فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[12] من يؤمن بالله ، ولا يكتفي بالايمان وحده ، بل يجعل من صبغة حياته تفيض على سلوكه ، فله أجره عند ربه ، و ما أعظمه من أجر !

[ إن الله يدخل الذين امنوا و عملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ]تعالوا إلى حيث رسول الله يرغبنا بكلامه الصادق العذب في جنات ربنا ،حيث أعدها الله دارا لضيافته ، و دعا إليها كرام خلقه ، وها هو الرسول يحدثنا ألا تسمعون : " فيدخل ( المؤمن الجنة ) فاذا هو بشجرة ذات ظل ممدود ، و ماء مسكوب ، و ثمار مهدلة ، يخرج من ساقها عينان تجريان ، فينطلق إلى إحداهما فيغتسل منها فيخرج عليــهنضرة النعيم ، ثم يشرب من الأخرى فلا يكون في بطنه مغص ولا مرض ولا داء أبدا ، و ذلك قوله : " و سقاهم ربهم شرابا طهورا " ، ثم تستقبله الملائكة فتقول : طبت فادخلها مع الخالدين ، فيدخل فاذا هو بسماطين من شجر ، أغصانها اللؤلؤ ، و فروعها الحلي و الحلل ، ثمارها مثل ثدي الجواري الأبكار ، فتستقبله الملائكة معهم النوق و البراذين و الحلي و الحلل فيقولون : يا ولي الله اركب ما شئت ، و البس ما شئت ، و سل ما شئت ، قال : فيركب ما اشتهى ، و يلبس ما اشتهى ، و هو على ناقة أو برذون من نور ، و ثيابه من نور ،و حليه من نور ، يسير في دار النور ، معه الملائكة من نور ، و غلمان من نور ، و وصائف من نور ، حتى تهابه الملائكة مما يرون من النور ، فيقول بعضهم لبعض : تنحوا فقد جاء وفد الحليم الغفور ، قال : فينظر إلى أول قصر له من فضة مشرفا بالدر و الياقوت فتشرف عليهأزواجه فيقولون : مرحبا مرحبا إنزل بنا ، فيهم أن ينزل بقصره ، قال : فتقول الملائكة : سر يا ولي الله فان هذا لك و غيره ، حتى ينتهي الى قصر من ذهب مكلل بالدر و الياقوت فتشرف عليه أزواجه فيقلن : مرحبا مرحبا يا ولي الله إنزل بنا ، فيهم أن ينزل به فتقول لهالملائكة : سر يا ولي الله فان هذا لك و غيره .

قال : ثم ينتهي إلى قصر مكللا بالدر و الياقوت فيهم بالنزول بقصره فتقول له الملائكة : سر يا ولي الله فان هذا لك و غيره ، قال : ثم يأتي قصرا من ياقوت أحمر مكللا بالدر و الياقوت فيهم بالنزول بقصره فتقول له الملائكة : سر يا ولي الله فان هذا لك و غيره ،قال : فيسير حتى أتي تمام ألف قصر ، كل ذلك ينفذ فيه بصره ، و يسير في ملكه اسرع من طرف العين ، فإذا انتهى إلى أقصاها قصرا نكس رأسه ، فتقولالملائكة : مالك يا ولي الله ؟ قال : فيقول : و الله لقد كاد بصري أن يختطف ، فيقولون : يا ولي الله أبشر فإن الجنة ليس فيها عمى ولا صمم ، فأتى قصرا يرى باطنه من ظاهره ، و ظاهره من باطنه ، لبنة من فضة ، و لبنة ذهب ، و لبنة ياقوت ، و لبنة در ملاطه المسك ،قد شرف بشرف من نور يتلألأ ، و يرى الرجل وجهه في الحائط .

قال : و إن في الجنة لنهرا حافتاه الجواري ، قال : فيوحي اليهن الرب تبارك و تعالى : أسمعن عبادي تمجيدي و تسبيحي و تحميدي ، فيرفعن أصواتهن بألحان و ترجيع لم يسمع الخلائق مثلها قط ، فتطرب أهل الجنة ، و إنه لتشرف على ولي الله المرأة ليست من نسائه من السجف فملأت قصوره و منازله ضوءا و نورا ، فيظن ولي الله أن ربه أشرف عليه ، أو ملك من ملائكته ، فيرفع رأسه فاذا هو بزوجة قد كادت يذهب نورها نور عينيه ، قال : فتناديه : قد آن لنا أن تكون لنا منك دولة ، قال : فيقول لها : ومن أنت ؟ قال : فتقول : أنا ممن ذكرالله في القرآن : " لهم ما يشاؤون فيها و لدينا مزيد " ، فيجامعها في قوة مائة شاب ، و يعانقها سبعين سنة من أعمار الأولين ، وما يدري أينظر الى وجهها أم إلى خلقها أم إلى ساقها ؟! فما من شيء ينظر إليه منها إلا رأى وجهه من ذلك المكان من شدة نورهاو صفائها ، ثم تشرف عليه أخرى أحسن وجها و أطيب ريحا من الأولى ، فتناديه فتقول : قد آن لنا أن يكون لنا منك دولة ، قال : فيقول لها : ومن أنت ؟ فتقول : أنا من ذكر الله في القرآن : " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءا بما كانوا يعملون ".

قال : وما من أحد يدخل الجنة إلا كان له من الأزواج خمسمائة حوراء ، مع كل حوراء سبعون غلاما و سبعون جارية كأنهن اللؤلؤ المنثور ، كأنهن اللؤلؤ المكنون ( و تفسير المكنون بمنزلة اللؤلؤ في الصدف لم تمسه الأيدي ، ولم تره الأعين ، و أما المنثور فيعني في الكثرة ) وله سبع قصور في كل قصر سبعون بيتا ، في كل بيت سبعونسريرا ، على كل سرير سبعون فراشا ، عليها زوجة من الحور العين ، " تجري من تحتهم الأنهار " " أنهار من ماء غير آسن " صاف ليس بالكدر ، " و أنهار من لبن لم يتغير طعمه " لم يخرج من ضرر المواشي ، " و أنهار من عسل مصفى "لم يخرج من بطون النحل ، " و أنهار من خمر لذة للشاربين " لم يعصره الرجال بأقدامهم ، فاذا اشتهوا الطعام جاءهم طيور بيض يرفعن أجنحتهن فيأكلون من أي الألوان اشتهوا جلوسا إن شاؤوا أو متكئين ، و إن اشتهوا الفاكهة تسعبت إليهم الأغصان فأكلوا من أيها اشتهوا ، قال : " الملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " (1) .

هذا و طبيعة المتقين في الجنة تختلف عنها في الدنيا اختلافا شاسعا ، فقد روي عن الإمام أبي جعفر الباقر (ع) :

" إن أهل الجنة جرد مرد مكحلين مكللين مطوقين مسورين مختمين ناعمين محبــوريـن مكرمين ، يعطى أحدهم قوة مائة رجل في الطعام و الشراب و الشهوة و الجماع ، قوة غذائه قوة مائة رجل في الطعام و الشراب ، و يجد لذة غذائه مقدار أربعين سنة ، و لـذة عشائه مقدار أربعين سنة ، قد ألبس الله وجوههم النور ، و أجسادهم الحرير ، بيض الألوان ، صفر الحلي ، خضر الثياب " .

" إن أهل الجنة يحيون فلا يموتون أبدا ، و يستيقظون فلا ينامون أبدا ، و يستغنون فلا يفتقرون أبدا ، و يفرحون فلا يحزنون أبدا ، و يضحكون فلا يبكون أبدا ، و يكرمون فلا يهانون أبدا ، و يفكهون ولا يقطبون أبدا ، و يحبرون و يسرون أبدا ، و يأكلون فلا يجوعون أبدا ، و يروون فلا يظمؤون أبدا ، و يكسون فلا يعرون أبدا ، و يركبون و يتزاورون أبدا ، و يسلم عليهم الولدان المخلدون أبدا بأيديهم(1) بحار الأنوار / ج 8 - ص 212


أباريق الفضة و آنية الذهب أبدا ، متكئين على سرر أبدا ، على الأرائك ينظرون أبدا ، يأتيهم التحية و التسليم من الله أبدا ، نسأل الله الجنة برحمته . إنه على كل شيء قدير " (1) .

أما الكافرون فليس لهم سوى النار مثوى و حصيرا .

[ و الذين كفروا يتمتعون و يأكلون كما تأكل الأنعام و النار مثوى لهم ]و السبب في دخولهم النار بدل الجنة هو أنهم استنفذوا طيباتهم في حياتهم الدينا ، و غاروا في أوحال الشهوات ، و لـم يستهدفوا من وراء النعم الوصول الى الغاية الأسمى ( الدار الآخرة ) ، و هذا ما بينته الآية العشرين من سورة الأحقاف : " و يوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا و استمتعتم بها " .

و نتساءل : ما معنى " يأكلون كما تأكل الأنعام " ؟

الجواب : المؤمن يأكل ليعمل ، و يعمل للهدف ، و يبتغي الهدف لله ، " و أن إلى ربك المنتهى " ، بينما القضية معكوسة عند الكافر الذي يعمل ليحصل على متعة الأكل ( و سائر الشهوات ) ، فالهدف عنده الذي تتمحور حوله سائر نشاطاته هو الأكل . أليس ذلك حالة الأنعام ؟

[13] تلك كانت النار وهي موعدهم ( في الآخرة ) ، أما في الدنيا فقد يصيبهم الله بعذاب من عنده اليم .

[ و كأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك


(1) بحار الأنوار / ج 8 - ص 220


أهلكناهم فلا ناصر لهم ]

كانوا يبنون بكل ريع آية يعبثون ، و يتخذون مصانع لعلهم يخلدون ، و إذا بطشوا بطشوا جبارين ، و كانوا ينحتون من الجبال بيوتا فارهين ، و كانت الأنهار تجري من تحتهم ، و كانوا يستخفون بالمؤمنين ، و يقولون : إنهم لشرذمة قليلون .. ولكن ألم تر كيف فعل ربك بهم ، ألم يصب عليهم سوط عذاب ؟! بلى . فهل وجدوا لهم نصيرا ؟!

ومن هذا السياق ( علاقة الآية 12 بالآية 13 ) نستوحي الحقيقة التالية : ان المؤمنين يتعاملون مع الأشياء - كل الأشياء - باعتبارها وسائل للوصول إلى الأهداف ، فهم لا يعتمدون عليها ، ولا يتخذونها أندادا لله ، و لا يحجبهم حبهم لها أو تعاملهم معها عن اللهو رسالاته و أحكامه ، و بكلمة واحدة : إنهم يجعلونها وسيلة يسخرونها لتحقيق الحكمة من خلقهم ، ولا يجعلون أنفسهم سخرة لها ، بينما الكفار ينظرون إلى الأشياء نظرة ذاتية ، فيغترون بها ، و يعتمدون عليها ، و لكنها لن تغني عنهم شيئا .

[14] حين يفصل الكتاب بين المؤمنين و الكافرين لا يفصل بينهما كعنوانين ظاهرين ، بل كقيمتين واقعيتين ، ينفصل على أساسهما من يتظاهر بالإيمان عن الفاسق و المنافق .

ذلك أن القرآن يتحدث غالبا عن الحق ، و ليس عن مظاهره ، و لذلك فالكافر في آياته ليس دائما الذي يتظاهر به ، بل قد يكون الذي يكفر - مثلا - بآية في القرآن أو يكفر عمليا بفريضة إلهية ، لأن الحديث القرآني هو عن واقع الكفر لا ظاهره ، مما يشمل كل من يوجد لديه هذا الواقع .


و هذه السورة تتميز بالصراحة في هذا الفصل ، و لذلك جاء في الحديث المروي عن أبي عبد الله الصادق (ع) : " من أراد أن يعرف حالنا و حال أعدائنا فليقرأ سورة محمد ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، فإنه يراها آية فينا و آية فيهم " (1) أي أنها تتحدثبوضوح تام عن منهاج محمد و آله الحق ، و المنهاج الباطل المخالف لهم .

[ أفمن كان على بينة من ربه ]

فدار مع الحق أينما دار ، و لم يجعل ذاته أو هواه محورا لقراراته .

[ كمن زين له سوء عمله و اتبعوا أهواءهم ]

كلا .. لا يستويان ، إنه لفرق كبير بينهما ، فأولئك محورهم الحق ، و هؤلاء محورهم الهوى .

إن المؤمن يفكر ثم يتحدث ، و يخطط ثم يعمل ، بينما الكافر و المنافق يتحدث بلا روية ، و يعمل بلا هدف سليم ، لأنه لا يعتمد الحق مقياسا لشؤون حياته . أولم يقل الامام علي (ع) : " لسان العاقل وراء قلبه ، و قلب الأحمق وراء لسانه " ؟ (2) .


إن المؤمن يعلم أنه قد يخطئ صراط الحق ، ومن هنا فهو لا يتحرك إلا عن بينة ، فلا يخطو خطوة إلا وهو يعلم أنه سيضعها في الموقع السليم ، كمن يحمل مصباحا و يقدمه أمامه ثم يبدأ المشي ، و بالعكس الكافر و المنافق . إنه يتخبط في ظلمات الباطل ، لأن الدافع الأساسي له الهوى " و كم من عقل أسير ، تحت هوى


(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 24

(2) نهج البلاغة / حكمة 40 - ص 476


أمير ! " (1) .

و إن المؤمن يعيش حياة الصدق ، لأنه يعيش في إطار الحق فلا يحتاج إلى التبرير و التلبيس و الدجل ، بينما يعيش أصحاب الهوى الالتواء و الأعذار و الزيف . إن ضمائرهم ترفض باطلهم لولا أنه يزين لهم ، و يلبس بالحق ، و يبرر بصنوف المعاذير . أرأيت الذي يطعم العسل لا يحتاج إلى خلطه بمادة أخرى ، بينما الذي يجترع العلقم لا يستسيغه إلا إذا وضع فيه قطعة حلوى , كذلك الحق و الباطل . فهل الحاكم المنتخب بنزاهة ، العامل بالعدل ، الحكيم ، الصادق ، الصالح ، بحاجة الى الاعلام كالطاغية الظالم الطائش الفاسد ؟

وهكذا نجد الدول كلما توغلت في الظلم كلما أنفقت على الدعاية .

كمــا نجد أكثر الفلسفات البشرية جاءت لتبرير واقع فاسد للناس فرادى أو جماعات ، ففي العهد الماضي ابتدعت نظريات كثيرة كالمرجئة و القدرية لتبرير الواقع الفاسد للافراد و حالات الترهل و الكسل ، كما انتشر في العصر الحديث الفساد الجنسي ، و غطت أوروبا الميوعة و المجون ، فجاء فرويد بنظريته الجنسية المعروفة .

[15] لكي يتعمق الفصل بين فريقي المؤمنين و الكافرين في أعيننا حتى لا نزعم أنهما سواء ، و نستدرج - بسبب هذا الزعم - نحو الكفر ، و لكي نرغب في الايمان بما يلقيه على عواتقنا من مسؤوليات ، و نحذر من الكفر بالرغم مما حفت به من شهوات ، لكل ذلك يذكرنا السياق بمصير الفريقين ، و يبين صفات الجنة و النار :

[ مثل الجنة ]


(1) نهج البلاغة / حكمة 211 - ص 506


هذه هي صفة الجنة .

[ التي وعد المتقون ]

الذين يتبعون الحق ، و يتجنبون ما يسخط ربهم ، و يحفظون أنفسهم من النار ، و ما يوجبها من سيئات .

[ فيها أنهار ]

متنوعة أولا .

[ من مآء غير آسن ]

غير متغير لطول المقام كما تتغير مياه الدنيا ، ذلك أن الجنة طاهرة من النجاسات و الجراثيم و الأدران . وقال بعضهم : إن هذا النهر وضع لرفع عطشهم . و أقول : بلى . و ايضا لتطهير أجسادهم و أرواحهم من شوائب الحياة الدنيا فاذا شربوا منها نظفت ابدانهم من كلجرثومة أو مرض كما طهرت قلوبهم من كل غل .. و نستوحي ذلك من عدم قابلية الماء للأسن و التغيير . و إذا عرفنا ان الماء بذاته مطهر ، فان مقاومته للتأثر تعني أنه ماء مطهر لكل نجاسة ، لأنه لولم يكن كذلك إذا كان يتأثر بها ، و يدل على ذلك أيضا الحديث الذي مضىآنفا عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم .

[ و أنهار من لبن لم يتغير طعمه ]

فلا يعتريه شيء من العوارض التي تصيب الألبان في الدنيا ، و نحن نعرف أن اللبن شراب يقوم بدور الطعام ، أو طعام متكامل في صورة شراب سائغ إلا انه قد يتغير بسبب سرعة اجتذابه للجراثيم . بيد أن لبن الآخرة يقاوم الجراثيم ، فهو إذا غذاء سائغ هدفه بعث القوةفي أبدانهم .


[ و أنهار من خمر لذة للشاربين ]

يتلذذون بشربها ، و لا يتأذون بها ولا بعاقبتها ، بخلاف خمر الدنيا التي لا تخلو من المرارة و السكر و الصداع ، فاذا شربوها ازدادوا نشاطا و حيوية .

[ و أنهار من عسل مصفى ]

خالص من الشمع و الرغوة و القذى ومن كل ما يقلل من قيمته ، ومن جميع العيوب التي تكون لعسل الدنيا ، فهو حلوى يتذوقونها . أوليس تشتهي النفس بعد الطعام الى الحلاء ؟

هكذا تجري في الجنة هذه الأنهار تبعث البهجة و الطمأنينة في نفوس أهل الجنة حيث لا يبقى في نفوسهم خوف من الجوع مستقبلا ، أو حرص على الطعام في الحاضر . أرأيت من يعيش على شاطئ الفرات الفائض هل يخشى العطش أو يحرص على تخزين الماء لمستقبله ؟ كلا . هكذا أهل الجنة يبعث الله في نفوسهم الغنى بما تراه أعينهم من وفور النعمة .

[ و لهم فيها من كل الثمرات ]

لا يتناولونها بعد جهد و عناء كما في الدنيا ، لانها متهدلة عليهم . يقول الرسول الأكرم (ص) بعد تلاوته للآية الكريمة : " و دانية عليهم ظلالها و ذللت قطوفها تذليلا " : " من قربها منهم يتناول المؤمن من النوع الذي يشتهيه من الثمار بفيه ،و هو متكئ ، و إن الأنواع من الفاكهة ليقلن لولي الله : يا ولي الله ! كلني قبل أن تأكل هذا قبلي " (1) و حيث كان يتحدث عن شجرة طوبى قال (ص) : " أسفلها ثمار أهل الجنة ، و طعامهم متذلل في بيوتهم ، يكون في القضيب منها مأة(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 216


لون من الفاكهة ، مما رأيتم في دار الدنيا و مما لم تروه ، وما سمعتم به وما لم تسمعوا مثلها ، و كلما يجتني منها شيء نبتت مكانها أخرى ، لا مقطوعة ولا ممنوعة " (1) .

و بالرغم من وجود لحم الطير مما يشتهيه الانسان فانه لم يذكر في هذا السياق ، و لعل منشأ ذلك شمول كلمة الثمرات لمثله إذ ان الثمرة هي التي تفرزها الارض أو النبات ثم ينتفع بها الانسان بلا صعوبة .. و لحوم الطير من هذا النوع و الله العالم .

[ و مغفرة من ربهم ]

حيث لا يبقى بينهم و بين معرفة الله و الانس بحضرته حجاب من ذنوب ، و هذا أعظم نعمة إذ ان لذة الروح أعمق من لذة الجسد ، و إن من عرف الله و ناجاه و ازداد معرفة به بلغت به الراحة ، و الطمأنينة و الانس ، و الحب ، و انشراح القلب ، و لذة الروح أبعد مداه .


روي عن علي بن الحسين ( عليهما السلام ) : " إذا صار أهل الجنة في الجنة ، و دخل ولي الله الى جنانه و مساكنه ، و اتكأ كل مؤمن منهم على أريكته ، حفته خدامه ، و تهدلت عليه الثمار ، و تفجرت حوله العيون ، و جرت من تحته الأنهار ، و بسطت له الزرابي ،و صففت له النمارق ، و أتته الخدام بما شاءت شهوته من قبل أن يسألهم ذلك ، قال : و يخرج عليهم الحور العين من الجنان فيمكنون بذلك ما شاء الله .

ثم إن الجبار يشرف عليهم فيقول لهم : أوليائي و أهل طاعتي و سكان جنتي في جواري ألا هل أنبئكم بخير مما أنتم فيه ؟ فيقولون : ربنا و أي شيء خير مما نحن فيه ؟ نحن فيما اشتهت أنفسنا ، و لذت أعيننا من النعم في جوار الكريم . قال :


(1) المصدر


فيعود عليهم بالقول فيقولون : ربنا نعم فاتنا بخير مما نحن فيه فيقول لهم تبارك و تعالى : رضاي عنكم و محبتي لكم خير و أعظم مما أنتم فيه . قال : فيقولون : نعم يا ربنا رضاك عنا و محبتك لنا خير لنا و أطيب لأنفسنا . ثم قرأ علي بن الحسين ( عليهما السلام ) هذهالآية : " وعد الله المؤمنين و المؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و مساكن طيبة في جنات عدن و رضوان من الله اكبر ذلك هو الفوز العظيم " . (1)إن الله خلق الانسان وهو يحمل في جوانحه طموحا لا حدود له ، فكلما حصل على نعمة هفت نفسه نحو نعمة أخرى ، و الرب يذكر النعيم الاخروي الذي وعده المتقين ، و يعلم ان الانسان لا يكتفي به ، لهذا يعقب : " و مغفرة من ربهم " أوليس الله و رضاه غاية آمال العارفين ، و منتهى طموح الراغبين ؟

و نتساءل : أيهما أفضل أن ننتقل من الدنيا الى الآخرة فنحصل على ذلك النعيم العظيم المعنوي و المادي ، أو أن نلقى في النار على وجوهنا أذلاء خاسئين ، مهانين مخزيين ؟!

[ كمن هو خالد في النار ]

روي عن أمير المؤمنين علي (ع) حديث طويل ، قاله للأحنف بن قيس ، يصف فيه أهل النار :

" فكم يومئذ في النار من صلب محطوم ، و وجه مهشوم ، و مشوه مضروب على الخرطوم ، قد أكلت الجامعة كفه ، و التحم الطوق بعنقه .

فلو رأيتهم يا أحنف ينحدرون في أوديتها ، و يصعدون جبالها ، وقد ألبسوا(1) بحار الأنوار / ج 8 - ص 140


المقطعات من القطران ، و أقرنوا مع فجارها و شياطينها ، فاذا استغاثوا بأسوء أخذ من حريق شدت عليهم عقاربها و حياتها ، و لو رأيت مناديا ينادي وهو يقول : يا أهل الجنة و نعيمها و يا أهل حليها و حللها ، خلدوا فلا موت ، فعندها ينقطع رجاؤهم و تنغلق الأبواب ، وتنقطع بهم الأسباب ، فكم يومئذ من شيخ ينادي ، وا شيبتاه ! وكم من شاب ينادي وا شباباه ! وكم من امرأة تنادي وا فضيحتاه ! هتكت عنهم الستور . فكم يومئذ من مغموس ، بين أطباقها محبوس ، يا لك غمسة البستك بعد لباس الكتان ، و الماء المبرد على الجدران ، و أكلالطعام ألوانا بعد الوان . لباسا لم يدع لك شعرا ناعما كنت مطعمه إلا بيضه ، ولا عينا كنت تبصر بها إلى حبيب إلا فقأها " (1)[ و سقوا ماءا حميما ]

إنهم لا يستسيغونــه بل يضطرهم عطشهم الشديد الى شرب الماء الذي يغلي حرارة .

[ فقطع أمعاءهم ]

وهنا ننقل حديثا رهيبا مأثورا عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) يصف فيه بعضا من عذاب الكافرين :

" ثم يضرب رأسه ضربة فيهوي سبعين ألف عام حتى ينتهي الى عين يقال لها آنية ، يقول الله تعالى : " تسقى من عين آنية " وهو عين ينتهي حرها و طبخها ، و أوقد عليها من خلق الله جهنم ، كل أودية النار تنام و تلك العين لا تنام من حرها ، و يقول الملائكة : يا معشر الأشقياء ادنوا فاشربوا منها ، فإذا أعرضوا عنها ضربتهم الملائكة بالمقامع ، و قيل لهم : " ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت(1) بحار الأنوار / ج 68 - ص 172


أيديكم و أن الله ليس بظلام للعبيد " . قال : ثم يؤتون بكأس من حديد فيه شربة من عين آنية ، فإذا أدني منهم تقلصت شفاههم ، و انتشر لحوم وجوههم ، فإذا شربوا منها و صار في أجوافهم يصهر به ما في بطونهم و الجلود " (1)و المتقون لهم من كل الثمرات ، اما هؤلاء المجرمون فليس لهم سوى الزقوم مطعما .. يقول الإمام الباقر (ع) :

" ثم يضرب على رأسه ضربة فيهوي سبعين ألف عام حتى ينتهي الى شجرة الزقوم ، شجرة تخرج في أصل الجحيم ، طلعها كأنه رؤوس الشياطين ، عليها سبعون ألف غصن من نار ، في كل غصن سبعون ألف ثمرة من نار ، كل ثمرة كأنها رأس الشيطان قبحا و نتنا ، تنشب علـــى صخـرة مملسة سوخاء كأنها مرآة ذلقة ، ما بين أصل الصخرة ( الشجرة خ ل ) سبعون الف عام ، أغصانها يشرب من نار و ثمارها نار ، و فرعها نار ، فيقال له : يا شقي إصعد ، فكلما صعد زلق ، و كلما زلق صعد ، فلا يزال كذلك سبعين الف عام في العذاب ، و إذا أكل منها ثمرةيجدها أمر من الصبر ، و أنتن من الجيف ، و أشد من الحديد ، فاذا واقعت بطنه غلت في بطنه كغلي الحميم ، فيذكرون ما كانوا يأكلون في دار الدنيا من طيب الطعام " . (2)هل نختار هذا المصير السيء على عاقبة المتقين ؟ وهكذا يبين القرآن مدى الفرق بين المؤمن و الكافر ، لكي لا ننظر الى ظاهر الأمر و نزعم انه يستوي هذا و ذاك ، أو تستوي حالة الايمان و حالة الكفر ، فننجر الى الكفر باهمالنا و غفلتنا ، نعوذ بالله منه ومن مصير الكافرين .


(1) بحار الأنوار / ج 8 - ص 321

(2) المصدر


[16] ولا تعي القلوب المحاطة بالهوى بصائر القرآن ، أما من اتقى حجب الشهوات تلقى أنوار الهدى . أولم يقل : " إنما تنذر من اتبع الذكــر و خشي الرحمن بالغيــب " .

وهذه البداية ، و علينا أبدا العودة الى المبادئ لحل الغاز الحياة . فاذا كنت تبحث عن الجنة اصلح اولا منهج التفكير في نفسك ، فلا تتبع الهوى و استمع الى الحق و تفكر في آيات الله .

[ و منهم من يستمع إليك ]

لا لكي يفقه ، و إنما ليجادل في آيات الله بغير هدى .

[ حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا ]عن ماذا تحدث ؟ و الى أي شيء أشار ؟ وماهي الأفكار التي ذكرها ؟ وماهي الأوامر التي كلفنا بها ؟ يقول ذلك فور خروجه من بيت الرسالة ، لماذا ؟ لانه لم يقتنع بما قيل له فحاول أن يجد له تفسيرا و تأويلا . إنه لفرط عقده النفسية لا يرى الأمور إلا بصورة معكوسة ، ولا يعتقد صدق متحدثيه ، بل يبحث في أحاديثهم عن زوايا مبهمة يجعلها مادة تساؤله ، و مناقشاته ، و جدلياته ، و يزعم ان ذلك من العلم و لا يعرف انه دليل جهله و إنغلاق قلبه .

[ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم ]

فاصبحت لا تعي ولا تعقل . مضوا قدما في طريق الهوى .

[ و اتبعوا أهواءهم ]


لأن الانسان لا يمكن أن يخضع لشهواته ، و يركب مطية أهوائه ، و هو واع بصير . إذ إنه آنئذ سيهتم بتزكية نفسه و ترويضها ، كما الامام أمير المؤمنين علي (ع) الذي قال وهو يحكم إمبراطورية عريضة : " وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر ، و تثبت على جوانب المزلق ، و لو شئت لاهتديت الطريق ، الى مصفى هذا العسل و لباب هذا القمح ، و نسائج هذا القز ، و لكـن هيهات أن يغلبنــي هواي ، و يقودني جشعي الى تخير الأطعمة ..

إليك عني يا دنيا ، فحبلك على غاربك ، قد انسللت من مخالبك ، و أفلت من حبائلك ، و اجتنبت الذهاب في مداحضك .. اعزبي عني ! فوالله لا أذل لك فتستذليني ، ولا أسلس لك فتقوديني ، و أيم الله يمينا أستثني فيها بمشيئة الله - لأروضن نفسي رياضة تهش معها الى القرص إذا قدرت عليه مطعوما ، و تقنع بالملح مأدوما ، و لأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها ، مستفرغة دموعها " . (1)[17] ومن أراد ان يعي الحقائق ، و يزداد بصيرة و هدى ، و يستقيم على المنهج السليم ، فعليه أن يسعى بنفسه نحو الهداية ، لأن على الانسان الخطوة الأولى و على الله التوفيق .

[ و الذين اهتدوا ]

بحثوا عن الحق بأنفسهم ، وسعت قلوبهم نحو البصيرة ، أولئك الذين يأخذ ربهم بأيديهم في طريق الهداية ، فيزيدهم هدى كما يثبت أقدامهم أن تزل بفعل عواصف الشهوة و رياح الفتن .


(1) نهج البلاغة / رسالة 45 - ص 417


[ زادهم هدى و آتاهم تقواهم ]

تماما بعكس أولئك المنافقين الذين سبق الحديث عنهم ، فبينما طبع الله على قلوب اولئك ، زاد هدى هؤلاء . و بينما يتبع أولئك اهواءهم ، أتى هؤلاء التقوى بتنمية معارفهم و وعيهم ، و تنبيههم في أوقات الغفلة ، و تنمية إرادتهم و عزمهم ، و إغنائهم بنعمة الحلالعما حرم عليهم . و بكلمة : توفيقهم لتجنب ما يسخط ربهم .

[18] لماذا - إذا - لا نخطو نحو ربنا الخطوة الأولى ليزيدنا هدى و يؤتينا التقوى ؟ إنه الانتظار الساذج ، و التسويف الخادع ، كأننا نتوقع أن تكون الخطوة الأولى من غيرنا ، و ننتظر و الى متى ننتظر ؟ هل الى قيام الساعة ، حيث لا تنفع التوبة . فقد توافرت علائمها أفلا نبادر بالتوبة قبل فوات أوانها ؟

[ فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة ]

قد تتمثل الساعة في يوم القيامة ، أو عندما ينزل الله عذاب الاستيصال ، أو عندما يفاجئ الانسان أجله الذي لا مفر منه . المهم انها تباغت البشر ، بيد أنها ليست مفاجئة تماما إذ ان علاماتها قد ظهرت مما تكفينا دلالة عليها .

[ فقد جاء أشراطها ]

أشراط الساعة ، أي علائمها فما هي علائمها ؟

لقد اختلف المفسرون في تأويلها قال بعضهم : إنها بعثة الرسول أولم يقل صلى الله عليه و آله : بقيت أنا و الساعة كهاتين و ضم السبابة و الوسطى . أولم يخطب في أصحابه قبل الغروب و قال : و الذي نفس محمد بيده ، مثل ما مضى من الدنيا فيمابقي منها ، إلا مثل ما مضى من يومكم هذا فيما بقي منه ، وما بقي منه إلا اليسير " (1) مما يدل على إننا نعيش في نهايات الدنيا .. ومن علامات ذلك بعثة خاتم الرسل الذي لا نبي بعده الى يوم القيامة .

و قال بعضهم : إن أشراط الساعة هي ما ذكر في النصوص من انتشار الفساد ولا ريب أن ذلك ايضا من علامات قيام الساعة التي تقوم على شر خلق الله .

بيد أن أشراط الساعة - حسبما يبدو - تعم كل الشواهد التي تهدينا الى قيامها ، و تختلف الشواهد حسب الأشخاص و الأمم و العصور . فلا ريب أن ما جرى على الأمم الماضية من عذاب التدمير من أشراط الساعة التي تهدينا الى وقوعها ، وحتى موت الأعزاء و رحيلهم الأبديعن الدنيا يمكن أن يكون منذرا لنا حتى نبادر بالتوبة .

بلى . هناك علامات الساعة ذكرت في النصوص توحي بضرورة انتظار قيام الساعة عندما ينتشر الفساد و ينحسر الصلاح كما جاء في الحديث المأثور عن عبد الله بن عباس قال : حججنا مع رسول الله صلى الله عليه و آله حجة الوداع ، فأخذ بحلقة باب الكعبة ثم أقبل علينا بوجهه فقال : ألا أخبركم باشراط الساعة ؟ و كان أدنى الناس منه يومئذ سلمان رحمه الله فقال : بلى يا رسول الله . فقال : من اشراط القيامة إضاعة الصلوات و اتباع الشهوات ، و الميل مع الأهواء ، و تعظيم أصحاب المال ، و بيع الدين بالدنيا ، فعندها يذاب قلب المؤمنفي جوفه كما يذاب الملح في الماء مما ترى من المنكر ، فلا يستطيع أن يغيره . قال سلمان : و إن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال : اي و الذي نفسي بيده يا سلمان إن عندها يليهم أمراء جورة ، و وزراء فسقة ، و عرفاء ظلمة ، و أمناء خونة . قال سلمان : وان هذا لكائنيا رسول


(1) تفسير نمونه / ج 21 - ص 451 نقلا عن روح المعاني .


الله ؟ قال : اي و الذي نفسي بيده يا سلمان ، ان عندها يكون المنكر معروفا و المعروف منكرا ، و يؤتمن الخائن و يخون الأمين ، و يصدق الكاذب و يكذب الصادق ، قال سلمان : و إن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال : اي و الذي نفسي بيده يا سلمان ، فعندها ستكون إمارة النساء و مشاورة الإماء و قعود الصبيان على المنابر ، و يكون الكذب ظرفا ، و الزكاة مغرما و الفيئ مغنما ، و يجفو الرجل والديه ، و يبر صديقه ، و يطلع الكوكب المذنب . قال سلمان : و إن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال : اي و الذي نفسي بيده يا سلمان ، و عندها تشارك المرأة زوجها في التجارة ، و يكون المطر قيظا ، و يغيظ الكرام غيظا ، و يحتقر الرجل المعسر ، فعندها تقارب الأسواق إذ قال هذا لم أبع شيئا وقال هذا لم اربح شيئا ، فلا أرى إلا ذاما لله . قال سلمان : و إن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال : اي و الذي نفسي بيدهيا سلمان ، فعندها يليهم أقوام إن تكلموا قتلوهم ، و إن سكتوا استباحوهم ليستأثرون بفيئهم وليطأن حرمتهم ، و ليسفكن دماءهم ، و لتملئن قلوبهم غلا و رعبا فلا تراهم إلا وجلين خائفين مرهوبين . قال سلمــان : و إن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال : اي و الذي نفسيبيده يا سلمان ، إن عندها يؤتى بشيء من المشرق و شيء من المغرب يلون أمتي فالويل لضعفاء أمتي منهم و الويل لهم من الله لا يرحمون صغيرا ولا يوقرون كبيرا ولا يخافون (1) عن مسيء ، جثتهم جثة الآدميين و قلوبهم قلوب الشياطين . قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسولالله ؟ قال : اي و الذي نفسي بيده يا سلمان ، و عندها يكتفي الرجال بالرجال ، و النساء بالنساء ، و يغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها ، و تشبه الرجال بالنساء و النساء بالرجال ، و تركبن الفروج السروج ، فعليهن من أمتي لعنة الله . قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟ فقال : اي و الذي نفسي بيده يا سلمان إن عندها تزخرف المساجد كما تزخرف البيع و الكنائس ، و تحلى المصاحف ، و تطول المنارات ، و تكثر(1) وفي نسخة البحار : " ولا يتجاوزون "


الصفوفات بقلوب متباغضة ، و السن مختلفة . قال سلمان : و إن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال : اي و الذي نفسي بيده يا سلمان ، و عندها تحلى ذكور أمتي بالذهب و يلبس الحرير و الديباج ، و يتخذون جلود النمور صفاقا . قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال : اي و الذي نفسي بيده يا سلمان ، و عندها يظهر الزنا و يتعاملون بالعينة و الرشى و يوضع الدين و ترفع الدنيا . قال سلمان : و إن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال : اي و الذي نفسي بيده يا سلمان ، و عندها يكثر الطلاق . فلا يقام لله حد . ولن يضروا الله شيئا .
قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال : اي و الذي نفسي بيده يا سلمان ، و عندها تظهر القينات (1) و المعازف و يليهم أشرار أمتي . قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال : اي و الذي نفسي بيده يا سلمان ، و عندها تحج أغنياء أمتي للنزهة ، و تحجأوساطها للتجارة ، و تحج فقراؤهم للرياء و السمعة ، فعندما يكون أقواما يتعلمون القرآن لغير الله ، و يتخذونه مزامير ، و يكون أقواما يتفقهون لغير الله ، و تكثر أولاد الزنا ، و يتغنون بالقرآن و يتهافتون بالدنيا . قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال : اي و الذي نفسي بيده يا سلمان : ذاك إذا انتهكت المحارم و اكتسبت المآثم و تسلط الاشرار على الأخيار و يفشو الكذب و تظهر اللجاجة و تغشو الفاقة و يتباهون في اللباس ، و يمطرون فـي غير أوان المطر و يستحسنون الكوبة (2) و المعازف ، و ينكرون الأمر بالمعروفو النهي عن المنكر حتى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذل من الامة ، و يظهر قراؤهم و عبادهم فيما بينهم التلاوم فأولئك يدعون في ملكوت السماوات و الأرجاس الانجاس . قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال : اي و الذي نفسي بيده يا سلمان ، فعندها لا يحضالغني على الفقير حتى أن السائل يسأل فيما بين الجمعتين لا يصيب أحدا يضع في كفه شيئا . قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول(1) القينات : المغنيات .

(2) الكوبة : كالشطرنج و الطبل الصغير .


الله ؟ فقال : اي و الذي نفسي بيده يا سلمان ، فعندها يتكلم الروبيضة ، فقال سلمان : وما الروبيضة يا رسول الله فداك أمي و أبي ؟ قال صلى الله عليه و آله : يتكلم في أمر العامة من لم يكن يتكلم ، فلم يلبثوا إلا قليلا حتى تخور الأرض خورة فلا يظن كل قوم إلا انها خارت في ناحيتهم ، فيمكثون ما شاء الله ، ثم ينكثون في مكثهم فتلقى لهم الارض أفلاذ كبدها ذهبا و فضة - ثم أومأ بيده الى الاساطين - فقال : مثل هذا ، فيومئذ لا ينفع ذهب و لا فضة ، فهذا معنى قوله " فقد جاء أشراطها " . (1)و لعل هذا النص و النصوص المشابهة تحثنا على مقاومة الفساد و مناهضة الانحراف حتى لا تبغتنا الساعة بدمارها سواءا كانت الساعة النهائية للعالم ( يوم القيامة ) أم ساعة أمتنا أم ساعة الأفراد .

[ فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم ]

هل ينتفع التلميذ فـي المدرسة حين يجيب على الأسئلة خارج قاعة الامتحانات ؟ كلا .. و هكذا لا تنفع التوبة بعد قيام الساعة ، كما قال تعالى : " يومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون " .

[19] إذا كان الانتظار و التسويف ، و تجاهل الحقائق و اتباع الهوى ، و الإنغلاق دون هدى الله ، انها جميعا ينهار بأهله في نار جهنم !

فكيف النجاة ؟

العلم و التوحيد و الاستغفار .. ركيزة النجاة ، لأن العلم بالتوحيد يجعل العبد(1) نــور الثقليـن / ج 5 - ص 24 . نقلا عن تفسير القمي / ج 2 - ص 303 وهي أصح . نقلها صاحب نور الثقلين بأغلاط كثيرة ، و صححت على أساس المصدر الأساسي .


يتحسس بضآلته أمام جبار السماوات و الأرض فيستغفر لذنبه ، و لشفقته على أحبائه من المؤمنين يستغفر لهم أيضا .

[ فاعلم إنه لا إله إلا الله و استغفر لذنبك و للمؤمنين و المؤمنات ]و ربنا يقول : " فاعلم " لأن العقبة التي تعترض الانسان أمام التوحيد هي الجهل ، أولم يقل عز وجل : " و حملها الانسان إنه كان ظلوما جهولا " (1) و لهذا كرر القرآن الحكيم كثيرا ذكر هذا العامل الذي يصرف الناس عن الايمان و الهدى . قالعز من قائل : " قال إنكم قوم تجهلون " (2) ، " قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون " (3) ، " و لكن أكثرهم يجهلون " (4) ، " و لكني أراكم قوما تجهلون " (5) ، " و أعرض عن الجاهلين " (6) ، " بل أنتم قوم تجهلون " (7) .

و كلما ازداد البشر علما ازداد تواضعا ، لأنه يعرف حجمه بازاء سائر ما يعلم من مخلوقات ، بينما الجهل سبب التكبر ، و لذلك يقول ربنا سبحانه وهو يعالج صفة التكبر في النفس : " ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا " (8) .


و كلما ازداد البشر علما ازداد خشوعا لربه أليست الكائنات مرآة أسماء الله ،(1) الاحزاب / 72

(2) الاعراف / 138

(3) الزمر / 64

(4) الانعام / 111

(5) الاحقاف / 23

(6) الاعراف / 199

(7) النمل / 55

(8) الاسراء / 37


و تجليات خلقه و قدرته و حكمته ؟

وهكذا تتصل كلمات هذه الآية ببعضها ، فالعلم يهدينا الى التوحيد ، و التوحيد يهدينا الى الاستغفار ، لأن الاستغفار هي حالة النفس عند معرفة الرب ، و وعي قدرته و هيمنته و عظمته ، إنه الإحساس بالتقصير في مقام الألوهية ، إنه الإحساس بالذنب المقرون بالتطلعنحو الاصلاح ، و أي سلم أفضل لبلوغ درجة القبول عند رب العزة من معراج التوبة ، أم اي تحية أكرم عند لقاء العبد بربه من التسليم ، و أي حالة تسليم أفضل من الاستغفار . ثم إن الكبر هو الحجاب الأكبر الذي يمنع إشراقة نور الحق على جنبات الفؤاد ، و أي علاج أنجح من الاستغفار لاقتلاع جذوره .

ليس من اليسير القضاء على كبر النفس ، لأن منشأ الكبر هو الجهل ، و الجهل هو من ذات النفس ، و مرتكز في صميم خلقته ، و إنما بدوام الاستغفار من الذنب نستطيع القضاء على الجهل و مظهره المتمثل في الكبر .

و الذي يستغفر لذنبه يزداد تقوى و ورعا من العودة اليه ، كما يزداد عزما لتنفيذ واجبات الدين و اجتناب محرماته .

و يتساءل البعض : كيف أمر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالاستغفار ؟ أوليس هو المعصوم من كل ذنب ؟ بلى . و لكن :

أولا : ليكون قدوة لأمته في الاستغفار .

ثانيا : لأن الحضور في مقام الرب يستدعي الاستغفار ، لأنه المعراج الى المزيد من الكمال ، و لأنه بالتالي الحبل الممتد بين الرب و العبد . و حتى لو كان الفرد غير مذنب بالذنوب المعروفة ، و لعل التعبير بالذنب دون الذنوب يشير إلى إن المراد منه هو مجمل القصور و التقصير الذي لا يخلو منه العبد .


ثالثا : إن القرآن نزل على لغة إياك أعني و اسمعي يا جارة ، فالرسول هو المخاطب و الأمة مقصودة بذلك .

و نتساءل - مرة أخرى - عن معنى الاستغفار للمؤمنين و المؤمنات في هذا السياق ؟

و الجواب :

أولا : إنه فيما يتصل بالرسول يعني الشفاعة ، لأن حقيقة الشفاعة هي طلب المغفرة من الله للمذنبين .

ثانيا : إن الاستغفار يعبر عن العلاقة الحميدة مع سائر المؤمنين ، فهي ليست عدائية بدليل طلب الرحمة لهم ، و ليست تابعية بحيث يسترسل المؤمن مع إخوته باعتقاد انهم كلهم معصومون من الخطأ ، لأنهم بالتالي بشر ، و البشر يخطأ و يصيب ، و إذا بالغ المؤمن في حبه لإخوانه و إكرامه لهم الى درجة الاعتقاد بقداستهم ، فإنه سوف يعطل عقله في تقييمهم و إصلاحهم .

بلى إن لهم ذنوبا ولكنها لا تدعونا الى قطيعتهم بل إلى إصلاحهم ولو بالإستغفار .

[ و الله يعلم متقلبكم و مثواكم ]

إنه سبحانه يعلم حركات الانسان و سكناته في نهاره و ليله ، كما يعلم تقلباته الروحية من الكفر و النفاق و الكبر إلى الاسلام و الايمان و التقوى ..

فلابــد من الحذر الشديد لكي لا نفكر في الخداع ، فان الانسان إذا لا يخدع إلا نفسـه .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس