و ألا تعلوا على الله
هدى من الآيات يتعرض البشر الى نوعين من الفتن في حياته :
الأول : الفتن اليومية ، وهي تشبه سائر متغيرات حياة الفرد التي تتكرر عليه ، فهو كما يجوع فيشبع ، و يظمأ فيرتوي ، و يضحى فيسكن الى مأوى ، فإنه يصطدم بهذا النوع من الفتن ، ومن طبيعة الحياة أنها تحد من جانب و استجابة للتحدي من جانب آخر ، و هنا يكمن الإبتلاء ، و إنما يكتسب الإنسان الخبرة و الإرادة و القوة ، كما ينمو و تنمو معه المواهب من خلال تحدي المشاكل و العقبات .
الثاني : الفتن الكبرى التي يتعرض لها الفرد أو المجتمع ، وهي تتجدد في كل عصر ، بيد أن قرار الانسان فيها يكون مصيريا ، فالفرد الذي ينتمي الى حركة إصلاحية ، و يتدرج في مراحل التوعية و التنظيم و العمل ، حتى يبلغ مكانا حساسا فيها . إن كل لحظة تمر عليهمن عمره الحركي تعتبر لحظة خطيرة تحمل الفتنة
و الإبتلاء ، و لكنه لا يتعرض للفتنة الكبرى إلا حينما يقع في قبضة السلطات الإرهابية ، فيتعرض لألوان التعذيب الوحشي أو الإنحراف الخادع ، فإن صمد ولم يكشف لهم عن أسراره كتب خلوده و مجده بألمه ، و ربما بدمه .
و صور اجتماعية لهذا النوع من الفتن نجدها في حياة الأمم ، ولكن ليس عند الفتن التي نسميها بالتحديات و التحديات المضادة التي تتعرض لها في اقتصادها وفي سياستها و تركيبتها ، و إنما عند المواجهة الحاسمة ، حين تقف هذه الأمة أمام عدو أقوى منها سلاحا ، و أرقى تقدما ، و أكثر عددا ، فإن صمدت فإنها تكتب مجدها ، وإن انهزمت فإنها تقرر مصيرها .
و كشاهد على هذا اللون من الفتن في التاريخ الفتنة التي تعرض لها موسى و قومه من جهة و فرعون و ملأه و جنده من جهة أخرى ، و التي انتهت بفشل هؤلاء الذين لم يرتفعوا الى مستوى تحدي الكبرياء الكاذبة في أنفسهم ، فانحرفوا و انتهت حضارتهم للأبد .
إذن فالفتن الكبرى مصيرية و حاسمة ، و السؤال هنا : كيف يصمد الانسان أو المجتمع أمامها ؟ إنه يحتاج الى إرادة قوية ، وهي لا توجد عند الانسان في لحظة واحدة ، و إنما بالتدريج و التربية ، فكما أن البحر الطمطام الذي يمتد طولا و عرضا يتكون من القطرات الصغيرة ، وهكذا الصحراء المترامية الأطراف تتكون من ذرات الرمل ، فكذلك إرادة الانسان تصنع من مجموع إرادات صغيرة ، هو يتمكن من اتخاذ الموقف الصعب إذا مارس المواقف الأقل منه في الحياة .
و كمثال على موقف الانسان من الفتنة الكبرى و اتصال ذلك بمواقفه السابقة دعنا نستعرض قصة رجلين : أحدهما سقط في الفتنة ، بينما انتصر الثاني ، فهذا هو عمرو بن العاص حسبما يقول عنه ابن قتيبة الدينوري في كتابه الإمامة و السياسة :
لما انتهى اليه كتاب معاوية وهو بفلسطين ، استشار ابنيه عبد الله و محمدا ، وقال : يا ابني ، إنه قد كان مني في أمر عثمان فلتات لم استقبلها بعد ، وقد كان من هروبي بنفسي حين ظننت أنه مقتول ما قد احتمله معاوية عني ، وقد قدم على معاومة جرير ببيعة علي ، وقد كتب إلي معاوية بالقدوم عليه ، فما تريان ؟ فقال عبد الله وهو الأكبر : أرى و الله أن نبي الله قبض وهو عنك راض ، و الخليفتان من بعده كذلك ، و قتل عثمان و أنت غائب ، فأقم في منزلك ، فلست مجعولا خليفة ، ولا تزيد على أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة ، أوشكتما أن تهلكا فتستويا فيها جميعا ، وقال محمد : أرى أنك شيخ قريش ، و صاحب أمرها ، فإن ينصرم هذا الأمر و أنت فيه غافل ، يصغر أمرك فالحق بجماعة أهل الشام ، و اطلب بدم عثمان ، فإنك به تستميل الى بني أمية ، فقال عمرو : أما أنت يا عبد الله فأمرتني بما هوخير لي في ديني ، وأما أنت يا محمد فقد أمرتني بما هو خير لي في دنياي ، ثم دعا غلاما له يقال له وردان ، وكان داهيا ، فقال له عمرو ، يا وردان احطط ، يا وردان ارحل ، يا وردان احطط ، يا وردان ارحل ، فقال وردان : أما إنك إن شئت نبأتك بما في نفسك ، فقال عمرو : هات يا وردان ، فقال : اعتركت الدنيا و الآخرة على قلبك ، فقلت مع علي الآخرة بلا دنيا ، ومع معاوية الدنيا بغير آخرة ، فأنت واقف بينهما ، فقال عمرو : ما أخطأت ما في نفسي ، فما ترى يا وردان ، فقال ، أرى أن تقيم في منزلك ، فإن ظهر أهل الدين عشت في عفودينهم ، و إن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك ، فقال عمرو : ألآن حين شهرتني العرب بمسيري الى معاوية ؟! (1)و ذهب عمرو الى معسكر معاوية تاركا آخرته لدنياه ، ثم لما دنت منه الوفاة وكان في فلسطين قال لمن حوله : احملوا جسدي الى صحن الدار ، فلما حمل و طرح على الأرض نظر الى السماء فقال : لست بذي عذر فأعتذر ، ولا بذي قوة فأنتصر ،(1) الامامة و السياسة / ج 1 - ص 96
فافعل بي ما تشاء ، و مات .
و نجد في مقابل هذه الهزيمة صورة للصمود أمام فتنة الحياة ، عند عمار بن ياســر ( رضي الله عنه ) الذي وقف مع الحق في حرب صفين وهو يناهز التسعين من العمر ، و لما رأى الإمام علي (ع) شيخوخته أمره أن يشد ظهره ، و حواجب عينيه حتى لا يبدو للناس ضعيفا ، فبرز ( رضي الله عنه ) للقتال ، وقال مخاطبا عمرو بن العاص : يا عمرو بعت دينك بمصر فتبا لك ، فطال ما بغيت الإسلام عوجا ، ثم قال : اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي هذا البحر لفعلت ، اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم أنحني عليه حتى يخرج من ظهري لفعلت ، اللهم إني أعلم مما علمتني أني لا أعلم عملا هذا اليوم هو أرضى لك من جهاد هؤلاء القاسطين ، ولو أعلم اليوم عملا هو أرضى لك منه لفعلته . و حارب حتى استشهد مع الحق ، ولكن لماذا اختار عمار ( رضي الله عنه ) هذا الموقف ، بينما اختار ابن العاص الهزيمة أمام الفتنة و الجواب : لأن عمار كان دائما مع الحق ، وحتى في دقائق حياته ، و منذ إيمانه بالرسول (ص) ، حتى قال فيــه الإمام الصادق (ع) : " ما خير عمار بين أمرين ( كلاهما في الله ) إلا اختار أشدهما " .
و ربما عناه الإمام علي (ع) بقوله : " كان لي فيما مضى أخ في الله ، و كان يعظمه في عيني صغر الدنيا في عينه ... و كان إذا بدهه أمران ينظر أيهما أقرب الى الهوى فيخالفه " (1) فلا عجب إذن أن تنتهي حياة هذا العظيم بالشهادة ، بينما يموت ابن العاص على فراش الذنب و الرذيلة ، لأن ابن العاص كان يخشى من شهرة العرب - حسب قول ابن قتيبة - أكثر من خوفه من الله ، و كان يبحث عن الرئاسة قبل سعيه لرضا ربه ، إن تلك الصفات الرذيلة التي تكرست في نفسه عبر عشرات(1) نهج البلاغة / ص 526 - حكمة 289
من المواقف الإنهزامية أمام ضغوط الدنيا و إغراءاتها كونت أرضية هزيمته المصيرية باختيار الدنيا على الدين .
ومن هنا نعي أهمية المواقف اليومية و مدى تأثيرها على مستقبل الإنسان ، فلا ريب أن الاختيارات اليومية للأصعب في الله ، هي التي صنعت إرادة عمار حيث التزم بالخيار الصعب في نهاية الخط ، بينما صنعت الإختيارات البسيطة للخطأ الهزيمة الحاسمة أمام الفتنة الكبرى في حياة الآخر .
و فرعون مع ملئه و جنده - الذين تحدثت عنهم آيات هذا الدرس - إنما فشلوا في الفتنة الكبرى لأنهم كانوا ينهزمون أمام الفتن الصغيرة ، وهذه من أهم العبر التي نستفيدها من سورة الدخان .
|