بينات من الآيات [20] يستقبل المؤمنون الحقائق بأذن واعية ، و بصائر نافذة من دون حجاب ، و بقلوب طاهرة من الجهالة و العناد و التكبر ، بلى . إن مثل حقائق الرسالة و مثلهم كما الأرض الموات تستقبل زخات الغيث المباركة ، فاذا نزلت عليهم سورة وعوها و استعدوا لتنفيذ أحكامها، وإذا لم تزل تراهم يتساءلون أفلا حبينا بها ، أفلا قرت أعيننا بالنظر الى آيات جديدة ؟!
[ و يقول الذين ءامنوا لولا نزلت سورة ]
لما يغمر قلوبهم من اللهفة إليها ، و لما تنطوي جوانحهم من العزم الشديد للعمل بكل ما فيها من أوامر . أما الذين في قلوبهم مرض ، فانهم على العكس تماما ، إذ يتخوفون أن تنزل عليهم أوامر جديدة ، تأمرهم بالقتال مع العدو ، لأنهم لا يملكون الإستعداد الكافيلتطبيق الأحكام .
[ فإذا أنزلت سورة محكمة ]
لا يمكن الجدال لأنها واضحة لا تحتمل التأويل .
[ و ذكر فيها القتال ]
آنئذ تبلى حقائق الرجال .
[ رأيت الذين في قلوبهم مرض ]
من نفاق ، أو شك ، أو جبن .
[ ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ]
وهكذا يمتاز المؤمنون عن هؤلاء الذين في قلوبهم مرض ، لأن المؤمنين يثبتون في مختلف الظروف ، بينما هؤلاء في حالة من الرعب تشبه حالة المحتضر الذي يشخص ببصره فزعا ، وهو فاقد لقدرة التركيز و ربما قال ربنا : " الذين في قلوبهم مرض " ولم يقل : ( الذين نافقوا ) لأن الخط المنحرف لا يقتصر على المنافقين ، بل يضم الكثير ممن يزعمون أنهم مؤمنون ولكن وجود المرض فيهم يجرهم الى خط النفاق ، و يتوضح لنا من بعض الآيات ان الذين في قلوبهم مرض هم طائفة أخرى غير المنافقين ، يقول عز وجل : " لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم " .
يهدد القرآن هؤلاء ، و يوعدهم العاقبة السوءى قائلا :
[ فأولى لهم ]
تستخدم هذه الكلمة في اللعن ، و اختلفوا في معناها الدقيق ، هل هو بمعنى : يليه مكروه ، أو لهم الويل أو الموت أولى لهم ، و يبدو أن هذه الكلمة تأتي بعد بيان سيئة من سيئاتهم فعلا أو قولا فيكون معناها إنهم يستحقون تلك السيئة وهم أحق بها ، و أولى من غيرهم ، وفي المقام يكون المعنى أن هذه العاقبة السيئة التي انتهوا اليها منرفضهم لسورة القتال يستحقونها لما كان في قلوبهم من مرض ، ذلك لأن النفاق و الخوف الذي يحول الانسان عن قتال الأعداء ، جرم كبير و ضلالة بعيدة ، لأنه يجر صاحبه الى الاستسلام للطاغوت و فقدان استقلاله أمام الغزاة ، و التنازل عن قيمه و شخصيته خشية بطش الجبارين , و كل من ارتد عن الدين أو أتبع الظالمين انساق الى مصيره الأسود بسبب تلك الامراض الخطيرة التي تمكنت من قلبه .
[21] بينما لو أطاعوا أوامر الرسالة ، و استقبلوها برضى ، و طهروا قلوبهم من الأمراض الفتاكة ، و صدقوا في الظروف الصعبة ، لكانوا يعيشون العزة و الكرامة و الاستقلال .
[ طاعة و قول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ]عزم الأمر ، يعني بلغ الموقف حدا يستدعي الهزيمة و الارادة النافذة ، و قال البعض معناه : جد القتال .
و نستوحي من هذه الآية بصيرتين : -
الأولى : إن قول المعروف عند صدور أوامر الرسالة و برامجها بعد التسليم و الطاعة مؤشر واضح على تفاعل الانسان مع الرسالة ، و صدق انتمائه لها ، و خلو قلبه من حسكة النفاق و أي مرض آخر ، كالجهل و الجبن و التكبر ، لأن هذه الأمراض تجعل الانسان يعيِش حالة التقزز و الإشمئزاز و الضجر مما يظهر على فلتات لسانه ، فلا يقول قولا معروفا عند المواقف الصعبة .
و بالرغم من أن المنافقين قد يعيشون هذه الحالة ، و لكن الظرف قد يستدعي منهم أن يكتموها ، بيد أنه عندما يعزم الأمر لا يمكنهم كتمان واقعهم .
إن مرضى القلوب هم الذين يؤدون الطاعات ، و يعملون الصالحات على كره ،فلذلك تراهم يرفقونها بالحديث السلبي معها ، و لذلك تراهم لا يقضون صلاتهم إلا و يتبعونها بالقول تضجرا ، كم هي ثقيلة هذه الصلاة ؟! ولا ينهون صوم يوم من أيام رمضان إلا و يقولون كم هو مرهق هذا الصيام ؟! ولا يزكون و يخمسون إلا و يضجون : لقد أفقرنا هذا الدين.. في حين كان عليهم أن يتحسسوا هذه النعم الجسام ، و يحمدوا الله عز وجل على أن وفقهم لها ، و لكنه الجهل و التكبر و النفاق و حب الدنيا كل أولئك لا يدع الانسان يعرف قيمة الرسالة ، و نفعها العميم للانسان .
الثانية : نستشف من هذه المقطوعة الرائعة : " طاعة و قول معروف " ان علينا أن ننفذ الأوامر الرسالية و نسعى جاهدين من أجل تحقيقها دون نقاش أو تبرير أو جدال أو معارضة ، لأنها صادرة من الله تبارك و تعالى . و الواجب علينا أن نروض أنفسنا لتستجيبو نتفاعل مع الأحكام الالهية . ولكن كيف ؟
من شاء أن يكون صادقا في المواقف الصعبة ، مستعدا لتحمل المسؤوليات الجسام ، فعليه أن يتدرج في تربية نفسه شيئا فشيئا ، فأولا يعودها على تأدية الأعمال الصغيرة بصدق و جدية ، ثم الأكبر منها فالأكبر ، حتى يرتقي الى مستوى عال فيؤدي الأعمال الكبيرة بكل صدقو رضى .
[22] إنهم يهربون من القتال ، و إنما فرض الله القتال من أجل إصلاح الأرض ، و تكريس قيم المحبة ، فمن يتول عنه فسوف يقاتل ، ولكن في صفوف المنافقين ومن أجل نشر الفساد في الأرض و قطع الارحام ( و مخالفة قيم الخير و الفضيلة ) . أوليست الحياة صراعا ، ولا مفر منه ، ومن لم يقدم على اختيار جبهة الخير انساق الى جبهة الشر ، ولا مسافة بين الحق و الباطل ، فمن لم ينفعه الحق أضره الباطل .
أولئك الذين يزعمون أن القتال شر مستطير ، وأنهم دعاة السلام ، تراهم وقود معارك الباطل ضد الحق . ألم تقرأ في التاريخ : كيف أن أهل الكوفة رفضوا القتال مع الامام الحسين عليه السلام ضد الأمويين باسم الخروج من الفتنة ، ثم استخدمهم يزيد في قتال السبط الشهيد كرها .
إن لحكم القرآن ثمنا من لم يدفعه راضيا ابتلي بحكم الطاغوت و دفع اضعاف ذلك الثمن مكرها .
[ فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض و تقطعوا أرحامكم ]كلمة عسى تدل على التوقع .. فهذه هي العاقبة المتوقعة لمن يتولى عن الحق !
ولان الحديث في هذه السورة عن الحكم الالهي و الولاية الشرعية و تحمل مسؤولياتها في طليعتها الدفاع عن الدين ، فان معنى التولي هنا الانسحاب من ساحة المواجهة و ترك القيادة الرشيدة وحدها في الميدان ، ولذلك فسر البعض هذه الكلمة ، بأنه بمعنى الولاية أي إذا أصبحتم حكاما ، و أوله البعض في بني أمية استنادا الى ما رواه عبد الله بن مغفل قال سمعت النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقول : فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض .. ثم قال : هم هذا الحي من قريش أخذ الله عليهم إن ولوا الناس ألا يفسدوا في الأرض ولايقطعوا أرحامهم . (1)
و الفساد في الأرض ، هو النتيجة الطبيعية للنظام الذي لا يستلهم من الدين أحكامه .. فيفسد الإقتصاد و الإجتماع كما يفسد الأخلاق و الآداب ومن أبرز مظاهر إفساده تفريق الكلمة ، و اشاعة الفساد في الخلق ، الذي يؤدي الى تفكك الأسرة و قطع الأرحام . و يبدو أنقطع الرحم هو آخر عروة ينقض من عرى
(1) تفسير قرطبي / ج 16 - ص 245
المجتمع ، لأن الفساد إذا بلغ الأسرة فقد أتى على آخر قلعة من قلاع الاستقلال عند البشر .
[23] و إذا بلغ الانسان هذا الدرك فقد كل فرصة له للهداية ، لأن الله يلعنه و يسد عليه أبواب الهدى .
[ أولئك الذين لعنهم الله ]
و طردهم من رحاب رحمته .
[ فأصمهم ]
فلم ينتفعوا بتجارب غيرهم .
[ و أعمى أبصارهم ]
فلم يعودوا ينتفعون حتى بتجاربهم ، و هكذا يستمرون في الهبوط حتى الدرك الأسفل . و هذه عاقبة الدول و التجمعات التي لم تقم على أساس الوحي . و هكذا نعرف ان بداية السقوط الكبير قد يكون زللا بسيطا يستهين به صاحبه ، كما قد تكون بداية رحلة الموت ميكروبا يستخف به المريض .. و استخفاف الانسان بالدفاع ، و بخله بنفسه و ماله عن الانفاق في سبيل الله ، هو بداية رحلة السقوط الكبير .. وهو بدوره ناشئ من الأمراض القلبية التي لابد من المبادرة بعلاجها .
[24] و السؤال العريض كيف إذا نعالج أمراض القلب ، الكبر ؛ المرض المستفحل الذي جعل إبليس يرفض السجود لآدم ، و جعل أبناء آدم يرفضون التسليم للقيادة الشرعية عبر التاريخ ؟
الحسد ذلك الذي أوقد نار الحرب بين هابيل و قابيل ، و لا يزال يجعلنا في صراعدائم .
الجبن الذي هدم حضارات عظيمة لم يدافع أهلها عنها أمام الغزاة البرابرة . و غيرها من أمراض القلب ؟
و يجيب القرآن .. بالتدبر في القرآن .
[ أفلا يتدبرون القرءان ]
و التدبر أن نسير بافكارنا الى عاقبة الأمور أو دبرها . و حين نتدبر في القرآن فاننا نتفكر في تطبيقات الآيات الكريمة ، و تجسدها في الواقع العملي ، و حسب التعبير القرآني في تأويلها .
الذين يتدبرون في القرآن يطبقون آيات القرآن على واقعهم ، فاذا قرأوا فيها آية تذكرهم بسنن الأولين ، بقوم عاد و ثمود . يتساءلوا ماذا لو فعلوا مثل فعلتهم . أفلا يكون جزاؤهم الدمار ايضا ؟ و إذا سمعوا موعظة زجروا أنفسهم بها أو سمعوا مرضا قالوا لعله موجود فينا دعنا نفتش في أوضاعنا عن آثاره ، فان وجدناه سارعنا لمحاربته و هكذا ..
و لأن مثل القرآن مثل الشمس فان يطبق كل يوم على أهل ذلك اليوم ، فلابد أن نفتش في الواقع الخارجي ، وفي أنفسنا عمن يجري فيهم القرآن باعينهم و صفاتهم . فمن هم المنافقون اليوم ومن هم المؤمنون ؟ ومن هو الطاغوت الذي أمرنا لنكفر به ؟ ومن هو الامام الذي تجب طاعته ؟ وما هي الدول التي تنتظر عاقبة قوم عاد ؟ وما هي الحضارات التي تمثل حضارة ذي القرنين أو داود و سليمان ؟ وهكذا .. و حينما تعصف بالأمة الفتن حتى تدع الحليم حيرانا ، هنالك لابد من التدبر في القرآن لمعرفة السبيل الى الخروج منها . هكذا أمرنا الرسول الأكرم
صلى الله عليه و آله حين قال : " فاذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن " (1) و قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : " عليكم بكتاب الله فانه الحبل المتين ، و النور المبين ، و الشفاء النافع ، و الري الناقع ، و العصمة للمتمسك ، و النجاة للمتعلق " . (2)
و المتدبر في القرآن يطبق آياته على نفسه ، و يتساءل عن أية عائبة فيها ليصلحها ، أو عارفة ناقصة عنده ليكملها ، أو طريقة رشد فيتبعها ، أو منهج ضلال فيتركه .
قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وهو يصف المؤمنين :
" أما الليل فصافون أقدامهم ، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، و يستثيرون به دواء دائهم . فاذا مروا بآية فيها تشويق ، ركنوا إليها طمعا ، و تطلعت نفوسهم إليها شوقا ، و ظنوا أنها نصب أعينهم ، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا اليها مسامع قلوبهم ، و ظنوا أن زفير جهنم و شهيقها في أصول آذانهم " . (3)و بكلمة : إن ما أفهمه من التدبر هو البحث عن تطبيقات الآيات سواءا على أنفسهم أو على الخليقة .. ولكن للتدبر أيضا شرطه المتمثل في الانفتاح على القرآن بعيدا عن حجب القلب و أقفاله ، عن تلك الأحكام المسبقة ، و القوالب الفكرية الجاهزة ، و التأويلات القائمة على أساس الهوى و الشهوات .
[ أم على قلوب أقفالها ]
(1) بحار الانوار / ج 92 - ص 17
(2) المصدر / ص 23
(3) نهج البلاغة / الخطبة رقم 193
قالوا : القفل من القفيل ، الذي هو ما يبس من الشجر ، فكان القلب يعشو فلا يستقبل نور القرآن و يكون كالشجرة اليابسة التي لا تستفيد من الماء و الأشعة . و قال البعض : إنه من القفول بمعنى الرجوع ، فكان القلب المنصوب عليه القفل لا ينفذ فيه الهوى ، بل يرجع عنه كما يرجع من واجه بابا مقفلا .. و يبدو إن أقفال القلب هي الأهواء المطاعة ، و الرذائل الراسخة فيها ، و ما يسبب قسوتها أو الختم عليها . ومن أراد فهم القرآن زكى نفسه ، و طهرها من الشكوك و الريب و حب الشهوات و من الكبر و الحقد و الحسد و الجبن و ما أشبه ، فانئذ ينساب نور الهدى فيه بلا حجب ولا موانع .
جاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق عليه السلام : (( إن لك قلبا و مسامع و إن الله إذا أراد أن يهدي عبدا فتح مسامع قلبه ، و إذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه ، فلا يصلح أبدا وهو قول الله عز وجل " أم على قلوب أقفالها " )) . (1)[25] و لأن هذه الفئة تركت أمراضها القلبية تتراكم ، فقضت على بقايا نور الايمان في أنفسهم ، كانت عاقبة أمرهم الردة عن القيادة الشرعية ، و بالتالي عن الدين .
و كثير أولئك الذين ارتدوا عن الدين بسبب بعض هذه الأمراض ، و نحن نشير الى بعضهم لنعتبر بهم . فأولهم قابيل الذي طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فاصبح من الخاسرين ، و كان مرضه الحسد إذ تقبل قربان أخيه ولم يتقبل منه ، و كذلك كان مرض عابد بني إسرائيل المعروف بـ ( بلعم باعورا ) الذي بلغ درجة عالية من الايمان و التقوى حتى استحق أن يعطى الاسم الأعظم ، وكان يدعو به فيستجيب الله له ، ولكنه حين اختار الله موسى عليه السلام مال الى فرعون وارتضى لنفسه أن(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 41
يكون بمثابة الكلب ، كما قال تعالى : " و أتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين * و لو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد الى الارض و اتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث " . (1)أما الزبير بن العوام الذي كان له تاريخ نضالي حافل ، و ملاحم بطولية رائعة ، ولقد كان يكشف الكرب بسيفه عن وجه رسول الله (ص) ، إنه الآخر انحرف ، إذ أسرته الدنيا بمناصبها الحقيرة و زينتها الفانية .. فدفعه حب الرئاسة الى محاربة إمام عصره أمير المؤمنينعلي عليه السلام .
[ إن الذين ارتدوا على أدبارهم ]
و تراجعوا عن العهود و المواثيق التي الزموا أنفسهم بها تجاه الرسول ألا يخونوه ، و ألا يخذلوه عند لقاء العدو .
[ من بعد ما تبين لهم الهدى ]
و علموا أن الرسول على حق ، و لكنهم جبنوا عن مواجهة الأعداء ، و بحثوا عن السلطة و الثروة .
[ الشيطان سول لهم ]
رغبهم في ذلك عندما زين لهم الدنيا و غرهم بما فيها من فتنة ظاهرة ، و كلمة سول من السؤل أي الحاجة ، و كأن الشيطان جعلهم حريصين على هذه الحاجة ، و أثار فيهم الرغبة فيها .
[ و أملى لهم ]
(1) الاعراف / 175 - 176
قالوا : الكلمة من الأمل بمعنى مناهم بطول الأمل ، فأنساهم الحساب .
[26] لقد رغبوا في البقاء لينعموا بالرئاسة ، كما إنهم انضموا الى ركب الرسالة من أجلها . لقد كانت حساباتهم تدعوهم الى مواكبة هذا التيار الاجتماعي الصاعد ليرثوا مغانمه ، فمادام الخيرة يتنافسون على نيل الشهادة فسوف يصفو لهم الجو ، و تتاح لهم الفرصة للسيطرة على الناس ، و حكمهم باسم الرسالة .. لذلك ما كانوا ينفكون عن المؤامرة ضد السلطة الشرعية ، و قد بلغ بهم الأمر الى التخابر مع الاعداء ( اليهود و المشركين ) لجلب تأييدهم !! و أعطوهم وعدا بطاعتهم في بعض القضايا التي تهمهم .
[ ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر ]ولعل الآية تشير الى مؤامرة كان بعض المرتدين يحيكونها في عهد الرسول صلى الله عليه و آله لينفذوها من بعده ، و الفئة الكارهة كانت القوة العربية المعارضة للاسلام وهي قوة بني أمية التي عارضت الرسول منذ البداية وحتى استسلامها في فتح مكة ، حيث غيرت استراتيجيتها فقط فعملت سرا بعدما كانت تعمل جهرا . و يشير الى ذلك حديث مأثور عن الامام الصادق عليه السلام قال : " دعوا بني أمية الى ميثاقهم ألا يصيروا الأمر فينا ( أهل بيت الرسالة ) بعد النبي ولا يعطونا من الخمس شيئا " . (1)[ و الله يعلم إسرارهم ]
و يمكر بهم وهو خير الماكرين ، و هكذا ذهبت جهود بني أمية هباء ، و بقي الدين خالصا لله عبر القرون بالرغم من ان هدف بني أمية و حلفاءهم كان طمس(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 42
معالمه .
[27] إن نجحت مؤامرتهم ضد الولاية الإلهية ، و أفلتوا من عقاب الدنيا ، فهل يهربون من عذاب الله الذي يفاجئهم منذ خروج أرواحهم من الدنيا ؟
[ فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم و أدبارهم ]تلك الوجوه التي كلحت في وجه الحق ، و تلك الأدبار التي تولت عنه ، ولكن أين أعمالهم الصالحة ؟ أن صلاتهم و زكاتهم و حسناتهم التي اقترفوها ؟ إنها تحبط لأنهم خالفوا الله في أعظم أوامره و اتبعوا أهواءهم .
[28] [ ذلك بأنهم اتبعوا مآ أسخط الله ]
من أهواء ، و إذا صلى العبد و صام و قام ، و لكنه اتبع هواه فماذا ينفعه عمله ؟ أوليست حكمة هذه الفرائض ترويض النفس حتى لا تتبع هواها و تزكيتها من كبرها و حسدها و غلها الدفين فيها ، بينما مثل هؤلاء يكرسون بصلاتهم و أعمالهم كبرهم و عنادهم بل يجعلون صلاتهم وسيلة لنيل شهواتهم من الرئاسة في الدنيا .
[ و كرهوا رضوانه ]
المتمثل في ولايته التي أمر بها ، فلم يطيعوا قيادتهم الشرعية .
[ فأحبط أعمالهم ]
[29] هكذا ابتلى الله عباده حتى ظهروا على حقيقتهم و أخرج الله ما ستروه من أمراض .
[ أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ]إن هذا الظن هو الذي غرهم بربهم و جعلهم يزعمون قدرتهم على الاختباء وراء مظهر النفاق الى الأبد ، ولكن الله أخرج ما ستروه من أحقاد و حسد و بغضاء . قالوا الاضغان : ما يضمر من المكروه .
[30] و كما الله قادر على أن يظهر حقيقتهم بامتحانهم في القتال ، فهو قادر على أن يعرف رسوله واقعهم بطرق أخرى كأن يجعل على سيماهم و ملامحهم علامات النفاق .
[ ولو نشآء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ]
و فعلا هناك على مظهر كل واحد منهم علامات النفاق ، و لكن لا تظهر إلا لأهل الخبرة و المؤمنين المتوسمين الذين ينظرون بنور الله . فمثلا : باستطاعتك أن تعرف المنافق بالنظر الى قسمات وجهه ، حينما ينادي المنادي بالصلاة أو بالزكاة أو بالجهاد أو بطاعة وليالأمر ، فان قسماته تنكمش كالشن البالي ، بينما تنبسط قسمات وجه المؤمنين كما البدر .
[ و لتعرفنهم في لحن القول ]
بلى . في تضاعيف الكلام تظهر حقيقة المتحدثين ، أوليس المرء مخبوء تحت لسانه حتى أن التحليل الحديث لعلم النفس يستفيد من أغلاط المتحدث لمعرفة خلفياته النفسية ، و حتى أعظم رجال السياسة و أشدهم مكرا لا يمكنه أن يخفى مواقفه الحقيقية عند الحديث عن شيء ، لأن الكلمة التي يتلفظ بها إذا كانت صادقة تخرج بعفوية و يسر ، بينما إذا كانت كاذبة لا تخرج ألا بصعوبة و بتكلف . و من هنا يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : " ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه و صفحات وجهه " . (1)(1) نهج البلاغة / الحكمة رقم 26
[ و الله يعلم أعمالكم ]
كما يعلم أقوالكم ، يعلمها بنياتها و خلفياتها .
[31] وهذه سنة الله في خلقه أن يختبرهم اختبارا لا لكي يفضح المنافقين فقط ، بل و أيضا لتتجلى حقيقة المجاهدين و الصابرين لأنفسهم و للناس فيتخذوا قدوة و نبراسا .
[ و لنبلونكم ]
بأنواع البلاء و منها القتال .
[ حتى نعلم المجاهدين منكم ]
الذين لا يدعون جهدا لديهم إلا بذلوه في سبيل الله .
[ و الصابرين ]
و لعلهم أعظم درجة من المجاهدين و أشد تعرضا للبلاء .
[ و نبلوا أخباركم ]
تلك التي يحاول البشر أن يسترها بأي داع من الدواعي فمن الناس من يخشى أن يظهر خبره خشية الفضيحة ، و منهم من يخشى ذلك خوف الرياء و السمعة ، ولكن الله يبلوها بحكمته عبر أنواع البلاء ، و من أبرزها القتال .
|