلة ، و إنما جعلت متاعا لهم بالخصوص لمزيد حاجتهم إليها ليس لتدفىء و الطبخ فقط و إنما لطرد الوحوش في الليل إيضا .

و قال بعضهم : المقوي الجائع كما قال الشاعر :

وإني لأختار القوي طاوي الحشى محافظة من أن يقال لئيمو يقال : أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد . (2) و هذا أقرب ، و لعل القي سمي كذلك لانعدام الطعام فيه . وفي حالة الجوع و فناء الزاد تكون النار متاعا عظيما خصوصا للمسافر .

[ 74] و يختم ربنا هذا الدرس القرآني بدعوة إلى التسبيح باسمه للخلاص من(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 224 .

(2) القرطبي / ج 17 / ص 223 .


النار و مصير أصحاب الشمال و كوسيلة للتقرب إلى رضوانه .

[ فسبح باسم ربك العظيم ]

و هذه الدعوة هي محصلة طبيعية لحديث الآيات السابقة ، و متممة لها ، فتلك دعتنا إلى التصديق و عرفتنا بربنا من خلال نعمه و آياته المتجلي فيها سبحانه ، و حرضتنا على التذكر و الشكر ، و هذه الخاتمة أوضحت لنا البرنامج العملي لتلك المعرفة و التذكر و الشكر المتمثل في تنزيه الله عن الشريك وعن أي نقص و عجز وحد .

ولأننا لا نعرف كنه ذاته سبحانه فليست لنا وسيلة اليه وإلى تسبيحه إلا أسماؤه الحسنى المتجلية في الطبيعة ، و المذكورة في كتابه ، و أسمى أذكار التسبيح قول العبد ( سبحان الله ، و الحمد لله ، ولا إله إلا الله و الله أكبر ) و هو سبحانه عظيم و إسمه كذلك عظيم ، و تنكشف لنا عظمته و عظمة إسمه كلما تقدمت و تعمقت معرفتنا بآياته و آثار عظمته في الخليقة كلها .

و الملاحظ في هذه الآيات ( 58 - 73 ) ذكرها لأهم النعم الفطرية و الحضارية بالنسبة للإنسان ، فاهم النعم الفطرية هي خلقة الإنسان التي تبدأ من المني و تستمر ، و بنعمة المطر ، و أهمها حضاريا مما يعتبر إكتشافها أنعطافات كبرى في تاريخ الحضارة البشرية . إكتشاف الزراعة و النار ، ولا ريب أن لنعمة الزراعة تأثيرا في سائر مرافق حياة الإنسان ، فهي مرتكز لحاجاته الأساسية كالتغذية و البناء ، و الكمالية كالزينة والظل و التمتع ، حتى قالوا إنها أصل كل حضارة .

و معرفة هذه الحقائق يهدينا إلى أن الحضارة التي بأيدينا ألان ظاهر الأمر أننا الذين صنعناها و أوجدناها ، إلا أنها من صنع الله و فضله ولأن الحضارة المادية( الانسان + الزراعة + الماء + الطاقة ) هي من خلقه و تنشئته ، ثم إنها لا تكتمل إلا بالإيمان مما يأتي التأكيد عليه في الدرس القادم .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس