يوم تأتي السماء بدخان مبين
هدى من الآيات إن الصيغة التي ورد فيها الحديث عن ليلة القدر لا يختص بها وحدها ، و إنما ينصرف الى حقيقة هامة أيضا ، و هي أن الانسان محاط بتدبير الله قضاءا و قدرا ، و هاتان الكلمتان تردان في كثير من النصوص الشرعية كتابا و سنة وعلى ألسن المؤمنين ، فماذا تعنيان ؟
القدر هو السنن الإلهية التي تحكم الكون ، فالنار تحرق ، و الماء يطفــئ النار ، و .. و .. و أما القضاء فهو الحكم الإلهي القاطع بإجراء هذه السنن أو تعطيلها ، ففي هذه السنن يظل فراغ لا قانون فيه ، و هو ما نسميه اليوم بالصدفة ، ذلك أن إرادة الله فوق القانون ، وقد أثبت العلم بعد التجارب المتكررة على مختلف القوانين هذه الحقيقة .
فمن واقع الإنسان اكتشف العلماء دواءا لعلاج فيروس الانفلونزة ، و اعتقدواأنهم بواسطته يستطيعون السيطرة عليه سيطرة تامة ، و لكنهم وجدوا أن عشرات الألوف من الشعب الأمريكي يموتون بسببه بالرغم من تعاطيهم ذلك الدواء ، و السبب أن أجسامهم لا تستجيب لمفعوله .. فالدواء إذن ينفع ولكن ليس إلى الأبد إنما في حدود معينة .
و مثــل آخـر مـن واقع الطبيعة أن الخبراء بعد التفكير و التجريب و التخطيط أطلقوا ( أبولو 13 ) الى الفضاء ، و بعد أن وصل الى المكان المعين تعطل عن العمل ، و عسكريا حاولوا غزو إيران ، مـع الأخـذ بعين الإعتبار كل الإحتمالات و الإستعداد لمواجهتها ، و لكنهم عند التنفيذ فشلوا ، و تهاوت طائراتهم كأوراق الخريف في صحراء طبس .. مما يدل على وجود هامش لا قدرة للانسان في السيطرة عليه ، بل قد يبدأ الهامش من الانسان نفسه فإذا به يفقد السيطرة على ذاته فضلا عن عمله ، فربما يختل توازنه الذهني ، و ربما يتعطل شيءفي جسده .
ومن المعايشات اليومية قد يرفع الإنسان صدقة أو يعمل خيرا في أول يومه ، فيعرض له حادث مميت ينجو منه ، بينما يموت في يوم آخر بسبب تافه . أليس كذلك ؟ إذن فهناك قوة غيبية تدبر شؤوننا ، ولا يوجد شيء في الحياة يسمى بالصدفة ، إنما هي تدابير إلهية فوق الإرادات و السنن .
و روي أن أمير المؤمنين (ع) عدل من حائط مائل الى مكان آخر ، فقيل له : يا أمير المؤمنين تفر من قضاء الله ؟ فقال (ع) : " أفر من قضاء الله الى قدره " (1) ، فقدر الله أنه الجدار المائل يسقط ، و الذي يجلس عنده يتضرر ، و قد وهب الله للانسان العقل الذي يتعرف به على هذه الحقيقة ، أما قضاؤه فإنه تعالى يبعث في(1) بح / ج 5 - ص 97
عقل الانسان كشبه الهزة الكهربائية تثيره و تذكره ، و ابتعاد الإمام (ع) عن الجدار كان بقضاء الله عز وجل .
و نقل لي أحد الأشخاص قائلا : كنت واقفا في الشارع أبحث عن سيارة توصلني الى نقطة معينة في إحدى العواصم ، وفي الأثناء توقفت الى جانبي سيارة أجرة ، ولكن السائق رفض جلوسي في المقعد الأمامي الى جانبه ، الأمر الذي منعني عن الركوب في هذه السيارة ، فاستقليت سيارة أخرى ، و بينما كنا نسير رأينا جمعا من الناس و كأن حادثا ما وقع في الشارع ، و حيث نزلت لمعرفة الخبر وجدتها سيارة الأجرة التي رفض صاحبها ركوبي في المقعد الأمامي ، و قد تحطمت ومات السائق و الراكب الذي كان الى جانبه .. فالقدر الطبيعي لهذا الشخص أنه يموت ، و لكن القضاء يتدخل ليبدل الأمر ، و ينقذ هذا الانسان .
و أمثال هذه القصص و الحوادث تتكرر بكثرة في حياتنا اليومية ، و نحن نعايشها أو نسمع عنها ، ولكننا لا نبصر ولا نعتبر . وفي هذه السورة تركيز على هذا الوعي ( أن في الكون يدا غيبية تدبر شؤونه ) ، وذلك لا يعني أنها وحدها تفعل كل شيء مباشرة ، وأنه لا نظامفي الحياة ، كلا .. إنما النظام موجود ، ولكن هناك أيضا من يجريه و يهيمن عليه فيجريه أو يعطله متى شاء ، وهو الله عز وجل ، فإذا بالنار التي تحرق يتعطل قانونها في قصة إبراهيم (ع) ، وإذا بالعصا تصير حية كأنها جان ، وهكذا الكثير من الشواهد الأخرى .
بينات من الآيات :
[1] [ حم ]
بالإضافة الى كون الكلمات المقطعة رموزا و إشارات تهدينا الى القرآن ذاته ، أو أنها رموز بين الله و أوليائه ( وهو أفضل ما قيل فيها ) ، فإنها تنسجم بتناغمهاو أجراسها اللفظية مع طبيعة السورة ذاتها نفسيا و أدبيا .
[2-3] وفي هذه السورة يقسم ربنا بعد تلك الحروف بالقرآن نفسه ، والذي يتألف منها ومن أشباهها ، للدلالة على مدى عظمته و جلالة قدره .
[ و الكتاب المبين * إنا أنزلناه في ليلة مباركة ]
هي ليلة القدر في شهر رمضان ، التي عدلت بخيرها و بركتها ألفا من الشهور .. و إنما أنزل الله الكتاب لهداية الناس الى الحق بترغيبهم فيه و تحذيرهم من عواقب الضلال و الباطل .
وقد تساءل المفسرون : كيف نزل القرآن في ليلة القدر وقد تنزلت آياته على امتداد ثلاث و عشرين عاما ، وقد بين ربنا حكمة تنجيم القرآن بقوله : " و قالوا لولا نزل عليه هذا القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك و رتلناه ترتيلا " . (1)قالوا - حسب النصوص - : إنه أنزل جملة واحدة الى مقام سام في السماء الرابعة جعله الله مسجدا لملائكته حيث يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه أبدا ، يسمى بالبيت المعمور ، وقد جعل الله الكعبة بازائه . (2)وقالوا : إن الرسول كان على علم بما في الملأ الأعلى ، ولذلك أمره الله بألا يعجل في بيان القرآن : " لا تحرك به لسانك لتعجل به " . (3)[ إنا كنا منذرين ]
(1) الإسراء / 32
(2) راجع موسوعة بحار الانوار / ج 9 - ص 163 وما بعد .
(3) القيامة / 16
و الإنذار هو هدف القرآن و سائر الرسالات الإلهية ، ذلك أن الأمم تبدأ بالإنحراف عن هدى الله حتى تقف على شفا حفرة من النار و العذاب ، فيبعث الله لها بمنذر و كتاب لإنقاذها .
[4 - 5] وقد شرف الله ليلة القدر بأمرين :
أولا : حيث أنزل فيها كتابه الكريم الذي بعث به الإنسانية مقاما محمودا أهلهم به لجناته و رضوانه و الزلفى من مقامه الأعلى .
و إنما شرف الزمان بما يقع فيه من حوادث عظيمة ، وهل هنالك حادثة أعظم من وحي رب العزة ؟! أوسمعت كيف كادت السموات يتفطرن من فوقهن لما مر بهن وحي الله العظيم ؟! أو ما قرأت أن القرآن لو أنزل على الجبال لتصدعت ؟!
حقا إنها ليلة مباركة عظمت و شرفت في السموات و الأرض ، و يحق لنا أن نكرمها بالعبادة .
ثانيا : لقد جعل الله ليلة القدر ليلة الوحي في كل عام حيث ينزل فيها ملائكته كل عام و الروح من كل أمر ، و حيث يستقبل الانبياء ومن بعدهم الأوصياء وصيا بعد وصي رسل الله الذين يفصلون لهم ما قدره الله لعباده جميعا .
[ فيها يفرق كل أمر حكيم ]
شؤون العباد ليست تماما بأيديهم ، بل لعل أغلبها بيد القدر .. و التفريق - حسبما قال البعض - هو تفصيل ما أجمله الله في غيب علمه من حكم الخلق و أهدافه .
[ أمرا من عندنآ إنا كنا مرسلين ]
فالأمر إذن يرسل من عند الله كما القرآن ، أي أن القرآن منهاج عملنا في عالم التشريع ، بينما قدر الله و قضاؤه يرسمان خريطة حياتنا في عالم التكوين ، فكما يقدر الله في ليلة القدر ما يتصل بحياتنا جزءا جزءا كذلك يرسل الأنبياء ليفصلوا منهاج حياتنا كلمة كلمة .
[6] وهذا التدبير الإلهي رحمة بالغة .
[ رحمة من ربك ]
إن اليد الإلهية التي تسير شؤون الكون يد رحيمة و كريمة ، ومن هنا كانت البصيرة القرآنية الى الحياة توحي بالإطمئنان و الثقة ، فالمسلم الصادق يسلم لله ، و تطمئن نفسه لقدره و قضائه : ألا بذكر الله تطمئن القلوب " فهو لا يخشى من الطبيعة و الناس من حوله ولا من المشاكل ، لذلك فهو ينفق في سبيل الله ما استطاع دون الخوف من الفقر ، و يرجو من الإنفاق زيادة الرزق ، و يقدم على الأمور ، ولا يخشى العقبات و المشاكل ، بل و يرجو من ذلك تسخير الطبيعة في صالحه ، و لذلك فهو قليل الفشل ، لأن الفشل أكثر ما يأتي من خشيته .
ثم إن رحمة الله لا تنتهي عند حد معين ، إنما تتسع أيضا لحاجات الإنسان المتجددة التي تعكسها دعواته .
[ إنه هو السميع ]
الذي يسمع دعاء عباده .
[ العليم ]
بنواياهم ، ثم يستجيب لهم أولا يستجيب لحكمة يعلمها .
[7 - 8] و ربنا هو رب الكون بأسره ، و لكن بعض الناس يشرك به ، و يقسم الخليقة على آلهة شتى ، و هذه النظرة الضالة للحياة ليس سببها عدم ظهور آيات الربوبية في الكون من حولهم ، و إنما لأنهم لم يرتفعوا الى مستوى المعرفة العميقة و اليقين .
[ رب السموات و الأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ]
بلى . إن الموقنين هم الذين ينظرون للحياة نظرة توحيدية خالصة من الشرك ، فلا يؤمنون بإله إلا الله عز وجل .
[ لا إله إلا هو يحيي و يميت ]
فهو المتصرف في مصائر الخلق ، ومن هذه صفته هو الإله ، و الأولى بالعبادة من كل أحد سواه ، ومادام ربنا هو الذي يملك الموت و الحياة فلماذا نخشى غيره و نخضع له ؟! لماذا نتبع الطاغوت ؟! و لماذا نقلد آباءنا ؟!
إنهم ليسوا بآلهة حتى نعبدهم ، إنما هم عباد مثلنا خلقهم الله .
[ ربكم و رب ءابآئكم الأولين ]
سواء عبده الآباء أم أشركوا به ، و نحن يجب أن نتخذ هذه الحقيقة مقياسا لتقييم الأجيال وليس العكس ، وذلك لكي لا يؤثر علينا انحراف الآخرين تأثيرا سلبيا .
[9] و السؤال الذي يطرح نفسه هنا : لماذا يضل البشر عن هذه الحقائق ، و يشركون بالله ؟
و الإجابة : لأنهم يظنون أن الحياة الدنيا هي نهاية المطاف ، فهي الهدف فياعتقادهم ، وهذا يقودهم الى الشك في المستقبل حيث الدار الآخرة ، ومن فرغ حياته من الآخرة فقد أفقدها هدفها ، و جعلها مجرد لعب .
[ بل هم في شك يلعبون ]
إن المؤمن لا يتخذ الدنيا دار لعب و لهو ، لأنه يعتقد بالمسوؤلية و الحساب عن كل قول و فعل يصدر منه ، بل عن كل حديث له مع نفسه ، بينما الذين يشكون في الآخرة يقودهم شكهم الى النظرة الساذجة و الهازلة الى الحياة الدنيا .
[10] و القرآن يحذر هؤلاء من العاقبة التي سوف يلاقونها نتيجة هذه النظرة للحياة ، فالشك في الآخرة لن يلغي المسؤولية فيها .
[ فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ]
فكأنها تشتعل نارا و لكن من دون ضياء ، و ذلك أن النار في يوم القيامة لا نور فيها و بالذات في جهنم ، إنما هي ظلمات فوق ظلمات ، وفي المجمع : إن رسول الله (ص) دعا على قومه لما كذبوه فقال : اللهم سنيا كسني يوسف ، فأجذبت الأرض ، فأصابت قريشا المجاعة ، وكأن الرجل لما به من الجوع يرى بينه و بين السماء كالدخان ، و أكلوا الميتة و العظام (1) . وقد وعد الله رسوله بانزال العذاب على المرتابين و المشككين في الجزاء .
[11] و حين ينزل هذا العذاب فإنه يغمر الناس من كل ناحية .
[ يغشى الناس هذا عذاب أليم ]
جزاءا لما قدمتموه في الدنيا من الأعمال و الإعتقادات المنحرفة ، فإذا بهم(1) مجمع البيان / ج 9 - ص 62
يستغيثون الله و يتضرعون إليه طمعا في النجاة ، ولكن دون جدوى .
[12] [ ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ]
و هذه من طبيعة البشر . إنه لا ينتبه حتى يرى العذاب مباشرة ، بينما زود بالعقل لاستشفاف المستقبل ، و تجنب الخطر قبل فوات الأوان .
و سواءا أريد بهذه الكلمة المنذرة العذاب الذي يغشى المجرمين في الدنيا أو عذاب الآخرة فإن موقف الشاك في الآخرة منها واحد ، إذ أنه لا يتذكر إلا و العذاب يغشاه فلا تنفعه الذكرى ، على أن عذاب الدنيا لحظة بل لسعة بل ظلال من عذاب الله في الآخرة ، نعوذ بالله منهما .
وفي بعض التفاسير : إن الدخان هذا من أشراط الساعة ، حيث ذكر في الحديث المأثور عن أمير المؤمنين عليه السلام :
" عشر قبل الساعة لابد منها : السفياني ، و الدجال ، و الدخان ، و الدابة ، و خروج القائم ، و طلوع الشمس من مغربها ، و نزول عيسى ، و خسف بالمشرق ، و خسف بجزيرة العرب ، و نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس الى المحشر " (1)(1) عن بحار الانوار / ج 52 - ص 209
|