بينات من الآيات [8] [ إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا ]
و الشاهد : الحاضر ، فكيف ينسحب هذا المعنى على القائد ؟ إن الشاهد هو الحاضر الذي يكون سلوكه مقياسا للحق ، و شهادة الرسول على الأمة حجيته ، و كونه المقياس العملي للخير و الفضيلة ، و الميزان الواقعي للضلالة و الهدى ، وليس المراد من شهادته (ص) حضوره الجسدي بين المسلمين ، و إلا لما كان ذلك يحتاج الى الإرسال من قبل الله باعتباره تحصيل حاصل ، ثم أن هذه الشهادة لا تنحصر زمنيا بوجوده المادي ، وإنما تشمل البشرية التي أرسل إليها جيلا بعد جيل ، و زمنا بعد زمن .
و لكي يتضح معنى الشهادة بالنسبة للرسول القائد (ص) لابد من الحديث عن صفتين تجسدانها من صفاته ، هما : دعوته الناس الى الرسالة عن طريق كلامه و بيانه ، و الأخرى دعوته لهم من خلال سلوكه و عمله ، و ذلك بصنعه واقعا يتأثر به المجتمع من حوله ، و مثال ذلك أنه (ص) حينما يوقع على صلح الحديبية ، و يقبل بمحو اسم ( رسول الله ) من الوثيقة تكتيكيا ، فلكي يستمر الصلح بفوائده استراتيجيا ، و حينما يقود جيشا لجبا الى المعركة ، و حينما يصلي خاشعا لربه ، و حينما يعفو و يسامح ، و .. و .. كل هذه السلوكيات تؤثر واقعياعلى المجتمع ،
و تدفعه دفعا قويا ومن الأعماق للتأسي بصاحبها و اتباعه ، إذن فالقيادة قبل أن تكون منصبا سياسيا و اجتماعيا ، و قبل أن تكون قرارا من أعلى ، هي - في الواقع - مبادرة و واقع عملي ، و الأئمة (ع) أكثر ما أمروا أصحابهم و اتباعهم بالعمل لا بالكلام ، و الامام الصادق (ع) يقول : " كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم " يعني بسلوككم و عملكم ، لأن ذلك أمضى أثرا في واقع الناس و نفوسهم ، و أكبر دلالة على خط الانسان و فكره ، و لقد قرأنا في الدرس السابق كيف أن الرسول حينما أمر المسلمين بحلق رؤوسهم و نحر بدنهم رفضأكثرهم فبادر شخصيا الى ذلك فتهافتوا للحلق و النحر .
هذا من جهة ، و من جهة أخرى إن ألفاظ الرسالة تتعرض للتلاعب من قبل المنافقين ، كما أنها تحتمل التأويل و التفسير ، بينمــا الشهادة العملية تبقى حجة جلية بالغة ، لا تحتمل أكثر من تفسيرها الواقعي ، فلو أمر الرسول (ص) الناس بالصدق و بالامانة بمجرد الكلام ، دون أن يجسد لهم هذين المعنيين ، لكان الكثير من المسلمين يكذب أو يخون ، و يفسر ذلك بأنه الصدق و الأمانة اللذان أمر بهما الرسول ، و لكن الرسول قال و عمل فكان عمله أكبر مفسر لقوله .
إن الرسول يصبح شاهدا و قائدا للمسلمين ، و تصبح سيرته منهجا للأجيال بعد الأجيال ، حينما يجمع أصحابه و يذهب الى مكة فيتهرب جمع منهم ، و ينسلون من جيشه لواذا خشية الابادة ، فإنه يصنع واقعا حيا ، أو حين ينصرف من الخندق مع المسلمين ، و يضع عنه اللامة ،و يغتسل ، و يستحم ، فينزل عليه جبرئيل و يقول له : " عذيرك من محارب . ألا أراك قد وضعت عنـك اللامة ، و مـا وضعناها بعد " فإذا به يثب (ص) للجهاد ، و يتبعه المسلمون ، و يحارب بني قريظة .
هذه المواقف الواقعية هي التي تترك أثرها البالغ في نفوس الناس و الأجيال ،فهذه سيرة رسول الله (ص) تلهم المسلمين جيلا بعد جيل العزم و الاستقامة ، لأنه لم يكن شاهدا بكلامه و حسب ، و إنما بعمله و سلوكه لقد كان شاهدا في كل حقل ، مبادرا في كل مكـرمـة ، صانعا للأحداث ، مقتحما غمار الصعاب ، و حتى في الحروب كان القائد الشاهد ، والىالحد الذي قال عنه بطل الاسلام علي ابن أبي طالب عليه السلام : " و كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله (ص) ، فلم يكن أحد منا أقرب من العدو منه " (1)و الرسالي الصادق هو الذي يشهد على عصره ، و تفسر مواقفه العملية كلماته المضيئة .
[9 - 10] و يجري السياق في بيان أهداف البعثة .
[ لتؤمنوا بالله و رسوله ]
الذي طاعته و الايمان به امتداد للايمان بالله .
[ و تعزروه و توقروه و تسبحوه بكرة و أصيلا ]
و هنا اختلف المفسرون في تحديد الذي تعود عليه ضمائر هذه الكلمات ، فقال جماعة بأنها تعود الى الله سبحانه و تعالى ، ولا يمكن أن تعود على الرسول ، وقد عطف عليهما التسبيح الذي هو مختص به عز وجل ، وقال آخرون بأن الضميرين في " تعزروه و توقروه "يعودان على الرسول ، و المعنى تنصرونه و تعظمونه .
وما يبدو لي هو أن نصر الله و تعظيمه يتحققان بنصر رسوله و رفع شأنه لأنهما جهة واحدة ، وليس الرسول سوى وسيلة الى الله ، كما أن القبلة بذاتها ليست هدفا ،(1) نهج البلاغة / حكمة 9
و إنما هي وسيلة للعبادة ، و نجد هذا المعنى جليا في كثير من الآيات القرآنية ، و من جملتها قوله تعالى : " و اعتصموا بحبل الله جميعا " (1) و حبل الله هو الرسول و الأئمة ( عليهم السلام ) ، و لاختصـاص العبـودية باللـه نستطيــع القـول بـأن الضميـرفـي كلمتي " تعزروه و توقروه " يعود على الرسول ، بينما يعود في كلمة " تسبحوه " على الله مباشرة ، و في الآية اللاحقة بيان و تأكيد لهذه الفكرة ، يقول تعالى :
[ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ]
فالمبايعة لله ، و لكنها تمر عبر الرسول (ص) ، و غايتها إظهار الولاء التام للقيادة ، و التعهد بالإستمرار في خطها ، و لعل الكلمة مأخوذة من البيع فيكون معنى البيعة أن يبيع أفراد المجتمع المسلم أو التجمع الرسالي ما لديهم من طاقات و إمكانات مادية و معنوية لقيادتهم بإزاء رضوان الله ، و ليس بالضرورة أن تتم البيعة بسلام الرجال على الرسول مصافحة ، و وضع النساء أيديهن في الماء ، كما تم عند البيعة للرسول أو للامام علي في الغدير ، بل يمكن أن تتم عن طريق القسم الحركي ، أو بالوكالة بأن يبايع الأفراد نائب القائد ، أو حتى بالكتابة ، لأن المهم إظهار الإستعداد للطاعة بحركة واضحة .
قال جابر بن عبد الله ( رضي الله عنه ) : بايعنا رسول الله تحت الشجرة على الموت ، وعلى أن لا نفر . (2)و كان الرسول (ص) الذي يمثل الله يضع يده على أيدي المؤمنين في البيعة ، و قد أكد ربنا لنبيه أنه سيكون بالمرصاد لكل من تسول له نفسه الخيانة .
[ يد الله فوق ايديهم ]
(1) آل عمران / 103
(2) الزمخشري / ج 4 - ص 335
أي قوته و قدرته أعلى من كل أحد .
[ فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ]
لانه سوف يضع نفسه في موضع المحارب لله ذي القوة و الطول ، ولن تقتصر خسارته على الآخرة و حسب ، بل سوف يخسر في الدارين ، وعلى عكسه الذي يلتزم بالعهد و يتم البيعة فإنه يجني السعادة في الدنيا و الآخرة .
[ ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ][11] من معطيات السير نحو مكة ، ومن تجليات الفتح المبين ، كشف العناصر الضعيفة التي تعيش في الأمة ، وحيث الله أعلم بعواقب الأمور ، و واقع هؤلاء الناكثين ، و أنهم سوف يظهرون للنبي من الأعذار و التبريرات غير الذي يضمرون ، بين ذلك لرسوله ، و لكي يتخذ منهم موقفا حاسما .
[ سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنآ أموالنا و أهلونا فاستغفر لنا ]و هــل ذلك عذر مقبول في مثل هذه الفترة الحاسمة من حياة الأمة الاسلامية ؟ بلى . إن هؤلاء يقترفون الأخطاء ، ثم يحاولون خداع القيادة و استرضاءها بمجموعة من الأعذار الواهية لتستر خلفياتهم ، و هم بذلك يرتكبون خطأ آخر بالإضافة إلى نكثهم و هو نفاقهم عبرتبريراتهم الكاذبة ، ولكن الله يفضحهم ، و يبين لرسوله واقعهم ، وأنهم ليسوا صادقين في توبتهم ، بل ولا في أعذارهم .
[ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ]
من نفاق و خيانة ، و لعل هذه الكلمة تنطبق أكثر شيء على تظاهرهم بالندم منتخلفهم و رجائهم الرسول بأن يستغفر لهم .
بلى . إن التبريرات قد تدفع عن الإنسان جزاءا آتيا من أمثاله من البشر ، أما جزاء الله فلا ، لأنه يغيب عنه شيء أو يمنع إرادته أحد .
[ قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا ]هكذا أمر الله رسوله أن يفضح المنافقين ، و يعلن واقعهم .
[12] [ بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول و المؤمنون الى أهليهم أبدا ]مما أثار فيهم الظنون و التصورات ، التي انعكست على تفكيرهم ، ولم يكن مصدر ظنهم هذا العلم الحاصل من تقييم الحوادث ، إنما كان سببه الخوف و الجبن ، في صورة ثقافة سلبية ترتكز على التبرير .
[ و زين ذلك في قلوبكم ]
من زين لهم التقاعس ؟ إبليس و جنوده من الذين تجسدت فيهم ثقافته .
[ و ظننتم ظن السوء ]
ربما يعني ذلك الحالة السلبية التي تؤثر في التفكير ، و يزيغ بصاحبه نحو الأفكار المتشائمة .
[ و كنتم قوما بورا ]
و هكذا تدرج أولئك الخاسرون في دركات السقوط درجة درجة ، فزين- اولا - الشيطان أعمالهم السابقة في قلوبهم حتى رأوها حسنة ، ثم دفعهم ظن السوء الى التقييم السلبي ، و أخيرا هلكوا ، و من هنا نعرف أن بدايات الإنحراف قد لا تستثير الإنسان ، و لكنها خطيرة لأنها تهوي بالبشر الى الهلاك المطلق .
[13] وقد اعتبر الله هذه الخطوة دليلا على عدم الإيمان لدى هؤلاء ، و توعدهم بعذاب جهنم جزاءا لهذا الكفر فقال :
[ ومن لم يؤمن بالله و رسوله فانا اعتدنا للكافرين سعيرا ]إذن فربنا هيأ النار و أعدها ، و يا ترى كم ستكون مؤذية هذه النار التي سجرها الله لغضبه بالنسبة للبشر الضعيف ؟!
دعنا نقرأ هنا رواية عن الرسول (ص) لعلنا نخشى الله ، و نجتنب المعصية : " إن جبرئيل (ع) أتى النبي (ص) عند الزوال في ساعة لم يأته فيها وهو متغير اللون ، وكان النبي (ص) يسمع حسه و جرسه فلم يسمعه يومئذ ، فقال له النبي (ص) : يا جبرئيل مالك جئتني فيساعة لم تكن تجئني فيها ، و ارى لونك متغيرا ، و كنت أسمع حسك و جرسك فلم أسمعه ؟! فقال : إني جئت حين أمر الله بمنافخ النار فوضعت على النار ، فقال النبي (ص) : أخبرني عن النار يا جبرئيل حين خلقها الله تعالى : فقال : إنه سبحانه أوقد عليها ألف عام فاحمرت، ثم أوقد عليها ألف عام فابيضت ، ثم أوقد عليها ألف عام فاسودت ، فهي سوداء مظلمة ، لا يضيء جمرها ، ولا ينطفئ لهبها ، و الذي بعثك بالحق نبيا لو أن مثل خرق إبرة خرج منها على أهل الأرض لاحترقوا عن آخرهم ، ولو أن رجلا دخل جهنم ثم أخرج منها لهلك أهل الأرض جميعا حين ينظرون إليه ، لما يرون به ، ولو أن ذراعا من السلسلة التي ذكره الله تعالى في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن آخرها ، و لو أن بعض خزان جهنم التسعة عشر نظر إليه أهل الأرضلماتوا حين ينظرون إليه ، ولو أن ثوبا من ثياب أهل جهنم أخرج إلى الأرض لمات أهل الأرض من نتن ريحه ، فأكب النبي (ص) و أطرق يبكي و كذلك جبرئيل ، فلم يزالا يبكيان حتى ناداهما ملك من السماء : يا جبرئيل ويا محمد إن الله قد آمنكما من أن تعصياه فيعذبكما "(1)
[14] و لكي لا يستبد بنا اليأس عند الحديث عن النار و عذابها ، يؤكد لنا الله رحمته الواسعة و غفرانه للذنوب .
[ و لله ملك السماوات و الأرض يغفر لمن يشآء و يعذب من يشآء و كان الله غفورا رحيما ]وقد حكي أن الرسول (ص) لما سمع كلمة أفلاطون : ( إذا كانت السماء قوسا ، و البـلاء سهما ، و الرامي هو الله فأين المفر ؟ ) نزلت عليه الآية الكريمة : " ففروا الى الله " (2)بلى . إن الفرار ممكن ، و لكن كيف نفر ؟ نفر من غضب الله إلى رضاه ، و من سخطه الى عفوه ، و ربنا برحمته الواسعة يقبل فرار العبد إليه ، و لكن بشرط أن يستغفره و يتوب إليه صادقا .
و هنا في هذه الآية جعل الله نهايتها " غفورا رحيما " مع أنه قال : " يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء " و ذلك تأكيدا لرحمته و رأفته بخلقه ، و طردا لليأس من نفوسنا .
(1) بح / ج 8 - ص 305
(2) الذاريات / 50
|