بينات من الآيات [1] [ حم ]
سبق و أن قلنا أن الحروف المقطعة ربما تكون إشارة للقرآن ذاته أو أسرارا بين الله و أحبائه ، و قال البعض : ان " حم " إسم للسورة ، و إشارة إليها .
[2] [ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ]
العزيز الذي لا يغالب ولا يقهر ، و الحكيم الذي لا يخطأ .
و بما أن الكتاب تنزيل من الله فلتخشع له الأفئدة ، و لتطأطأ أمامه الأفكار . أوليس ربنا عزيزا فكتابه تجل لتلك العزة ؟ وهل ينبغي للعاقل أن يغالب كتاب ربه ، ولا يخشى غضبته التي لا تحتملها السماوات و الأرض ؟!
و ربنا حكيم ، و كتابه آية حكمته ، أفلا ينبغي أن نستوحي الحكمة منه ؟
[3] [ إن في السماوات و الأرض لآيات للمؤمنين ]
إن الآيات الكثيرة المبثوثة في الكون تجعل الايمان عميقا في نفس البشر ، و المهم أن تزيدنا الآيات إيمانا به سبحانه ، إذ أن الله ضمن كل شيء حقيقة العبودية ، فإذا ما نظرنا فيه وصلنا الى تلك الحقيقة ، فنؤمن بالله ، و تخشع له قلوبنا .
ولكن يختص بمعرفة هذه الحقيقة المؤمنون الذين لا تمنع حجب الكبر و العناد قلوبهم عن معرفة ما تهدي إليه الكائنات من حقائق .
[4] [ وفي خلقكم ]
ألا ترى كيف يذرأ الله الخلق من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ، و كيف يطوره خلقا من بعد خلق ، نطفة فعلقة ثم مضغة ثم عظاما فكسى العظام لحما ثم أنشأه خلقا آخر ؟ ألا ترى كيف يخلقنا العليم القدير في بطون أمهاتنا خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ، و أجرىعلينا الغذاء ، و بعد أن ولدنا حنن علينا قلوب الآباء و الأمهات ؟ الا ترى كيف خلقنا تامين الخلقة ، في أحسن تقويم ؟
وليس خلقنا كذلك بل كل الأحياء ، إذ أن الله كما البشر خلقهم عبر الانسلال كذلك الشجر ، فالبذرة تنبت الشجرة ، و هذه الشجرة تحمل بذرا ، لو زرعت هذه البذرة لأنبتت شجرا .. وهكذا .
وحين خلق الله الانســان زوده بمختلف الحاجات ، و أودعه العقل ليسخر به الحياة ، و يتغلب على بعض قوانينها .
[ وما يبث من دآبة آيات لقوم يوقنون ]
فتجد في الأرض أحياء حسب طبيعة الأرض و حاجات تكامل الأحياء فيها .
إن طريقة بث الله للدواب و انتشارها و تكاثرها ، كل ذلك آيات لقوم يوقنون ، و اليقين درجة أعلى من الايمان ، و يبدو من الآية السابقة أنها تدعو إلى النظر في عموم الآيات و ذلك يؤدي الى الايمان ، بينما الآية هذه التي تدعو إلى اليقين تثير فينا التطلع إلىتفصيلات الحياة .
[5] [ و اختلاف الليل و النهار ]
كذلك في اختلاف الليل و النهار آيات لمن يتبصر عبر الأحداث و الظواهر ، و يعقل ما وراء هذا التدبير الحكيم لتتابع الليل و النهار ، و كيف سخر الله الشمس و أقمارها لتخدم حياة البشر فوق هذا الكوكب ، دون أن يستطيع أي واحد منها تغيير مساره قدر بوصة أو يتقدم ساعة عن مواقيته أو يتأخر ساعة .
[ ومآ أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ]تفيض أشعة الشمس بما تحمل من بواعث الحياة على الأرض الهامدة ، و ينهمر الغيث حاملا مواد أساسية من الفضاء المحيط ، و يرسل الرب الرياح لواقح ، فيرزق عباده بكل ذلك بقدر ما يشاء .
[ و تصريف الرياح ]
إن الله يصرف الرياح حيثما يريد ، بعضها مبشرات بالرحمة ، و بعضها بالعذاب ، و ينشر اللقاح أو يسقط الورق ، أو يحمل الغيث أو البرد ... و هكذا الرياح كما الغيث مسخرات بإذن الله ، تجري بأمره حيث أصاب ، كل ذلك :
[ آيات لقوم يعقلون ]
فالذين يستوعبون دروس الخليقة ، و يحفظون المعلومات ليضيفوها الى بعضها ، و يتفكرون فيها جميعا ليعرفوا السنن التي تجريها و الأنظمة التي تسيرها ، هم أولئك الذين يصلون عبر الآيات الإلهية الى الحقائق الكبرى .
ولعل هذا التدرج من الايمان الى اليقين الى العقل يوحي بأن الايمان هو تسليم النفس البشرية للحق ، و اليقين درء للشكوك و الظنون ، و ترسيخ للسكينة في النفس ، أما العقل فهو لوعي تفاصيل الحقيقة للمحافظة على اليقين و الزيادة فيه .
و بتعبير آخر : يكون الانسان ضالا ، فإذا أطاع القلب الشيطان يصبح كافرا ، وإذا خرج الملك حتى أتم الشيطان هيمنته على القلب فقد أمسى صاحبه جاحدا مطبوعا على قلبه بالكفر ، أما إذا هزم القلب شيطانه ، و اسلم لربه ، فقد آمن ، و إذا ازدادت هيمنة الملك على القلب حتى ثبته الله على الايمان ، و ألزمه كلمة التقوى ، و طرد الشيطان بما له من وساوس و شكوك ، فقد أصبح موقنا ، و اليقين درجات فكلما ازداد المؤمن عقلا عن ربه و علما بآياته سبحانه يزداد يقينا .
[6] [ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ]
الكون يدور كله حول الحق ، و القرآن يؤكد هذه الحقيقة فكل آيات الله في الطبيعة تقودنا إليه و لكن أذا لم يؤمن الناس بالحق ..
[ فبأي حديث بعد الله و آياته يؤمنون ]
إنكار الله بعد عرض هذه الآيات ليس إنكارا لله فقط ، بل هو أيضا إنكار للآيات نفسها ، و هل في الكائنات شيء أشد ظهورا من تلك الحقيقة التي تشترك في الشهادة عليها و الدلالة إليها كل الكائنات ؟! و إذا أنكرناها فقد أنكرنا كل شيء . أوليس في كل شيء آية لله؟
هكذا جاء في دعــاء الامام الحسين عليه السلام : " عميت عين لا تراك عليها رقيبا " (1)[7] وفي الآية التالية ينذر الله من لا يتبع هداه بالويل :
[ ويل لكل افاك أثيم ]
و يطرح السؤال التالي : ماهي علاقة هذه الآية بما تليها ؟ يبدو أن هنالك علاقة واقعية و نفسية :
ألف : فالعلاقة الواقعية أن الذين لا يؤمنون بالله و لا يغمر قلوبهم نور المعرفة الإلهية سيأفكون عن الحق ، و يقولون الكذب ، بل إن كل عمل يعملونه وكل خطوة يخطونها وكل هاجس من هواجسهم يحملهم إلى الإفك و الإثم ، و مثلهم مثل الآلة الحاسبة التي تركب على أساس خاطئ فإن كل عملياتها خطأ ، و كذا الآلة الطابعة التي تركب الحروف فيها على أساس خاطئ فكل كلمة تكتبها تخرج خاطئة ، ذلك أن الايمان بالله لا غيره هو الذي يحل طلاسم الحياة و أسرارها ، كيف وجد هذا الكون الهائل ، وإلى أين يصل ، وإلى أين ينتهي ، وما حكمةخلقه ، وما هي غاية وجودنا فيه ؟
بلى . ان الانسان الذي يسلب منه الايمان لا يستطيع أن يعرف طبيعة الحياة ، ولا يصمد أمام مشاكلها ، و يمضي حياته في الكدح العابث .
باء : العلاقة النفسية فهي أن قلب الانسان و عقله و فطرته قد خلق كل ذلك على أساس معرفة الله " فطرة الله التي فطر الناس عليها " (2) ، و لكن بسبب العمل(1) دعاء عرفة / الامام الحسين (ع) / مفاتيح الجنان(2) الروم / 30
الفاسد الذي يرين على القلب ينتكس الانسان ، و تتراكم عليه حجب الضلالة و العصبيات و العقد فلا يرى الحقائق .
و لذلك جاء في الدعاء المأثور عن أمير المؤمنين - عليه السلام - :
[ إلهي قلبي محجوب ، و نفسي معيوب ، و عقلي مغلوب ، و هوائي غالب ، و طاعتي قليل ، و معصيتي كثير ، و لساني مقر بالذنوب ، فكيف حيلتي يا علام الغيوب ، و يا ستار العيوب ، و يا كاشف الكروب ، إغفر ذنوبي كلها بحرمة محمد و آل محمد ، يا غفار يا غفار يا غفار" (1)
فقلب الانسان يحجب بالغفلة ، و سبب كل ذلك تراكم الذنوب ، لهذا يجأر المؤمن منها ، و يدعو الله بغفران ذنوبه ، متوسلا بحرمة محمد و آله ، حتى يعود القلب الى فطرته النقية . و يزيل الله سبحانه الحجب عن القلب بطرق شتى ، منها إثارة حب الذات عبر التخويف و الترهيب ، و بيان أن الابتعاد عن الحق لا ينفع الانسان شيئا ، بل هو الويل و عذاب الخزي لكل أفاك أثيم ، و الويل هو الهلاك ، وهو واد في جهنم ، ممتلئ قيحا ، و الويل في الآخرة تجسيد للويل في الدنيا ، وقد أعده الله المنتقم الجبار لكل أولئك الذين يأفكون الكذبباستمرار على الله عز وجل ، و يجترحون السيئات .
[8] [ يسمع ايات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا ]
يصر على كفره استكبارا على الحق الذي يسمعه . إنه يسمع آيات الحق و لكنه يمر ..
[ كأن لم يسمعها ]
(1) دعاء الصباح / مفاتيح الجنان
و نستلهم من قوله سبحانه : " ثم يصر " أن شدة وضوح آيات الله هي إلى درجة تكاد تكره الانسان على الايمان ، و لكن المستكبر الذي عقد عزمات قلبه على الإفك العقيدي و الإثم العملي يستعمل شتى السبل ليستكبر على الحق ، و ليقاوم آثار الهداية ، كالذييحجب عن نفسه عبق الأزهار في فصل الربيع ، أو أشعة الشمس في ظهيرة يوم قائض إنه بحاجة الى مزيد من الجهد حتى يمكنه البقاء بعيدا عن تأثير أشعة الهدى في قلبه .
[ فبشره بعذاب أليم ]
يتناسب و الاصرار على الكفر و اجتراح الإثم .
[9] و بالرغم من أن الكافر يحجب نفسه عن آثار الهدى تدخل حريم قلبه ، الذي يغلفه بسور من استكباره و إفكه و إثمه ، فإن موجات من الهدى تخترق الحجب ، و تستقر في فؤاده ، و لكنه سرعان ما يتخذ منها موقف الاستهزاء و السخرية النابعة من احتقار الحق و أهله .. هنالك تتم حجة الله عليه إذ أنه استصغر الحق بعد علمه به .
[ وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين ]وهذا الجزاء ينسجم و الاستكبار أو الاستهزاء .
[10] [ من ورآئهم جهنم ]
أي أن جهنم تنتظرهم ، وإذا زعموا أن بمقدورهم النجاة من جهنم بأموالهم أو أولادهم فقد زعموا باطلا .
[ ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ]
ولن تغني عنهم آلهتم شيئا .
[ و لا ما اتخذوا من دون الله أوليآء ]
فليس في يوم القيامة لهذه الاصنام الحجرية أو البشرية قيمة حتى ينقذونكم من النار .
[ و لهم عذاب عظيم ]
و العذاب العظيم يتناسب وما عبدوا من دون الله ، إذ أنهم اقترفوا جريمة عظيمة بالشرك فعاقبهم ربهم بعذاب عظيم .
[11] [ هذا هدى ]
الهدى هو الطريق المستقيم الذي ينجيك من عذاب جهنم .
[ و الذين كفروا بايات ربهم لهم عذاب من رجز أليم ]لماذا يكرر ربنا عز وجل موضوع العذاب خمس مرات : " ويــل لكل أفاك أثيم " ، " فبشره بعذاب أليم " ، " أولئك لهم عذاب مهين " ، " من ورائهم جهنم .. ولهم عذاب عظيم " ، " لهم عذاب من رجز أليم " ؟ لعل السببهو تراكم العقد النفسية على القلب ، التي يعتبر كل واحدة منها حجابا سميكا دون نفاذ نور الهدى ، ولابد من خرقها جميعا بالانذار الشديد بألوان العذاب و مراحله .
[12] وبعد أن يمطر الله الذين يكذبون بآياته بالانذار تلو الانذار ، لعل قلوبهم تخشع للحق ، يذكرهم بآياته في الآفاق ، و بنعمه التي أسبغها عليهم ، و إن التفكر في ذلك يهدينا إلى حسن التدبير ، و بديع الصنع ، و بالتالي : إلى أن خالق هذا الخلق و منظم أمرهعليم حكيم ، و أنه لم يبدأه عبثا ، ولا يتركه سدى ، و هنالك نبلغحقيقة الجزاء التي تحاول النفس البشرية الهرب منها خشية منها ، و إشفاقا من ثقلها .
و هكذا ينتقل المؤمنون من التفكر في خلق الله إلى خشية عقابه ، كما قال ربنا سبحانه و تعالى في سورة آل عمران :
" إن في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما و قعودا وعلى جنوبهم و يتفكرون في خلق السموات و الأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار * ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار " (1)
هكذا نرى كيف أن التفكر في الخلق أوصلهم الى خشية النار ، و هنا بعد أن ينذر الله الكفار المستكبرين بالنار يعرج بنا إلى آياته فيقول :
[ الله الذي سخر لكم البحر ]
البحر على عظمته مسخر للانسان ، أفلا يدلنا على النظم و التدبير ؟
و لقد ذكرنا السياق بفوائد ثلاث لتسخير البحر :
أولا : الملاحة التي تنقل الناس و البضائع إلى الآفاق .
[ لتجري الفلك فيه بأمره ]
ثانيا : صيد الأسماك و استخراج الثروات الأخرى .
[ و لتبتغوا من فضله ]
(1) آل عمران / 190 - 192
ثالثا : الاهتداء من واقع تسخير البحر إلى رحمة الله بالانسان و كرامته له فينبعث لربه شكرا و خضوعا .
[ و لعلكم تشكرون ]
فالهدف من النعم تكامل روح الانسان ، و تسامي نفسه .
[13] ثم انظر الى ما في السموات من آيات القدرة ، و معالم الحكمة ، و كيف أن قانون الجاذبية و نظام الأفلاك و مجاري الشمس و أقمارها و النجوم وما حولنا يخدم حياة الانسان فوق الأرض . أفلا يهدينا ذلك إلى أن لوجود البشر هدفا لابد أن نتعرف عليه ثم نسعى لتحقيقه ؟
[ و سخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه ]و كذلك ما في الأرض من أوكسجين الهواء ، إلى أملاح الأرض ، ذلك ما فيها من معادن مختلفة تنفع الناس ، و إلى ما فيها من أحياء ، كلها تخدم حياة الانسان و سعادته . من الذي سخر كل ذلك للبشر ، أوليس الله ؟ أفلا نعبده ؟!
[ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ]
و التفكر هو إثارة العقل ، لكي يربط المعلومات ببعضها ، و يرتقي من خلالها إلى الحقائق الكبرى ، و بالرغم من أن ما في الحياة كلها آيات تشير إلى تلك الحقائق إلا أن من لا يستثير عقله لا يستفيد منها شيئا .
[14] [ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون ]على المؤمن أن يعتبر نفسه أعلى من الذين لا يؤمنون ، لأنهم كالأعمى و الأصم ، فإذا قاموا بعمل سيء فعليه أن يغفر لهم ، ومن المعلوم أن ذلك لا يعني ترك المسؤولية تجاههم ، بل ينبغي ألا يسارعوا في محاربتهم ، بل يدعو ذلك الامام لكي يرى الظرف المناسب للمواجهة ، و يومئذ يجزي الله الذين كفروا بما كانوا يكسبون ، ومادام المجرم لا يفوت ربه فلماذا البدار إلى أخذه ، إذ قد تكون المبادرة سببا لفشل خطط كثيرة .
وهذا التفسير يتناسب وما ذكره المفسرون من سبب نزول الآية ، من محاولة البعض من أصحاب الرسول أخذ المخالفين بالشدة ، مما كان يسبب حرجا للرسول ، وعلى ذلك يمكن تفسير قوله سبحانه " ايام الله " بأنها أيام نصرة للمؤمنين ، حسبما احتمله البعض .
[15] [ من عمل صالحا فلنفسه ]
يجده في الجنة .
[ ومن أسآء فعليها ]
مغرما عليه يوم القيامة .
[ ثم الى ربكم ترجعون ]
ففريق في الجنة ، و فريق في السعير .
وهذه الآية تبين لنا أهمية المسؤولية ، وأن كلا مسؤول عن عمله ، فلا ينبغي البدار إلى العقاب ، ولا انتظار الثواب العاجل ، بل لابد أن يتمتع المؤمن برؤية مستقبلية تضفي عليه الطمأنينة و السكينة و الحكمة في التحرك .
|