و الهداية ، ولكنه يكفر في قلبه بالحق ، ولا يؤمن إيمانا حقيقيا بيوسف و بربه .
بينات من الآيات [34] يوسف (ع) هو أحد الأبناء الإثنى عشر ليعقوب (ع) والذي يسمى بالعبرية إسرائيل أي عبد الله ، ومن صلب هؤلاء الإخوة انسل بنو إسرائيل في إثنى عشر سبطا و قبيلة ، و يوسف كان أحد آبائهم الكبار .
وقد بعث يوسف (ع) بالرسالة و أصبح ملكا مقتدرا يخضع له أهل مصر ، فقد جمعت عنده الكمالات المادية بالملك و السيطرة ، و المعنوية بالرسالة ، و بالرغم من ذلك كفر به البعض ، و لكنهم قالوا في أنفسهم : لا نظهر هذا الكفر بل ننتظر حتى يموت يوسف فنسيطر بعده على الحكم و الملك .
[ ولقد جآءكم يوسف من قبل ]
موسى (ع) .
[ بالبينات فما زلتم في شك مما جآءكم به ]
لأن قلوبكم لا تريد الإيمان ، وإلا فالأدلة واضحة .
[ حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا ]
مع أنه - عليه السلام - جاءهم بالخير و الفضل ، ولا يدل موقفهم إلا على الضلال الذي كتب عليهم بسبب إسرافهم و ترددهم في الريب .
و الآية توحي بأن شعب مصر أسلم ظاهرا على يد يوسف إلا إنه كان يحبذ العودة إلى ضلالته ، لأنه كان فاسدا بالإسراف و الإرتياب ، و سرعان ما عاد الىكفره بعد هلاك يوسف ، و كأنه قد استراح بموت يوسف .. و هناك أحاديث تدل على إسلام الشعب المصري على يده .
[ كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب ]
وهنا تكشف الآية عن سبب موقفهم المنحرف من الحق ، وهو إسرافهم من الناحية العملية ، فلا يقنعون بما عندهم من الخير و النعمة ، و ارتيابهم من الناحية النظرية و النفسية ، فلا يسلمون للحق و البينات ، واذا أمعنا النظر لوجدنا كلتا الصفتين تنتهيان إلى صفة واحدة هي عدم التسليم للحق ، و عدم الإكتفاء بما أعطاهم الله ، و طلب المزيد ، المــزيد من النعم الى حد الإسراف ، و المزيد من الأدلة الى حد الجدل في الآيات الواضحات .
و تدل هذه الآية على أنه كانت ليوسف رسالة الى قوم مصر ، وقد وفر الله لهم فرصة الهداية بهذه الصورة الفريدة حيث جعل مليكهم الحبيب رسولا اليهم لعلهم يهتدون . و لعل الحكمة في ذلك كانت شدة تعلق الشعب المصري ذات الحضارة النهرية بالسلطة السياسية مما حدى بموسى - عليه السلام - ايضا الى التوجه الى شخص فرعون الحاكم الأعلى لبلادهم .
[35] و نسأل : من هــم المرتابون ؟ و يجيب القرآن : الذين يجادلون في آيات الله ، و يحاولون تحريفها من دون أدنى حجة ، و الحال أن الذي يخالف فكرة ما لابد أن يأتي بأخرى مثلها أو أفضل منها .
[ الذين يجادلون في ءايات الله بغير سلطان أتاهم ]
و تشمل الآية - كما يبدو - الذين يحرفون آيات الله ، و يتصرفون فيها بغير تفويض من الله ، فهم يضعون أنفسهم مواضع الحكم بلا سلطان من الله .
[ كبر مقتا عند الله و عند الذين ءامنوا ]
فالله يمقتهم فيذلهم في الدنيا و يضل أعمالهم ولا يدعهم يفلحون أبدا . أما الذين آمنوا فيمقتونهم فلا ينخدعون بهم ولا يسلمون لقيادتهم . و هاتان عاقبتان سيئتان لهم . أما العاقبة السوءى فهي سلب فرصة الهداية عنهم إلى الأبد ، وذلك بإطفاء شعلة الهدى من قلوبهم .
[ كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار ]
و الجبار هو الذي يسعى لقهر الآخرين و التسلط عليهم ، وهي من نزعات الملوك و الحكام الظلمة . أما المتكبر فهو الذي لا يتواضع للحق ، ولا يقتنع بواقعه ، إنما يتصور نفسه دائما أكبر من حجمه الحقيقي ، و من هذه صفته فإن قلبه يصير منغلقا فيختم الله عليه بسلبنور العقل و الفطرة منه .
و التعبير القرآني دقيق جدا حينما قال : " كل قلب متكبر جبار " ومع أن بعضا من المفسرين قالوا بأنه يساوي قولنا : قلب كل متكبر جبار ، إلا أنه يبدو أن السياق القرآني أراد بيان حقيقة هامة هي : إن الطبع على القلب تختلف نسبته باختلاف الصفات السلبية عند الانسان ، فقد يطبع الله بنسبة خمسين بالمائة على قلب الزاني أو السارق ، أما المتكبر الجبار فإنه يطبع على قلبه كله أي مائة بالمائة ، وهذا يكفي لبيان الخلفيات السيئة جدا لهاتين الصفتين .
[36 - 37 ] ولأن بني إسرائيل لم يؤمنوا إيمانا حقيقيا في ظل يوسف الملك النبي فقد ابتلاهم الله بفرعون يحكم من ذات الأريكة ، و شتان بين الإثنين ، و حقا إنها عاقبة الكفر بالنعمة .
و يوجهنا السياق هنا إلى النهايات السيئة لهذا التحول ، لعلنا ننتبه الى أنالكفر برسالات الله ، و الإسراف و الإرتياب و التكبر و التجبر ، و بالتالي التملص من مسؤوليات النظام العادل و الحاكم العادل - كيوسف عليه السلام - قد لا تظهر عاقبته في البداية ولكنها عند الختام ، حيث يكون مصير المجتمع ما انتهى إليه أهل مصر ، إذ ابتلوا بحاكم مثل فرعون . وهكذا علينا ألا تخدعنا المظاهر الخلابة لحضارة الشهوات بل ندرسها من خلال نهاياتها المأساوية ، وما قيمة بداية الغرور مع عاقبة السوء .
[ وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب ]بعد أن فشل فرعون في إقناع من حوله بضرورة قتل موسى (ع) ، مما أثبت ضعف حجته ، حاول الإعتماد على القوة المادية لفرض سيطرته على الجماهير ، وهذه مرحلة من المراحل التي تمر بها الحضارات ، فهي تبدأ بالقيم قوية حيوية ، و تبلغ المظاهر المادية قبل أن تصل نهايتها إما بالدمار الشامل أو حالة العبثية المطلقة و الإنطواء التام . وهكذا نظام فرعون حينما تبين لهم خواؤه المعنوي و فراغه العلمي ، توجه الى البنايات الضخمة ، حيث بنى صرحا عظيما حاول الوصول به الى إله موسى ، وهذا مؤشر واضح على نظرته الشيئية للحياة ، وسعيه لتحدي القيم المعنوية بالمظاهر المادية .
إنه سعى نحو مواجهة إله موسى عز وجل ، و تحديه سبحانه بما لديه من إمكانات محدودة ، كما فعل نمرود حين أمر بإعدام سجين و إطلاق الآخر ، وقال لإبراهيم متحديــا رب العزة : أنا أحيي و أميت ، و هكذا يفعل الطغاة في كل عصر . إنهم يقومون - أمام كل حركة تحررية- باستعراض قوتهم لفرض الهيبة التي تكاد تسقط أمام عاصفة الثورة .
وقد يكون فرعون هو الذي بنى بعض اهرامات مصر حسبما توحي به هذه الآيةالكريمة ، و التي كان يسعى من خلالها لتضليل الناس و بلوغ أعلى مكان في نظره وهي أسباب السموات .
[ أسباب السموات فأطلع الى إله موسى و إني لأظنه كاذبا ]وهذا ديدن الطغاة . إنهم يستصدرون الأحكام في مختلف القضايا بعيدا عن المنهجية السليمة حيث يعلم فرعون بأن الإله الحق الذي يدعو إليه موسى (ع) لا يدرك بالمقاييس المادية ، ولكنه أخذ يستخدم منهجا ماديا بحتا للتعرف على الله - سبحانه و تعالى - و النتيجة التي سيصل إليها حتى إذا قدر أنه بلغ السموات العلى خاطئة ، و على ضوء هذا المنهج سيكون موسى كاذبا .
ومــن المعروف ان فرعون كان يسخر المستضعفين لبناء الصرح سخرة وبلا أجور ، وكان الكثير من هؤلاء التعساء الذين كان يحشرهم من مختلف أنحاء مصر يموتون تحت ضغط الكدح ، و سوء التغذية ، و انتشار الأمراض ، و كان قد خصص الى جنب اهرامات مصر أراضي واسعة لاستقبال جثث هؤلاء المساكين مما أثار هذا ا لعمل بذاته غضب الجماهير ، و هيئ أرضية التحول عند شعب مصر .
[ وكذلك زين لفرعون سوء عمله ]
بسبب تراكم العادات و الممارسات السيئة على قلبه المتكبر الجبار ، فكان يرى الباطل حقا و العكس ، الى هذا المستوى الهابط من الإعتقاد ، حيث زعم أنه يتحدى بقوته المحدودة إرادة الله . الم ير الجبال كيف أرساها الرب ، و أنه إذا صعد عليها رجل لا يرى السماءإلا بمثل ما يراها على الأرض ؟! أولم يعلم أن عاصفة واحدة تكفي لاقتلاع مظاهر قوته في لحظة ؟! وقد جاء في الحديث : أن هامان رفع الصرح حتى منعته العواصف من الإستمرار ، ولم يلبث أن جاءت عاصفة رهيبةو قضت عليه . (1)
ومن جملة الآثار النفسية التي يخلفها العناد و الإصرار على ممارسة السيئة الصد عن سبيل الله .
[ و صد عن السبيل ]
وهو القيادة الرسالية التي تمثل رسالة الله ، والتي تهدي البشر الى ربه الرحيم ، وهل يخضع المتكبر الى الحق ، أو هل يرتضي الجبار العدل ؟ كلا .. إذن فهو سوف يتبع الباطل في الحياة ، و حيث رفض السبيل الى الله ( القيادة الرسالية ) فسوف يحاربها و يكيد لها.
ولكن سنة الله و إرادته فوق محاولات فرعون الفاشلة لإطفاء نوره عز وجل .
[ وما كيد فرعون إلا في تباب ]
أي يحوطه الفشل و الخسران من كل جانب .
[38] وهنا يبرز على مسرح الأحداث مرة أخرى مؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه ثم تحدى به الطاغوت في اللحظة المناسبة فحاز على فضيلة الكتمان و فضيلة التحدي معا ، وهي كلمة الحق عند السلطان الجائر . ونحن إذا تعمقنا في قصة هذا المؤمن من خلال القرآن الحكيم ، نعرف حينها المعنى الحقيقي للتقية في الإسلام ، و يجب أن نبلور هذا المفهوم لأن التقاة تحولت لدى الكثير الى تبرير للتقاعس و النكوص عن الجهاد ، بينما التقية ( التقاة ) في مفهوم الرسالة هي العمل و الجهاد المركز و المستمر بعيدا عن أعين الطغاة حتى تحين لحظةالتحدي الكبير . وهل يحتاج
(1) نقلا عن موسوعة بحار الأنوار / ج 13 - ص 125
الى الكتمان إلا من يجاهد الطغاة ؟!
إن البعض يجعل كلمة التقية بديلا عن العمل و التحرك في ظروف القمع و الإرهاب ، ولكنه لا يتحرك حتى في الظروف المناسبة ، و مثال ذلك الكثير من الشعوب التي ترفض التجاوب مع الحركات الرسالية و تعلل ذلك بوجود الإرهاب ، ولكنها ترفض الجهاد حتى في المهجر حيث لا إرهاب ولا شرطة .
إن ( التقاة ) حقا هي أن تحافظ على نفسك و تحركك الجهادي بعيدا عن سطوة الظالم في ظل الإرهاب ، لتحتفظ بقوتك ليوم الصراع .
وهكذا كان مؤمن آل فرعون ( حزقيل ) يكتم إيمانه ، و يتحرك في ظل توجيهات القيادة الرسالية ، منتظرا الساعة المناسبة لتفجير الصراع مع الطاغوت ، وها قد حل أوانها حيث جمع فرعون وزراءه و أنصاره و قوات جيشه و سحرته ليقرروا قتل موسى (ع) ، فاستبسل من بينهم وتحدى الظلم و الظالمين ليضرب لنا مثلا صادقا عن التقية التي يرتضيها الله تعالى ، وهي النابعة من الإيمان و الإرادة و التخطيط و العمل ، وليست الناتجة عن خور العزيمة و خوف الانسان و حبه للراحة . فهي إذن تمهيد للتحدي ، و جمع للقوى ، لتفجير الصراع في وقتهالمناسب .
وهكذا استطاع مؤمن آل فرعون تعويق مؤامرات فرعون التي استهدفت قتل موسى عليه السلام ، وبذلك وفي ربنا عهده لرسوله الأمين بنصره و تأييده .
[ وقال الذي ءامن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ]فهو من جهة تحدى فرعون ، ومن جهة أخرى طالب من حوله باتباعه ، وهكذا ينبغي للرساليين أن يثقوا برسالتهم في الحياة ، وأن يطرحوا أنفسهم قادة للناس بديلا عن القيادات الفاسدة .
[39] وحيث شخص المؤمن جذر الإنحراف و نقطة الضعف التي تدعوهم للإلتفاف حول فرعون و اتباعه وهي المادية التي تتجسد في اللهث وراء حطام الدنيا ، ذكرهم بالآخرة التي تتميز عن الدنيا بنوعية نعيمها الأفضل ، بينما الدنيا بما فيها تشبه المتاع الذي يأخــذه المسافر معــه وهو قليل و محدود ، كما أكد على مفارقة أخرى هامة هي : ان نعيم الآخرة دائم لا ينتهي حيث يلغى فيها حساب الزمن ، بينما الدنيا محدودة جدا .
[ يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع و إن الاخرة هي دار القرار ]وهل يختار العاقل تلك على هذه ؟!! كلا ..
[40] و يمضي المؤمن في بيان معالم ثقافته الرسالية رغبة منه في إنقاذ الناس من ضلالات الطاغوت ، قائلا :
[ من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ]
عدالة و رحمة من الله بعباده ، و لعله أراد من ذلك فضح سياسة فرعون القائمة على الظلم و الجور .
[ ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ]
فالمقياس عند الله هو العمل ، أما التمايزات المادية و الظاهرية - التي تقرها الأنظمة البشرية الفاسدة - فلا معنى لها أبدا . بلى . هناك أمر واحد يرتكز عليه العمل فلا يقبل إلا به وهو الايمان . والذين يتوفر لديهم هذان الشرطان ( العمل + الايمان ) هم الذين يدخلون الجنة .
[ فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ]
أن مشكلة الكثير من الذين يرفضون الايمان بالحق و العمل به هو أنهم ينظرون له من خلال البلاء و المعاناة التي يستتبعها الايمان به ، وليس من علاج لهذه المشكلة أفضل من التوجيه الى نعيم الآخرة الذي هو ثمرة الايمان و العمل . و حيث ركز المؤمن حديثه مع أتباع فرعون الغارقين في المادة أراد علاج هذه المشكلة ، فهم يتساءلون : نحن الآن نترك فرعون و نخسر هذا النعيم فماذا نجد باتباع الحق ؟؟
|