فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[1] [ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ]

ماذا تعني كلمة الفتح في هذه الآية ؟

قال بعض المفسرين : إن الآية و إن كانت نزلت قبل فتح مكة إلا أنها تعنيه و تؤكده و تبشر المؤمنين به ، و قال آخرون : إنها تنصرف الى فتح خيبر ، و لكن الآية تدل كما يبدو على الفتح السياسي و الثقافي لمكة و الذي سبق فتحها العسكري ، وقد تجسد ذلك في صلح الحديبية الذي مهد لفتحها عسكريا ، و منه انطلق انتصار الاسلام و انتشاره في الجزيرة العربية ، ذلك لأن أي حركة ناشئة - و بالذات تلك التي تعاكس أفكار المجتمع و عاداته - تسعى نحو اكتساب الاعتراف من المجتمع المحيط حتى تتحرك بحرية في التوسعة و الانطلاق ، و حركة الاسلام - فيما يتعلق بالجانب الظاهري منها و ليس الغيبي - كانت في البدء حركة ناشزة عند المشركين حيث كان المجتمع الجاهلي يعتبرون المسلمين صابئة لأنهم في نظرهم متمردون على العادات و التقاليد ، فحركتهم إذن حركة خارجة عن الشرعية .


و السؤال : متى تم الاعتراف بحركة الرسول في ذلك المجتمع ؟

لقد تم ذلك في صلح الحديبية ، حيث اعترفت من خلاله قريش التي كانت سيدة على مكة و سائر العرب بالرسول و أتباعه و رسالته كأمر واقع ، وقد تأكد هذا الاعتراف بوضوح عند التوقيع على البند القائل ، من أراد من القبائل الانضمام الى الرسول (ص) و التحالف معه ،أو الانضمام الى قريش و التحالف معها فله ذلك .. و ذلك يعني ان هناك حكومتان في الجزيرة حكومة قريش و حكومة الاسلام .

و فعلا تحالفت طائفة من القبائل - كخزاعة - مع الرسول (ص) ، و بدأ الاسلام بالانتشار في ربوع الجزيرة ، و لعل الآثار الايجابية التي ترتبت على صلح الحديبية - ومن أهمها تحالف القبائل العربية مع النبي الأعظم - هي التي يسميها القرآن بالفتح المبين .

فالفتح المبين ليس هو الفتح العسكري ، إنما هو الفتح السياسي و الثقافي الذي حققه الرسول في صلح الحديبية ، وكان تمهيدا و مرتكزا للفتح العسكري فيما بعد ، حيث حصل بعد الصلح على حالة السلام ، صار يتحرك بسرعة جادة تحت مظلته لنشر الدين ، قال الامام الصادق(ع) : " فما انقضت تلك المدة - يعني مدة الصلح - حتى كاد الاسلام يستولي على أهل مكة " (1) .

ومن الطبيعي ان الحركة الثورية الناجحة تتقوى ، و تبني نفسها في ظروف السلام ، و تستعد لظروف المواجهة ، و مادامت الحكومة ( الواقعية ) في الجزيرة أوقفت حربها مع الحركة الرسالية بعد الصلح ، تحرك المؤمنون بقيادة الرسول (ص) لنشر الاسلام ، و صاروا يقوونأنفسهم في ظروف الهدنة ، الى أن فتحوا مكة عسكريا بعد سنوات قليلة .


(1) موسوعة بحار الأنوار / ج 20 - ص 363


[2 - 3] وكان لهذا الفتح معطيات عظيمة ، من أبرزها غفران الله لرسوله الأكرم (ص) ما تقدم وما تأخر من الذنب ، و إتمام النعمة عليه ، و هدايته الى الصراط الحق ، و قد اختلف المفسرون في بيان معنى الذنب بالنسبة للرسول ، فمن قائل بأن للرسول ذنوبا قبل الاسلام و بعده غفرها الله له ، ومن قائل بأنه كانت له ذنوب قبل الفتح و بعده ( فتح مكة ) فأعطاه الله صك الأمان بغفران السابق و اللاحق منها ، و قالت جماعة بأن الرسول لم يذنب و إنما الغفران متوجه إلى امته باعتبارها أمة مرحومة .

و يبدو أن كلمة الذنب لا تنصرف الى المعنى الظاهر منها وهو المعصية ، وإنما تنصرف الى ما كان الكافرون و المشركون يعدونه ذنبا ، إذ كانت حركة الرسول (ص) بذاتها ذنبا في اعتقادهم ، لأنها تمرد على الواقع القائم ، فصار جزء من الواقع القائم بعد الصلح فارتفععنه ذلك التصور و غفر له ذنبه في نظرهم ، و لتقريب الفكرة أكثر نقول : إن موسى (ع) لم يكن في ذمته ذنب حينما قال : " ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون " (1) وإنما كان ذلك وفق القانون الحاكم ، كذلك الرسول (ص) كان مذنبا حسب ذلك القانون حتى تغير القانون في صلح الحديبية ، حيث أن رسولنا الأكرم (ص) كان قد قتل منهم في بدر و أحد و الأحزاب ، و غنم أموالهم ، و اسر رجالهم ، بل و غير أوضاعهم ، فهو كان عندهم مذنبا ، و جاء الصلح ليطوي هذه الصفحة من أذهان المشركين ، و يصيرهم في سلام مع المسلمين .

أما أن يكون معنى الذنب هو ظاهر الكلمة فإن ذلك لا يليق بمقام الأنبياء ، و بالذات مقام أعظمهم شأنا و أرفعهم منزلة عند الله ، و حاشا لله أن يبعث رسولا يرتكب الذنوب ، كما أنه من الخطأ ايضا القول بأن الله أعطى الرسول صك الغفران ، إذ كيف يرفع المسؤوليةعن أحد بدون مبرر ؟؟ وهل بينه وبين أحد من


(1) الشعراء / 14


خلقه قرابة حتى يفعل ذلك ؟ أولم يقل في شأن رسوله (ص) : " ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين " (1) .. بلى . هناك بعض الفرق الصوفية هي التي تعتقد بأن الانسان يصل الى مستوى من العبودية و الوعي بحيث ترفع عنه المسؤولية ، حتى قال قائل منهم لأتباعه : أنتم تجب عليكم الصلاة ، أما أنا فقد وصلت الى مقام فوق الصلاة !

إن الاسلام لا يرى نهاية للمسؤولية إلا باليقين ( الموت ) ، و هذا هو القرآن يخاطب الرسول (ص) - مع أنه انتهى الى غاية الكمال البشري - بأنه يحتاج الى المزيد من الصلاة و التقرب الى الله عز وجل : " أقم الصلاة لدلوك الشمس الى غسق الليل و قرآن الفجرإن قرآن الفجر كان مشهودا * ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " (2) .

و يقول القرآن في هذه السورة :

[ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ]

و الغفران هنا من باب الوعد وليس الحتم و الالزام ، ولو كان كذلك لاقتضى الأمر تغيير الآية الكريمة : " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك و للمؤمنين و المؤمنات " (3) ، و الحال أنه تعالى يأمر رسوله بالاستغفار لنفسه و للمؤمنين من حوله ،و تناسب اللام هنا في هذه السورة و الاستغفار لا مع الفتح ، لأن الفتح قضية سياسية فلابد أن يكون الذنب هو الآخر ذنبا سياسيا ، بينما لو اعتبرنا الذنب هنا شخصيا بين العبد و ربه لظهرت اللام مبهمة .


(1) الحاقة / 44 - 47

(2) الإسراء / 78 - 79

(3) محمد / 19


[ و يتم نعمته عليك ]

بالفتح ، و بتكريس الاسلام في المجتمع .

[ و يهديك صراطا مستقيما ]

قال البعض : الصراط المستقيم هو السبيل الى تدعيم أركان الاسلام و نشره ، ولعلنا نفهم من الآية و السياق أن لكل تطور جديد في الساحة السياسية معطيات سلبية و إيجابية يخشى أن تحرف مسيرة الانسان ، فمع كل تطور ضغوط ، ومع كل ضغط احتمال للانحراف ، و الله يعدنبيه في هذه الآية بأن لا تؤثر فيه تلك التطورات ، سواء كانت من نوع الضغوط و الهزائم ، أو الاغراءات و الانتصارات ، وان يبقى مستقيما على خط الرسالة .

[ و ينصرك الله نصرا عزيزا ]

لعل معنى العزيز هنا الثابت الذي لا يغالب ، وقد تجسد هذا النصر في فتح مكة المكرمة ، حيث أن صلح الحديبية كان تمهيدا لهذا النصر العزيز .

إذن فللفتح خمس نتائج رئيسية و هامة وهي :

أولا : غفران ذنب الرسول الذي كان يعتقده المشركون ، حيث انتهى بعد الصلح الحصار الاعلامي المطلق ، فتحول الرسول من حركة العصيان و التمرد الى الحركة الشرعية .

ثانيا : إتمام النعمة على الرسول ، بأن هيأ ربنا بهذا الصلح له الظروف ليكون أقدر على نشر الدين في المجتمع .


ثالثا : تصفية العقبات التي اعترضت طريق انتشار الاسلام ، و بالتالي دفع جانب من الضغوط التي يواجهها الرسول (ص) و أصحابه .

رابعا : تهيئة الظروف المناسبة للنصر العزيز .

[4] أما النتيجة الخامسة و التي يمكننا اعتبارها نعمة كبيرة بذاتها ، فهي بعث روح السكينة في روع المؤمنين ، فإذا بهم وهم بضع مئات يتحركون من المدينة باتجاه مكة التي يوجد فيها عشرات الألوف من أعدائهم المدججين بالسلاح ، ولولا هذه السكينة لما تحرك الجيشالاسلامي الى حدودها .

[ هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ]وهل الايمان يزيد و ينقص ؟ بلى . إذن فما هو الإيمان حتى يقبل الزيادة و النقصان ؟ إنه إقرار بالقلب ، و قول باللسان ، و عمل بالحواس و الجوارح ، و معنى ذلك أن الانسان بكل كيانه المادي و المعنوي قوة واحدة يسلم لها بطوعه و إرادته وهي قوة الله ، فليسبايمان ذلك الذي يبقى في حدود العلم و المعرفة ، دون أن يعكس على صاحبه سلوكا و عملا من جنسه في الحياة ، و القرآن يقول عن فرعون و قومه حيث كفروا بالآيات : " و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلما و علوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين " (1) إذن فيقين القلب وحده لا ينفع من دون العمل الصالح .

إن مشركي قريش كانوا يعرفون في داخل أنفسهم صدق الرسول و أمانته ، و لكنهم لم يعترفوا له بذلك في واقع حياتهم ، بل خالفوه و اتهموه بالكذب و السحر ، بينما الايمان الحقيقي هو المعرفة بالقلب و العمل بالجوارح ، و لذلك جاء في حديث(1) النمل / 14


13 + 296

مفصل عن الامام علي (ع) أن الايمان موزع على جوارح الانسان ، لكل جارحة منه ما يناسبها من الايمان (1) ، و بقدر انحراف أي جارحة عن التزاماتها يفقد البشر من إيمانه .

وعن الرسول الأعظم (ص) : " من لقي الله كامل الايمان كان من أهل الجنة ، ومن كان مضيعا لشيء مما فرضه الله تعالى في هذه الجوارح و تعدى ما أمره الله ، و ارتكب ما نهاه عنه ، لقي الله تعالى ناقص الايمان ، قال عز وجل : " وإذا ما أنزلت سورة فمنهـم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون " ، وقال : " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون " ، وقال سبحانه : " إنهم فتية آمنوا بربهم و زدناهم هدى " وقال : " و الذين اهتدوا زادهم هدى و آتاهم تقواهم " ، و قال : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم " ، و يعلق الامام علي (ع) على هذه الرواية فيقول : " فلو كان الايمان كله واحدا لا زيادة فيه ولا نقصان ، لم يكن لأحد فضل على أحد ، و لتساوى الناس ، فبتمام الايمان و كماله دخل المؤمنون الجنة ، و نالوا الدرجات فيها ، و بذهابه و نقصانه دخل الآخرون النار " (2) .

و ربنا فتح للمسلمين مكة ، و أنزل عليهم السكينة ، لكي يكمل إيمانهم أكثر ، فيصير اقتصادهم و اجتماعهم و حكمهم إيمانيا ، و تصبح سياستهم و شؤونهم العسكرية مبنية على أساس الايمان .

[ و لله جنود السموات و الأرض ]


(1) الرواية مفصلة و طويلة ، راجع بح / ج 93 ، ص 49 - 53(2) بح / ج 93 - ص 53


وهو ينصر المؤمنين ، إما عن طريق تثبيتهم و تقوية عزائمهم بانزال السكينة في قلوبهم ، وإما عن طريق جنود من عنده مباشرة كالملائكة و الظواهر التي تقوم الملائكة بتدبيرها .

[ وكان الله عليما حكيما ]

فهو لا ينصر المؤمنين أو يبعث السكينة في قلوبهم و يزيدهم إيمانا إلا بحكمة بالغة ، ولو أنهم لم يجاهدوا لما حصلوا على كل ذلك .

[5] و هدف المؤمنين من الانتصار و الفتح يجب أن لا يكون إسقاط الحكم الفاسد و اغتنام الأنفال ، أو أن يتحولوا من حركة إلهية الى حركة ثقافية مترفة ، أو حركة سياسية متقلبة ، إنما الهدف الأسمى من ذلك هو دخولهم الجنة ، كما يقول تعالى :

[ ليدخل المؤمنين و المؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و يكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ]إذن فالهدف الأسمى ليس النصر أو الفتح ، و القرآن يعبر عن هذه الفكرة في سورة الصف بصيغة أخرى إذ يقول : " يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله و رسوله و تجاهدون في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم ذلكم خير لكم إنكنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم و يدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار و مساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم * و أخرى تحبونها نصر من الله و فتح قريب " (1) .

[6] و كما أن جزاء المؤمنين الحقيقي ليس هو انتصارهم على عدوهم ، فإن(1) الصف / 10 - 13


جزاء أعدائهم ليس سقوطهم من سدة الحكم ، ولا ما يلقونه من العذاب علي أيدي المؤمنين و حسب ، و إنما جزاؤهم الحقيقي عذاب الله الدائم في الآخرة .

[ و يعذب المنافقين و المنافقات و المشركين و المشركات الظآنين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء ]فهم محاطون بالشر من كل جانب ، كما تحيط الدائرة بمركزها .

[ و غضب الله عليهم و لعنهم و أعد لهم جهنم و سآءت مصيرا ][7] و في خاتمة الدرس يؤكد ربنا قوته و حكمته التي يدبر بها شؤون الخلق .

[ و لله جنود السموات و الأرض وكان الله عزيزا حكيما ]وهدف هذا التأكيد على قدرة الله بعث روح الأمل بالنصر و الفتح في نفوس المؤمنين ، حيث يشعرهم الرب بأن جند الله الذين لا يحصر عددهم كالملائكة و السنن الطبيعية و .. و .. كلهم يقفون صفا واحدا الى جانبهم وهم يجاهدون في سبيله ، فهم على خلاف أعدائهم الذين يحوطهم الشر كالدائرة .


صلح الحديبية :

و قبل إنهاء الحديث في هذا الدرس لا بأس أن نقرأ جانبا من قصة الصلح التي تنفع الأمة الاسلامية في بعض ظروفها ، فهي حينما تصالح عدوها عن قوة و مناورة حكيمة فإن صلحها حينئذ سيكون كصلح الحديبية ، أما لو صالحت عن ضعف ، و كانت مكاسب العدو منها أكبر منمكاسبها من الصلح فإن ذلك استسلام لا يقبله الله .


جاء في تفسير علي بن إبراهيم عن الامام الصادق ( عليه السلام ) قال : " كان سبب نزول هذه الآية وهذا الفتح العظيم أن الله جل وعز أمر رسوله ( صلى الله عليه وآله و سلم ) في النوم أن يدخل المسجد الحرام و يطوف و يحلق مع المحلقين ، فأخبر أصحابه و أمرهم بالخروج فخرجوا ، فلما نزل ذا الحليفة أحرموا بالعمرة ، و ساقوا البدن ، و ساق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ستة و ستين بدنة ، و أشعرها عند إحرامه ، و أحرموا من ذي الحليفة ملبين بالعمرة ، و قد ساق من ساق منهم الهدي معرات مجللات ، فلما بلغ قريشا ذلك بعثوا خالد بن الوليد في مأتي فارس كمينا يستقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فكان يعارضه على الجبال ، فلما كان في بعض الطريق حضرت صلاة الظهر فأذن بلال فصلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالناس ، فقال خالد بن الوليد : لو كنا حملنا عليهم وهمفي الصلاة لأصبناهم ، فإنهم لا يقطعون صلاتهم ، ولكن تجيء الآن لهم صلاة أخرى أحب أليهم من ضياء أبصارهم ، فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم ، فنزل جبرئيل ( عليه السلام ) على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بصلاة الخوف في قوله عز وجل : " و إذا كنتفيهم فأقمت لهم الصلاة " الآية ، فلما كان في اليوم الثاني نزل رسول اللــه ( صلى الله عليه وآله ) الحديبية وهي على طرف الحرم ، و كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يستنفر الأعراب في طريقه ، فلم يتبعه أحد ، و يقولون : أيطمع محمــد ( صلى الله عليــه و آلــه ) و أصحابه أن يدخـل الحرم أو قد غزتهم قريش في عقر ديــارهم فقتلوهم ، أنه لا يرجع محمد ( صلى الله عليه وآله ) و أصحابه إلى المدينة أبــدا " .

ومن هذه الرواية نعرف بأن الاعراب لم يدخلوا الاسلام ، ولم يقبلوا دعوة الرسول ( ص ) قبل الصلح (1) .


(1) الى هنا الرواية منقولة عن نور الثقلين / ج 5 - ص 50و في رواية أخرى قال ابن عباس : إن رسول الله (ص) خرج يريد مكة ، فلما بلغ الحديبية وقفت ناقته ، و زجرها فلم تنزجر ، و بركت الناقة ، فقال أصحابه : خلأت الناقة ، فقال (ص) : ما هذا لها عادة ، ولكن حبسها حابس الفيل ، و دعا عمر بن الخطاب ليرسله الى أهل مكة ليأذنوا له بأن يدخل مكة ، و يحل من عمرته ، و ينحر هديه ، فقال : يا رسول الله مالي بها حميم ، و إني أخاف قريشا لشدة عداوتي إياها ، ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني : عثمان بن عفان ، فقال : صدقت ، فدعا رسول الله (ص) عثمان فأرسله الى أبي سفيان و اشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، و إنما جاء زائرا لهذا البيت ، معظما لحرمته ، فاحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله (ص) و المسلمين أن عثمان قد قتل (1) ، فقال (ص) : " لا نبرح حتى نناجز القوم " فدعا الناس الى البيعة ، فقام رسول الله (ص) الى الشجرة فاستند إليها ، و بايع الناس على أن يقاتلوا المشركين ولا يفروا ، قال عبد الله بن مغفل : كنت قائما على رأس رسول الله (ص) ذلك اليوم ، و بيدي غصن من السمرة ( شجرة شائكة تنبت في الأماكن الحارة ) أذب عنه وهو يبايع الناس ، فلم يبايعهم على الموت ، و إنمابايعهم على أن لا يفروا (2) ، فبينما هم كذلك إذ جاءهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة وكانوا عيبة نصح رسول الله (ص) من اهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي و عامر بن لؤي و معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك و صادوك عن البيت ، فقال رسول الله (ص) :
" إنا لم نجيء لقتال أحد ، و لكنا جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب و أضرت بهم ، فإن شاؤوا ماددتهم مدة و يخلوا بيني و بين الناس ، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا ، وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمريهذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله تعالى أمره " ، ( وهذا من الحكمة السياسية ولا ريب أن(1) وعادة ما تنشر الشائعات في مثل هذه الظروف و الأحداث .

(2) بح / ج 20 - ص 329


بيعة الرسول (ص) مع اصحابه تحت الشجرة قد أرهبت قريشا ، لأنها كانت مظهرا للقوة ، و مناورة يرهبها الأعداء ، و التظاهر بالقوة أمر مهم ، و بالذات لمن يريد الصلح ، لأن ذلك يجعله في موقع القوي المهاب على طاولة المفاوضات ، وفي سياسة اليوم تتكرر كلمة الردع النووي وهي مظهر لسياسة القوة ) .

فقال بديل : سأبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قريشا فقال : إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل ، وإنه يقول كذا وكذا ، فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال : إنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها و دعوني آته ، فقالوا : إئته ، فأتاه فجعل يكلم النبي (ص) ، وقال له رسول الله (ص) نحوا من قوله لبديل ، فقال عروة عند ذلك : أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها و أرى اوباشا من الناس خلقا أن يفروا و يدعوك ، فقال له أبو بكر : أمصص بظر اللات . أنحن نفر عنه و ندعه ؟ فقال : من ذا ، قالوا : أبو بكر ، قال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك ، قال : و جعل يكلم النبي (ص) ، و كلما كلمه أخذ بلحيته ، و المغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي (ص) ومعه السيف و عليه المغفر ، فكلما أهوى عروة بيده الى لحية رسول الله (ص) ضرب يده بنعل السيف ، و قال : أخر يدك عن لحية رسول الله (ص) قبل أن لا ترجع إليك ، فقال : من هذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة ، قال : أي غدر . أولست اسعى في غدرتك ؟ قال : و كان المغيرة صحب قوما في الجاهلية ، فقتلهم و أخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبي (ص) : " أما الاسلام فقد قبلنا ، وأما المال فإنه مال غدر لا حاجة لنا فيه " .

ثم إن عروة جعل يرمق صحابة النبي (ص) إذا أمرهم رسول الله (ص) ابتدروا أمره ، و إذا توضأ ثاروا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلموا أخفضوا أصواتهم عنده ، ومايحدون إليه النظر تعظيما له ، قال : فرجع عروة الى أصحابه و قال : أي قوم ! والله لقد وفدت على الملوك ، و وفدت على قيصر و كسرى و النجاشي ، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، إذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون علىوضوئه ، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيما له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ، فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته ، فقال : إئته ، فلما أشرف عليهم قال رسول الله (ص) : : هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها " فبعثت له ، و استقبله القوم يلبون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ، فقام رجل منهم يقال له : مكرز بن حفص فقال ، دعوني آته ، فقالوا : إئته ، فلما أشرف عليهم قال النبي (ص) : " هذا مكرز وهو رجل فاجر " ، فجعل يكلمالنبي (ص) فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو فقال (ص) : قد سهل الله عليكم أمركم ، فقال : أكتب بيننا و بينك كتابا ، فدعا رسول الله (ص) علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقال له : " اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم " فقال سهيل ، أما الرحمن فواللهما أدري ما هو ، ولكن أكتب : باسمك اللهم ، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال النبي (ص) : " أكتب : باسمك اللهم ، هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله (ص) " فقال سهيل : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن أكتب : محمد بن عبد الله ، فقال النبي (ص) : إني لرسول الله وإن كذبتموني ثم قال لعلي ( عليه السلام ) : " أمح : رسول الله " فقال : " يا رسول الله إن يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوة " ، فأخذه رسول الله (ص) فمحاه ، ثمقال : " أكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو ، و اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيهن الناس ، و يكف بعضهم عن بعض ، وعلى أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجا أو معتمرا أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه و ماله ،


و من قدم المدينة من قريش مجتازا الى مصر أو الشام فهو آمن على دمه و ماله ، فإن بيننا عيبة مكفوفة ، وانه لا إسلال ولا إغلال ، وإنه من أحب أن يدخل في عقد محمد و عهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش و عهدهم دخل فيه " (1)وفي رواية أخرى : " و كتبه علي بن أبي طالب و شهد على الكتاب المهاجرون و الأنصار " ثم قال رسول الله (ص) " يا علي إنك أبيت أن تمحو إسمي من النبوة ، فوالذي بعثني بالحق نبيا لتجيبن أبناءهم الى مثلها و أنت مضيض مضطهد ( أي أنك سوف تتعــرض لمثــل هذه الضغوط ، و سوف تتنازل عن حقوقك و واجباتك الظاهرية ، ولكن لله ) فلما كان يوم صفين ، و رضوا بالحكمين ، كتب : هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) و معاوية ابن أبي سفيان ، فقال عمرو بن العاص : لو علمنا أنك أمير المؤمنين ما حاربناك ، ولكن أكتب : هذا ما اصطلح عليه علي ابن ابي طالب و معاوية ابن ابي سفيان ، فقال أمير المؤمنين ( صلوات الله عليه ) : صدق الله و صدق رسوله . أخبرني رسول الله (ص) بذلك ثم كتب الكتاب " (2)وعن محمد بن كعب قال : ثم رجع رسول الله (ص) الى المدينة فجاءه أبو بصير ( رجــل مـن قريش وهو مسلم ) وهذا يبين أن الصلح صار سببا لانتشار الاسلام بين الناس ، وهنا فكرة نستفيدها من عموم حديث الحديبية وهي : إن الثورة الحقيقية تستفيد من كل الظروف في سبيلتقدمها ، لأنها تعتمد على جوهر التقدم ، وهو إرادة الانسان و تصميمه على الحركة ، فمن ظروف السلم تستفيد خطة لبناء كوادرها و ترتيب أوراقها ، ومن ظروف الحرب تستفيد خطة لنشر أفكارها(1) بح / ج 31 - ص 334

(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 53


و الاعلام الجماهيري المركز ، فإذا ما استشهد أحد أبنائها في الحرب رفعته علما في كل أفق ، وإذا بقي حيا استفادت من كل ابعاد وجوده .

و حيث وقع رسولنا الأكرم (ص) مع قريش بنود الصلح التزم بها لكي يستفيد من فترة السلم بينه و بينهم في بناء حركته و إعدادها إعدادا قويا لمواجهة المتغيرات و الظروف المختلفة ، لهذا كان يرفض أي عمل أو قرار ينتهي الى إشعال الحرب ، لأنه يخسره مكتسبات ظروف السلم ، وحيث سمعت قريش عن رجل يسمى أبو بصير لحق بالنبي (ص) أرسلت في طلبه رجلين ، فقالوا للرسول (ص) :

" العهد الذي جعلت لنا ؟ فدفعه الى الرجلين ، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين ، إني لأرى سيفك هذا جيدا ، فاستله وقال : أجل إنه لجيد و جربت به ثم جربت ، فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه ؟ فأمكنه منه فضربه به حتى برد ، و فر الآخر حتى بلغ المدينة فدخل المسجد يعدو ، فقال رسول الله (ص) حين رأه : " لقد رأى هذا ذعرا " فلما انتهى النبي (ص) قال : قتل و الله صاحبي و إني لمقتول ، قال : فجاء أبو بصير فقال : يا نبي الله ! قد أوفى الله ذمتك ، و رددتني إليهم ، ثم أنجاني الله منهم ، فقال النبي (ص) : " ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد " فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر ، و انفلت منهم ابو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير ، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت عليه عصابة ، قال : فوالله لا يسمعون بعير لقريش قد خرجت الى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم ، و أخذوا أموالهم ، فأرسلت قريش الى النبي (ص) تناشده الله و الرحم لما أرسل اليهم ، فمن أتاه منهم فهو آمن ، فأرسل (ص) إليهم فأتوه " (1)


(1) بح / ج 20 - ص 335


وفي تفسير القمي : و قال رسول الله (ص) لأصحابه ( بعد كتابة الصلح ) : إنحروا بدنكم ، و أحلقوا رؤوسكم ، فامتنعوا و قالوا : كيف ننحر و نحلق ولم نطف بالبيت ، ولم نسع بين الصفا و المروة ؟ فاغتم لذلك رسول الله (ص) و شكا ذلك الى أم سلمة ، فقالت : يا رسولالله انحر أنت و احلق ، فنحر رسول الله (ص) فحلق ، فنحر القوم على حيث يقين و شك و ارتياب " ( وهنا تتبين فكرة مهمة وهي : إن القيادة حينما تقول و تعمل بما تقول يكون قرارها أمضى أثرا فيمن حولها ) .

و حيث رجع المسلمون الى المدينة قالوا ، هذا ليس بفتح ، لأنهم حسبوا الفتح هو النصر الذي يأتي بالقتال ، و يكون فيه الأسر و أخذ الغنائم ، ولم يكونوا يعرفون أبعاد الفتح الحقيقية ، أما الرسول (ص) فهو يعرف كل ذلك ، و بمجرد أن سمع هذا الكلام جمع أصحابه وأكد لهم بأن ما حدث هو أعظم الفتح ، فقال : " لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم " وهذه مرحلة من مراحل الفتح ، أن العدو يعترف بالمسلمين ، " و يسألوكم القضية ، و يرغبون إليكم في الاياب " أي أنهم اعترفوا بكم كند لهم " وقد كرهوا منكم ما كرهوا ، وقد أظفركم الله عليهم ، فردكم سالمين غانمين مأجورين ، فهذا أعظم الفتح " ثم ذكرهم بالماضي وقال : " أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد و أنا أدعوكم في أخراكم ؟! أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ، وإذ زاغت الأبصار ، و بلغت القلوب الحناجر ، و تظنون بالله الظنونا ؟! قالوا : صدق الله و رسوله ، و هو أعظم الفتوح ، و الله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه ، و لأنت أعلم بالله و بالأمور منا ، فأنزل الله سورة الفتح " (1)و جاء في عيون الأخبار بإسناده الى علي بن محمد بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون و عنده الامام الرضا ، فقال المأمون : يابن رسول الله ! أليس من قولك(1) تفسير القمي عند الآية انا فتحنا لك فتحا مبينا .


أن الانبياء معصومون ؟ قال : بلى ، قال : فأخبرني عن قول الله تعالى : " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " قال الرضا ( عليه السلام ) : لم يكن أحد عند مشركي مكة أعظم ذنبا من رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) لأنهم كانوا يعبدون من دون اللهثلاثمأة و ستين صنما فلما جاءهم بالدعوة الى كلمة الاخلاص كبر ذلك عليهم و عظم و قالوا : " أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب * و انطلق الملأ منهم أن امشوا و اصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد * ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق" فلما فتح الله تعالى على نبيه (ص) مكة ، قال له : يا محمد " إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " عند مشركي أهل مكة بدعائك توحيد الله فيما تقدم وما تأخر ، لأن مشركي مكه أسلم بعضهم ، و خرج بعضهم عن مكة ، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد إذا دعا الناس اليه ، فصــار ذنبه عندهم في ذلك مغفورا بظهوره عليهم " فقال المأمون : لله درك يا أبا الحسن " (1)(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 56


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس