فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[13 -14] اختتم الدرس السابق بتصوير الكافرين يدعون ربهم لكشف العذاب عنهم زاعمين أنهم مؤمنون ، وهنا يؤكد ربنا انهم كاذبون ، أولم يكفروا بالنذير ؟ بلى . إنهـم يعيشون اللحظة ، فإذا رأوا العذاب جأروا الى ربهم ، و إذا استجاب لهم تراهم ينكثون . إنهم أبناء الظرف الحاضر ، و ليسوا ممن يملك بصيرة المستقبل أو تجربة الماضي .

[ أنى لهم الذكرى ]

أي بعدت و استحالت بالنسبة لهم ، لأنهم حين رفضوا الايمان قبل العذاب لم يكن رفضهم منطقيا إذ لم يقصر الرسول في بيان الحق و الدعوة الى الله ، حتى عذرهم بأن الأمر كان غامضا .

[ وقد جآءهم رسول مبين ]


و لكنهم عصوه .

[ ثم تولوا عنه ]

إذ صاروا يختـارون ما توحي به شهواتهم و مصالحهم و قيادتهم الباطلة على أمره ، و أكثر من ذلك اتهموه .

[ و قالوا معلم مجنون ]

فهو ينتمي الى الآخرين في نظرهم ، و هذه تهمة يوجهها الطغاة الى كل ثائر و مجاهد ، حيث يسمونه عميلا ، و يدعون عليه الارتباط بجهات خارجية ، ومن جهة أخرى اتهموه بالجنون لما يقدم عليه من أعمال جريئة . حقا إنهم اعترفوا بأنه عالم و شجاع ، ولكن منعهم غرورهم من الاعتراف بعظمته ففسروا حكمته بالتعلم ، و بطولاته بالجنون ، وإذا عرفنا أن رسالته لم تكن ناشئة من الثقافة المنتشرة في مجتمعه فان اعترافهم ماض في أنه رسول ، وحين عرفنا أن شجاعته كانت محسوبة فان كلامهم اعتراف بأنه توكل على الله فأيده ربه .

[15] ولكن مع ذلك قد يرفع الله العذاب عن عباده رحمة بهم ، ذلك ان من أهداف إنزاله على الناس إعادتهم للحق ، و تصحيح مسيرتهم الخاطئة ، عبـر بعثهم نحو نقد الذات ، كما يقول تعالى : " فأخذناهم بالبأساء و الضراء لعلهم يتضرعون " (1) فاذا ما تضرعوا رفعه الله عنهم لاقامة الحجة التامة عليهم ، و بيان زيف ادعائهم بأنهم تائبون حقــا .

[ إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون ]


(1) الانعام / 42


و ربنا يعلم بحقيقتهم ولكنه يرفعه عنهم بلطفه ، فاذا بهم يعودون لما نهوا عنه ، مما يجعلهم يستحقون أشد العذاب .

[16] و ربنا يؤكد بأن العودة الى المعصية و الانحراف تستلزم إرجاع العذاب ولكن بصورة أشد و أقسى ، و ليس بهدف هدايتهم ، بل انتقاما منهم هذه المرة .

[ يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون ]

إن العذاب الذي يراه الظلمة في الدنيا ليس سوى نفحة من العذاب الذي ينتظرهم بعد الموت .

[17] و وقوع هؤلاء طعمة للبطشة الكبرى نتيجة طبيعية لفشلهم أمام أعظم فتنة يتعرض لها البشر ، وهي فتنة التسليم للقيادة ، حيث تولوا عن الرسول و خالفوا أمره ، فلن يكون مصيرهم ولا مصير أمثالهم بأفضل من أسلافهم الذين تحدوا قيادة الرسل .

[ ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون و جاءهم رسول كريم ]

و انبعاث القيادة الرسالية المتمثلة آنذاك في موسى (ع) وضع المجتمع كله أمام فتنة كبرى ، فهو إما يختار الانحطاط و الدمار باتباع الباطل بقيمه و رموزه ، وإما يتبع الحق برسالته و قياداته .

[18] وقد بين موسى (ع) الهدف الأول من رسالته وهو تحرير الانسان من العبودية للطاغوت ، و قد أشارت آيات عديدة الى أن صبغة رسالة الله الى موسى كانت تحرير بني إسرائيل من طغيان آل فرعون ، إذ كانت هذه أعقد مشكلة حضارية في ذلك العصر ، وقد تحدت رسالات اللهجميعا بؤر الانحراف و عقد المشاكل ، فاذا كانت عقدة الحضارة العلو في الأرض ، كما نجده في مجتمع عاد ، فان أخاهم هودا نهاهم عن أن يبغوا الفساد في الأرض ، و أن يبطشوا بطشالجبارين ، أما إذا كانت العقدة الفساد الخلقي كما عند قوم لوط نهاهم رسولهم من ذلك ، و قال : " أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون " ، و هكذا .

و هكذا جاء موسى محررا لبني إسرائيل من طغيان فرعون ، وقال : " قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل " (1) وقال : " إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل " (2) .

وهنا يقول ربنا :

[ أن أدوا إلي عباد الله ]

يعني المستضعفين الذين استعبدتهم الفراعنة .

[ إني لكم رسول أمين ]

فلست أريد من تحرير المستضعفين شيئا لنفسي ، و إنما أنا أؤدي أمانة الرسالة ، و ألتزم بها كما يريد الله عز وجل .

[19] أما الهدف الآخر لموسى (ع) فهو القضاء على الاستكبار بكل أبعاده و صوره ، و إعادة الانسان الى واقعه الحقيقي ، وهو واقع العبودية لربه تعالى ، و تكبر فرعون و قومه على موسى لم يكن تكبرا عليه و حسب ، و إنما كان تكبرا على القيم الحقة ، و بالتالي طلباللتعالي حتى على الله ، و موسى (ع) أكد على هذه الفكرة في دعوته لهم .


(1) الاعراف / 105

(2) الشعراء / 16 - 17


[ و أن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين ]

و إذا كان فرعون قد نصب نفسه إلها أعلى للناس " فقال أنا ربكم الأعلى " (1) ، فان دعواه هذه باطلة يدحضها موسى بالحجج و البراهين الواضحة .

[20] وحيث يتوقع موسى (ع) موقف الرفض و الظلم ضد الدعوة الصادقة من قبل فرعون و قومه أكد بأنه لن يخشى أحدا ، لأنه يستعيذ بالله منهم .

[ و إني عذت بربي و ربكم أن ترجمون ]

و تكشف هذه الآية الكريمة عن سياسة الطغاة في مواجهة الرسالة ، و عموم الأفكار المخالفة لهم ، وهي سياسة القمة ، ذلك لأنهم لا يملكون قوة المنطق حتى يواجهونها ، فيواجهونها بمنطق القوة .

ولعل في الآية تحذير مبطن من قبل موسى ، حيث أنذرهم بأنه سوف يستعين بالله في مواجهتهم ، وهل تصل أيديهم له لو نصره الله ؟؟ بالطبع كلا ..

و الرجم حسبما يظهر لي يستبطن معنى اغتيال شخصية الرسول بالاشاعات الباطلة ، ثم اغتيال شخصه بطريقة يساهم كل الناس في قتله فيضيع دمه بينهم حتى لا يترك مجالا لوليه بالثأر .

و هكذا تجمع بين معنين أشار اليهما المفسرون لكلمة الرجم : الرجم بالحجارة ، و الرجم بالشتم ، و الواقع أن الرجم الأول هو نتيجة الرجم الثاني .

[21] ثم إنه عليه السلام بين لهم خطأ منطق القوة في مواجهة المنطق الحق ، و أن المنطق الموضوعي هو قبول الرسالة و الايمان بها ، أو اعتزال صاحبها و تركه(1) النازعات / 24


و الناس حتى يحكم الزمن بصدقه أو كذبه .

[ و إن لم تؤمنوا لي فاعتزلون ]

[22] و لكنهم رفضوا إلا منطق الجريمة .

[ فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون ]

فالذنب بالنسبة إليهم ليس عرضا يقعون فيه بسبب الغفلة أو النسيان ، و إنما هو أساس تقوم عليه حياتهم ، فهم مرتكزون في الجريمة .

وهذه الآيات و كثير مــن الآيات القرآنية التي تحدثنا عن معاناة الأنبياء مع أقوامهم ، تؤكد ثلاث مراحل تمر كل رسالة بها ، المرحلة الأولى هي بعث النبي و اختلاطه بالناس و سعيه لهدايتهم ، و المرحلة الثانية هي تكذيبهم له و اعتزاله عنهم ، أما المرحلة الثالثة فهي حلول العذاب عليهم من قبل الله مباشرة ، أو على أيدي المؤمنين بقيادة الرسول أو من يمثله في المجتمع ، وإنما ينبغي اعتزال المجتمع الكافر لكي لا يشمل العذاب المؤمنين ، أو للاعداد للصراع ضد الكافرين .

[23] وقد أمر ربنا موسى (ع) و الذين آمنوا معه بالانفصال عن فرعون و قومه تمهيدا لحلول العذاب عليهم ، و أكد ربنا على أن يكون الاعتزال في ظروف سرية حتى تتم العملية بنجاح ، فكان الليل أكثر مناسبة للحركة .

[ فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون ]

من قبل فرعون و جنده ، ذلك أنهم يرفضون أي حركة تحررية في المجتمع .

ولعل الحكمة من إضافة كلمة " ليلا " لجملة " أسر " التي هي تكفي دلالة على الحركة بالليل ، لتوضيح أن كل السفر ينبغي ان يكون بالليل .


[24] و حيث انفلق البحر لموسى و بني إسرائيل ، و عبروا من خلاله للطرف الآخر من اليابسة ، أمره الله أن يتركه على حاله منشطرا ، لكي يتبعهم الظلمة من خلاله فاذا توسطوا البحر جميعهم أغرقهم .

[ واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون ]

وقد ذكروا لكلمة الرهو معنيين : الواسع و الساكن ( الخافظ و الوادع ) و معنى ذلك أن يتــرك الطريق كما هو واسعا وادعا ليغري فرعون بالسير فيه تمهيدا لهلاكه و قـومـه .

[25 - 27] و استجاب موسى لأمر الله فجمع بني إسرائيل و أخبرهم بالأمر ، فتحركوا ليلا ، و عندما وصلوا الماء ضربه موسى (ع) بعصاه " فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم " و سار بنوا إسرائيل بأسباطهم الأثنى عشر على الفروق ، وقد تبعهم فرعون و جنده ،فلما توسطوا البحر التقى الماء بأمر الله فأغرقوا بأجمعهم ، و خلفوا وراءهم كل ما جمعوه من حطام الدنيا الزائلة ، فخسروا بفشلهم أمام الفتنة الكبرى نعيم الدارين وهكذا ذهب آل فرعون و خلفوا وراءهم حضارتهم المادية التي أطغتهم عن القيم الالهية . لقد اجتهدوالاستصلاح الأراضي و إنشاء بساتين على جانبي النيل ، تجري فيها عيون الماء ( من قنوات متصلة بالنيل ) و وراء جنات الأشجار كانت الأراضي الخصبة التي تزرع فيها أنواع الحبوب ، وقد أعطتهم هذه الثروة الزراعية أموالا طائلة بنوا بها بيوتهم المرفهة المؤثثة بكل وسائل الراحة في ذلك اليوم ، وقد طار صيتهم في الآفاق ، و نالوا مقاما كريما .

وقد بلغت حضارتهم مستوى تجاوزت مرحلة الصعوبات ، و بلغت مرحلة التفكه و التلذذ فنقلوا جميعا الى النيل كعبة آمالهم ، و معبد غرورهم و كبريائهم ، و أهلكوا ثمة دون أن يمس حضارتهم سوء .


[ كم تركوا من جنات و عيون و زروع و مقام كريم و نعمة كانوا فيها فاكهين ]فأصبحوا عبرة لغيرهم عبر الأجيال ، بينما ينبغي للانسان أن يعتبر بغيره لا أن يكون نفسه عبرة للآخرين .

[28 - 29] ثم يقول ربنا :

[ كذلك ]

أي ان هذه سنة تجري في الحياة على كل من يترك القيم ، و يرفض هدى الله ، وما هذه النهاية المريعة التي صار اليها فرعون و جنده و ملؤه إلا صورة لعاقبة كل أمة ترفض قيادة الحق ، و تسلم زمامها لقيادة الطغاة .

[ و أورثناها قوما ءاخرين ]

و هؤلاء بدورهم ممتحنون بهذه الأشياء فلابد أن يتجاوزوا الفتنة بنجاح ، و إلا فلن يكون مصيرهم أحسن من سابقيهم ، الذين دمرهم الله . ولعل الآية تشير الى وراثة بني إسرائيل لأرض مصر بعد هلاك آل فرعون ، و تدل على ذلك آيات أخرى .

[ فما بكت عليهم السماء و الأرض ]

قد يصل الأمر بالانسان - و بالذات الحاكم - أن يعتقد بأن الحياة متوقفة عليه ، وأنه مركز الكون ، ولكن الحقيقة ليست كذلك ، فهو لو تغير من موقعه أو انتهى أجله لا يطرأ أي تغير على الطبيعة سوى ذهابه ، الذي لا يغير شيئا من سننها أو واقعها .

إن الكثير من الناس يريدون الطبيعة بقوانينها و سننها تتبع أهواءهم ، و تتكيفمع مصالحهم و طريقة تفكيرهم ، بينما العكس هو الصحيح ، لأنها تتحرك باتجاه الحق .

بلى . إن الحياة قد تتأثر لموت المؤمن الولي لله ، كما بكت على يحيى بن زكريا و الحسين بن علي ( عليهما السلام ) ، عن الامام الصادق (ع) قال : " بكت السماء على يحيى بن زكريا و على الحسين بن علي عليهما السلام أربعين صباحا ، قلت : فما بكاؤها ؟ قال :
كانت تطلع حمراء و تغيب حمراء " (1) . و قال عليه السلام : " بكت السماء على الحسين (ع) أربعين يوما دما " (2)أما الطغاة فانهم لا يتأثر المجتمع بذهابهم حزنا ولا بكاء ، بل بالعكس يفرح الناس بموتهم لأنهم مصدر بليتهم و تخلفهم ، كما تبتهج الطبيعة ، لأنها لا تنسجم مع من يخالف الحق .. ثم إنهم عندما يحل بهم العذاب لا يعطون فرصة أخرى أبدا .

[ وما كانوا منظرين ]


(1) , (2) نور الثقلين / ج 4 - ص 628


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس