بينات من الآيات [41] لا يطيب الموت في فم أحد إلا أن المترفين أشد هيبة منه ، لأنهم أحرص على حياة الدنيا ، و أعمق اغترارا بزخارفها ، ولابد أن يضرب الدعاة الى الله على هذا الوتر الحساس في أفئدة المترفين ، و يذكروهم بالموت وما بعده من الجزاء الشديد ، و كفى به موعظة لمن يريد هدى و خلاصا .
وهكذا فعل مؤمن آل فرعون حين ذكرهم بعاقبة الدعوتين ، دعوة الحق و دعوة الباطل .
[ ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة و تدعونني إلى النار ]إنهم الآن في النار وقد أحاطت بهم من كل صوب ، السياسة طغيان ، و الإقتصاد ترف ، و التربية انحراف ، و الإعلام ضلالة ، فهم يتقلبون في سرادقات الجحيم ، وإنما يدعوهم المؤمن للنجاة ، بما تحتاجه من همة و سعي و اجتهاد ، و لكنهم يدعونه الى التوغل في النار .
و الآية تشملنا أيضا ، فباستثناء المتقين يعيش الناس في سواء النار ، ما دامت الشهوات تقودهم ، و الفساد يحيط بهم ، وقد قال ربنا سبحانه : " وإن منكم إلاواردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها جثيا " (1)و نتساءل : كيف نحن جميعا في النار الا المتقين ؟
أرأيت جرثومة السل في المجهر ؟ أو سمعت بفيروس الجذام ؟ إنهما في الواقع يمثلان ذات المرض الذي تظهر أعراضه على المسلول و المجذوم ، ولكن الخبير وحده يعرف ذلك ، أما الجاهل فتراه يستنكر أن تكون هذه الجرثومة وذلك الفيروس هو ذات المرض .. كذلك خبير المتفجرات يعرف مدى قوة النار الكامنة في كيلو غرام من مادة متفجرة حارقة ، أما الجاهل فلعله يحسبها ترابا ، كذلك الواعون يعرفون أن مال اليتيم هو ذاته اللهب إذا أكله الغاصب ، وأن الكذب ريحته نتنة تخرج من فم صاحبها و تنتظره على باب جهنم ، وأن الظلم اليوم ذاته ظلمات في القيامة ، وهكذا ..
[42] و النار التي يدعو المؤمن للنجاة منهــا هي الكفر بالله الذي يتمثل بالشرك به . فما هو الشرك ؟ إنه الخضوع لأحد من دون أن يأذن الله و ينزل عليه سلطانا مبينا .
[ تدعونني لأكفر بالله ]
لعل قوم فرعون كانوا جاحدين بالله رأسا ، أو كانوا مشركين و شركهم دعاهم الى الكفر ، لذلك قال لهم مؤمنهم :
[ و أشرك به ما ليس لي به علم ]
(1) مريم / 72
و نستوحي من هذه الآية كما من آيات أخرى أن مجرد التسليم لما لا يعلم الانسان يقينا ان الله أمره به شرك .
وقد خلق الله الانسان عبدا له لا لغيره ، و لم يأذن له بأن يتنازل عن حريته لأحد أبـدا ، بــل فرض عليه مقاومة من يريد سلب حريته و الإعتداء على حرمة استقلاله ، و اعتبر مجرد التسليم للطاغية شركا ، وإن الشرك لظلم عظيم .
أما دعوة الحق فهي الى الله :
[ و أنا ادعوكم الى العزيز الغفار ]
فبعزته يهيمن علينا و يفرض سلطانه ، و بمغفرته يقبل التوبة عن عباده المسرفين ، الذين طالما سكتوا عن جرائم الطاغوت ، و غدوا يأكلون رزق الله و يعبدون عدوه ، كما قبل توبة السحرة .
[43] لا ريب أن البشر - أنى سخر القوى المادية - يحيط به الضعف من كل جهة ، فهو محكوم بسنن الله ، وإنما يسعى للطغيان لعله يخفف عن ضعفه ، لعله يمنع عن نفسه المرض و الشيخوخة و الموت ، فهو أضعف من أن يمنح الآخرين قوة .. وهكذا فهو ليس جديرا بالدعوة إليه.
[ لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الاخرة ]انها مجرد خرافات و أوهام و أماني و غرور .
و تفسير كلمة " لا جرم " حرفيا : لا قطع ، و تعني أنه لا أحد قادر على قطع هذا الكلام أو نقضه ، فهو كلام حق ، و قد استخدمها مؤمن آل فرعون لمزيد من الثقة بهذه الحقيقة ، و لتحدى حالة الخوف و الرغبة عند أنصار فرعون الذين فقدوا كلاستقلالهم و ثقتهم بانفسهم أمام طغيان فرعون .. و إن كانوا يتفكرون قليلا لعرفوا أن فرعون أضعف من أن يفرض عليهم سلطانه ، إن إن لم يكن أقل منهم قوة فلا ريب أنه كواحد منهم ، و إنما يستمد قوته من ضعفهم ، و هيبته من ذلهم ، ولو أنهم عرفوا قيمة أنفسهم حقا لوجدوه تافها حقيرا ، وأنه - بالتالي - ليس له دعوة ، ولا فرق بينه و بين صخرة صماء أو بقرة عجماء أو شجرة مسوسة . أرأيت هؤلاء الذين يعبدون صنما أو بقرا أو شجرة هل يعطيهم ما يعبدونه شيئا أم هم الذين يضفون عليه قداسة و يعطونه القوة على حسابهم ؟
أما الله الذين يدعو اليه المؤمن فإليه مصير الجميع ، فهو خير من دعي و أكرم .
[ وأن مردنآ إلى الله ]
ثم ذكرهم بالحقيقة الفطرية التي أودعت ضمير كل انسان ، تلك هي أن الله الذي خلق كل شيء و قدره تقديرا حكيما ، و انبثت آيـات عــدله و حكمته في كل صغيرة و كبيرة ، لا يستقبل بترحاب المسرفين الذين تجاوزوا حدودهم ، و اعتدوا على حقوق الآخرين ، إنما يودعهم سجنه الأليم النار و ساءت مصيرا .
[ وأن المسرفين هم أصحاب النار ]
لو أيقن الانسان حقا أنه يرد الى الله ، وأن الله هو الذي يحاسبه و يجازيه ، لارتدع عن الجرائم ، لأنه يعلم أن ربه بصير بعباده ، وأنه لا يمكن خداعه أو الهرب منه ، وأنه لا يظلم أحدا ، فهو الحكم العدل العزيز الجبار .
وهكذا نجد السياق يوصل المرد الى الله بأن عاقبة المسرفين النار ، وهي حقيقة فطرية لا جرم فيها ولا جدال .
[44] إذا عرف المبتلى أن سبب آلامه سوء اختياره ، وأنه كان يقدر أن يتقيها بحسن عمله ، ازداد أحساسا بالألم .
وهكذا ذكرهم داعية الحق بأنهم - في يوم الجزاء - سوف يذكرون ما قال لهم ، و يعلمون صدقه ، فيضاعف إلى ألم أجسادهم عذاب روحي شديد .
[ فستذكرون ما أقول لكم ]
أما هو فقد بلغ أقصى درجات اليقين ، ففوض أمره الى ربه ، لذلك لا يحتمل قلبه الجدل في تلك الحقائق التي سردها .
[ و أفوض أمري الى الله ]
[ إن الله بصير بالعباد ]
فهو يعلم ما في صدور المفوضين أمورهم اليه من إخلاص و يقين ، و لذلك فهو يأخذ بأيديهم .
ولعل ختام الآية يهدينا الى شرط التفويض ، وهو أعلى درجات اليقين ، وهو الإخلاص .
وهناك شروط أخرى للتفويض نجدها في الحديث الذي رواه البعض عن الإمام الصادق - عليه السلام - :
" المفوض أمره الى الله في راحة الأبد ، و عيش الدائم الرغد ، و المفوض حقا هو الفاني عن كل همة دون الله تعالى ، كما قال أمير المؤمنين علي : رضيب بما قسم الله لي ، و فوضت أمري الى خالقي ، كما أحسن الله فيما مضى كذلك يحسنفيما بقي .. قال الله عز وجل في المؤمن من آل فرعون : " و أفوض أمري الى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب " .
و التفويض خمسة ( أي أنها خمس كلمات ) لكل حرف منها حكم ، فمن أتى بأحكامه فقد أتى به ، " التاء " من تركه التدبير في الدنيا ، و " الفاء " من فناء كل همة غير الله تعالى ، و " الواو " من وفاء العهد و تصديق الوعد ، و "الياء " اليأس من نفسك و اليقين من ربك ، و " الضاد " من الضمير الصافي لله و الضرورة إليه ، و المفوض لا يصبح إلا سالما من جميع الآفات ، ولا يمسي إلا معافى بدينه " (1)[45] وحين فوض حزقيل أمره الى الله ، تولاه رب العزة بأحسن وجه ، فحفظه من مكر آل فرعون ، بينما أحاط بهم سوء العذاب .
[ فوقاه الله سيئات ما مكروا ]
جاء في بعض التفاسير أنه التحق بموسى (ع) و عبر البحر معه الى بر الأمان ، وقال البعض : إنه اعتصم ببعض الجبال و سخر الله الوحوش للدفاع عنه . (2)وجاء في حديثين عن الإمام الصادق - عليه السلام - ان عاقبة أمر حزقيل كانت الشهادة ، وأن الله سبحانه إنما وقى دينه عن مكر أولئك المفسدين ..
قال : " والله لقد قطعوه إربا إربا ، ولكن وقاه الله عز وجل أن يفتنوه عن دينه " (3)بلى . قد يختار ربنا هذه الخاتمة الحسنى لبعض الدعاة إليه حين يعرف أن ذلك(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 520
(2) عن مجمع البيان عند تفسير الآية
(3) نور الثقلين / ج 4 - ص 521
صلاح لهم و للقضية فيتقبلها هؤلاء بكل رحابة صدر ، أولا : لأنها غاية مناهم ، و ثانيا : لأنها تحقق أهدافهم التي أخلصوا لها ، فإذا كان تحقيق الأهداف لا يمكن إلا عبر الشهادة فأهلا بها و ألف مرحبا .
[ و حاق بآل فرعون سوء العذاب ]
لقد حق عليهم العذاب السيء لأنهم ما استجابوا للنذير .
[46] ماهو سوء العذاب الذي حاق بآل فرعون ؟ كلنا يعلم أنهم أغرقوا في اليم ، و أورث الله بني إسرائيل ديارهم و أموالهم ، ولكن السياق هنا يتجاوز ذلك الى عذاب آخر أشد من الغرق . لماذا ؟
إن الانسان يعرف جانبا من أهوال الغرق ، خصوصا إذا شمل مئات الألوف من الناس ، كما جرى لآل فرعون . ولكن السياق يذكرنا بأن هذه الأهوال بسيطة إذا قيست بعذاب الآخرة . أوليس الموت مكتوبا على كل نفس ؟ و أنى كانت اسبابه فإن مرارته في لحظات . أما النار التيأنذر بها الوحي فهي خالدة . أما في البرزخ فإنها :
[ النار يعرضون عليها غدوا و عشيا ]
و نستوحي من الآية أن أرواح الكفار تؤخذ كل يوم مرتين الى النار : أول النهار و آخره ، ولعل مجرد زيارة النار تعتبر عذابا سيئا ، إذ أنهم يمسهم لهيبها ، و يردعون بألوان العذاب فيها . أو أنهم يدخلون سواء النار ليعذبوا فيها مباشرة .
وفي الحديث عن الإمام الصادق - عليه السلام - في تفسير هذه الآية أنه :
سأل أولا عن تفسير الناس لهذه الآية ، فقال : ما يقول الناس ؟ قال الراوي :
يقولون : إنها في نار الخلد ، وهم لا يعذبون فيما بين ذلك ، فقال : فهم من السعداء ! فقيل له جعلت فداك ! فكيف هذا ؟ فقال : إنما هذا في الدنيا ، فأما في نار الخلد فهو قوله : " و يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " (1)و حسب هذا التفسير فإن أرواح الكفار تعذب في البرزخ بعذاب أخف من عذاب الآخرة ، ولذلك روي عن الإمام الصادق (ع) أنه سئل عن أرواح المشركين ؟ فقال : في النار يعذبون ، يقولون : ربنا لا تقم الساعة ، ولا تنجز لنا [ ما ] وعدتنا ، ولا تلحق آخرنا بأولنا " (2)
[ و يوم تقوم الساعة أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب ][47] و يبقى السؤال ، لماذا أدخل الله كل آل فرعون أشد العذاب ، بينما المجرم الأصلي هو فرعون و جنوده ؟
الجواب : ان الضعفاء منهم خضعوا لفرعون ، و رضوا به ، فشاركوه الجزاء الشديد ، ولم ينفعهم تبريرهم بأنهم كانوا أتباعا لفرعون زاعمين أن فرعون و المستكبرين يتحملون عنهم وزر أعمالهم ، كلا ..
[ وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار ]هنالك تسقط هذه الأعذار الواهية التي يحاول الضعفاء تبرير سكوتهم عن المستكبرين بها .
كما يقال مثلا : أنا عسكري و علي طاعة قيادتي ، او يقال : المأمور معذور ، أو(1) المصدر / ص 523
(2) المصدر / ص 523
يقال : بأن القيادة أعرف و أن الملوك أعلم بالصلاح و أبخص . كلا .. إن كل بشر مسؤول بصورة مستقلة يوم القيامة عن كل مواقفه و أعماله .
[48] وهكذا يسدل الستار على هذه المحاجة عندما يكشف المستكبرون عن مدى عجزهم .
[ قال الذين استكبروا إنا كل فيها ]
نحن و أنتم ، فكيف نستطيع إنقاذكم و نحن لا نستطيع إنقاذ أنفسنا منها .
[ إن الله قد حكم بين العباد ]
ولا أحد بقادر على أن يفر من حكومة الله .
وهكذا كشف السياق بأن الذين يدعون من دون الله ليست لهم دعوة في الدنيا ولا في الآخرة و أنهم جميعا في النار ، كما بين السياق : نهاية الخضوع للطاغوت أنها المشاركة معه في النار ، بينما عاقبة الثائرين عليه ، ان الله يحفظهم من مكر الطاغوت ، كما وقى مؤمنآل فرعون سيئات ما مكروا .
[49] وبعد أن يقنط أهل النار من شفاعة بعضهم ، يدفعهم الألم الى التوسل بخزنة جهنم ، وهم الملائكة الغلاظ الشداد الذين وكلوا بهم ، وكلفوا بالإشراف على تعذيبهم ، فيتوسل بهم أصحاب النار لعلهم يشفعون لهم عند ربهم ليخفف عنهم يوما من النار .
[ وقال الذين في النار ]
سواء المستكبرون منهم و الضعفاء .
[ لخزنة جهنم ]
و حفظة الجحيم .
[ ادعوا ربكم ]
و نتساءل : لماذا لم يبادروا بالدعاء بأنفسهم ؟ يبدو أنه لا يحق لهم يومئذ التحدث مباشرة مع رب العزة كما كان يحق لهم في دار الدنيا ، و إنها لفرصة نادرة ينبغي أن ننتهزها اليوم قبل فوتها غدا ، وقد جاء في الدعاء المأثور :
" اللهم أذنت لي في دعائك و مسئلتك ، فاسمع يا سميع مدحتي ، و أجب يا رحيم دعوتي " (1)و سوف نتحدث إن شاء الله عن الدعاء و فضيلته قريبا .
[ يخفف عنا يوما من العذاب ]
فبعد أن فشلوا في إلقاء جانب من العذاب على بعضهم بحجة أنهم السبب فيه ، حاولوا التخفيف في برهة زمنية ، مثلا بمقدار يوم من أيام الدنيا ، وهل كان ينفعهم التخفيف في يوم لو عادوا مرة أخرى الى النار ؟! كلا .. ولكن لسوء العذاب و شدة الألم كانوا يحاولونالتخلص منه بأية حجة ، ولكن عبثا .
[50] لقد جاء رفض الخزنة لطلبهم كالصاعقة صدعت أفئدتهم ألما ، ليس فقط لأن بصيص الأمل الوحيد تبدل عندهم إلى اليأس ، وإنما ايضا لأنه حفل بالشماتة ، مما أضاف ألما نفسيا الى آلامهم الجسمية .
(1) دعاء الافتتاح من أدعية شهر رمضان .
[ قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات ]
لقد عذبوا بعد الإنذار ، و الإنذار تم بوضوح كاف حيث حمله إليهم رسل الله مدعوما بالآيات البينات .
[ قالوا بلى ]
فاعترفوا بعدالة حكم الله عليهم بالعذاب .
[ قالوا فادعوا ]
ما شئتم كثيرا أو قليلا ، ولكن اعلموا أنه عبث .
[ وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ]
فكما أن الضال كلما جد في السير لم يبلغ هدفه ، كذلك دعاء الكافر الذي أضاع فرصته في الدنيا للتوبة ، و أخذ يدعو في الآخرة .
|