بينات من الآيات [ بسم الله الرحمن الرحيم ]
وهو الرب الذي يتأله و يجأر إليه ، والذي به يستغاث و به يستعان واليه يجأر كل مضطر و صاحب حاجة ، حيث غرزت الحاجة إليه في فطرة كل مخلوق ، و أركز الإحساس بألوهيته في أعمق أعماق شعورنا جميعا ، فمهما اختلفنا في الألفاظ و التعابير على اختلاف ألسنتنا و مذاهبنا إلا أننا لا نختلف في الحقيقة التي فطرنا عليها جميعا ، إذ كلنا يستعين بالله و يتوسل بأسمائه التي أظهرها لفاقتنا إليها كما في الأخبار .
[1] [ حم ]
من المقطعات القرآنية التي سبق تفسيرها في عدة مواضع . (1)و جاءت روايات بأن ( ح ) إشارة الى إسم الحميد و ( م ) إشارة الى إسم المجيد فيكون " حم " حينئذ قسما بحاكمية الله التي تقتضي حمده و مالكيته التي تقتضي مجدا على أن القرآن حق ، أوليست آيات القرآن تجليات لأسماء ربنا ، ولعل السور السبع التي تبتدئ بكلمة " حم " و أولها هذه السورة مظاهر لاسمي الحميد و المجيد .
[2] و الكتاب الذي يتكون من أمثال هذه الحروف تنزل من رب عزيز عليم .
[ تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ]
(1) راجع بدايات السور المماثلة .
فبعزته يفرضه على الانسان و يطبق ما فيه على واقع الحياة ، و بعلمه الذي أحاط بكل شيء إحاطة مطلقة جعله كله هدى و حكمة و نورا ينسجم مع واقع الحياة و الإنسان .
و يبدو لي أن الآية جملة مفيدة كاملة ، مبتدؤها " تنزيل الكتاب " و خبرها " من الله العزيز العليم " و هذا ما يوحي بالمعنى المتقدم .
[3] و تعرفنا الآيات بربنا من خلال ذكر صفاته ، و هذا ينفعنا في تحديد علاقتنا به تعالى . و أول أسماء الله المذكورة هنا أنه غافر الذنب ، ومن يغفر الذنوب إلا الله ، وأي رحمة واسعة تلك التي تغسل جريمة المعصية ، وأي قدرة تستطيع محو الآثار العديدة للمعاصي على النفس و الواقع غير رحمة الله و قدرته .
و تضفي أسماء الله السكينة على القلب ، فهو غافر الذنب و قابل التوب و هو ذو الطول ، ولولا هذه السكينة لتصدعت قلوب المؤمنين عند استماعهم لاسم شديد العقاب .
[ غافر الذنب و قابل التوب شديد العقاب ذي الطول ]
و المؤمن حقا يعيش متوازنا مباركا ، يحثه الرجاء على التوبة و العمل الصالح ، و يمنعه الخوف عن المعصية .
و الخوف من عذاب الله كما رجاء رحمته ليس قضية نفسية و حسب ، إنما يعنيان العمل ، فنحن يجب أن نتحرك عند الرجاء ولكن ليس في أي اتجاه ، إنما في اتجاه مرضاة الله و باتباع هداه ، لأن الحياة تشبه حقل الالغام و الذي ينجو فيها هو الذي يمتلك خريطة واضحة لهايتبعها بدقة ، أما حينما ينحرف الانسان عن الحق فسوف يضل و يخسر ولن يجد من ينقذه أبدا ، لأن الله وحده هو الإله المتصرف الذي يحددمسيرة الإنسان و مصيره دون أن يكون أحد قادرا على التغيير و التبديل .
[ لا إله إلا هو إليه المصير ]
فهو الذي يقرره كيف يشاء بإرادته .
[4] ولكن بعض الناس يرفضون الحق وبكل إصرار ، فتراهم يجادلون في آيات الله التي تهديهم الى الحق .
و الجدال - حسب اللغة - لف الخيوط الناعمة أو أنسجة الليف على بعضها لتصبح حبــــلا ، و هذا يشبه حال المجادلين الذين يلفون بعض الكلام على بعضه للتغطية على جهلهم .
[ ما يجادل في ءايات الله ]
مع وضوحها بما لا يدع مجالا للشك .
[ إلا الذين كفروا ]
لأنهــم لا يبحثون عن الحقيقة ، ولو كانوا كذلك لاستوجب الأمر قبولهم للآيات باعتبارهــا بينات بينما يسعى هؤلاء لتبرير اتباعهم للباطل ليخدعوا أنفسهم بأنهم على الحق ، و ليغطوا ضعفهم و يتراءوا بأنهم أقوياء ، ولكن المؤمن الذي يتبع بصائر القرآن لا ينخدعبهم أبدا .
[ فلا يغررك تقلبهم في البلاد ]
فمهما تظاهروا بالمقدرة من خلال تنقلهم في البلاد عبر مسيرات عرض القوة ، كما تعود الطغاة فعله ، كلما احسوا بالخطر ، و لكن على المؤمن ألا تغره مظاهر القوةلأنهم ضعفاء بمخالفتهم للحق ، فمهما بلغوا من القوة و القدرة و أنى أزاحوا الحق عن مراسيه ، فإن عاقبتهم الى البوار و إن الى الله المصير .
[5] و يضرب لنا القرآن مثلا من واقع التاريخ على أن تقلب الكفار في البلاد و سيطرتهم المادية الظاهرة ليس دليلا على سلامة خطهم .
[ كذبت قبلهم ]
أي قبل كفار قريش الذين يجادلونك يا محمد ، و قبل كل الطغاة في كل عصر .
[ قوم نوح و الأحزاب من بعدهم ]
لأنهم لم يستفيدوا من تجربة قوم نوح .
[ و همت كل أمة برسولهم ليأخذوه ]
وكم هو مؤسف أن تصل البشرية الى هذا الحضيض ، فإذا بها بدل ان تكرم المصلحين و تتبعهم لأنهم يحملون لها الهدى و السعادة ترفضهم و تسعى لقتلهم و القضاء على خطهم ، هذا من الناحية العملية ، أما من الناحية النظرية فإنها تحاول إبطال الحق الذي يأتي به الأنبياء .
[ و جادلوا بالبطال ليدحضوا به الحق ]
وهكذا كل كافر لا يملك عقيدة إلا الكفر بالحق ، فهو لكي يملأ الفراغ العقائدي في نفسه يبحث عن باطل ليس ليعتقد به إنما ليقاوم به الحق ، و إنما ازداد ركام الباطل ، و تنوعت مذاهبه ، و كثر الكلام فيه لأنه لم يكن يملك رصيدا من الواقع ولا شاهدا من الفطرة فيحتاج الى المزيد من السفسطة باسم البرهان ،
و الفلسفة باسم الحكمة ، و الجدل باسم الحوار .
ولكنه مع ذلك كله لا يغني شيئا ، وهكذا نهت النصوص عن الجدال في الدين ، فقد روى عن رسول الله (ص) أنه قال : " لعن المجادلون في دين الله على لسان سبعين نبيا ، ومن جادل في آيات الله فقد كفر " (1)وإنما يفشل الباطل - رغم الجدال عنه - لأن الله من فوق عرشه و عبر سننه في الحياة يدافع عن الحق ، فهو يفشل كل محاولة لدحضه ، فالحق هو المنتصر دائما لأنه يملك قوة المنطق و منطق القوة بتأييد الله .
[ فأخذتهم فكيف كان عقاب ]
و الأخذ تنطوي على الشدة و المباغتة ، و تساؤل السياق عن العقاب ليثير أفكارنا فنبحث عن الإجابة التي فيها العبرة و الموعظة .
[6] و لأن الحديث هنا عن سنة إلهية تحكم الحياة نجد السياق و بعد تخصيص قوم نوح و الأحزاب بالذكر يعمم الحديث ليضم إليهم كل الكافرين في كل مكان و زمان ، فهم جميعا ينالهم عذاب الله و انتقامه .
[ و كذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار ]ففي الدنيا ينالهم انتقام الله ، و في الآخرة عذابه الشديد ، فهم خالدون في نار جهنم لأنهم أصحابها .
(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 511
|